شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢). وإما أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٣). وإما أن يحذف فاعله كقوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (٤) ، فإن قيل : كيف وجه الجمع بين قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٥) وبين قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) (٦) أجيب بأن الخصب والجدب والنصرة والهزيمة كلها من عند الله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) (٧) أي محنة وبليّة فبذنب نفسك عقوبة لك وكفّارة لك ، كما قال الله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٨) وهذا على المعنى الأول الذي هو المعوّل ، وأما على المعنى الثاني فالطاعة تنسب إلى الله تعالى ، لأنها محض خير ، والسيئة لا تنسب إلى الله تأدّبا لكونها في صورة الشرّ والكل من عند الله خلقا فخلق الطاعة فضل وخلق المعصية عدل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٩). ثم في قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) من الفوائد أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها فإن الشرّ كائن فيها لا يجيء إلا منها ولا يشتغل بكلام الناس ولا ذمّهم إذا أساءوا إليه ، فإن ذلك من السيئات التي أصابته وهي إنما أصابته بذنوبه فيرجع إلى الله ويستعيذ بالله من شرّ نفسه وسيئات عمله ، ويسأل الله أن يعينه على طاعته فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شرّ ، ولهذا كان أنفع الدعاء طلب الهداية فإنها الإعانة على الطاعة وترك المعصية.

هذا وقد قيل : كل عام يخص كما خصّ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠) بما شاءه ليخرج ذاته وصفاته وما لم يشأ من مخلوقاته وما يكون من المحال وقوعه في كائناته.

__________________

(١) الزّمر : ٦٢.

(٢) النساء : ٧٨.

(٣) الفلق : ٢.

(٤) الجن : ١٠.

(٥) النساء : ٧٨.

(٦) النساء : ٧٨.

(٧) النساء : ٧٩.

(٨) الشورى : ٣٠.

(٩) الأنبياء : ٢٣.

(١٠) البقرة : ٢٨٤.

٨١

يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما ، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا ، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه ، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما ، وإذا قعد علمه قاعدا في حال قعوده من غير أن يتغيّر علمه أو يحدث له علم ، ولكن التغيّر والاختلاف يحدث في المخلوقين. خلق الله تعالى الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ....

____________________________________

والحاصل أن كل شيء تعلقت به مشيئته تعلقت به قدرته ، وإلا فلا يقال هو قادر على المحال لعدم وقوعه ، ولزوم كذبه ، ولا يقال غير قادر عليه تعظيما لأدبه من ربه ، ثم هذا العام مخصوص بقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١) فإنه باق على العموم وشامل للموجود والمعدوم ، والمحال والموهوم كما بيّنه الإمام الأعظم رحمه‌الله بقوله : (يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما) أي بوصف المعدومية (ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده) أي في عالم الربوبية ، بل ويعلم أن شيئا لا يكون ولو كان كيف يكون (ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا). أي بعد علمه في حال عدمه معدوما ، (ويعلم الله أنه كيف يكون فناؤه) أي إذا أراد أن يجعله معدوما بعد أن علمه في حال وجوده موجودا من غير تغيّر علمه في مراتب كونه معلوما قائما (ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما) أي مثلا ، وإلا فكذا في حال حياته وصلاته وصيامه وسائر مقاماته (فإذا قعد) أي تغيّر عن حاله الأول (علمه قاعدا في حال قعوده) أي انتقاله من حالة إلى حالة علما تنجيزيّا ظاهريّا بعد ما كان يعلم أنه سيقعد إلا أن ذلك العلم كان ذهنيّا وباطنيّا كما حقّق في تفسير قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) (٢). (من غير أن يتغير علمه) وزيد في نسخة أو صفته والظاهر أن الثاني وجد في نسخة بدل علمه فألحقه به وما أبدله فحصل بسبب الجمع بعض خلل (أو يحدث له علم) أي في ثاني حاله ما لم يكن في أزله (ولكن التغيّر) أي الانتقال (واختلاف الأحوال) أي من القيام والقعود وأمثالهما من الأفعال (يحدث في المخلوقين) مع تنزّه الملك المتعال عن قبول الانفعال وحصول التغيّر والانتقال ، فإن علمه قديم بالأشياء فإذا أوجد شيئا أو أفناه فإنما يوجده أو يفنيه على وفق ما علمه وطبق ما قدّره وقضاه فإذا لا يتغيّر علمه ولا يختلف حكمه. ولا يحدث له علم بتغيّر الموجود والمعدوم واختلافه وحدوثه (خلق) أي الله تعالى كما في نسخة (الخلق) أي المخلوقين (سليما من الكفر والإيمان) أي سالما من

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) البقرة : ١٤٣.

٨٢

ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له. أخرج ذريّة آدم من صلبه على صور الذرّ فجعلهم عقلاء فخاطبهم ...

____________________________________

آثار الكفران وأنوار الإيمان بأن جعلهم قابلين لأن يقع منهم العصيان والإحسان كما قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (١). أي في عالم الظهور والبيان ، (ثم خاطبهم) أي في وقت التكليف بالعبادة على لسان أرباب الرسالة وأصحاب السعادة (وأمرهم) أي بالإيمان والطاعة (ونهاهم) أي عن الكفر والمعصية (فكفر من كفر بفعله) أي باختياره (وإنكاره) أي مع جهله وإصراره (وجحوده) أي مع عناده واستكباره (بخذلان الله تعالى) أي بترك نصرته سبحانه (إياه) وعدم توفيقه لما يرضاه وهو مقتضى عدله كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢). (وآمن من آمن بفعله) أي بانقياده وإذعانه (وإقراره) أي بلسانه (وتصديقه) أي بجنانه على وفق أمر الله ومراده (بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له) أي فيما قدّره وقضاه بمقتضى فضله كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٣).

وهذا لا ينافي كونهما كافرا ومؤمنا في علم الله تعالى بحديث خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ، وحديث فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير ، فإن الحديث الجامع المانع قوله عليه الصلاة والسلام : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» (٤). (أخرج ذرية آدم) عليه‌السلام أي طبقة بعد طبقة إلى يوم القيامة (من صلبه) أي أولا ثم أخرج من أصلاب أبنائه وترائب بناته نسلهم (على صور الذر) أي على هيئة النمل الصغير بعضها بيض وبعضها سود ، وانتشروا إلى يمين آدم ويساره (فجعلهم عقلاء فخاطبهم) أي حين أشهدهم على أنفسهم بقوله تعالى : ألست بربكم قالوا

__________________

(١) التغابن : ٦٤.

(٢) يونس : ٤٤.

(٣) البقرة : ١٤٣.

(٤) أخرجه البخاري ١٣٦٢ و ٤٩٤٥ ، ومسلم ٢٦٤٧ ، وأبو داود ٤٦٩٤ ، والترمذي ٢١٣٦ و ٣٣٤٤ ، وأحمد ١ / ٨٢ و ١٢٩ و ١٣٢ و ١٤٠ ، وابن ماجة ٧٨ ، وعبد الرزاق ٢٠٠٧٤ ، والآجري في الشريعة ص ١٧١ ـ ١٧٢ ، والطبري ٣٠ / ٢٢٣ ، وأبو يعلى ٣٧٥ و ٥٨٢ ، وابن حبان ٣٣٤ و ٣٣٥ كلهم من حديث علي بن أبي طالب.

٨٣

وأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر فأقرّوا له بالربوبية ، فكان ذلك منهم إيمانا فهم يولدون على تلك الفطرة ، ومن كفر بعد ذلك فقد بدّل وغيّر ، ومن آمن ...

____________________________________

بلى (وأمرهم) أي بالإيمان والإحسان (ونهاهم) أي عن الكفر والكفران (فأقروا له بالربوبية) أي ولأنفسهم بالعبودية حيث قالوا بلى (فكان ذلك منهم) أي قولهم بلى الذي صدر عنهم (إيمانا) أي حقيقيا أو حكميّا (فهم يولدون على تلك الفطرة) يعني كما قال الله سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١). وكما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه حتى يعرب عنه لسانه» (٢). (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣). وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

والحاصل أن عهد الميثاق ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٤). الآية ، وبالسّنّة وهو الحديث الثابت المروي في المصابيح وغيره وتحقيقهما في كتب التفسير وشروح الحديث المنير على ما بيّنّاه في محلهما خلافا للمعتزلة ، حيث حملوا الآية ، والحديث على المعنى المجازي كما دفعناه في موضعهما هذا.

وقال شارح : ظهر من هذه المسألة وما يتعلق بها من الأدلة أن القول بأن أطفال المشركين في النار متروك فكيف لا وقد جعل الشرع البالغ الجاهل بالله ممّن لم تبلغه الدعوة معذورا يعني بقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٥). وأما الأحاديث فمتعارضة في هذا الباب ، وقد جمعنا بينها في شرح المشكاة على ما ظهر لنا من طريق الصواب ، وقد قال فخر الإسلام : وكذا نقول في الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف بمجرد العقل ، وأنه إذا لم يصف إيمانا ولا كفرا ولم يعتقد على شيء أي مما يكون منافيا للإيمان ولا موافقا للعصيان كان معذورا ، وإذا وصف الكفر وعقده أو عقده ولم يصفه لم يكن معذورا وكان من أهل النار مخلدا (ومن كفر بعد ذلك) أي الإيمان الميثاقي (فقد بدّل وغيّر) أي إيمانه الفطري الوهبي بالكفر الطارئ الكسبي (ومن آمن) أي

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) تقدّم تخريجه فيما سبق.

(٣) الإنسان : ٣.

(٤) الأعراف : ١٧٢.

(٥) الإسراء : ١٥.

٨٤

وصدق فقد ثبت عليه ودام ...

____________________________________

أظهر إيمانه (وصدق) أي في إظهاره بأن يكون إيمانه اللساني مطابقا لتصديق الجنان (فقد ثبت عليه) أي على دينه كما في نسخة والمعنى على دينه الأصلي وفطرته الأولى (ودام) أي على الإسلام وهو تأكيد لما قبله وفي نسخة وداوم أي واستمر عليه ولم يتزلزل لديه.

قال القونوي رحمه‌الله في تفسير الآية الكريمة قولان : أحدهما قول أهل التفسير وعليه جمع من أكابر الأئمة وأكثر أهل السّنّة والجماعة ، وهو ما روي أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، ويعملون عمل أهل الجنة ، ثم مسح ظهره بشماله فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار ، ويعملون عمل أهل النار ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وكذلك إذا خلق الله العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» (١).

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٨٩٨ ـ ٨٩٩ ، ومن طريقه أحمد ١ / ٤٤ ـ ٤٥ ، وأبو داود ٤٧٠٣ ، والترمذي ٣٠٧٥ ، وابن جرير ١٥٣٥٧ ، والآجري في الشريعة ص ١٧٠ ، واللالكائي ٩٩٠ ، والبغوي في شرح السّنّة ٧٧ عن زيد بن أبي أنسية ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ... وصحّحه ابن حبان ٦١٣٣ ، والحاكم ٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ـ و ٥٤٤ ووافقه الذهبي وخالفه في موضع آخر ١ / ٢٧ ، وقال : فيه إرسال ، مع أن مسلم بن يسار الجهني راويه عن عمر لم يوثّقه غير ابن حبان ، والعجلي. ثم هو لم يسمع من عمر فيما قاله غير واحد من الأئمة ، وباقي رجاله ثقات ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن عمر رجلا.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ في «التمهيد» ٦ / ٣ : هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد ، لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب ، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ، وهو أيضا مع هذا الإسناد لا تقوم به حجة ، ومسلم بن يسار هذا مجهول ، وزيادة من زاد في هذا الحديث : «نعيم بن ربيعة» ليست حجة ، لأن الذي لم يذكره أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن ، وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم ، لأن مسلم بن يسار ، ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم. وذكره ابن كثير في تفسيره ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ وفي تاريخه ١ / ٨٩ ـ ٩٠ وقال بعد نقل كلام الترمذي : كذا قاله أبو حاتم ، وأبو زرعة ، زاد أبو حاتم بينهما نعيم بن ربيعة ، وهذا الذي قاله أبو حاتم ، رواه أبو داود في سننه ٤٧٠٤ عن محمد بن مصطفى ، عن بقية عن عمر بن هيثم القرشي ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن ـ

٨٥

____________________________________

وأخذ بظاهره الجبرية فقالوا : إن الله تعالى خلق المؤمنين مؤمنين وخلق الكافرين كافرين ، وإبليس لم يزل كافرا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مؤمنين قبل الإسلام والأنبياء عليهم‌السلام كانوا أنبياء قبل الوحي ، وكذا إخوة يوسف كانوا أنبياء وقت الكبائر.

وقال أهل السّنّة والجماعة : صاروا أنبياء بعد ذلك وإبليس صار كافرا وهذا لا ينافي كونه كافرا عند الله باعتبار تعلق علمه بأنه سيصير كافرا بعلمه ، ولو كان جبرا محضا لما صدر من إبليس طاعة ، ولا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما معصية ، فبطل قولهم أن الكفار مجبورون على الكفر والمعصية والمؤمنين مجبورون على الإيمان والطاعة بل نقول : إن العبد مختار مستطيع على الطاعة والمعصية ، وليس بمجبور والتوفيق من الله تعالى كما يدل عليه قوله سبحانه : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ، فلو كانوا مؤمنين لما أمرهم بالإيمان ولما خاطبهم بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية : أخذ الله تعالى الميثاق من ظهر آدم عليه‌السلام فأخرج من ظهره كل ذريته فنشرها بين يديه جميعا وصوّرهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ، ثم كلّمهم قبلا أي عيانا يعاينهم آدم عليه‌السلام ، وقال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا ، وتلاها إلى قوله تعالى : (الْمُبْطِلُونَ) (٣) فإن قيل فما وجه إلزام الحجة بهذه الآية ونحن لا نذكر هذا الميثاق وإن

__________________

 ـ مسلم بن يسار الجهني ، عن نعيم بن ربيعة ، قال : كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فذكره ، وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمر بن جعثم يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك. قال ابن كثير : الظاهر أن مالكا إنما أسقط نعيم بن ربيعة عمدا ، لمّا جهل حال نعيم ، ولم يعرفه ، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممّن لا يرتضيهم ، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ، ويقطع كثيرا من الموصولات. ا. ه.

(١) النساء : ١٣٦.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) أخرجه أحمد ١ / ٧٧٢ ، والطبري ١٥٣٣٨ ، وابن أبي عاصم ٢٠٢ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف ٤ / ٤٤٠ كلهم من طريق حسين بن محمد ، عن جرير بن حازم ، عن كلثوم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وهذا إسناد على شرط مسلم ، وصحّحه الحاكم ٢ / ٥٤٤ ، ووافقه الذهبي ، وذكره الهيثمي في المجمع ٧ / ٢٥ ، وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، ونقله ابن كثير في تفسيره ٢ / ٢٦٢ عن المسند وقال : ـ

٨٦

____________________________________

تفكّرنا وجهدنا جهدنا في ذلك بالاتفاق؟ أجيب : بأن الله سبحانه وتعالى أنسانا ذلك ابتلاء لأن الدنيا دار ابتلاء وعلينا الإيمان بالغيب ابتداء ولو تذكرنا ذلك لزال الابتلاء وما احتجنا إلى تذكير الأنبياء عليهم الصلاة واللام وليس كل ما ينسى بالمرة تزول به الحجة وتثبت به المعذرة. قال الله تعالى في حق أعمالنا : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١). وأخبر أنه سيثيبنا ويجازينا.

والثاني قول أرباب النظر وأصحاب المعقول وهو : أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ، ثم مضغة حتى جعلهم بشرا سويّا وخلقا كاملا أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية فبالإشهاد بالدلالة صاروا كأنهم قالوا بلى قيل : وهذا القول لا ينافي الأول إذ الجمع بينهما ممكن فتأمل ، وأما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير الآية بالوجه الأول ومالوا إلى الوجه الثاني ، وجعلوه من باب التمثيل ، وهذا منهم بناء على أن كل ما لا يدركه العقل لا يجوز القول به لما عرف من أصلهم من تقديم العقل على الفعل ، ثم الآية تدل على أن الله تعالى خلق الأرواح مع الأجساد أو قبلها وهو الصحيح لخبر أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بخمسمائة ألف سنة وأن

__________________

 ـ وقد روى هذا الحديث النسائي في سننه ، عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به ، ورواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به ، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ٢ / ٥٤٤ من حديث حسين بن محمد وغيره ، عن جرير بن حازم ، عن كلثوم بن جبير ، به ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرّجاه ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير ، هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث ، عن كلثوم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فوقفه ، وكذا رواه إسماعيل ابن علية ووكيع عن ربيعة ابن كلثوم بن جبير ، عن أبيه به ، وكذا رواه عطاء بن السائب ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله ، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت ، والروايات الموقوفة التي ذكرها ابن كثير مخرّجة في تفسير الطبري انظر ١٥٣٣٩ و ١٥٣٤١ و ١٥٣٤٢ و ١٥٣٤٣ و ١٥٣٤٤ و ١٥٣٤٨ و ١٥٣٥٠ و ١٥٣٦٠ و ١٥٣٦١.

ونص الحديث من بدايته «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه‌السلام بنعمان فأخرج من صلبه ...». ونعمان واد لهذيل على ليلتين من عرفات ، وقوله : «ثم كلّمهم قبلا» أي عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب ، ومن غير أن يولي أمرهم أو كلامهم أحدا من الملائكة. النهاية ٤ / ٨ لابن الأثير.

(١) المجادلة : ٦.

٨٧

ولم يجبر أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان ولا خلقهم مؤمنا ولا كافرا ، ولكن خلقهم أشخاصا والإيمان والكفر فعل العباد ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا فإذا آمن بعد ذلك علمه في مؤمنا حال إيمانه من غير أن يتغيّر علمه وصفته ...

____________________________________

الخطاب والجواب كان للأرواح والأجساد كما يبعثون بهما في المعاد (ولم يجبر) بضم الياء وكسر الباء أي لم يقهر الله (أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان).

وفي نسخة ولا على الإيمان ، والمعنى أن الله تعالى لا يخلق الطاعة والمعصية في قلب العبد بطريق الجبر والغلبة بل بخلقهما في قلبه مقرونا باختيار العبد وكسبه فإن المكره على عمل هو الذي عمل ذلك العمل يكرهه في الأصل ، وكان المختار عنده أن لا يعلمه فإنه عنده كالذليل كالمؤمن إذا أكره على إجراء كلمة الكفر فأجراها بظاهر البيان وقلبه مطمئن بالإيمان وكالمنافق حيث يجري الإيمان على اللسان وقلبه مشحون بالكفر ، فليس الكافر في كفره معذورا ولا المؤمن في إيمانه مجبورا ، بل الإيمان محبوب للمؤمنين ، كما أن الكفر مطلوب للكافرين ، وهذا معنى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (١) غاية الأمر أن الله تعالى بفضله حبّب إلينا الإيمان وزيّن في قلوبنا الإحسان وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله وبعدله ترك هداية أهل الكفر ، والكفران وحبّب إليهم العصيان وكرّه لديهم الإيمان فسبحانه سبحانه يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضلّ وهذا من أسرار القضاء والقدر بحكم الأزل لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

(ولا خلقهم مؤمنا ولا كافرا) أي بالجبر والإكراه (ولكن خلقهم أشخاصا) أي قابلة لقبول الإيمان إخلاصا ولاختيار الكفر على توهم كونه لهم خلاصا (والإيمان والكفر فعل العباد) أي بحسب اختيارهم لا على وجه اضطرارهم وسبحان من أقام العباد فيما أراد (ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا) أي وأبغضه كما في نسخة (فإذا آمن بعد ذلك) أي ارتكاب كفره (علمه مؤمنا في حال إيمانه) أي وأحبه كما في نسخة (من غاير أن يتغيّر علمه) أي بتغير كفر عبده وإيمانه (وصفته) أي ومن غير أن يتغيّر نعته الأزلي من الغضب والرضا المتعلقين بالكفر والإيمان ، وإنما التغيّر في متعلقهما باختلاف الزمان ، بل وقد علم بإيمان بعض وكفر آخرين قبل وجودهم في عالم شهودهم إلا أنه سبحانه من

__________________

(١) المؤمنون : ٥٣ ، والروم : ٣٢.

٨٨

وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها ...

____________________________________

فضله وكرمه لا يعمل بمجرد تعلّق علمه بل لا بدّ من إظهار اختيار العبد وحصول عمله ليترتب عليه الحساب ويتفرّع عليه الثواب أو العقاب والله أعلم بالصواب.

 (وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون) أي على أيّ وجه يكون من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان (كسبهم على الحقيقة) أي لا على طريق المجاز في النسبة ، ولا على سبيل الإكراه والغلبة ، بل باختيارهم في فعلهم بحسب اختلاف أهوائهم وميل أنفسهم فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خلق لأفعاله الاختيارية من الضرب والشتم وغير ذلك ، ولا كما زعمت الجبرية القائلون بنفي الكسب والاختيار بالكلية ففي قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١). رد على الطائفتين في هذه القضية.

والحاصل أن الفرق بين الكسب والخلق هو أن الكسب أمر لا يستقل به الكاسب والخلق أمر يستقل به الخالق ، وقيل : ما وقع بآلة فهو كسب ، وما وقع لا بآلة فهو خلق ، ثم ما أوجده سبحانه من غير اقتران قدرة الله تعالى بقدرة العبد وإرادته يكون صفة له ، ولا يكن فعلا له كحركة المرتعش ، وما أوجده مقارنا لإيجاد قدرته واختياره فيوصف بكونه صفة وفعلا ، وكسبا للعبد كالحركات الاختيارية ، ثم المتولدات كالألم في المضروب والانكسار في الزجاج بخلق الله ، وعند المعتزلة بخلق العبد (والله تعالى خالقها) أي موجد أفعال العباد وفق ما أراد لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) أي ممكن بدلالة العقل وفعل العبد شيء ولقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٣). أي الذي يصدر منه حقيقة الخلق ليس كمن لا يصدر منه ذلك في شيء ، وهذا في مقام التمدّح بالخالقية وكونها سببا لاستحقاق العبادة ولقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٤). أي وعملكم أو معمولكم.

وبه احتج أبو حنيفة رحمه‌الله على عمرو بن عبيد (٥) ، وفي حديث رواه الحاكم

__________________

(١) الفاتحة : ٥.

(٢) الأنعام : ١٠٢ ، والرعد : ١٦ ، والزّمر : ٦٢.

(٣) النحل : ١٧.

(٤) الصّافّات : ٩٦.

(٥) هو عمرو بن عبيد ، الزاهد العابد القدري ، كبير المعتزلة ، وأولهم ، أبو عثمان البصري. قال ابن علية : أول من تكلّم في الاعتزال واصل الغزال ، فدخل معه عمرو بن عبيد فأعجب به وزوّجه ـ

٨٩

____________________________________

وصححه البيهقي من حديث حذيفة مرفوعا : «إن الله صانع كل صانع وصنعته» (١). ولذا وبّخهم سبحانه بقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٢). أي ما تعملون من الأصنام وبقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ولأن العبد لو كان خالقا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها كما يشير إليه سبحانه بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٣). وقول علي كرّم الله تعالى وجهه : عرفت الله بفسخ العزائم ، ولقد أغرب المعتزلة حيث صرفوا قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلى صفة الله حتى قالوا : إن كلامه مخلوق ولم يصرفوه إلى صفات الخلق حتى قالوا : إن أفعال العباد غير مخلوقة له ، وأما قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٤). فمعناه ما رميت خلقا إذ رميت كسبا ، ولكن الله رمى بخلق كسب الرمي في المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : نقرّ بأن العبد مع جميع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة انتهى ... وبيانه على وجه يظهر برهانه هو أن علة افتقار الأشياء في وجودها إلى الخالق هي إمكانه ، وكل ما يدخل في الوجود جوهرا كان أو عرضا فهو ممكن في عالم الشهود ، فإذا كان العبد القائم بذاته لإمكانه يستفيد الوجود في شأنه من الخالق عزّ شأنه فأفعاله القائمة به أولى أن تستفيد الوجود من خالق ، وهذا معنى قوله تعالى والله الغني أي بذاته وصفاته عن جميع مصنوعاته وأنتم الفقراء أي المحتاجون بذواتكم وصفاتكم وأعمالكم وأحوالكم إلى الله أي إلى إيجاده في الابتداء ، وإمداده في الأثناء قبل الانتهاء.

ثم اعلم أن إرادة العبد التي تقارن فعله وقدرته عليه حال صنعه مخلوقتان مع الفعل لا قبله ولا بعده ، قال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : نقرّ بأن الاستطاعة مع الفعل لا

__________________

 ـ أخته. توفي سنة ١٤٤ ه‍. مترجم في سير أعلام النبلاء ٦ / ١٠٤.

(١) أخرجه الحاكم ١ / ٣١ ـ ٣٢ وصحّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، والبيهقي في الأسماء والصفات ١ / ١٢٩ و ٢ / ٣٩٨ ، والبخاري في خلق أفعال العباد ص ١٢٥ من حديث حذيفة بن اليمان.

ولفظه عند الحاكم «إن الله خالق ...» أما عند البخاري والبيهقي : «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته».

(٢) الصّافّات : ٩٥.

(٣) الملك : ١٤.

(٤) الأنفال : ١٧.

٩٠

____________________________________

قبل الفعل ولا بعد الفعل ، لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيا عن الله سبحانه وقت الفعل ، وهذا خلاف النص أي خلاف حكم النص كما في نسخة لقوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) ، ولو كان بعد الفعل لكان من المحال حصول الفعل بلا استطاعة ولا طاقة. انتهى.

والمعنى أن حصول الفعل بلا استطاعة من قبل الله تعالى ولا طاقة لمخلوق فيما لم يقارن الاستطاعة الإلهية بفعله بناء على مقتضى ضعف البشرية وقوة الربوبية ، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «لا حول ولا قوة إلا بالله» (١). أي لا حول عن معصيته إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بإعانته ، وقال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن الله تعالى خالق الخلق ورازقهم ولم يكن لهم طاقة لأنهم ضعفاء عاجزون محدثون ، والله تعالى خالقهم ورازقهم لقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٢). والكسب من الحلال حلال وجمع المال من الحرام حرام ، والخلق على ثلاثة أصناف : المؤمن المخلص في إيمانه ، والكافر الجاحد في كفره ، والمنافق المداهن في نفاقه ، والله تعالى فرض على المؤمن العمل وعلى الكافر الإيمان ، وعلى المنافق الإخلاص بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (٣). ومعناه : يا أيها المؤمنون أطيعوا الله ، ويا أيها الكافرون آمنوا بالله ، ويا أيها المنافقون أخلصوا لله. انتهى. وإذا تحقق أن الله خالق الخلق علم أنه لا يجب لهم شيء على الحق فإنه سبحانه لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وكان القياس أن يقال القائل يكون العبد خالقا لأفعاله يكون من المشركين دون الموحدين كما يشير إليه حديث : «القدري مجوس هذه الأمة» (٤) ، حيث ذهبوا إلى أن للعالم فاعلين أحدهما : الله سبحانه وتعالى وهو فاعل

__________________

(١) هو بعض حديث تقدّم تخريجه فيما سبق ص ١٢ رقم (٦).

(٢) الروم : ٤٠.

(٣) البقرة : ٢١.

(٤) أخرجه أبو داود ٤٦٩١ والحاكم ١ / ٨٥ من طريق أبي حازم سلمة بن دينار عن ابن عمر ، وهو منقطع لأن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر ، ورواه اللالكائي في شرح السّنّة ١١٥٠ والآجري في الشريعة ص ١٩٠ من طريق زكريا بن منظور ، عن أبي حازم عن نافع عن ابن بعمر ... وزكريا بن منظور ضعيف ، وقال الدارقطني : متروك. وفي الباب عن سهل بن سعد عند اللالكائي ١١٥٢ وفي سنده يحيى بن سابق المدني ، قال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات.

وتمامه : «إن مرضوا ، فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم».

٩١

____________________________________

الخير ، والثاني الشيطان ، وهو فاعل الشر ، قال : ولذا بالغ مشايخ ما وراء النهر مبالغة كبيرة في تضليل المعتزلة حتى قالوا : إنهم أقبح من المجوس حيث لم يثبتوا إلا شريكا واحدا ، المعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى ، ولكن المحققين على أن المعتزلة من طوائف الإسلام ، وحملوا ما ذكر على الزجر للأنام لأنهم لم يجعلوا العبد خالقا بالاستقلال ، بل يقولون بأنه سبحانه خالق بالذات والعبد خالق بواسطة الأسباب والآلات التي خلقها الله تعالى في العبد ، ولم يثبتوا الإشراك بالحقيقة وهو إثبات الشريك في الألوهية كالمجوس ، ولا بمعنى استحقاق العبادة كعبدة الأصنام.

وأما قول المعتزلة : لو كان الله خالقا لأفعال العباد لكان هو القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني والسارق ، وهذا جهل عظيم مدفوع بأن المتّصف بالشيء من قام به ذلك الشيء لا من أوجده إذ لا يرون أن الله تعالى هو الخالق للسواد والبياض وسائر الصفات في الأجسام فالإيجاد هو فعل الله والموجود وهو الحركة فعل العبد ، وهو موصوف به حتى يشتق له منه اسم المتحرك ولا يتّصف الله بذلك ، وأما قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١). بصيغة الجمع وقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) (٢) بإضافة الخلق إلى عيسى فجوابه أن الخلق هاهنا بمعنى : التقدير والتصوير ، فإن العبد بقدر طاق البشرية له بعض التدبير إن وافق التقدير ، ثم اعلم أن تحقيق المرام ما ذكره ابن الهمام في هذا المقام حيث قال : فإن قيل : لا شك أنه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا ندرك تفرقة بين الحركة المقدورة وهي الاختيارية ، وبين الرعدة الضرورية والقدرة ليست خاصيتها إلا التأثير أي إيجاد المقدور فإن القدرة صفة تؤثّر على وفق الإرادة ويستحيل اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد فوجب تخصيص عمومات النصوص السابقة بما سوى أفعال العباد الاختيارية فيكونون مستقلين بإيجاد أفعالهم الاختيارية بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى كما هو

__________________

 ـ وقوله : مجوس هذه الأمة : قال ابن الأثير : قيل إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة ، ويزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة ، وكذا القدرية يضيفون الخير إلى الله والشرّ إلى الإنسان والشيطان ؛ والله تعالى خالقهما معا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه خلقا وإيجادا ، وإلى الفاعلين لهما عملا واكتسابا.

(١) المؤمنون : ١٤.

(٢) المائدة : ١١٠.

٩٢

وهي

____________________________________

رأي المعتزلة ، وإلا [كان] (١) جبرا محضا فيبطل الأمر والنهي ، فالجواب أن الحركة مثلا كما أنها وصف للعباد ومخلوق للرب لها نسبة إلى قدرة العبد فسميت تلك الحركة باعتبار تلك النسبة كسبا بمعنى أنها مكسوبة للعبد ، ولم يلزم الجبر المحض إذ كانت متعلق قدرة العبد داخلة في اختياره ، وهذا التعلّق هو المسمى عندنا بالكسب. انتهى ...

وأما ما سبق من استحالة اجتماع مؤثّرين على أثر واحد فالجواب عنه أن دخول مقدور تحت قدرتين إحداهما قدرة الاختراع ، والأخرى قدرة الاكتساب جائز ، وإنما المحال اجتماع مؤثّرين مستقلين على أثر واحد ، وفي شرح العقائد تعريف القدرة الحادثة في العبد بأنها صفة يخلقها الله تعالى في العبد عند قصده اكتساب الفعل مع سلامة الأسباب والآلات ، وبهذا يظهر أن مناط التكليف بعد خلق الاختيار للعبد هو قصده الفعل قصدا مصمّما طاعة كان أو معصية ، وإن لم تؤثر قدرته في وجود الفعل المانع هو تعلّق قدرة الله التي لا يقاومها شيء في إيجاد ذلك ، ومن هنا قال ابن الهمام رحمه‌الله : إن لزوم الجبر يندفع بتخصيص النصوص بإخراج فعل واحد قلبي وهو العزم المصمم ، لكن فيه أن ذلك العزم المصمّم داخل تحت الحكم المعمّم والله سبحانه أعلم ثم ما اختاره هو قول الباقلاني (٢) رحمه‌الله من أئمة أهل السّنّة أن قدرة الله تعالى تتعلق بأصل الفعل وقدرة العبد تتعلق بوصفه من كونه طاعة أو معصية ، فمتعلق تأثير القدرتين مختلف كما في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء ، فإذ ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره لتعلّق ذلك بعزمه المصمم.

ولقد أنصف الإمام الرازي في تفسيره الكبير حيث قال : الإنسان مجبور في صورة مختار ، وهو أنهى ما يمكن أن ينتهي إليه فهم البشر ، قلت : وذلك لوقوع فعل العبد على وفق اختياره من غير تأثير لقدرته المقارنة له ويؤيده قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣). ولذا قال بعض العارفين : لا تختر فإن كنت لا بدّ أن تختار اختر أن لا تختار (وهي) أي أفعال العباد

__________________

(١) تصحيف في الأصل والصواب [كان].

(٢) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري القاضي أبو بكر الباقلاني المتكلم الأشعري سكن بغداد وتوفي بها سنة ٣٠٤ ه‍ ، من تصانيفه إعجاز القرآن.

(٣) القصص : ٦٨.

٩٣

كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره.

____________________________________

(كلها) أي جميعها من خيرها وشرها ، وإن كانت مكاسبهم (بمشيئته) أي بإرادته (وعلمه) أي بتعلق علمه (وقضائه وقدره) أي على وفق حكمه وطبق قدر تقديره ، فهو مريد لما يسميه شرّا من كفر ومعصية كما هو مريد للخير من إيمان وطاعة (والطاعات كلها) أي جنسها بجميع أفرادها الشامل لواجبها وندبها (ما كانت) أي قليلة أو كثيرة (واجبة) أي ثابتة (بأمر الله تعالى) أي بإقامتها في الجملة حيث قال الله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١). (وبمحبته) أي لقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٢) (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣) (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٤). (وبرضائه) أي لقوله تعالى في حق المؤمنين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٥) (وعلمه) أي لتعلق علمه سابقا في عالم الشهود وتحققه لاحقا في عالم الوجود (ومشيئته) أي بإرادته (وقضائه) أي حكمه (وتقديره) أي بمقدار قدره أولا وكتبه في اللوح المحفوظ وحرّره ثانيا وأظهره في عالم الكون وقرّره ثالثا ثم يجزيه جزاء وافيا في عالم العقبى رابعا (والمعاصي كلها) أي صغيرها وكبيرها (بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته) إذ لو لم يردها لما وقعت (لا بمحبته) أي لقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٦) (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٧) (ولا برضائه) أي لقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٨) ولأن الكفر يوجب المقت الذي أشد الغضب وهو ينافي رضى الرب المتعلق بالإيمان وحسن الأدب (ولا بأمره) أي لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (٩). فالنهي ضد الأمر فلا يتصور أن يكون الكفر بالأمر وهذا

__________________

(١) الأنفال : ٤٦.

(٢) آل عمران : ٧٦.

(٣) آل عمران : ١٣٤.

(٤) البقرة : ٢٢٢.

(٥) المائدة : ١١٩.

(٦) آل عمران : ٣٢.

(٧) آل عمران : ٥٧.

(٨) الزمر : ٧.

(٩) النحل : ٩٠.

٩٤

____________________________________

القول هو المعروف عن السلف ، وقد اتفقوا على جواز إسناد الكل إليه سبحانه جملة ، فيقال : جميع الكائنات مرادة لله ، ومنهم من منع التفصيل فقال لا يقال إنه يريد الكفر والظلم والفسق لإيهامه الكفر ، ولرعاية الأدب معه سبحانه ، كما يقال خلق الأشياء ولا يقال : خالق القاذورات ، ثم أعلم أن شارحا حلّ عبارة الإمام على أن الطاعات والمعاصي مفعولات ليخلق ، وأن قوله واجبة خبر ما كانت مندوبة ، والأولى ما قررنا وعلى عموم معنى الأمر حرّرنا.

والمسألة مبسوطة في الوصية حيث قال : نقرّ بأن الأعمال ثلاثة : فريضة أي اعتقادا وعملا ، أي أو عملا لا اعتقادا ليشمل الواجب ، وفضيلة أي سنّة أو مستحبة ، أو نافلة ومعصية أي حرام ، أو مكروه ، فالفريضة بأمر الله تعالى ومشيئته ومحبته ورضاه وقضائه وتقديره ، وإرادته وتوفيقه ، وتخليقه أي خلق فعله وفق حكمه فهو تفسير لما قبله.

وأما قوله وحكمه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ فظاهر العبارة هو التفرقة بين المشيئة والإرادة ، فالمشيئة أزلية في المرتبة الشهودية والإرادة تعلقها بالفعل في الحال الوجودية هذا ما سنح لي في هذا المقام والله تعالى أعلم بمرام الإمام.

وكذا الحكم يظهر أنه مستدرك لأنه أما أن يراد به الحكم الأزلي فهو بمعنى القضاء الأوّلي ، أو يراد به الأمر الكوني في عالم الظهور الخلقي فقد تقدّم ذكر الأمر بهذا المعنى اللهمّ إلّا أن يقال أنهما كالتأكيد والتأييد في المبنى ، ثم قوله : والفضيلة ليست بأمر الله تعالى أي بالأمر الموجب قطعا ، أو ظنّا وإلا فهي داخلة في ذلك الأمر المقتضي استحسانا ، وكذا مندرج في قوله : ولكن بمشيئته ومحبته ورضائه وقضائه وتقديره وتوفيقه وتخليقه وإرادته وحكمه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ فنؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه والمعصية ليست بأمر الله ولكن بمشيئته لا بمحبته وبقضائه لا برضائه وبتقديره وتخليقه لا بتوفيقه وبخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ. انتهى.

وأما ما ذكره ابن الهمام في المسايرة (١) من أنه نقل عن أبي حنيفة ما يدل على جعل الإرادة من جنس الرضى والمحبة لا المشيئة لما روي عنه من قال لامرأته : شئت

__________________

(١) هو المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة وهو مختصر للرسالة القدسية للإمام الغزالي وفيه زيادات عليه وشرحه الشيخ كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن أبي الشريف القدسي الشافعي وسمّاه المسامرة في شرح المسايرة وشرحه سعد الدين الديري الحنفي المتوفى سنة ٨٦٧ وشرحه الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفّى سنة ٨٧٩ ه‍. انظر كشف الظنون ٢ / ١٦٦٦ ـ ١٦٦٧.

٩٥

____________________________________

طلاقك ونواه طلّقت ، ولو قال : أردته أو أحببته ، أو رضيته ونواه لا يقع على تفرقة هذه الصفات في العباد فليس كما قال أنه مخالف لما عليه أكثر أهل السّنّة ، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ما أجمع عليه السلف من قوله : «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (١) ، وقد خالفت المعتزلة في هذين الأصلين فأنكروا إرادة الله للشر مستدلّين على زعمه بقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢) ، وإن الله (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) ، (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٤) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٥). وهذا منهم بناء على تلازم الإرادة والمحبة والرضا والأمر عندهم ، وقالوا : إنه سبحانه أراد من الكافر الإيمان لا الكفر ، ومن العاصي الطاعة لا المعصية زعما منهم أن إرادة القبيح قبيحة فعندهم يكون أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادة الله سبحانه ، وقد دلّت الآيات الواضحات على خلاف قولهم كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٦). وقوله : (لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (٧) ، (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٨) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٩).

وروى البيهقي بسنده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه : «لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس» (١٠). ثم قول المعتزلة : إرادة القبيح قبيحة هو بالنسبة إلينا أما

__________________

(١) تقدم تخريجه فيما سبق.

(٢) غافر : ٣١.

(٣) الزّمر : ٧.

(٤) الأعراف : ٢٨.

(٥) البقرة : ٢٠٥.

(٦) الأنعام : ١٢٥.

(٧) الرعد : ٣١.

(٨) السجدة : ١٣.

(٩) الإنسان : ٣٠ ، والتكوير : ٢٩.

(١٠) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ١ / ٢٥٩ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأورده الهيثمي في المجمع ٧ / ١٩١ ـ ١٩٢ من حديث طويل وقال : رواه الطبراني في الأوسط واللفظ له ، والبزار بنحوه ، وفي إسناد الطبراني عمر بن الصبح وهو ضعيف جدّا ، وشيخ البزار السكن بن سعيد ولم أعرفه ، وبقية رجال البزار ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر. وعزاه العجلوني في كشف الخفاء رقم ٢٠٩٩ لأبي نعيم من حديث ابن عمر وبحثت عنه في الحلية فلم أجده.

٩٦

____________________________________

بالنسبة إلى الله سبحانه فليست كذلك فإنها قد تكون مقرونة بحكمة ، تقتضي هنالك مع أنه مالك الأمور على الإطلاق كما قال الله تعالى : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (١). وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (٢). وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٣). وحكي أن القاضي الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة دخل على الصاحب بن عباد (٤) وعنده الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني أحد أئمة أهل السّنّة فلما رأى الأستاذ قال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء فقال الأستاذ فورا سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يعصى؟ قال الأستاذ : أيعصى ربّنا قهرا؟ فقال القاضي : أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالرديء أحسن إليّ أم أساء ، فقال الأستاذ : إن منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن منعك ما هو له ، فهو يختص برحمته من يشاء فبهت القاضي (٥).

ومجمل الكلام في تحصيل المرام أن الحسن من أفعال العباد ، وهو ما يكون متعلق المدحة في الدنيا والمثوبة في العقبى برضاء الله تعالى وإرادته وقضائه ، والقبيح منها وهو ما يكون متعلق المذمّة في العاجل والعقوبة في الآجل ليس برضائه ، بل بإرادته وقضائه لقوله سبحانه : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٦). فالإرادة والمشيئة والتقدير تتعلق بالكل والرضاء والمحبة والأمر لا تتعلق إلا بالحسن دون القبيح من الفعل حيث أمرهم بالإيمان مع تقرّر علمه بأنهم يموتون على الكفر.

ثم اعلم أن الطاعة بحسب الطاقة كما قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٧). أي قدرتها وقدرة العبد التي يصير بها أهلا لتكليف الطاعة هي سلامة الآلة

__________________

(١) إبراهيم : ٢٧.

(٢) المائدة : ١.

(٣) الأنبياء : ٢٣.

(٤) هو إسماعيل بن عباد بن العباس بن أحمد بن إدريس الطالقاني نسبة إلى الطالقان وهي ولاية بين قزوين وأبهر توفي بالري ٣٨٥ ه‍ وعرف بالصاحب لأنه صحب أبا الفضل بن العميد. ويقول الكستلي : وكان غاليا في الرفض والاعتزال ساعيا في تربية أبي هاشم الجبائي ورفع قدره وأعلى ذكره. انظر ترجمته في لسان الميزان ١ / ٤١٣ ـ ٤١٦ ، ومعجم الأدباء ٦ / ١٦٨ ـ ٣١٧.

(٥) انظر شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني ص ١٤٠ ـ ١٤١.

(٦) الزّمر : ٧.

(٧) البقرة : ٢٨٦.

٩٧

____________________________________

التي بها يؤدي ما يجب عليه من المعرفة والعبادة ، فلذا لا يكلّف الصبي والمجنون بالإيمان ولا الأخرس بالإقرار باللسان ولا المريض العاجز عن القيام بالقيام في مقام الإحسان فكان أبو جهل غير مسلوب العقل ، ولم يكن له أن يقول : لا أقدر على أن أصدق وأعترف ، وكذا المؤمن الصحيح التارك للصلاة ليس له أن يقول : لا أقدر أن أصلي.

والحاصل أن العبد ليس له أن يعتذر ويتعلق بالقضاء والقدر ، وفيه إشكال مشهور ذكرناه في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١). حيث نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، ووجه الإشكال ظاهر حيث أمرهم بالإيمان مع تقرير علمه بأنهم يموتون على الكفر ، والجواب أن إيمانهم ليس محالا لذاته ، بل لغيره حيث تعلق علم الله بعدمه فهم في عدم إيمانهم عاصون من وجه ، وطائعون من وجه ، ولعل هذا المعنى يستفاد من قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (٢). أي انقاد في ما أراد ربّ العباد وسرّ القدر مخفيّ على البشر في الدنيا ، بل في العقبى فتدبّر ، قال الله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣). والحاصل أن الاستطاعة صفة يخلقها الله عند اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات ، فإن قصد العبد فعل الخير خلق الله تعالى قدرة فعل الخير ، وإن قصد العبد فعل الشر خلق الله قدرة فعل الشر ، فكان العبد هو المضيّع لقدرة فعل الخير ، فيستحق الذمّ والعقاب ، ولذا ذمّ الله الكافرين بأنهم لا يستطيعون السمع أي لا يقصدون استماع كلام الرسول على وجه التأمل وطلب الحق حتى يعلموا ويعملوا به ، بل يستمعون على وجه الإنكار ، وقد يقع لفظ الاستطاعة على سلامة الأسباب والآلات والجوارح كما في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٤). وصحة التكليف تعتمد على هذه الاستطاعة التي هي سلامة الأسباب والآلات لا الاستطاعة بالمعنى الأول ، فتأمل مع أن القدرة صالحة للضدّين عند أبي حنيفة رحمه‌الله حتى أن القدرة المصروفة إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان لا اختلاف إلا في التعلّق وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة ، فالكافر

__________________

(١) البقرة : ٦.

(٢) آل عمران : ٨٣.

(٣) الأنعام : ١٤٩.

(٤) آل عمران : ٩٧.

٩٨

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم ...

____________________________________

قادر على الإيمان المكلّف به إلا أنه صرف قدرته إلى الكفر وضيّع باختياره صرفها إلى الإيمان فاستحق الذمّ والعقاب من هذا الباب ، وأما ما يمتنع بالغير بناء على أن الله تعالى علم خلافه ، أو أراد خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نزاع في وقوع التكليف به لكونه مقدور المكلّف بالنظر إلى نفسه ، فليس التكليف به تكليفا بما ليس في وسع البشر نظرا إلى ذاته ، ومن قال : إنه تكليف بما ليس في الوسع فقد نظر إلى ما عرض له من تعلّق علمه تعالى وإرادته سبحانه بخلافه.

وبالجملة لو لم يكلّف العبد به لم يكن تارك المأمور عاصيا ، فلذا عدّ مثل إيمان الكافر وطاعة الفاسق من قبيل المحال بناء على تعلق علمه وإرادته بخلافه ، وهو عندنا من قبيل ما لا يطاق بناء على صحة تعلّق القدرة الحادثة في نفسه ، وإن لم يوجد عقيبه ، وهذا نزاع لفظي عند أرباب التحقيق ، والله وليّ التوفيق.

ثم اعلم أن مراتب ما ليس في وسع البشر إتيانه ثلاث : أقصاها أن يمتنع بنفس مفهومه كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم ، وهذا لا يدخل تحت القدرة القديمة فضلا عن الحادثة.

وأوسطها أن لا تتعلق بها القدرة الحادثة أصلا ، كخلق الأجسام. أو عادة كحمل الجبل والصعود إلى السماء.

وأدناها أن يمتنع لتعلق علمه سبحانه وإرادته بعدم وقوعه ، وفي جواز التكليف بالمرتبة الثالثة تردّد ولا نزاع في عدم الوقوع ، وجواز الثانية مختلف فيه ولا خلاف في عدم الوقوع ووقوع الثالثة متّفق عليه فضلا عن جوازها (والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم) أي جميعهم الشامل لرسلهم ومشاهيرهم وغيرهم أولهم آدم عليه الصلاة والسلام على ما ثبت بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة فما نقل عن بعض من إنكار ثبوته يكون كفرا ، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وفي رواية مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفا» (١) إلا أن

__________________

(١) هو بعض حديث طويل أخرجه أحمد ٥ / ٢٦٥ من حديث أبي أمامة. وذكره الهيثمي في المجمع ١ / ١٥٩. وقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.

وفي الباب عن أبي ذر عند أحمد ٥ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، قال الهيثمي في المجمع ١ / ١٦٠ : رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني في الأوسط بنحوه ، وعند النسائي طرف منه ، وفيه المسعودي ، وهو ثقة ولكنه اختلط. ا. ه.

٩٩

منزّهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح ...

____________________________________

الأولى أن لا يقتصر على عدد فيهم (منزّهون) أي معصومون (عن الصغائر والكبائر) أي من جميع المعاصي (والكفر) خصّ لأنه أكبر الكبائر ولكونه سبحانه : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١). (والقبائح) وفي نسخة والفواحش وهي أخصّ من الكبائر في مقام التغاير كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) (٢) والمراد بها نحو القتل والزنى واللواطة والسرقة وقذف المحصنة والسحر والفرار من الزحف والنميمة وأكل الربا ومال اليتيم ، وظلم العباد وقصد الفساد في البلاد.

وقال سعيد بن جبير : إن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنهما : كم الكبائر ، أسبع هي؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

واختلفوا في حدّ الكبيرة فقال ابن سيرين رضي الله عنه : كل ما نهى الله عنه فهو كبير ويؤيده ظاهر قوله سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (٣) الآية.

وقال الحسن وسعيد بن جبير والضحاك (٤) وغيرهم : ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، وهذا هو الأظهر فتدبّر.

ثم اعلم أن ترك الفرض أو الواجب ولو مرة بلا عذر كبيرة ، وكذا ارتكاب الحرام وترك السّنّة مرة بلا عذر تساهلا وتكاسلا عنها صغيرة ، وكذا ارتكاب الكراهة والإصرار على ترك السّنّة ، أو ارتكاب الكراهة كبيرة إلا أنها كبيرة دون كبيرة ، لأن الكبير والصغير من الأمور الإضافية والأحوال النسبية ، ولذا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، قال شارح عقيدة الطحاوي ، «وثم أمر ينبغي التفطّن له وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) النساء : ٣١.

(٣) النجم : ٣٢.

(٤) هو أبو القاسم الضحاك بن مزاحم الهلالي ، صاحب التفسير المتوفى سنة ١٠٢ ه‍. قال الإمام الذاهبي : كان من أوعية العلم ، وليس بمجود في حديثه ، وهو صدوق في نفسه ولم يلق ابن عباس ، وإنما لقي سعيد بن جبير فأخذ عنه التفسير. ترجم في السّير ٤ / ٥٩٨ ـ ٦٠٠.

١٠٠