شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

وأما الفعلية ...

____________________________________

العظيم : نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير أقول والعلي نقيض الدني ، فهذه ألفاظ متقاربة المعنى في الأسماء الحسنى والقول بأنها ألفاظ مترادفة صدر عن أحوال متكاثفة ، فقد قال حجة الإسلام ينبغي أن نعتقد تفاوتا بين معنى اللفظين فإنه يصعب علينا وجه الفرق بين معنييهما في حق الله تعالى ، ولكنّا مع ذلك لا نشك في أصل الافتراق ، ولذلك قال الله تعالى : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» (١) ففرّق بينهما فرقا يدل على التفاوت فإن كلّا من الرداء والإزار زينة للإنسان ، ولكن الرداء أشرف من الإزار ، ولذا جعل مفتاح الصلاة لفظ الله أكبر ، فهذه السبعة هي الصفات الذاتية الثبوتية ، واختلف في البقاء أنه من الصفات الثبوتية ، أو من النعوت السلبية فبني على الأول بعضهم وجمعها في بيت فقال:

حياة وعلم قدرة وإرادة

كلام وأبصار وسمع مع البقاء

والأظهر أنه من النعوت السلبية ، فإن المراد به نفي العدم السابق والفناء اللاحق بناء على ما ثبت قدمه واستحال عدمه. وما يجوز عدمه ممتنع قدمه ، وأما ما وقع في متن العقائد لمولانا عمر النسفي من قوله : الحيّ القادر العليم السميع البصير الشائي المريد فقد يوهم أن المشيئة والإرادة متغايران ، وليس كذلك لما سبق الكلام على هذا المقام ، فإن قيل : كيف صحّ إطلاق الموجود والواجب والقديم ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع؟ قلنا : بالإجماع وهو من الأدلة الشرعية ، (وأما الفعلية) : أي الصفات الفعلية وهي التي يتوقف ظهورها على وجود الخلق : اعلم أن الحدّ بين صفات الذات وصفات الفعل مختلف فيه.

فعند المعتزلة ما جرى فيه النفي والإثبات فهو من صفات الفعل كما يقال : خلق لفلان ولدا ولم يخلق لفلان ، ورزق لزيد مالا ولم يرزق لعمرو ، وما لا يجري فيه النفي فهو من صفات الذات كالعلم والقدرة فلا يقال لم يعلم كذا ولم يقدر على كذا ، فالإرادة والكلام مما يجري فيه النفي والإثبات. قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ

__________________

(١) هو بعض حديث أخرجه ابن أبي شيبة ٩ / ٨٩ ومسلم ٢٦٢٠ وأبو داود ٤٠٩٠ وابن ماجة ٤١٧٤ والطيالسي ٢٣٨٧ وأحمد ٢ / ٢٤٨ و ٣٧٦ والبخاري في الأدب المفرد ٥٥٢ والبغوي في شرح السّنّة ٣٥٩٢ وابن حبان ٣٢٨ والحاكم ١ / ٦١ وصحّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وهو كما قالا والحميدي ١١٤٩ كلهم من حديث أبي هريرة. وتتمته «فمن نازعني في واحدة منهما قذفته في النار».

٤١

____________________________________

بِكُمُ الْعُسْرَ) (١). (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٢). (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٣). فكانا من صفات الفعل ، وكانا حادثين ...

وأما عند الأشعرية فالفرق بينهما أن ما يلزم من نفيه نقيضه فهو من صفات الذات فإنك لو نفيت الحياة يلزم الموت ، ولو نفيت القدرة يلزم العجز ، وكذا العلم مع الجهل وما لا يلزم من نفيه نقيضه فهو من صفات الفعل ، فلو نفيت الإحياء أو الإماتة ، أو الخلق أو الرزق لم يلزم منه نقيضه فعلى هذا الحد لو نفيت الإرادة لزم منه الجبر والاضطرار ، ولو نفيت عنه الكلام لزم الخرس والسكوت ، فثبت أنهما من صفات الذات.

وعندنا أن كل ما وصف به ولا يجوز أن يوصف بضدّه فهو من صفات الذات كالقدرة والعلم والعزّة والعظمة ، وكل ما يجوز أن يوصف به وبضدّه فهو من صفات الفعل كالرأفة والرحمة والسخط والغضب ، ثم شبهة الأشاعرة والمعتزلة في ذلك أن التكوين لو كان أزليّا لتعلق وجود المكوّن به في الأزل ، ولو تعلق وجوده في الأزل لوجب وجود المكوّن في الأزل لأن القول بالتكوين ولا مكوّن كالقول بالضرب ، ولا مضروب وأنه محال فلا بد أن يكون التكوين حادثا.

والجواب أن التكوين إن حدث بالتكوين فهو تكوين محتاج إلى تكوين فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل ، أو ينتهي إلى تكوين قديم وهو الذي ندّعيه أولا بتكوين أحد ففيه تعطيل الصانع ، والحاصل أنّا نقول : التكوين قديم والمتعلق به هو المكوّن وهو حادث ، كما أن العلم قديم وبعض المعلومات حادث على أنّ التكوين في الأزل لم يكن ليكون العالم به في الأزل ، بل ليكون وقت وجوده فتكوينه باق أبدا فيتعلق وجود كل موجود بتكوينه الأزلي بخلاف الضرب لأنه عرض فلا يتصوّر بقاؤه إلى وقت وجود المضروب ، ثم نقول لهم : هل تعلق وجود العالم بذاته ، أو بصفة من صفاته أم لا؟ فإن قالوا : لا عطلوه ، وإن قالوا : نعم ، قلنا : فما تعلق به أزلي أم حادث؟ فإن قالوا : حادث ، فهو من العالم ، وكان تعلق حدوث العالم ببعض منه لا به تعالى ، وفيه تعطيله ، وإن قالوا أزلي قلنا : هل اقتضى ذلك أزلية العالم أم لا؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : لا ، بطلت

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) النساء : ١٦٤.

(٣) البقرة : ١٧٤.

٤٢

فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل ...

____________________________________

شبهتهم على أن تعلق وجود العالم بخطاب «كن» عند الأشعري ، فكان تكوينا وهو أزلي فيكون مناقضا. (فالتخليق والترزيق) ، وهو خلق الأشياء ورزق الأشياء. (والإنشاء) ، أي الإبداء. (والإبداع) أي اختراع الأشياء. (والصنع) أي إظهاره بإظهار المصنوعات في حال الابتداء. (وغير ذلك من صفات الفعل) ، كالإحياء والإفناء والإثبات والإنماء وتصوير الأشياء والكل داخل تحت صفة التكوين.

فالصفات الأزلية عندنا ثمانية لا كما زعم الأشعري من أن الصفات الفعلية إضافات ، ولا كما تفرّد به بعض علماء ما وراء النهر بكون كلّ من الصفات الفعلية صفة حقيقية أزلية فإن فيه تكثير القدماء جدّا ، وإن لم تكن متغايرة فالأولى أن يقال : إن مرجع الكل إلى التكوين فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياء ، وبالموت إماتة وبالصورة تصويرا إلى غير ذلك ، فالكل تكوين ، وإنما الخصوص بخصوصيات المتعلقات.

ثم المتبادر أن معنى التخليق والإنشاء والفعل والصنع واحد ، وهو إحداث الشيء بعد أن لم يكن سواء كان على نهج مثال سابق أو لا ...

والصحيح أن لها معان متقاربة فإن الإبداع إحداث الشيء بعد أن لم يكن لا على مثال سبق بخلاف التخليق فإنه أعمّ منه ، أو مقابله في التحقيق والإنشاء يختصّ بأول الأشياء والفعل كناية عن كل عمل متعدّ يكون في الخير والشرّ والصّنع عمل فيه إحكام وحسن نظام ، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١). وأما الترزيق فهو إحداث رزق الشيء وجعله قوتا له.

ثم اعلم أنه لا موجود في عالم الملك والأشباح ولا في عالم الملكوت والأرواح إلا وهو حادث أحدثه الله تعالى بتخليقه وفعله وإنشائه وصنعه ، وأنه تعالى خلق الإنس والجن وخلق أرزاقهما كما قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) (٢). لما أحب أن يظهر قدرته ورحمته ونعمته وحكمته ويبيّن للخلق معرفته كما قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣). أي ليعرفون ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهم باعتبار جنسهم يعرفون الله تعالى بصفتي الجلال والجمال ، وفي الحديث القدسي والكلام

__________________

(١) النمل : ٨٨.

(٢) الروم : ٤٠.

(٣) الذاريات : ٣٦.

٤٣

لم يزل ولا يزال بأسمائه ...

____________________________________

الإنسي «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» (١). يعني وليترتب على المعرفة ما أراد لهم من المثوبة والقربة لا لأنه مفتقر ومحتاج إليهم في مقام اليقين ، فإن الله غنيّ عن العالمين ...

والتحقيق أن التكوين صفة أزلية لله تعالى لإطباق العقل والنقل على أنه خالق العالم ومكوّن له وامتناع إطلاق اسم المشتق على الشيء من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفا له قائما به ، فالتكوين ثابت له أزلا وأبدا ، والمكوّن حادث بحدوث التعلق كما في العلم والقدرة وغيرهما من الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون تعلقاتها حادثة ، ثم الإمام الأعظم رحمه الله أتى ببعض الصفات الذاتية والفعلية دون غيرها من النعوت العليّة ، لأن معرفة هذه الصفات الشهيرة الجليّة تكفي المؤمن في معرفة وجود الله وصفاته البهيّة هذا ، وقد قال فخر الإسلام على البزدوي رحمه‌الله في أصول الفقه : وأما الإيمان والإسلام فإن تفسيرهما التصديق والإقرار بالله سبحانه وتعالى كما هو بصفاته وأسمائه وقبول أحكامه وشرائعه وهو نوعان : ظاهر ينشئه من المسلمين ، وثبوت حكم إسلامه تبعا لغيره من خير الأبوين ، وثابت بالبيان وأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن هذا كما يتعذّر شرطه لأن معرفة الخلق بأوصاف الحق متفاوتة في مقام التفسير وحال التعبير ، وإنما شرط الكمال بما لا حرج فيه ولا محال ، وهو أن يثبت التصديق والإقرار بما قلنا إجمالا ، وإن عجز عن بيانه وتفسيره إكمالا.

ولهذا قلنا : إن الواجب أن يستوصف المؤمن فيقال : أهو كذا أي الله سبحانه وتعالى يوصف بكذا ونعت كذا من الصفات الثبوتية والسلبية والنعوت الذاتية والفعلية ، فإن قال : نعم فقد ظهر كمال إسلامه وتبين غاية مرامه. وأما من استوصف فجهل فليس بمؤمن ، ولذا قال محمد رحمه‌الله في الجامع الكبير في صغيرة بين أبوين مسلمين : إذا لم تصف الإسلام حتى أدركت فلم تصف أنها تبين من زوجها (لم يزل ولا يزال بأسمائه

__________________

(١) ذكره السخاوي في المقاصد ص ٣٢٧ وقال : قال ابن تيمية ليس من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعرف له سند صحيح ، ولا ضعيف وتبعه الزركشي وشيخنا ـ يعني الحافظ ابن حجر ـ.

قلت وهو في موضوعات ابن تيمية رقم ٦ ص ٣٢.

وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة ١ / ١٤٨ وقال : قال ابن تيمية : موضوع. وذكره الهروي في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص ١١٠ وقال : نص الحفّاظ كابن تيمية والزركشي والسخاوي على أنه لا أصل له. وقال الحوت في أسنى المطالب ص ١٧٠ وهذا يذكره المتصوّفة في الأحاديث القدسية تساهلا منهم.

٤٤

وصفاته لم يحدث له اسم ولا صفة لم يزل عالما بعلمه والعلم صفة في الأزل قادرا بقدرته والقدرة صفة في الأزل ومتكلّما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في الأزل وفاعلا بفعله ، والفعل صفة في الأزل

____________________________________

وصفاته) ، أي موصوفا بنعوت الكمال ، ومعروفا بأوصاف الجلال والجمال. (لم يحدث له اسم ولا صفة) ، يعني أن صفات الله وأسمائه كلها أزلية لا بداية لها ، وأبدية لا نهاية لها ، لم يتجدّد له تعالى صفة من صفاته ولا اسم من أسمائه ، لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته الكامل في ذاته وصفاته ، فلو حدث له صفة أو زال عنه نعت لكان قبل حدوث تلك الصفة وبعد زوال ذلك النعت ناقصا عن مقام الكمال ، وهو في حقه سبحانه من المحال فصفاته تعالى كلها أزلية أبدية.

وهاهنا سؤال مشهور وهو أنه قد ورد الإخبار في كلامه سبحانه بلفظ المضي كثيرا نحو قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (١). وقال موسى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ) (٢). والإخبار بلفظ الماضي عما لم يوجد بعد كذب ، والكذب عليه محال ، وله جواب مسطور وهو أن إخباره تعالى لا يتّصف أزلا بالماضي ، والحال والاستقبال لعدم الزمان ، وإنما يتّصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات فيقال : قام بذات الله تعالى إخبار عن إرسال نوح مطلقا ، وذلك الإخبار موجود أزلا باق أبدا فقبل الإرسال كانت العبارة الدالّة عليه إنّا نرسل وبعد الإرسال إنّا أرسلنا فالتغيير في لفظ الخبر لا في الإخبار القائم بالذات. وهذا كما تقول في علمه تعالى إنه قائم بذاته سبحانه وتعالى أزلا العلم بأن نوحا مرسل ، وهذا العلم باق أبدا فقبل وجوده علم أنه سيوجد ، وبعد وجوده علم بذلك العلم أنه وجد وأرسل والتغيير في المعلوم لا في العلم (لم يزل عالما بعلمه) ، أي بعلمه الذي هو صفته الأزلية لا بعلم لاحق يلزم منه جهل سابق وهذا معنى قوله : (والعلم صفة في الأزل) يعني وما ثبت قدمه استحال عدمه ، فعلمه أزلي أبدي منزّه عن قبول الزيادة والنقصان بخلاف علوم أرباب العرفان (قادرا بقدرته) أي بقدرته التي هي صفته الأزلية لا بقدرة حادثة في الأمور الكونية ، (والقدرة صفة في الأزل) وكذا نعته في المستقبل (متكلّما بكلامه) أي الذاتي القدسي (والكلام) أي النفسي (صفة في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في الأزل وفاعلا بفعله والفعل). أي وفعله كما في نسخة (صفة في الأزل) يعني إذا خلق شيئا ابتداء وفعله فعلا انتهاء فإنما يخلقه ويفعله بفعله الذي هو صفته الأزلية لا بفعل حادث

__________________

(١) نوح : ١.

(٢) المزّمّل : ١٦.

٤٥

والفاعل هو الله تعالى ، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق ...

____________________________________

ووصف حادث عند خلقه وفعله إذ لا يحدث له علم ولا قدرة ولا خلق ولا فعل بحدوث المعلوم ، والمقدور والمخلوق والمفعول وهذا معنى قوله : (والفاعل هو الله تعالى) أي لا شريك له في فعله وصنعه وحكمه وأمره. (والفعل) أي وفعله كما في نسخة (صفة في الأزل والمفعول مخلوق) أي حادث عند تعلق فعله سبحانه به. (وفعل الله تعالى غير مخلوق). أي ليس بحادث بل هو قديم كفعله إذ لا يلزم من كون المفعول مخلوقا كون الفعل مخلوقا.

وفي كلام الإمام الأعظم إيماء إلى أنه لو كان فعل الله مخلوقا لزم تعدّد الخالق ، وقد ثبت أن الله سبحانه خالق كل شيء فله سبحانه التوحيد الذاتي والصفاتي والفعلي ، وأغرب ابن الهمام حيث ذهل عن هذا الكلام فقال : وليس في كلام أبي حنيفة تصريح بأن صفة التكوين قديمة زائدة على الصفات المتقدمة سوى ما أخذه المتأخرون من قوله : كان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ، ورازقا قبل أن يرزق هذا.

والأشاعرة يقولون ليست صفة التكوين سوى صفة القدرة باعتبار تعلقها بمتعلق خاص ، فالتخليق هو القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق ، وكذا التزريق ... ويقولون : صفات الأفعال حادثة لأنها عبارة عن تعلقات القدرة والتعلقات حادثة.

قال ابن الهمام رحمه‌الله تعالى : وما ذكره مشايخ الحنفية في معنى التكوين من أنها صفات تدل على تأثير لا ينفي قول الأشاعرة ، ولا يوجب كون صفة التكوين على فصولها صفات أخرى لا ترجع إلى القدرة المتعلقة والإرادة المتعلقة ، بل في كلام أبي حنيفة رحمه‌الله ما يفيد أن ذلك على ما فهم الأشاعرة من هذه الصفات على ما نقله الطحاوي عنه حيث قال : وكما كان الله تعالى بصفاته أزليّا كذلك لا يزال عليها أبديّا ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري ، بل له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالقية ولا مخلوق كما أنه محيي الموتى استحقّ هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير. انتهى.

فقوله ذلك بأنه على كل شيء قدير تعليل وبيان لاستحقاق اسم الخالق قبل المخلوق ، فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق واستحقاق اسم الخلق بسبب قيام قدرته

٤٦

وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة ، فمن قال : إنها مخلوقة أو محدثة ، أو وقف ، أو شك فيهما فهو كافر بالله تعالى. والقرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزّل ، ...

____________________________________

تعالى على الخلق فاسم الخالق أزلي ولا مخلوق في الأزل لمن له قدرة الخلق في الأزل وهذا ما يقوله الأشاعرة. انتهى ... وفيه أن المفهوم لا يعارض المنطوق المعلوم. (وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة) هو تأكيد وتأييد أي غير محدثة بإحداثه ولا مخلوقة بخلق غيره. (فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف فيها) أي بأن لا يحكم بأنها قديمة أو حادثة ويؤخر طلب معرفتها ولا يقول آمنت بالله وصفاته على وفق مراده (أو شك فيهما) أي تردد في هذه المسألة ونحوها سواء يستوي طرفاه ، أو يترجح أحدهما (فهو كافر بالله تعالى) أي ببعض صفاته وهو مكلّف بأن يكون عارفا بذاته وجميع صفاته إلا أن الجهل والشك الموجبين للكفر مخصوصان بصفات الله المذكورة من النعوت المسطورة المشهورة. أعني الحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة والتخليق والترزيق (والقرآن كلام الله تعالى) أي المنعوت بالفرقان المنزل على عين الأعيان وزين الإنسان إلا أن المراد به هاهنا كلامه النفسي ونعته الأنسي ، وهذا الإطلاق لأن معناه يفهم بواسطة مبناه ، فالمعنى أن كلامه سبحانه الذي نعته المعظم شأنه (في المصاحف مكتوب) أي بأيدينا بواسطة نقوش الحروف وأشكال الكلمات (وفي القلوب محفوظ) أي نستحضره عند تصوّر المغيبات بألفاظه المتخيلات (وعلى الألسن مقروء) أي بحروفه الملفوظة المسموعة كما هو ظاهر في المشاهدات ، وهذا من قولهم المقروء قديم والقراءة حادثة ، فإن قيل : لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازا في النظم المؤلف لصحّ نفيه عنه بأن يقال : ليس النظم الأول المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله والإجماع على خلافه.

قلت التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة كونه صفة له تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ، فلا يصح النفي أصلا ولا يكون الإعجاز والتحدي إلا في كلام الله تعالى ويتفرع عليه قولنا يحرم للمحدث مسّ القرآن وأمثاله (وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزّل) بالتخفيف والتشديد وهو الأولى لنزوله مدرجا. ومكررا ، والمعنى أنه نزل عليه بواسطة الحروف المفردات والمركبات في الحالات المختلفات ، وهذا معنى قوله سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا

٤٧

ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق.

____________________________________

اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (١). أي محدث في الإنزال ، وإلا فكلامه النفسي منزّه عن الانتقال (ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا وقراءتنا له مخلوق) ، وهذا كالتأكيد لقوله : لفظنا ولا يبعد أن يراد بالقراءة تصوّر مبانيه وتقرّر معانيه من غير التلفّظ بها فيه ، ولعله لهذا المعنى لم يقل وحفظنا له مخلوق وذلك لأنها كلها من أفعالنا وفعل المخلوق مخلوق ، (والقرآن) أي كلامه النفسي ونعته القدسي (غير مخلوق) أي ولا حال في المصاحف ولا غيرها وذلك أن كل من يأمر وينهى ويخبر عن ما مضى يجد في نفسه معنى يدل عليه بالعبارة ، أو يشير إليه بالكتابة ، أو الإشارة.

ثم اعلم أن مذهب الأشعري أنه يجوز أن يسمع الكلام النفسي أي بطريق خرق العادة كما نبّه عليه الباقلاني ، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي فمعنى قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٢). يسمع ما يدل عليه ، فموسى عليه الصلاة والسلام سمع صوتا دالّا على كلامه سبحانه ، لكن لما كان بلا واسطة الكتابة والملك بل على طريق خرق العادة خصّ باسم الكليم كما يدل عليه قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) (٣). وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المرام في كلام الإمام ، وقد قال الإمام الأعظم في كتابه الوصية نقرّ بأن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله وصفته لا هو ولا غيره ، بل هو صفته على التحقيق مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور غير حالّ فيها ، والحروف والحركات والكاغد (٤) والكتابة كلها مخلوقة ، لأنها أفعال العباد وكلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق ، لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات كلها آلة القرآن لحاجة العباد إليها وكلام الله تعالى قائم بذاته ومعناه مفهوم بهذه الأشياء فمن قال بأن كلام الله تعالى مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم والله تعالى معبود ولا يزال عما كان وكلامه مقروء ومكتوب ومحفوظ من غير مزايلة عنه. انتهى.

وقال فخر الإسلام : قد صحّ عن أبي يوسف أنه قال : ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر ، وصحّ هذا القول

__________________

(١) الأنبياء : ٢.

(٢) التوبة : ٦.

(٣) القصص : ٣٠.

(٤) قال في القاموس : الكاغذ : القرطاس ، معرّب.

٤٨

____________________________________

أيضا عن محمد رحمه‌الله ، وقد ذكر المشايخ رحمهم‌الله أنه يقال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولا يقال القرآن غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه بعض جهلة الحنابلة ، وأما ما في شرح العقائد من أنه عليه‌السلام قال : «القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، ومن قال : إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم» (١) ، فهو لا أصل له كما بيّنت في تخريج أحاديثه ، ثم تحقيق الخلاف بيننا وبين المعتزلة يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف ، وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي ، ودليلنا ما مرّ أنه ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم‌السلام أنه متكلم ولا معنى له سوى أنه متّصف بالكلام ، ويمتنع قيام اللفظ الحادث بذاته الكريم فتعيّن النفسي القديم ، وأما استدلالهم بأن القرآن متّصف بما هو من صفات المخلوق ، وسمات الحدوث من التأليف والتنظيم والنزول والتنزيل وكونه عربيّا مسموعا فصيحا معجزا إلى غير ذلك ، فإنما يقوم حجة على الحنابلة لا علينا لأنّا قائلون بحدوث النظم أيضا ، وإنما الكلام في معنى القديم والمعتزلة لمّا لم يمكنهم إنكار كونه متكلّما ذهبوا إلى أنه متكلّم بمعنى موجد الأصوات والحروف في محالها وأشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وأما إذا كان في الآية قراءتان فإن كان لكل قراءة معنى غير الأخرى فالله تعالى تكلم بهما جميعا ، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين. وإن كانت القراءتان معناهما واحد فالله تعالى تكلم بأحدهما ورخّص بأن يقرأ بهما جميعا كما ذكره الفقيه أبو الليث.

فاعلم أن الصحابة والتابعين وغيرهم من المجتهدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قد أجمعوا على أن كل صفة من صفات الله تعالى لا هو ولا غيره كذا ذكره الشارح والمعنى أنها لا هو بحسب المفهوم الذّهني ولا غيره بحسب الوجود الخارجي فإن مفهوم الصفات غير مفهوم الذات إلا أنها لا تغايرها باعتبار ظهورها في الكائنات.

والحاصل أن كلامه من صفاته وهو قديم بذاته وصفاته والقديمية مستلزمة للبقائية

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ١ / ٣٧٣ عن أبي الدرداء وقال : وروي ذلك أيضا عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم مرفوعا ولا يصحّ شيء من ذلك أسانيده مظلمة لا ينبغي أن يحتجّ بشيء منها ولا أن يستشهد بشيء منها».

وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي ٣٤ وكشف الخفاء رقم ١٨٦٩ للعجلوني.

٤٩

____________________________________

لأن ما ثبت قدمه يستحيل عدمه كما هي مستفادة من قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١). أي بلا ابتداء ولا انتهاء ، وأما القديم فليس من الأسماء الحسنى ، وإن أطلقه عليه علماء الكلام مع أنه أنكره كثير من السلف الكرام وكذا بعض من الخلف الفخام ، ومنهم ابن حزم (٢) ذهابا إلى الجزم بأن القديم في لغة العرب التي نزل به القرآن هو المتقدم على غيره فيقال : هذا قديم للعتيق ، وهذا حديث للجديد لا القدم الذي لا يسبقه العدم ، ففي التنزيل قوله تعالى : (عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣) ، قيل وهو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني ، فإن وجد الجديد ، قيل للأول قديم ، وقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٤). أي متقدّم في الزمان ، ثم لا ريب فيه أنه إذا كان مستعملا بمعنى المتقدم فمن تقدّم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدّم من غيره لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به والتقدّم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدّم على الحوادث كلها فلا يكون من الأسماء الحسنى ، وجاء الشرع باسمه الأول وهو أحسن من القديم لأنه يشعر بأن ما بعده آئل إليه متابع له بخلاف القديم. إلا أنه لما كان الله سبحانه وتعالى هو الفرد الأكمل في معنى القديم المتناول للأول فأطلقه المتكلمون عليه فتأمل.

ثم القيوم يدل على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدلّ عليه لفظ القديم ، ويدلّ أيضا على كونه موجودا بنفسه وهو معنى كونه واجب الوجود ، ولهذا المبنى المشتمل على حقائق المعنى قيل ، الحيّ القيّوم هو الاسم الأعمّ ، ويؤيده ما صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٥). أعظم آية في القرآن ، ويقوّيه أن هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها وإليهما يرجع جميع معانيها فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ، فلا يتخلّف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ، فإذا كانت حياته أكمل حياة وأتمّها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاهيه كمال الحياة ، وأما القيّوم فهو متضمن كمال غناء وكمال قدرته وافتقار غيره إليه في ذاته وصفاته إيجادا وإمدادا فإنه

__________________

(١) الحديد : ٣.

(٢) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الفارسي الأصل الأندلسي المتوفى سنة ٤٥٦. أشهر آثاره الإحكام لأصول الأحكام والمحلّى بالآثار.

(٣) يس : ٣٠.

(٤) الأحقاف : ١١.

(٥) البقرة : ٢٥٥.

٥٠

وما ذكر الله تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى إخبارا عنهم ، وكلام الله تعالى غير مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين ....

____________________________________

القائم بنفسه فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال على الوجه الأتم فلا يبعد أن يكونا الاسم الأعظم والله سبحانه أعلم. (وما ذكر الله تعالى في القرآن) أي المنزل والفرقان المكمل (حكاية موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي إخبارا منهم أو حكاية عنهم (وعن فرعون وإبليس) أي ونحوهما من الأعداء الأغبياء.

وفي تخصيص موسى عليه الصلاة والسلام إيماء إلى أنه صاحب التكليم والكلام ، وفي تقديم فرعون إشعار بأنه في مقام التلبيس أقوى من إبليس ، وفيه ردّ على ابن العربي (١) ومن تبعه كالجلال الدواني (٢) ، وقد ألّفت رسالة مستقلة في تحقيق هذه المسألة وبيّنت ما وقع لهم من الوهم في المواضع المشكلة وأتيت بوضوح الأدلة المستجمعة من الكتاب والسّنّة ونصوص الأئمة (فإن ذلك) أي ما ذكر من النوعين (كله) على ما في نسخة أي جميعه (كلام الله تعالى) أي القديم (إخبارا عنهم) أي وفق ما قد كتب من الكلمات الدالّة عليه في اللوح المحفوظ قبل خلق السماء والأرض والروح لا بكلام حادث حصل بعد علم حادث عند سمعه من موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن فرعون وإبليس وهامان وقارون وسائر الأعداء ، فإذا لا فرق بين إخبار الله تعالى عن أخبارهم وأحوالهم وأسراهم ، كسورة تبّت وآية القتال ونحوها وبين إظهار الله تعالى من صفات ذاته وأفعاله وخلق مصنوعاته كآية الكرسي ، وسورة الإخلاص ، وأمثالها ، وبين الآيات الآفاقية والأنفسية في كون كلّ منها كلامه وصفته الأقدسية الأنفسية ومجمل الكلام قوله : على ما في نسخة : (وكلام الله تعالى) أي ما ينسب إليه سبحانه (غير مخلوق) ، أي ولا حادث (وكلام موسى) أي ولو كان مع ربّه (وغيره) أي وكذا كلام غيره (من المخلوقين) أي كسائر الأنبياء والمرسلين والملائكة

__________________

(١) الأولى التفريق بين محيي الدين بن عربي والقاضي أبو بكر بن العربي فتكتب ابن عربي بدون تعريف وتعني محيي الدين بن عربي وإذا أطلقت معرفة فتعني القاضي أبو بكر بن العربي.

والمقصود هنا محيي الدين بن عربي وستأتي ترجمته.

(٢) هو محمد بن أحمد وقيل أسعد الصديقي البكري قاضي القضاة بفارس جلال الدين الدواني الفقيه الشافعي المتوفى سنة ٩٠٨ ه‍.

٥١

مخلوق والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا كلامهم ...

____________________________________

المقربين (مخلوق) أي حادث بعد كونهم مخلوقين (والقرآن كلام الله تعالى) أي بالحقيقة كما قال الطحاوي رحمه‌الله لا بالمجاز كما قال غيره ، لأن ما كان مجازا يصحّ نفيه ، وهنا لا يصحّ ، وأجيب بأن الشرع إذا ورد بإطلاقه فيما يجب اعتقاده لا يصحّ نفيه (فهو قديم) كذاته (لا كلامهم) فإنه حادث مثلهم إذ النعت تابع لمنعوته وإنما يقال المنظوم العبراني الذي هو التوراة والمنظوم العربي الذي هو القرآن كلامه سبحانه لأن كلماتهما وآياتهما أدلة كلامه وعلامات مرامه ، ولأن مبدأ نظمهما من الله تعالى ألا ترى أنك إذا قرأت حديثا من الأحاديث قلت : هذا الذي قرأته وذكرته ليس قولي ، بل قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن مبدأ نظم ذلك القول من الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومنه قوله تعالى :(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) (١). وقوله عزوجل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (٢). واعلم أن ما جاء في كلام الإمام الأعظم وغيره من علماء الأنام من تكفير القائل بخلق القرآن فمحمول على كفران النعمة لا كفر الخروج من الملّة بخلاف المعتزلة في هذه المسألة ، بل التحقيق أن لا نزاع في هذه القضية إذ لا خلاف لأهل السّنّة في حدوث الكلام اللفظي ، ولا نزاع للمعتزلة في قدم الكلام النفسي لو ثبت عندهم بالدليل القطعي ، وأما حديث : «من قال : إن القرآن مخلوق فقد كفر» (٣) فغير ثابت مع أنه من الآحاد وقابل للتأويل في بيان المراد ، والقول بأن المراد بالمخلوق المختلق بمعنى المفتري ، ومع هذا لا يجوز لأحد أن يقول القرآن اللفظي مخلوق لما فيه من الإبهام المؤدّي إلى الكفر ، وإن كان صحيحا في نفس الأمر باعتبار بعد إطلاقات القرآن فإنه يطلق على القراءة كقرآن الفجر ، ويطلق على المصحف كحديث : «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» (٤). ويطلق على المقروء خاصة وهو كلامه القديم

__________________

(١) البقرة : ٧٥.

(٢) التوبة : ٦.

(٣) حديث موضوع تقدّم الكلام عنه ص ٤٢. وانظر الأسماء والصفات للبيهقي ١ / ٣٧٣ والمقاصد الحسنة للسخاوي ٣٤ وكشف الخفاء للعجلوني رقم ١٨٦٩. وقال في كشف الخفاء : «وقد حكم بوضع هذا الحديث ابن الجوزي والصغاني ، وقال النجم يروى عن أنس وأبي الدرداء ومعاذ وابن مسعود وجابر بأسانيد مظلمة لا يحتجّ بشيء منها كما قال البيهقي في الأسماء والصفات». ا. ه.

(٤) أخرجه البخاري ٢٩٩٠ ومسلم ١٨٦٩ والموطأ ٢ / ٤٤٦ وأبو داود ٢٦١٠ من حديث عبد الله بن عمر.

٥٢

وسمع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). وقد كان الله تعالى متكلّما ولم يكن كلّم موسى عليه‌السلام وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق ....

____________________________________

قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) (١). أي كلام الله فإذا ذكر مع قرينة تدل على الحدوث كتحريم مسّ القرآن للمحدث ، فهو محمول على المصحف والقراءة ، فإذا ذكر مطلقا يحمل على الصفة الأزلية ، فلا يجوز أن يقال : القرآن مخلوق على الإطلاق ، (وسمع موسى كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : وكلم الله موسى تكليما) أتي بالمصدر المؤكد لدفع حمل الكلام على المجاز ، أي كلّمه الله تكليما محقّقا وأوقع له سماعا مصدقا ، والمعنى أن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام ربّ الأرباب بلا واسطة إلا أنه من وراء الحجاب ، ولذا قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢). في هذا الباب قال شارح : وكان يسمع الكلام من باطن الغمام الذي هو كالعمود ، وقد يغشاه الغمام وربما كان يسمع كلامه تعالى من باطن النار ، أو بإرسال جبريل أو غيره من الملائكة. انتهى.

وفي الأخيرين نظر إذ لا يحصل بهما خصوصية له ولا مزية غلى غيره وأما ما قبله فلعله وقع له الكلام في الأوقات المتعددة والأحوال المختلفة ، وإلا فالكلام الذي وقع له أولا إنما كان كما أخبر سبحانه بأنه نودي من الشجرة المباركة التي ظنها أنها نار ، وإنما كانت معدن أنوار ومنبع أسرار ونتيجة أثمار وأسمار في أشجار (وقد كان الله تعالى متكلما) أي في الأزل. (ولم يكن كلّم موسى) أي والحال أنه لم يكن كلّم موسى ، بل ولا خلق أصل موسى وعيسى (وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق) جملة حالية والمعنى : أن الحق كان خالقا قبل خلق الخلق ، وفي نسخة : وكان الله خالقنا قبل أن يخلق الخلق حقيقة بمعنى أن هذا النعت فيه محقّق لا مجاز كما قال ابن أبي شريف (٣) : أنه كان خالقا بالقوة فإنه يوهم أنه تحت الإمكان واحتمال الوقوع واللّاوقوع في الأزمان ، وليس الأمر كذلك ، فإنه كان خالقا متحقّق الوقوع في وقت أراد فيه الشروع

__________________

(١) النحل : ٩٨.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) هو محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف مسعود بن رضوان المري كمال الدين المقدسي الشافعي المتوفى سنة ٩٠٥ من تصانيفه الأخصى بفضائل المسجد الأقصى ، وشرح الإرشاد للنووي في الأصول وغيرها.

٥٣

وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلما كلّم الله موسى كلّمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل ....

____________________________________

فتأخر متعلّق الكلام والخلق من موسى وسائر الأنام لا يوجب نفي صحة الكلام ، وتحقّق الخلق عن الحق عند العلماء الأعلام لأن كل شيء يكون في القوة ثم يصير إلى الفعل فهو حادث إذ كل ممكن الوجود حادث كما صرّحوا به وأيضا فرق واضح وبون لائح بين من هو قادر على الكتابة إلا أنه يؤخّرها إلى وقت الإرادة ، وبيّن الكاتب بالقوة وحيث أنه عاجز في الحالة الراهنة وتحت الاحتمال في الأزمنة الآتية.

والحاصل أنه سبحانه كما قال الطحاوي رحمه‌الله ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري ، فله معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالقية ولا مخلوق ، وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، وكذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير وإليه كل شيء فقير ، وكل أمر عليه يسير (وليس كمثله شيء) أي كذاته وصفاته. (وهو السميع البصير) فقوله : ليس كمثله شيء زد على المشبهة. وقوله : وهو السميع البصير ردّ على المعطلة.

وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبّهه الله بخلقه أي ذاتا وصفة فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أي من صفاته الذاتية والفعلية فقد كفر. وقال الطحاوي : ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه.

ثم من جملة ما قالوا في قوله : ليس كمثله شيء إنه أما أريد به المبالغة ، أي ليس لمثله مثل لو فرض المثل كيف ولا مثل له ، وقد علمت بالأدلة الشرعية والعقلية استحالة قيام الحوادث بذات الله الأزلية الأبدية ، فكلامه قديم وكذا صفة خلقه ، وأما متعلقاتهما فحادث في وقت تعلق الإرادة بوقوعها وفي نسخة : وقد كان الله متكلما متأخرا عن قوله ، وقد كان الله تعالى خالقا وعلى تقدير فالجملة المتعلقة بالخلق اعتراضية للإشعار بأن خلق موسى حادث في أثناء خلق الأنام فكيف مقامه في مرام الكلام (فلما كلّم) أي الله كما في نسخة (موسى) والمعنى أراد تكليمه إياه (كلّمه بكلامه الذي هو له صفة) أي قديمة وفي نسخة هو صفة له وفي نسخة هو من صفاته (في الأزل) يعني أنه كلّمه بمضمون كلامه القديم الأزلي الأقدس كما نقش الكلمات الدالّة عليه ، في اللوح المحفوظ الأنفس قبل خلق السموات والأرض والأنفس فكلّمه على وفق تلك الكلمات المسطورة ، فتلك الكلمات المزبورة والكلمات التي سمعها موسى عليه‌السلام من الشجرة المشهورة حادثة مخلوقة إلا أنها أدلة كلامه الذي هو صفته الأزلية الحقيقية ...

٥٤

____________________________________

وقال شارح عقيدة الطحاوي : قول الإمام الأعظم (١) ، فلما (٢) كلّم موسى كلّمه بكلامه الذي هو من صفاته يعلم أنه حين جاء كلّمه لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول : يا موسى كما يفهم ذلك من قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (٣). ففهم منه الردّ على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصوّر أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء كما قاله أبو منصور الماتريدي ...

وقول الإمام الأعظم (٤) الذي هو من صفاته (٥) ردّ على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلّما ، وبالجملة فكلّ ما يحتجّ (٦) به المعتزلة مما يدلّ على (٧) كلام متعلق بمشيئته وقدرته وإنه متكلّم (٨) إذا شاء ، وإنه يتكلم شيئا بعد شيء فهو حق يجب قوله وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له ، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فهو حق يجب قبوله والقول به فيجب الأخذ بما في قول كلّ من الطائفتين من الصواب والعدول عمّا يردّه الشرع والعقل من قول كلّ منهما (٩) وهذا فصل الخطاب.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله» (١٠). وهو عليه الصلاة والسلام لم يتعوّذ بمخلوق بل هو كقوله : «أعوذ برضاك» (١١) ، ....

__________________

(١) في شرح الطحاوية ١ / ١٨٧ : قوله.

(٢) في شرح الطحاوية : ولما.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) ورد في شرح الطحاوية : وقوله.

(٥) في شرح الطحاوية : لم يزل ردّ.

(٦) في شرح الطحاوية : تحتجّ.

(٧) في شرح الطحاوية : على أنه.

(٨) في شرح الطحاوية : يتكلم إذا شاء.

(٩) انظر شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(١٠) أخرجه أحمد ٣ / ٤١٩ وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ٦٤٢ من حديث عبد الرحمن بن حنبش رضي الله عنه ، وتمامه : «التامّات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ ومن شرّ ما ينزل من السماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض ، ومن شرّ ما يخرج منها ، ومن فتنة الليل والنهار ، ومن شرّ كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» وإسناده صحيح.

(١١) أخرجه مسلم ٤٨٦ ، وأبو داود ٨٧٩ ، والترمذي ٣٤٩١ ، ومالك ١ / ٢١٤ ، وابن ماجة ٣٨٤١ وابن أبي شيبة ١٠ / ١٩١ عن أبي هريرة عن عائشة قالت : «فقدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة في الفراش ـ

٥٥

____________________________________

وقوله : «أعوذ بعزّة الله وقدرته» (١) وكثير من متأخّري الحنفية على أنه معنى واحد والتعدّد والتكثّر والتجزّي والتبعّض حاصل في الدلالات لا في المدلول ، وهذه العبارات مخلوقة وسمّيت كلام الله لدلالتها عليه وتأديته فإن عبّر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبّر بالعبرانية فهو توراة فاختلفت العبارات لا الكلام ، قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا ، وهذا كلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٢). هو معنى قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٣). ومعنى آية الكرسي هو معنى آية المداينة ، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى سورة تبّت يدا ، ثم قال : ومن قال إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس كلام الله فقد خالف الكتاب والسّنّة وسلف الأمة (٤).

__________________

 ـ فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول : «اللهمّ أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»». وأخرجه أبو داود ١٤٢٧ والترمذي ٣٥٦٦ والنسائي ٣ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ وابن ماجة ١١٧٩ وأحمد ١ / ٩٦ و ١١٨ كلهم من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله كان يقول في آخر وتره ... الحديث. وسنده قوي.

(١) أخرجه مسلم ٢٢٠٢ عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر» وأخرجه دون قوله «وأحاذر» مالك في الموطأ ٢ / ٩٤٢ ومن طريقه أبو داود ٣٨٩١ والترمذي ٢٠٨٠ وأحمد ٤ / ٢١٧ والبغوي ١٤١٦ عن يزيد بن خصيفة أن عمرو بن عبد الله بن كعب السلمي ، أن نافع بن جبير أخبره أن عثمان بن أبي العاص أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه وجع كاد يهلكه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد». قال : فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي ، فلم أزل آمرا بها أهلي وغيرهم.

وأخرجه ابن ماجة ٣٥٢٢ من طريق زهير بن محمد عن يزيد بن خصيفة ... «اجعل يدك اليمنى عليه ، وقل : بسم الله أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر سبع مرات» فشفاني الله.

وأخرجه الطبراني في الكبير ٨٣٤٠ و ٨٣٤١ و ٨٣٤٢ من طرق عن يزيد بن خصيفة به وصحّحه الحاكم ١ / ٣٤٣ ووافقه الذهبي.

وأخرجه من طريقين عن يزيد بن خصيفة أحمد ٦ / ٣٩٠ والطيالسي ٩٤١ عن عمرو بن عبد الله بن كعب عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) الإسراء : ٣٢.

(٣) البقرة : ٤٣.

(٤) من قوله : وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعوذ بكلمات الله إلى هنا نقله الشارح من شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٨٩ بشيء من التصرّف.

٥٦

وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا ويسمع لا كسمعنا ...

____________________________________

وكلام الطحاوي يردّ قول من قال إنه معنى واحد لا يتصوّر سماعه منه ، وأن المسموع المنزل المقروء المكتوب ليس بكلام الله ، وإنما هو عبارة عنه ، فإن الطحاوي يقول : كلام الله منه بدأ بلا كيفية أي لا نعرف كيفية تكلّمه به ، وكذا قال غيره من السلف منه بدأ وإليه يعود ، وإنما قالوا منه بدأ لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون : إنه خلق الكلام في محل ، فقدّر الكلام في ذلك المحل فقال السلف منه بدأ أي هو المتكلم به فمنه بدأ أي لا من بعض المخلوقات كما قال الله تعالى (١) : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) ، ومعنى قولهم : وإليه يعود أنه يرفع من الصدور والمصاحف كما ورد في الأحاديث. انتهى ...

والأظهر عندي أن معنى وإليه يعود يرجع إليه علم تفصيل كيفية كلامه وكنه حقيقة مرامه فإن سمع موسى كلامه لا يتصوّر أن يقال سمعه كله أو بعضه (وصفاته) ، وفي نسخة لم يزل صفاته (كلها) أي ونعوت الباري جميعها واقعة في الأزل (بخلاف صفات المخلوقين) أي لا تشابه نعوتهم وإن وقع الاشتراك الاسمي في صفات الحق ونعت الخلق من العلم والقدرة والرؤية والكلام والسمع ونحوه كما بيّنه بقوله : (يعلم) أي الله تعالى كما في نسخة (لا كعلمنا) أي معشر الخلق فإنّا نعلم الأشياء بآلات وتصوّر صور حاصلات في أذهاننا بقدر أفهامنا وإعلامنا والله تعالى يعلم حقائق الأشياء كلها وجزئيها ظاهرها ومخفيها بعلم ذاتي صمدي أزلي أبدي ، (ويقدّر) أي الله سبحانه. (لا كقدرتنا) لأن قدرته تعالى قديمة لا بآلة ولا بمشاركة وهو على كل شيء قدير ، ونحن لا نقدر إلا على بعض الأشياء بالأقدار ، وذلك المقدار أيضا بالآلات والأعوان والأنصار ، وأما هو سبحانه وتعالى ففاعل مختار وقادر حكيم مدبّر بقدرة واختيار (ويرى) أي هو سبحانه لقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (لا كرؤيتنا ويسمع لا كسمعنا) فإنّا نرى الأشكال والألوان المختلفة ونسمع الأصوات والكلمات المؤتلفة بالآلات المخلوقة في الأعضاء المركبة على وفق إبصاره لا بأبصارنا وإسماعه لا أسماعنا كما ورد في الدعاء : اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا والله سبحانه يرى الأشكال والألوان والهيئات المختلفة

__________________

(١) ومن قوله : وكلام الطحاوي إلى هنا نقله الشارح أيضا من شرح الطحاوية ١ / ١٩٤ ـ ١٩٥ مع بعض التصرّف.

(٢) فصّلت : ٢.

٥٧

ويتكلم لا ككلامنا. ونحن نتكلم بالآلات والحروف والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف والحروف مخلوقة وكلام الله تعالى غير مخلوق ...

____________________________________

بإبصاره الذي هو صفته على نعت اقتداره ويسمع الأصوات والكلمات المفردات والمركبات بسمعه الذي هو نعته لا بآلة من الآلات ولا بمشاركة غيره من الكائنات ، وأن رؤيته للمرئيات وسمعه للمسموعات قديمة بالذات ، وإن كان المرئي والمسموع من الحادثات على ما سبق بيانه في سائر الصفات من أن تأخر المتعلق الحادث لا ينافي تقدّم المتعلق القديم ، ألا ترى أنك ترى في حالة نومك بقوى بطون دماغك في حالة رؤياك أشكالا وألوانا ، وتسمع أصواتا وأفنانا ولا شكل ولا لون بحاصل ولا حاضر ، وبعد زمان غابر ترى تلك الألوان والأشكال وتسمع تلك الأصوات والأقوال في حال يقظتك على منوال ما رأيتها وسمعتها في تلك الحالة بلا زيادة ولا نقصان في المآل ، ومع هذا تتعجب من الله الملك المتعال الموصوف بنعوت الكمال أنه كيف يرى الألوان والأشكال قبل وجودها وكيف يسمع الأصوات والكلمات قبل وقوعها وهو الذي يريك الأشكال والألوان في حالة نومك بدون حضورها ويسمعك الأصوات والكلمات قبل صدورها (ويتكلم لا ككلامنا) كما بيّنه بقوله : (ونحن نتكلم بالآلات) أي من الحلق واللسان والشفة والأسنان. (والحروف) أي الأصوات المعتمدة على المخارج المعهودات بالهيئات المعروفات (والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف) أي لكمالات الذات والصفات (والحروف مخلوقة) أي كالآلات. (وكلام الله تعالى غير مخلوق) بل قديم بالذات. قال الطحاوي : فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر وقد ذمّه الله وأوعده بسقر حيث قال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (١). فلما أوعد الله بسقر لمن قال : إن هذا إلا قول البشر علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ، ولا يشبه قول البشر (٢). انتهى.

وقال شارحه قد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :

أحدها : أن كلام الله تعالى هو ما يفيض على النفوس من المعاني إما من العقل الفعّال عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.

وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه ، وهذا قول المعتزلة.

وثالثها : أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبّر

__________________

(١) المدّثر : ٢٦.

(٢) انظر شرح العقيدة الطحاوية ١ / ١٧٢ فالمؤلف ينقل قول الطحاوي من هناك.

٥٨

____________________________________

عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبّر عنه بالعبرية كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.

ورابعها : أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام والحديث (١).

وخامسها : أنه حروف وأصوات لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلّما وهذا قول الكرامية وغيرهم.

وسادسها : أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر (٢) ، ويميل إليه الرازي (٣) في المطالب العالية.

وسابعها : أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.

وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات ، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه ...

قلت : والأظهر أن المعنى الأول حقيقة والثاني مجاز.

وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلّما إذا شاء ومتى شاء ، وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديما (٤).

__________________

(١) في عزو هذا القول لبعض أهل الحديث نظر ، إذ يستبعد على من اشتغل بالحديث أن يقول بها القول الذي لا أصل له في السّنّة ، كما لا أصل له في الكتاب العزيز.

(٢) اسمه الكامل. «المعتبر في الحكمة» وقد طبع في حيدرآباد سنة ١٣٧٥ ه‍ ومؤلفه هو أبو البركات هبة الله بن ملكا الطيبي الفيلسوف ، كان يهوديّا وأسلم واختلفوا في سنة وفاته فجعلها بعضهم (٥٤٧ ه‍) وقال آخرون إنها (٥٦٠) أو (٥٧٠) وابن تيمية رحمه‌الله ينقل عن كتاب المعتبر في غير موضع في «درء تعارض العقل» ويعلّق عليه ويتعقبه. وهو مترجم في سير أعلام النبلاء ٢٠ / رقم الترجمة (٢٧٥).

(٣) ترجمة الذهبي في السير ٢١ / رقم الترجمة ٢٦١ فقال : العلّامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني الأصولي المفسّر كبير الأذكياء والحكماء والمصنّفين ، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة واشتغل على أبيه ضياء الدين خطيب الريّ ، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا. وكان يتوقّد ذكاء وقد بدت منه في تواليفه بلايا وانحرافات عن السّنّة ، والله يعفو عنه ، فإنه توفي على طريقة حميدة والله يتولى السرائر.

(٤) من قوله افترق الناس في مسألة الكلام في الصفحة ٥١ إلى هنا مأخوذ من شرح العقيدة الطحاوية ـ

٥٩

____________________________________

قلت وهذا يؤيده ما قدّمناه وهو المأثور عن أئمة الحديث والسّنّة. ولعل تكرار هذه المسألة في تأليف الإمام لكمال الاهتمام في مقام المرام.

ثم اعلم أن عباد العجل مع كفرهم بالله أعرف من المعتزلة لأنه لما قال لهم موسى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (١). لم يجيبوا بأن ربك لا يتكلم أيضا فعلم أن نفي التكلّم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل وغاية شبهتهم أنهم يقولون : يلزم منه التشبيه والتجسيم ، فيقال لهم : إذا قلنا أنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء (٢) أحد السبعة من القرّاء : أريد أن تقرأ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) (٣). بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله سبحانه ، فقال له أبو عمرو : هب إني قرأت هذه الآية كذا ، فكيف تصنع بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (٤) فبهت المعتزلي (٥).

ثم أفضل نعيم الجنة رؤية وجهه وسماع كلامه فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة الذي ما طابت لأهلها إلا به كما أن أشد العذاب للكفار عدم تكليمه لهم ووقوع الحجاب كما أخبر عنهم بقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٦). أي تكليم تكريم ، وقال في آية أخرى لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٧). وبقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٨). وأما استدلالهم بقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٩).

والقرآن شيء فيكون داخلا في عموم كل شيء ، فيكون مخلوقا ، فمن أعجب العجب ...

وذلك أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وإنما يخلقها العباد

__________________

 ـ لابن أبي العز من ١ / ١٧٢ إلى ١ / ١٧٤.

(١) الأعراف : ١٤٨.

(٢) هو زبان بن العلاء بن عمار التميمي البصري شيخ العربية وأحد أئمة القرّاء السبعة المتوفّى سنة ١٥٤ مترجم في سير أعلام النبلاء ٦ / ٤٠٧ ـ ٤١٠.

(٣) النساء : ١٦٤. والقراءة المتواترة (وَكَلَّمَ اللهُ) برفع لفظ الجلالة (الله).

(٤) الأعراف : ١٤٣.

(٥) انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ١ / ١٧٧ فالكلام مأخوذ منها.

(٦) البقرة : ١٧٤.

(٧) المؤمنون : ١٠٨.

(٨) المطفّفين : ١٥.

(٩) الرعد : ١٦.

٦٠