شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

والإيمان هو الإقرار والتصديق ....

____________________________________

الذي هو محل البصر.

قال الحسن البصري : نظرت أيّ الوجوه إلى ربّها فنظرت بنوره ولا يلزم من الرؤية الإدراك والإحاطة فلا ينافي قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (١) فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما قال الله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا) (٢). فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الإدراك فالربّ تعالى يرى ولا يدرك كما يعلم ولا يحاط به علما ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي من حقيقة ذاتها ، وقد تواترت أحاديث إثبات الرؤية تواترا معنويا ، فيجب قبولها نقلا ولا يلتفت إلى ما يتوهمه أهل البدعة عقلا ، ولقد أخطأ شارح عقيدة الطحاوي في هذه المسألة حيث قال : فهل يعقل رؤية بلا مقابلة ، وفيه دليل على علوّه على خلقه (٣). انتهى.

وكأنه قائل بالجهة العلوية لربّه ومذهب أهل السّنّة والجماعة أنه سبحانه لا يرى في جهة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» (٤). تشبيه للرؤية بالرؤية في الجملة لا تشبيه المرئي بالمرئي من جميع الوجوه (والإيمان هو الإقرار) أي بلسانه بالتحقيق (والتصديق) أي بالجنان وفق التوفيق وتقديم الإقرار للإشعار بأنه الأول في مقام الإظهار ، وإن كان الثاني هو المبدوء به في حال الاعتبار ، ولأن الشارع اكتفى بمجرد الإقرار ، ولم يفرّق في الحكم بين المرافق والمنافق وبين الأبرار والفجار.

وقال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) الشعراء : ٦١.

(٣) هذا هو تمام كلام شارح الطحاوية : «وليس تشبيه رؤية الله تعالى هو تشبيه الرؤية بالرؤية ، لا تشبيه المرئي بالمرئي ، ولكن فيه دليل على علوّ الله على خلقه وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة! ومن قال يرى لا في جهة فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله أو في عقله شيء ، وإلا فإذا قال : يرى لا أمام الرائي ، ولا خلفه ، ولا عن يمينه ، ولا عن يساره ، ولا فوقه ، ولا تحته ، ردّ عليه كل من يسمعه بفطرته السليمة.

ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية ، وقالوا كيف تعقل رؤية بغير جهة». ا. ه.

شرح الطحاوية ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

تأمل هذا الكلام فإن الحق فيه.

(٤) تقدم تخريجه فيما سبق.

١٤١

____________________________________

والإقرار وحده لا يكون إيمانا ، لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين ، وكذلك المعرفة وحدها أي مجرد التصديق لا يكون إيمانا لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين قال الله تعالى في حق المنافقين : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١). أي في دعواهم الإيمان حيث لا تصديق لهم وقال الله تعالى في حق أهل الكتاب : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) (٢) انتهى.

والمعنى أن مجرد معرفة أهل الكتاب بالله ورسوله لا ينفعهم حيث ما أقرّوا بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته إليهم وإلى الخلق كافّة فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى العرب خاصة فإقرارهم بهذا الطريق لا يكون خالصا ثم التصديق ركن حسن لعينه لا يحتمل السقوط في حال من الأحوال بخلاف الإقرار فإنه شرط أو شطر وركن حسن لغيره ، ولهذا يسقط في حال الإكراه ، وحصول الأعذار ، وهذا لأن اللسان ترجمان الجنان ، فيكون دليل التصديق وجودا وعدما فإذا بدّله بغيره في وقت يكون متمكّنا من إظهاره كان كافرا ، وأما إذا زال تمكّنه من الإظهار بالإكراه لم يصر كافرا لأن سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر على بقاء التصديق في قلبه ، وأن الحامل له على هذا التبديل حاجته إلى دفع المهلكة عن نفسه لا تبديل الاعتقاد في حقه ، كما أشار إليه قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣).

فأما تبديله في وقت تمكّنه دليل على تبديل اعتقاده ، فكان ركن الإيمان وجودا وعدما كما صرّح به شمس الأئمة السرخسي ، إلا أن صاحب العمدة وهو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي (٤) رحمه‌الله صرّح بأن الإقرار شرط إجراء الأحكام ، وهو مختار الأشاعرة ، وعليه أبو منصور الماتريدي ، ثم في حذف المؤمن به في كلام الإمام الأعظم إشعار بأن الإيمان الإجمالي كاف في مقام المرام فالتحقيق أن

__________________

(١) المنافقون : ١.

(٢) الأنعام : ٢٠.

(٣) النحل : ١٠٦.

(٤) هو عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي نسبة إلى نسف من وراء النهر من بلاد السند ، وله تصانيف معتبرة منها : (الوافي وشرحه الكافي ، وكنز الدقائق ، والعمدة ، ومدارك التنزيل في التفسير) وغيرها. توفي سنة ٧٠١ ه‍. انظر الفوائد البهية ، ص ١٠١ ـ ١٠٢.

١٤٢

____________________________________

الإيمان هو تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقلب في جميع ما علم بالضرورة مجيئه به من عند الله إجمالا وأنا كاف في الخروج عن عهدة الإيمان ولا تنحط درجته عن الإيمان التفصيلي كذا في شرح العقائد إلا أن الأولى أن يقال إجمالا : إن لوحظ إجمالا وتفصيلا إن لوحظ إجمالا وتفصيلا فإنه يشترط التفصيل فيما لوحظ تفصيلا حتى لو لم يصدق بوجوب الصلاة وحرمة الخمر عند السؤال كان كافرا ، ثم المراد من المعلوم ضرورة كونه من الدين بحيث يعلمه العامّة من غير افتقار إلى النظر والاستدلال كوحدة الصانع ووجوب الصلاة وحرمة الخمر ونحوها ، وإنما قيّد بها لأن منكر الاجتهاديات لا يكفّر إجماعا ، وأما من يؤوّل النصوص الواردة في حشر الأجساد وحدوث العالم وعلم الباري بالجزئيات ، فإنه يكفّر لما علم قطعا من الدين أنها على ظواهرها بخلاف ما ورد في عدم خلود أهل الكبائر في النار لتعارض الأدلة في حقهم.

والحاصل أن عدم انحطاط الإيمان الإجمالي عن التفصيلي إنما هو في الاتّصاف بأصل الإيمان ، وإلا فليس الإجمال كالتفصيل في مقام كمال العرفان وجمال الإحسان ، ثم اعتبار الإقرار في مفهوم الإيمان مذهب بعض العلماء وهو اختيار الإمام شمس الأئمة الحلواني وفخر الإسلام من أن الإقرار ركن إلا أنه قد يحتمل السقوط كما في حالة الإكراه ، وذهب جمهور المحقّقين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا لمّا أن تصديق القلب أمر باطني لا بدّ له من علامة فمن صدّق بقلبه ولم يقرّ بلسانه فهو مؤمن من عند الله تعالى ، وإن لم يكن مؤمنا في أحكام الدنيا ، ومن أقرّ بلسانه ولم يصدّق بقلبه كالمنافق ، فهو بالعكس ، وهذا هو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه‌الله.

والنصوص موافقة لذلك كقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (١) الآية. وقوله تعالى : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢). وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣). وقوله عليه الصلاة والسلام لأسامة حين قتل من قال لا إله إلّا الله : «هلّا شققت قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب» (٤). على ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) النحل : ١٠٦.

(٣) الحجرات : ١٤.

(٤) أخرجه البخاري ٤٢٦٩ و ٦٨٧٢ ، ومسلم ٩٦ ح ١٥٨ و ١٥٩ ، وابن حبان ٤٧٥١ ، والواحدي في أسباب النزول ص ١١٧ ، والذهبي في السير ٢ / ٥٠٥ ، كلهم من حديث أسامة بن زيد.

١٤٣

وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق ....

____________________________________

والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم.

وقال في شرح المقاصد : الإقرار إذا جعل شرط إجراء الأحكام لا بدّ أن يكون على وجه الإعلان على الإمام وغيره من أهل الإسلام بخلاف ما إذا جعل ركنا له ، فإنه يكفي له مجرد التكلّم مرة ، وإن لم يظهر لغيره ، والظاهر أن التزام الشرعيات يقوم مقام ذلك الإعلان كما لا يخفى على الأعيان ، ثم الاجتماع منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد الإقرار بلسانه ومنعه مانع من خرس ونحوه.

فظهر أن حقيقة الإيمان ليست مجرد كلمتي الشهادة على ما زعمت الكرامية (وإيمان أهل السماء) أي من الملائكة وأهل الجنة (والأرض) أي من الأنبياء والأولياء وسائر المؤمنين من الأبرار والفجّار (لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق). نفسه لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد قال الله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١). فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقبل الزيادة والنقصان من حيثية أصل التصديق لا من جهة اليقين فإن مراتب أهلها مختلفة في كمال الدين كما أشار إليه سبحانه بقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢). فإن مرتبة عين اليقين فوق مرتبة علم اليقين ، وكذا ورد ليس الخبر كالمعاينة (٣) ، وإن قال بعضهم : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا يعني أصل اليقين لمطابقة علم اليقين في ذلك الحين وهو لا ينافي زيادة اليقين عند الرؤية كما هو مشاهد لمن له علم بالكعبة في الغيبة ، ثم حصل له المشاهدة في عالم الحضرة.

وعلى هذا فالمراد بالزيادة والنقصان القوة والضعف فإن التصديق بطلوع الشمس أقوى من التصديق بحدوث العالم ، وإن كانا متساويين في أصل تصديق المؤمن به ، ونحن نعلم قطعا أن إيمان آحاد الأمة ليس كإيمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كإيمان أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه باعتبار هذا التحقيق ، وهذا معنى ما ورد : «لو وزن إيمان أبي بكر

__________________

(١) يونس : ٣٦.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

(٣) تقدّم تخريجه فيما سبق.

١٤٤

____________________________________

الصدّيق رضي الله عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه» (١). يعني لرجحان إبقائه ووقار جنانه وثبات إتقانه وتحقيق عرفانه لا من جهة ثمرات الإيمان من زيادات الإحسان لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات ، وقلة العصيان ، وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أصل وصف الإيمان في حق كلّ منهما بنعت الإيقان ، فالخلاف لفظي بين أرباب العرفان.

ومن هنا قال الإمام محمد رحمه‌الله على ما ذكره في الخلاصة عنه : أكره أن يقول إيماني كإيمان جبرائيل عليه‌السلام ، ولكن : يقول آمنت بما آمن به جبرائيل عليه‌السلام. انتهى.

وذلك أن الأول يوهم أن إيمانه كإيمان جبرائيل عليه‌السلام من جميع الوجوه ، وليس الأمر كذلك لما هو الفرق البيّن بينهما هنا لك.

قال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : ثم الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه لا يتصوّر زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر ولا يتصوّر نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر ، فكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا والمؤمن مؤمن حقّا ،

__________________

(١) أخرجه الديلمي في الفردوس ٥١٤٨ ، وذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ص ٣٤٩. وقال : رواه إسحاق بن راهويه والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند صحيح عن عمر من قوله وراويه عن عمر هزيل بن شراحيل ، وهو عند ابن المبارك في «الزهد» ومعاذ بن المثنى في «زيادات مسند مسدّد».

وكذا أخرجه ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله من «كامله». وفي مسند الفردوس معا من حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ «لو وضع إيمان أبي بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها». وفي سنده عيسى بن عبد الله بن سليمان وهو ضعيف ، لكنه لم ينفرد به ، فقد أخرجه ابن عدي أيضا من طريق غيره بلفظ : «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم». وله شاهد في السّنن أيضا عن أبي بكرة مرفوعا : «إن رجلا قال : يا رسول الله رأيت كأن ميزانا أنزل من السماء ، فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح ...» الحديث.

قلت : أخرجه أبو داود ٤٦٣٤ ، والترمذي ٢٢٨٨. وقال : هذا حديث حسن وفيه عنعنة الحسن البصري.

قلت : وذكره الحافظ الذهبي في الميزان ٢ / ٤٥٥ في ترجمة عبد الله بن عبد العزيز بن أبي روّاد عن أبيه : قال أبو حاتم وغيره أحاديثه منكرة. وقال ابن الجنيد : لا يساوي فلسا. وقال ابن عدي : روى أحاديث عن أبيه لا يتابع عليها وذكر الحديث ... وذكره أيضا ابن تيمية في الموضوعات رقم ٢٠ ، وقال : هذا قد جاء معناه في حديث معروف في السّنن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وزن بهذه الأمة فرجح.

١٤٥

والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد ....

____________________________________

وليس في إيمان المؤمن شك كما أنه ليس في كفر الكافر شك لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (١). أي في موضع (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) (٢). أي في محل آخر والعاصون من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم مؤمنون حقّا وليسوا بكافرين أيّ حقّا. انتهى ، فأشار الإمام الأعظم رحمه‌الله بهذا الكلام إلى أن العصيان لا ينافي الإيمان كما هو مذهب أهل السّنّة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة فإنهما عندهم لا يجتمعان ، ونحن نحمل هذا الحال على مقام الكمال فإن نفي المعصية بالكلية من المؤمن كالمحال ، وأما نحو قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٣). فمعناه إيقانا أو مؤوّل بأن المراد زيادة الإيمان بزيادة المؤمن به أي القرآن ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا سئل أن الإيمان يزيد وينقص : «نعم ، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (٤). فمعناه أنه يزيد باعتبار أعماله الحسنة حتى يدخل صاحبه الجنة دخولا أوّليّا وينقص بارتكاب أعماله السيئة حتى يدخل صاحبه النار أولا ، ثم يدخل الجنة بإيمانه آخرا كما هو مقتضى مذهب أهل السّنّة والجماعة على أن التصديق من الكيفيات النفسية للإنسان وهي تقبل الزيادة والنقصان باعتبار القوة والضعف في مراتب الإيقان ، ثم الطاعة والعبادة ثمرة الإيمان ونتيجة الإيقان ، وتنوّر القلب بنور العرفان بخلاف المعصية فإنها تسود القلب وتضعف محبة الرب ، وربما يجرّه مداومة العصيان إلى ظلمات الكفران ، فإن الصغيرة تجرّ إلى الكبيرة والكبيرة إلى الكفر ، فنسأل الله العافية وحسن الخاتمة (والمؤمنون مستوون) أي متساوون (في الإيمان) أي في أصله (والتوحيد) أي في نفسه ، وإنما قيّدنا بهما فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش (٥) : والأعشى (٦) ومن يرى الخط الثخين دون الرقيق إلا بزجاجة ونحوها ومن يرى عن قرب زائد على العادة وآخر بضدّه.

__________________

(١) الأنفال : ٤٠.

(٢) النساء : ١٥١.

(٣) الأنفال : ٢.

(٤) لم أجده وهو موضوع بلا شك ولو صحّ مثل هذا لما اختلف العلماء في هذا الشأن على أن الراجح ما ذهب إليه البخاري وأهل الحديث وهو قول السلف من أن الإيمان يزيد وينقص خلافا لمن قال بأنه لا يزيد ولا ينقص.

(٥) جاء في القاموس : الخفش ، محرّكة : صغر العين وضعف البصر خلقة ، أو فساد في الجفون بلا وجع ، أو أن يبصر بالليل دون النهار ، وفي يوم غيم دون صحو.

(٦) وقال في القاموس أيضا : العمش ، محرّكة : ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات.

١٤٦

____________________________________

ومن هنا قال محمد رحمه‌الله على ما تقدّم : أكره أن يقول إيماني كإيمان جبرائيل عليه‌السلام ، بل يقول : آمنت بما آمن به جبرائيل عليه‌السلام. انتهى. وكذا لا يجوز أن يقول أحد : إيماني كإيمان الأنبياء عليهم‌السلام ، بل ولا ينبغي أن يقول : إيماني كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأمثالهما ، فإن تفاوت نور كلمة التوحيد في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله سبحانه ، فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس ، ومنهم كالقمر ومنهم كالوكب الدرّيّ ومنهم كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج الضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : «وذلك أضعف الإيمان» (١). وقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف (٢). والقوة تشمل القوة الظاهرية العملية والقوة الباطنية العلمية ، وهو على منوال هذه الأنوار في الدنيا تظهر أنوار علومهم وأعمالهم وأحوالهم في العقبى ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظمت مرتبتها أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوّتها بحيث ربما وصل إلى حلّ لا يصادف شبهة ولا شهوة ولا ذنبا ولا سيئة إلا أحرقها ، بل تقول النار : جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ لهبي (٣) ، ومن عرف هذا عرف معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» (٤) ، وقوله عليه‌السلام : «لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله» (٥). وأمثال ذلك مما

__________________

(١) هو بعض حديث أخرجه مسلم ٤٩ ، وأبو داود ١١٤٠ ، و ٤٣٤٠ ، والترمذي ٢١٧٢ ، وابن ماجة ١٢٧٥ و ٤٠١٣ ، وأحمد ٣ / ١٠ و ٢٠ و ٤٩ و ٥٣ ، والنسائي ٨ / ١١١ ـ ١١٢ ، والطيالسي ٢١٩٦ ، وأبو يعلى ١٠٠٩ من حديث أبي سعيد الخدري وتمامه : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع ، فبلسانه ، فإن لم يستطع ، فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

(٢) أخرجه مسلم ٢٦٦٤ ، وابن ماجة ٧٩ و ٤١٦٨ ، وأحمد ٢ / ٣٦٦ و ٣٧٠ ، والنسائي في اليوم والليلة ٦٢١ و ٦٢٢ و ٦٢٣ و ٦٢٤ و ٦٢٥ ، وابن السني ٣٥٠ ، والحميدي ١١٤ ، والطحاوي في «مشكل الآثار» ١ / ١٠١ ، وابن أبي عاصم في السّنّة ٣٥٦ كلهم من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية ٩ / ٣٢٩ ، والقرطبي في «تذكرته» ص ٢٣٤ ، والطبراني في الكبير ٢٢ / رقم ٦٦٨ من طريقين عن بشير بن طلحة ، عن خالد بن دريك ، عن يعلى ابن منية ... وبشير بن طلحة ضعيف ، وخالد بن دريك لم يسمع من يعلى ابن منية فهو منقطع ، وأورده الهيثمي في المجمع ١٠ / ٣٦٠ عن الطبراني وضعّفه بسليم بن منصور بن عمار مع أن من فوقه ـ وهو بشير بن طلحة ـ ضعيف أيضا ، ولم يتنبّه للانقطاع. وقد تصحّف فيه اسم يعلى ابن منية إلى يعلى ابن منية.

(٤) هو قطعة من حديث مطوّل أخرجه البخاري ٤٢٥ و ١١٨٦ و ٥٤٠١ و ٦٤٢٣ و ٦٩٣٨ ، ومسلم ٣٣ ، وأحمد ٤ / ٤٤ و ٥ / ٤٤٩ من حديث عتبان بن مالك الأنصاري.

(٥) في صحيح مسلم ٢٩ من حديث عبادة مرفوعا : «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، حرّم الله عليه النار». وفي البخاري ١٢٨ ، ومسلم ٣٢ من حديث أنس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ

١٤٧

متفاضلون في الأعمال ...

____________________________________

أشكل على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي (١) ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفّار وأوّل بعضهم الدخول بالخلود فإن الشّارع لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط وتأمّل حديث البطاقة (٢) فإن من المعلوم أن كل موحّد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار (متفاضلون في الأعمال) أي باختلاف الأحوال.

__________________

 ـ لمعاذ وهو رديفه على الرحل : «ما من عبد يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرّمه على النار». وفي صحيح مسلم ٩١ من حديث ابن مسعود : «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان». وهذه الأحاديث لا تؤخذ على إطلاقها لأن الأدلة من الكتاب والسّنّة متضافرة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذّبون ، ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، فتأوّله العلماء فيمن قرن ذلك بالأعمال الصالحة ، أو قالها تائبا ، ثم مات على ذلك ، أو أنه خرج ذلك مخرج الغالب ، إذ الموحّد يعمل بالطاعة ، ويجتنب المعصية ، أو أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها.

(١) منهم الزهري والثوري وغيرهما ، قال الحافظ ابن رجي في «تحقيق كلمة الإخلاص» : وهذا بعيد جدّا ، فإن كثيرا منها كان بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود ، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك ، وهو في آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح ، فإن السلف كانوا يطلقون النسخ على مثل ذلك كثيرا ، ويكون مقصودهم أن آيات الفرائض والحدود تبين بها توقف دخول الجنة والنجاة من النار على فعل الفرائض ، واجتناب المحارم ، فصارت تلك النصوص منسوخة أي : مبيّنة ومفسّرة ، ونصوص الفرائض والحدود ناسخة ، أي : مفسّرة لمعنى تلك النصوص وموضّحة لها ، وقال : تلك النصوص المطلقة جاءت مقيّدة في أحاديث أخر ، ففي بعضها : «من قال لا إله إلّا الله مخلصا» ، وفي بعضها : «متيقنا» ، وفي بعضها : «يصدق قلبه لسانه» ، وفي بعضها : «يقولها من قلبه» ، وفي بعضها : «قد ذلّ بها لسانه ، واطمأن بها لسانه ، واطمأن بها قلبه» وهذا كله إشارة إلى عمل القلب وتحقّقه بمعنى الشهادتين ، فتحقّقه بلا إله إلا الله ، أن لا يألّه القلب غير الله حبّا ورجاء وخوفا وتوكّلا واستعانة وخضوعا وإنابة وطلبا ، وتحقّقه بمعنى : «وأن محمدا رسول الله» أن لا يعبد الله بغير ما شرعه الله على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ا. ه.

(٢) حديث البطاقة أخرجه أحمد ٢ / ٢٣ و ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، والترمذي ٢٦٤١ ، وابن ماجة ٤٣٠٠ ، والبغوي ٤٣٢١ من حديث الليث بن سعد ، عن عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلّا كل سجلّ مدّ البصر ...». وحسّنه الترمذي ، وصحّحه ابن حبان ٢٢٥ ، والحاكم ١ / ٥٢٥ ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.

١٤٨

والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى فمن طريق اللغة فرق بين الإيمان والإسلام ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام ، ....

____________________________________

فصل

قال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : ثم العمل غير الإيمان والإيمان غير العمل بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ، ولا يجوز أن يقال : يرتفع عنه الإيمان فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة ، ولا يجوز أن يقال : يرتفع عنها الإيمان ، أو أمر لها بترك الإيمان ، وقد قال لها الشارع : دعي الصوم ثم اقضيه ، ولا يصحّ أن يقال : دعي الإيمان ، ثم اقضيه ، ويجوز أن يقال : ليس على الفقير زكاة ، ولا يجوز أن يقال ليس على الفقير الإيمان. انتهى.

وحاصله أن العمل مغاير للإيمان عند أهل السّنّة والجماعة لا أنه جزء منه ، وركن له من الأركان كما يقوله المعتزلة ، لما يدل عليه العطف الذي هو في الأصل مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه حيث جاء في القرآن من نحو قوله تعالى : (آمَنُوا وَعَمِلُوا) (١) (والإسلام هو التسليم) أي باطنا (والانقياد لأوامر الله تعالى) أي ظاهرا (فمن طريق اللغة) وفي نسخة ، ومن طريق اللغة (فرق بين الإيمان والإسلام) فإن الإيمان في اللغة هو التصديق كما قال الله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (٢). أي بمصدّق لنا في هذه القصة والإسلام مطلق الانقياد ومنه قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ) (٣) أي انقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً) (٦). أي الملائكة والمسلمون (وَكَرْهاً) (٧) أي الكفرة حين البأس فالإيمان مختص بالانقياد الباطني والإسلام مختص بالانقياد الظاهري كما يشير إليه قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤). وكما يدلّ عليه حديث جبرائيل عليه‌السلام حيث فرّق بين الإيمان والإسلام (٥) بأن جعل الإيمان محض التصديق والإسلام هو القيام بالإقرار ، وعمل الأبرار في مقام التوفيق (ولكن لا يكون) أي لا يوجد في اعتبار الشريعة (إيمان بلا إسلام) أي انقياد باطني بلا انقياد ظاهري ، كما أن لأهل الكتاب ، وكما وجد لأبي طالب حال

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) يوسف : ١٧.

(٣) آل عمران : ٨٣.

(٦) آل عمران : ٨٣.

(٧) آل عمران : ٨٣.

(٤) الحجرات : ١٤.

(٥) حديث جبريل تقدم تخريجه فيما سبق.

١٤٩

ولا يوجد إسلام بلا إيمان فهما كالظهر مع البطن. والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها ....

____________________________________

الخطاب ، وكما صدر لإبليس حال العتاب فلا بدّ من جمعهما في صوب الصواب (ولا إسلام بلا إيمان) تأكيد لما قبله وإشارة إلى أنه يستوي تقدّم الإسلام على تحقّق الإيمان وعكسه في مقام الإيقان ، إذ ربما يتقدم التصديق الباطني ويتأخر الانقياد الظاهري كمؤمني أهل الكتاب وربما يتقدّم الإسلام ظاهرا ثم يوجد التصديق باطنا كما وقع لبعض المنافقين حيث سلكوا في الآخر طريق المؤمنين ، ولعل هذا وجه الحكمة في قضية المؤلّفة (فهما) أي الإسلام والإيمان كشيء واحد حيث هما لا ينفكّان (كالظهر مع البطن) أي للإنسان ، فإنه لا يتحقّق وجود أحدهما بدون الآخر ، وهذا تمثيل للمعقول بالمحسوس فتدبّر ، وقد ورد الإسلام علانية والإيمان سرّا أي مبني على نيّته.

والحاصل أن الإيمان محله القلب والإسلام موضعه القالب والجسد الكامل منهما يتركّب (والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها) أي الأحكام جميعها ، والمعنى : أن الدين إذا أطلق فالمراد به التصديق والإقرار. وقبول الأحكام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كما يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١). وقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢). وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣). وقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٤).

وليس مراد الإمام الأعظم أن الدين يطلق على كل واحد من الإيمان والإسلام والشرائع بانفرادها كما توهم شارح في هذا المقام ، لأنه خارج عن نظام المرام.

وفي عقيدة الطحاوي (٥) ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن واليأس ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا : «إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد» (٦)

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

(٢) آل عمران : ١٩.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) ٢ / ٧٨٦.

(٦) أخرجه البخاري ٣٤٤٣ ومسلم ٢٣٦٥ ح ١٤٥ بلفظ : «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلّات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» ، وأخرجه أحمد ٢ / ٤٠٦ و ٤٣٧ بلفظ : «الأنبياء إخوة لعلّات دينهم واحد وأمهاتهم شتى ، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن ـ

١٥٠

نعرف الله تعالى حق معرفته كما وصف الله نفسه في كتابه بجميع صفاته ، ...

____________________________________

يعني أصله وهو التوحيد وما يتعلق به لكن الشرائع متنوعة لقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (١) (نعرف الله تعالى حق معرفته) أي لا باعتبار كنه ذاته وإحاطة صفاته ، بل بحسب مقدور العبد وطاقته في جميع حالاته (كما وصف) أي الله سبحانه (نفسه في كتابه بجميع صفاته) أي بذاته ، وفيه دليل على جواز إطلاق النفس على ذاته تعالى ، وأما إطلاق الذات فأكثر العلماء في العبارات جمعوا بين الذات والصفات ، وقد ورد تفكّروا في كل شيء ، ولا تفكّروا في ذات الله ، وأما ما ذكره السيوطي من أنه قد ورد إطلاق الذات عليه سبحانه في البخاري (٢) في قصة خبيب وهو قوله : وذلك في ذات الإله ففيه بحث من وجهين أما أولا فلأنه كلام صحابي ، وأما ثانيا فلأنه ليس نصّا في المدّعى ، بل الظاهر أنه أراد في سبيل الله ، وذلك لأن الكفّار لمّا خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال : دعوني أصلّي ركعتين ، ثم أنشأ يقول :

فلست أبالي حين أقتل مسلما

على أيّ شقّ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع (٣)

أي : أعضاء جسد مقطع ، وأما إطلاق الحقيقة كما قال ابن السبكي (٤) في جمع الجوامع : حقيقته مخالفة لسائر الحقائق فأنكر عليه ابن الزملكاني (٥) حيث قال : يمتنع إطلاق لفظ الحقيقة على الله تعالى ، قال ابن جماعة (٦) : لأنه لم يرد في كتابه أي في

__________________

 ـ بيني وبينه نبي وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ...» وهو في المسند ٢ / ٣١٩ وشرح السّنّة ٣٦١٩.

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) أخرجه البخاري ٤٠٨٦ ، وأحمد ٢ / ٣١٠ ، وابن سعد ٢ / ٥٥ و ٥٦. وابن إسحاق ٢ / ١٦٩ ـ ١٨٣ ، والطبري ٣ / ٢٩ كلهم من حديث أبي هريرة.

(٣) انظر تمام قصة خبيب في زاد المعاد ٣ / ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ؛ وابن كثير ٣ / ١٢٣ ، ١٣٤ ؛ وشرح المواهب ٢ / ٦٤ ، ٧٤ ؛ وسيرة ابن هشام ٢ / ١٦٩ ـ ١٨٣.

(٤) هو عبد الوهاب بن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي تاج الدين أبو النصر المصري الأديب الشافعي ، توفي سنة ٧٧١ ه‍. أشهر تصانيفه طبقات الشافعية وشرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي.

(٥) هو محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري أبو المعالي الدمشقي الشافعي المصري قاضي حلب المعروف بابن الزملكاني توفي سنة ٧٢٧ ه‍. وله من التصانيف البرهان في إعجاز القرآن.

(٦) هو بدر الدين محمد بن بدر الدين في جماعة الكناني المفتي المقدسي الحنفي توفي سنة ١١٨٧. ـ

١٥١

وليس يقدر أحد أن يعبد الله تعالى حقّ عبادته كما هو أهل له ، ....

____________________________________

مواضع من آياته بجميع صفاته أي الثبوتية والسلبية كسورة الإخلاص وكقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١). وسائر الآيات الدالّة على تحقّق الذات ومراتب الصفات ، ولعل هذا الكلام من الإمام الهمام مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص في حقيقة الإيقان ، وإن الإيمان الإجمالي كاف في مرام الإحسان فللمؤمن أن يقول عرفته ، وأما قول من قال : ما عرفناك حق معرفتك فمبني على أن إدراك الذات ، والإحاطة بكنه الصفات ليس في قدرة المخلوقات لقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) ، ولقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٣) فاختلاف القضية بتفاوت الحيثية.

ومن هنا قال الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى : من انتهض لطلب مدبّره فانتهى إلى موجود ينتهي إلى فكره فهو مشبّه ، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطّل ، وإن اطمأن إلى موجود فاعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّد ، ومن ثم لمّا سئل عليّ رضي الله تعالى عنه عن التوحيد ما معناه؟ فقال : أن تعلم أن ما خطر ببالك ، أو توهمته في خيالك أو تصوّرته في حال من أحوالك فالله تعالى وراء ذلك.

ويرجع إلى هذا المعنى قول الجنيد رحمه‌الله تعالى : التوحيد إفراد القدم من الحدوث إذ لا يخطر ببالك إلا حادث ، فإفراد القدم أن لا تحكم على الله بمشابهة شيء من الموجودات في الذات ولا في الصفات بوجه من الوجوه فإنه لا تشبه ذاته ذات ، ولا صفاته صفات قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بل جاء من إطلاق العالم والقادر والموجود وغير ذلك على القديم والحادث فهو اشتراك لفظي فقط ، (وليس يقدر أحد أن يعبد الله تعالى حقّ عبادته كما هو أهل له) أي في استحقاق طاعته من حيث إن العبد عاجز عن مداومة ذكره ومواظبة شكره كما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٤). أي لا تطيقوا عدّها فضلا عن القيام بشكرها وصرفها إلى طاعة ربّها ، ولهذا المعنى قيل : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٥).

__________________

 ـ وله من التصانيف الفتاوى البدرية وضوء المصباح في شرح نور الوضاح وغيرها.

(١) الشورى : ١١.

(٢) الأنعام : ١٠٣.

(٣) طه : ١١٠.

(٤) إبراهيم : ٣٤.

(٥) آل عمران : ١٠٢.

١٥٢

ولكنه يعبده بأمره كما أمر بكتابه وسنّة رسوله ...

____________________________________

منسوخ بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١). لأن حق التقوى يعجز عنه الأصفياء ، كما فسّره سيد الأنبياء صلوات الله تعالى عليه وعليهم وسلامه بقوله : «هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى» (٢). والتحقيق أن المعرقة إذا تحقّقت استمر حكمها في جميع أحوال العبادة بخلاف العبادة ، فإنها تجب على العبد في كل لحظة ولمحة ، وهو عاجز عن استمرار هذه الحالة لضعف البشرية عن القيام بالعبودية ، كما تقتضيه الربوبية فلا أقل من أنه يقع منه الغفلة والغيبة عن الحضرة ، وهو كفر عند أرباب الحقيقة ، وأصحاب الطريقة (٣) ، وإن رفع عن العامّة على لسان صاحب الشريعة رحمة على الأمة من حيث إنه كاشف الغمّة.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه التبصرة بقوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٤). فليس لأحد أن يقول : عبدت الله حق عبادته (ولكنه) أي الشأن (يعبده) أي عبده (بأمره كما أمر بكتابه وسنّة رسوله) أي وفق حكمه بوصف العجز عن أداء حقه ، ولهذا قال بعض العارفين : لو لا أمره سبحانه بقراءة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥). لما قرأته لعدم قيامي في مقام حقيقة الإخلاص في العبودية وتخصيص الاستعانة في العبادة وغيرها من الحضرة الربوبية (٦) ، ولعله عليه الصلاة والسلام في نحو هذا المقام قال : «لا

__________________

(١) المدّثر : ٥٦.

(٢) أخرجه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير ١ / ٣٩٦ عن ابن مسعود مرفوعا والراجح وقفه. كذا أخرجه الحاكم ٢ / ٢٩٤ ، والطبراني ٨٥٠١ ، والطبري ٧٥٣٩ وصحّحه الحاكم على شرطهما وكرّره الطبري ٧٥٣٤ عن الثوري عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود موقوفا وتابع الثوري شعبه ٧٥٣٥ و ٧٥٣٦ وتابعهما الليث ٧٥٣٧ وتابعهما جرير على زبيد ٧٥٣٨ وتابعهم ٧٥٤٠ والمسعودي وتابعهم ٧٥٤١ منصور على زبيد فهؤلاء أئمة أثبات رووه كلهم موقوفا وهو الصواب ، وعلقه البغوي في تفسيره ١ / ٢٥٩ فقال : وقال ابن مسعود وابن عباس فذكره.

(٣) لا يوجد في الشريعة الإسلامية ومصادرها الأساسية ـ الكتاب والسّنّة ـ شيء يسمى أرباب الحقيقة ، وأصحاب الطريقة ولا توجد هذه التقسيمات البدعية إلا عند المتصوفة وهذه التسميات لا تجوز شرعا.

(٤) التغابن : ١٦.

(٥) الفاتحة : ٥.

(٦) هذا الكلام مردود على قائله ، وهو إن لم يكن استهانة بفاتحة الكتاب فهو إعراض عمّا أمر الله به ورسوله ومخالفة جريئة لأمر الله عزوجل. قال الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ١ / ٢٣ : «والعبادة في اللغة من الذلّة يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلّل. وفي الشرع عبارة عما يجمع ـ

١٥٣

ويستوي المؤمنون كلهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبة والرضى والخوف والرجاء ...

____________________________________

أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، وكان عليه الصلاة والسلام يستغفر بعد فراغ العبادة إيماء إلى أنه مقصّر في أداء حق الطاعة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢). ويتفرّع على هذا التحقيق قول الإمام الأعظم على وجه التدقيق (ويستوي المؤمنون كلهم في المعرفة) أي في نفسها (واليقين) أي في أمر الدين (والتوكّل) أي على الله تعالى دون غيره (والمحبة) أي لله ورسوله (والرضى) أي بالتقدير والقضاء (والخوف) أي من غضبه وعقوبته (والرجاء) أي لرضائه ومثوبته.

__________________

 ـ كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدّم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة ، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين ، وهذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سرّ القرآن ، وسرّها هذه الكلمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عزوجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ، وكذلك هذه الآية الكريمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ... ثم قال : وفي ذلك دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثّناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا لا تصحّ صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». ا. ه. وانظر بقية كلامه هناك.

(١) هو بعض حديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف ١٠ / ١٩١ ، ومن طريقه مسلم ٤٨٦ ، وابن ماجة ٣٨٤١ عن أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن عائشة قالت : «فقدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة في الفراش فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول : «اللهمّ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». وأخرجه أبو داود ٨٧٩ ، وأحمد ٦ / ٨ و ٢٠١ ، والنسائي ١ / ١٠٢ ـ ١٠٣ من طريقين عن عبيد الله بن عمر به.

وأخرجه مالك ١ / ٢١٤ ، ومن طريقه الترمذي ٣٤٩٣ ، والبغوي ١٣٦٦ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عائشة أم المؤمنين قالت ... قال ابن عبد البر فيما نقله الزرقاني عنه ٢ / ٣٧ : لم يختلف عن مالك إرساله وهو مسند من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة ، ومن حديث عروة عن عائشة من طرق صحاح ، وانظر جامع التحصيل ص ٣٢٠ ـ ٣٢١ للعلائي.

وأخرجه أبو داود ١٤٢٧ ، والترمذي ٣٥٦٦ ، والنسائي ٣ / ٢٤٨ و ٢٤٩ ، وابن ماجة ١١٧٩ ، وأحمد ١ / ٩٦ و ١١٨ و ١٥٠ كلهم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في آخر وتره : «اللهمّ إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وإسناده قوي.

(٢) عبس : ٢٣.

١٥٤

____________________________________

اعلم أنه يجب على العبد أن يكون خائفا راجيا لقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (١) ، وقوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٢). والتحقيق أن الرجاء يستلزم الخوف ، ولو لا ذلك لكان أمنا والخوف يستلزم الرجاء ، ولو لا ذلك لكان قنوطا ويأسا ، فالخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله سبحانه ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط والرجاء المحمود رجاء عمل بطاعة الله تعالى على نور من ربّه ، فهو راج لمثوبته ، أو رجل أذنب ذنبا ، ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته.

أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا ويرجو رحمة الله تعالى بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتمنّي والرجاء الكاذب.

قال أبو علي الروذباري (٣) رحمه‌الله الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير ، وتمّ طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبا صار الطائر في حدّ الموت (٤) ، وهذا الذي ذكره الشيخ موافق لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو نودي في المحشر أن واحدا يدخل الجنة لأرجو أن أكون أنا ، وإن قيل : إن واحدا يدخل النار أخاف أن أكون أنا ، وقال بعضهم : ينبغي أن يكون الرجاء غالبا للحديث القدسي ، «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (٥).

وقال بعضهم : الأولى أن يكون الخوف غالبا عند الشباب والصحة والرجاء حال الكبر والمرض لقوله عليه الصلاة والسلام قبل موته بثلاث : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بربه» (٦) ، وهذا وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذا خفته

__________________

(١) الزّمر : ٩.

(٢) السجدة : ١٦.

(٣) ترجمة الخطيب في تاريخه ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣٣ ، فقال : محمد بن أحمد بن القاسم ، أبو علي الروذباري من كبار الصوفية ، سكن مصر ، وكان من أهل الفضل والفهم ، وله تصانيف حسان في التصوّف ، نقلت عنه ، وأنشد له من نظمه أبيات ، وقال : توفي سنة ٣٢٢ ه‍.

(٤) وكلام أبو علي الروذباري هنا مأخوذ من شرح الطحاوية ٢ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٥) أخرجه بهذا اللفظ أحمد ٣ / ٤٩١ و ٤ / ١٠٦ وصحّحه ابن حبان ٢٤٦٨ من حديث واثلة بن الأسقع.

(٦) أخرجه مسلم ٢٨٧٧ ، وأبو داود ٣١١٣ ، وابن ماجة ٤١٦٧ ، وأحمد ٣ / ٢٩٣ و ٣٢٥ و ٣٣٠ و ٣٩٠ ، والطيالسي ١٧٧٩ ، والخطيب ١٤ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٨٧ و ٨ / ١٢١ ـ

١٥٥

____________________________________

هربت إليه ، فالخائف هارب من ربّه إلى ربّه كما يشير إليه قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (١) وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك» (٢). وقال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق (٣) ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري (٤) ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ (٥) ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد ، وأما كلام صاحب المنازل (٦) أن الرجاء أضعف منازل المريد (٧) فهو بالإضافة إلى مقام الحب الذي هو حال المريد ، بل قال المحقّق الرازي : إن لم يعبد الله إلا لخوف ناره ، أو طمع في جنته فليس بمؤمن لأنه سبحانه يستحق أن يعبد ويطاع لذاته (٨) ، وهذا معنى ما ورد : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم

__________________

 ـ كلهم من حديث جابر بن عبد الله.

(١) الذاريات : ٥.

(٢) هو بعض حديث أخرجه البخاري ٦٣١١ ، ومسلم ٢٧١٠ ح ٥٦ ، وأبو داود ٥٠٤٦ ، وأحمد ٤ / ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٦ ، والنسائي في اليوم والليلة ٧٨٠ و ٧٨٢ ، والبغوي ١٣١٥ ، وابن حبان ٥٥٣٦ كلهم من حديث البراء بن عازب.

(٣) قال في القاموس : الزنديق بالكسر : من الثنوية ، أو القائل بالنور والظلمة ، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية ، أو من يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، أو هو معرب زن دين أي : دين المرآة. ا. ه.

(٤) نسبة إلى حروراء على ميلين من الكوفة ، يقال لمن يعتقد مذهب الخوارج ، لأن أول فرقة منهم خرجوا على عليّ رضي الله عنه بالبلدة المذكورة ، ومقصود الشارح فيما نقله عن بعضهم ، أن من غلب جانب الخوف وحده فقد سلك مسلك الخوارج الذين يكفّرون أصحاب المعاصي ويخلدونهم في النار إذا ماتوا من غير توبة ـ.

(٥) في اشتقاء اسم المرجئة قولان : أحدهما : أنه من الإرجاء ، والثاني : أنه من الرجاء ، وكان المشهور مرجئة بالهمز ، وهو من الإرجاء والمعنى قريب لاجتماع الكلمتين في الاشتقاق الأكبر.

(٦) هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحافظ تقي الدين أبو العباس الحرّاني ثم الدمشقي الحنبلي الفقيه المحدّث المتوفى سنة ٧٢٨ ه‍. أشهر مصنفاته الفتاوى الكبرى ومنازل السائرين واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها كثير.

(٧) قال القاضي ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ٢ / ٤٥٧ : «في كلامه نظر ـ أي ابن تيمية ـ بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد». ا. ه. وقال ابن القيّم في مدارج السالكين ٢ / ٣٧ ـ ٤١ : بعد أن أورد الكلام المذكور : شيخ الإسلام ـ يريد صاحب منازل السائرين ـ حبيب إلينا ، والحق أحبّ إلينا منه ، وكل من عدا المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله. ا. ه. ثم بيّن ما فيه من الاعتراض.

(٨) قول الرازي هنا يناقض ما أمر الله سبحانه به في عشرات الآيات ، وكثير من أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تدعو إلى الطمع في الجنة ، والخوف من النار.

١٥٦

والإيمان في ذلك ويتفاوتون فيما دون الإيمان في ذلك كله ....

____________________________________

يعصه» (١). ومن ثم لمّا قيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قام من الليل حتى تورمت قدماه أتفعل هذا وقد غفر الله ذنبك ما تقدّم وما تأخّر. قال : «أفلا أكون عبدا شكورا» (٢). وعن عليّ كرّم الله وجهه إن قوما عبدوا رغبة فتلك عبادة التجّار ، وإن قوما عبدوا رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا شكرا فتلك عبادة الأحرار ، كذا نقله عنه صاحب ربيع الأبرار (٣) (والإيمان في ذلك) أي الإيقان بثبوت ذاته ، وتحقّق صفاته وهو معطوف على قوله والرجاء (ويتفاوتون) أي المؤمنون (فيما دون الإيمان) أي في غير التصديق والإقرار بحسب تفاوت الأبرار في القيام بالأركان واختلاف الفجّار في مراتب العصيان (وفي ذلك كله) أي يتفاوتون أيضا فيما ذكر من المقامات العليّة والحالات السّنيّة لاختلاف منازل الصوفية (٤) رحمهم‌الله تعالى.

قال الطحاوي رحمه‌الله تعالى : والإيمان واحد وأهله في أصله سواء والتفاضل [بينهم] (٥) بالخشية والتّقى ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى (٦) ، هذا وذهب شارح في هذا المقام إلى أن تقدير الكلام استواء أهل الإسلام في كونهم مكلّفين بهذه الأحكام ولا يخفى أن ما اخترناه أدقّ في نظام المرام.

ثم تحقيق هذه المقامات العليّة محل بسطها كتب السادة الصوفية وقد بيّنّا طرفا منها

__________________

 ـ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ١ / ٢٤ : كون العبادة لله عزوجل لا ينافي أن يطلب معها ثوابا ، ولا أن يدفع عذابا كما قال ذلك الأعرابي : أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حولها ندندن». ا. ه.

(١) لم أجده.

(٢) هو بعض حديث أخرجه البخاري ١١٣٠ و ٦٤٧١ ، ومسلم ٢٨١٩ ح ٧٩ و ٨٠ ، والترمذي ٤١٢ ، والنسائي ٣ / ٢١٩ ، وابن ماجة ١٤١٩ ، وأحمد ٤ / ٢٥١ و ٢٥٥ ، والبيهقي ٣ / ١٦ ، وابن حبان ٣١١ ، وابن خزيمة ٨٨٣٣ ، والبغوي ٩٣١ ، وعبد الرزاق ٤٧٤٦ ، والحميدي ٧٥٩ كلهم من حديث المغيرة بن شعبة.

وفي الباب عن عائشة عند البخاري ٤٨٣٧ ، ومسلم ٢٨٨٠ ، وأحمد ٦ / ١١٥ ، والبيهقي ٧ / ٣٩ ، وأبي نعيم ٨ / ٢٨٩.

وعن أبي هريرة عند ابن خزيمة في صحيحه ١١٨٤ ، وأبي نعيم في الحلية ٧ / ٢٠٥.

(٣) هو ربيع الأبرار وقصص الأخيار للزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ ه‍.

(٤) لا علاقة بقول الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله هنا بمنازل الصوفية التي يتحدّث عنها الشارح.

(٥) سقطت كلمة بينهم من الأصل وأثبتناها من شرح العقيدة الطحاوية.

(٦) شرح الطحاوية ٢ / ٤٥٩.

١٥٧

والله تعالى متفضّل على عباده عادل قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه العبد تفضّلا منه ، وقد يعاقب على الذنب عدلا منه وقد يعفو فضلا منه ...

____________________________________

في التفسير والشروح الحديثية (والله تعالى متفضّل على عباده) أي عامل بفضله على بعضهم (وعادل) أي عامل بعدله في بعضهم كما قال الله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١). وفي الحدث القدسي : «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنّار ولا أبالي» (٢). وهذا باعتبار توفيق الإيمان وتحقيق الخذلان ويترتب عليه قوله (قد يعطي) أي الله سبحانه (من الثواب) أي الأجر على الطاعة في الدنيا والآخرة (أضعاف ما يستوجبه العبد) أي يستحق (تفضّلا منه) أي في الزيادة كما قال الله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٣). أي ما يشاء من الدرجات في المثوبة ومقام القربة بحسب الإخلاص ، (وقد يعاقب على الذنب) أي بقدر ما يستحقه العبد بلا زيادة عقوبة (عدلا منه) كما أخبر عنهما في كتابه بقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤). أي بنقص ثواب ، أو بزيادة عقاب (وقد يعفو) أي عن السيئة (فضلا منه) سواء يكون بواسطة شفاعة أو بدونها لقوله سبحانه وتعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٥). ولقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٦). أي ما دون الشرك صغيرا أو كبيرا لمن يريد غفرانه تفضّلا.

والحاصل أن زيادة العشرة عامّة ، وأما الزيادة عليها فخاصة والكل فضل محض ورحمة خالصة ، وربما تكون الزيادة بسبب اختلاف مقامات أصحاب العبادة ، أو بحسب تعلّق مجرد الإرادة بما سبق لهم من عناية السعادة ، وأما قول شارح : فليس له أن يعطى من الثواب أحد المتساويين في العبادة واليقين أكثر مما يعطى الآخر ، أو يعفو عن أحد

__________________

(١) يونس : ٢٥.

(٢) أخرجه أحمد ٦ / ٤٤١ ، والبزار ٢١٤٤ من حديث أبي الدرداء وقال الهيثمي في المجمع ٧ / ١٨٥ : رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح.

قلت : وفيه : أبو الربيع سليمان بن عتبة ، ضعّفه ابن معين ، ووثّقه دحيم وابن حبان. وقال أبو حاتم : لا بأس به. وقال البزار : لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد وإسناده حسن. وله شواهد أخرى انظر المجمع ٧ / ١٨٦.

(٣) البقرة : ٢٦١.

(٤) الأنعام : ١٦١.

(٥) الشورى : ٣٠.

(٦) النساء : ٤٨.

١٥٨

وشفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حق وشفاعة نبيّنا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت ....

____________________________________

المتساويين في الذنب دون الآخر لأنه لا تفاوت في فضله وعده فخطأ فاحش مخالف للكاتب والسّنّة وتحكّم على الله تعالى في مقام الإرادة والمشيئة ، وقد قال الله تعالى : (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (١). وحاصل المرام في هذا المقام أن أمره سبحانه بالنسبة إلى عباده لا يخلو عن عدله وفضله على وفق مراده ، مع أنه قد ورد في حديث روي موقوفا ومرفوعا : «لو أن الله عذّب أهل سماواته ، وأهل أرضه عذّبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» (٢). رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة رضي الله تعالى عنهم ، (وشفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي عموما في المقصود (وشفاعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أي خصوصا في المقام المحمود واللواء الممدود والحوض المورود (للمؤمنين المذنبين) أي من أهل الصغائر المستحقين للعقاب (ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت) فقد ورد : «شفاعتي لأهل الكبائر في أمتي» (٣). رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم عن أنس والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حبّان ، والحاكم عن جابر والطبراني ، عن ابن عباس ، والخطيب ، عن ابن عمر ، وعن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنهم ، فهو حديث مشهور في المبنى ، بل الأحاديث في باب الشفاعة متواترة ، المعنى ومن الأدلة على تحقيق الشفاعة قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ

__________________

(١) الحديد : ٢٩.

(٢) هو قطعة من حديث مطوّل حسن ، أخرجه أبو داود ٤٦٩٩ ، وابن ماجة ٧٧ ، وأحمد ٥ / ١٨٢ ـ ١٨٣ و ١٨٥ و ١٨٩ من حديث ابن الديلمي ، قال : أتيت أبيّ بن كعب ، فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر ، فحدّثني بشيء ، لعل الله أن يذهبه من قلبي ، قال : لو أن الله عذب ...

فذكره ، فقال ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك ، قال : ثم أتيت حذيفة ، فقال مثل ذلك ، قال : ثم أتيت زيد بن ثابت ، فحدّثني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك. وأخرجه ابن حبان ١٨١٧ ، وابن أبي عاصم ٢٤٥ ، والآجري في الشريعة ص ١٨٧ ، والطبراني في الكبير ٤٩٤٠ ، واللالكائي في السّنّة ١٠٩٣ و ١٢٣٢.

(٣) حديث صحيح بطرقه وشواهده ، أخرجه أبو داود ٤٧٣٩ ، والترمذي ٢٤٣٥ ، وأحمد ٣ / ٢١٣ ، والطيالسي ٢٠٢٦ ، وأبو نعيم في الحلية ٧ / ٢٦١ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٦٠ من حديث أنس ، وصحّحه ابن حبان ٢٥٩٦ ، والحاكم ١ / ٦٩ ، وأخرجه الترمذي ٢٤٣٦ ، وابن ماجة ٤٣١٠ ، والطيالسي ١٦٦٩ ، وأبو نعيم في الحلية ٣ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ من حديث جابر بن عبد الله ، وصحّحه الحاكم ١ / ٦٩ ، وأخرجه الطبراني ١١٤٥٤ من حديث ابن عباس ، والخطيب البغدادي ٨ / ١١ من حديث ابن عمر.

١٥٩

ووزن الأعمال بالميزان يوم القيامة حق ، ...

____________________________________

وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١). ومنه قوله سبحانه وتعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٢) إذ مفهومه أنها تنفع المؤمنين ، وكذا شفاعة الملائكة لقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣). وكذا شفاعة العلماء والأولياء والشهداء والفقراء ، وأطفال المؤمنين الصابرين على البلاء.

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله تعالى في كتابه الوصية : وشفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ لكل من هو من أهل الجنة ، وإن كان صاحب كبيرة انتهى ... وظاهره أن هذه الشفاعة ليست مختصّة بأهل الكبائر من هذه الأمة فإنه عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى جميع الأمم كاشف الغمّة ، ونبيّ الرحمة ، وقد ثبت أن له عليه الصلاة والسلام أنواعا من الشفاعة ليس هذا مقام بسطها ، وفي العقائد النسفية (٤) والشفاعة ثابتة [للرسل] (٥) ، والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار ، وفي المسألة خلاف المعتزلة إلا في نوع الشفاعة لرفع الدرجة (ووزن الأعمال) أي المجسّمة أو صحفها المرسمة (بالميزان) أي الذي له لسان وكفّتان (يوم القيامة حق) لقوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٦). إظهارا لكمال الفضل وجمال العدل كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٧).

وقال الغزالي والقرطبي (٨) رحمهما‌الله تعالى : لا يكون الميزان في حق كل أحد فالسبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرفع لهم الميزان ، ولا يأخذون صحفا

__________________

(١) غافر : ٥٥.

(٢) المدّثر : ٤٨.

(٣) النبأ : ٣٨.

(٤) ص : ١٨٢.

(٥) تصحيف في الأصل : للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحّحتها من العقائد النسفية.

(٦) المؤمنون : ١٠٢.

(٧) الأنبياء : ٤٧.

(٨) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي المالكي صاحب التفسير المشهور الذي يدل على إمامته ، وكثرة اطّلاعه ، ووفور فضله ، وتبحّره في مختلف الفنون. المتوفى سنة ٦٧١ ه‍. انظر طبقات المفسّرين للداودي ٢ / ٦٩ ، وحسن المحاضرة ١ / ٤٥٧.

١٦٠