شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

وهو بظاهره يخالف تقسيم القرآن ، وأما ما ذكره القونوي رحمه‌الله تعالى من أن الشيخ الإمام علي بن سعيد الرستغني رضي الله تعالى عنه سئل أن الميزان يكون للكفّار ، فقال : لا فمردود ، بقوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (١). والمؤمن لا يخلد في النار ، وأما ما سئل عنه مرة أخرى فقال ؛ قد روي أن لهم ميزانا إلا أنه ليس المراد من ميزانهم ترجيح إحدى الكفّتين على الأخرى ، لكن المعنى به تمييزهم إذ الكفار متفاوتون في العذاب ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٢). وقال الله عزوجل : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣) ففيه أن الرواية المذكورة لا أصل لها والميزان ما وضع لتمييز المراتب في الكفر والإيمان ، وإلا فكما أن المشركين والكفّار لهم دركات كذلك للمسلمين الأبرار درجات.

فالصواب أن آية الميزان والكتاب وأكثر ما وقع في القرآن المجيد من الوعد والوعيد فهو مختص بالكفّار والأبرار ، وما ذكر فيه حال العصاة والفجّار ليكونوا بين الخوف والرجاء في تلك الدار بين المقام في دار القرار ، وفي دار البوار ، نعم قد ورد أن من استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف فيتأخر دخوله في الجنة عن أهل المعرفة والإنصاف والمجاهدين في المصاف والقائمين بأنواع الطاعة من الصلاة والطواف والاعتكاف ، وأما قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٤) أي مقدارا ولا اعتبارا عند الله ، ثم ذكر الموازين بلفظ الجمع ، والحال أن الميزان واحد نظرا إلى كثرة الخلق على سبيل المقابلة الجمع بالجمع أو لأجل كبر ذلك الميزان عبر عنه بلفظ الجمع في ميدان البيان ، أو جمع موزون ، ولا شك في جمعه ، وأما قول القونوي : أن الموزون هو العمل الذي له وزن وخطر عنده سبحانه فليس على إطلاقه ، بل الموزون أعمّ من الطاعة والمعصية حتى يظهر الثقل والخفّة بحسب ما تعلقت به الإرادة والمشيئة ويتوقف فيه على بيان كيفيته سواء يقال : بوزن صحائف الأعمال أو بتجسيم الأقوال والأفعال ، والحكمة فيه ظهور حال الأولياء من الأعداء فيكون للأوّلين أعظم السرور وللآخرين أعظم الشرور وفي الحقيقة إظهار الفضل والعدل في يوم الفصل.

__________________

(١) الأعراف : ٩.

(٢) النساء : ١٤٥.

(٣) غافر : ٤٦.

(٤) الكهف : ١٠٥.

١٦١

____________________________________

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : والميزان حق بقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) الآية. وقراءة الكتاب حق بقوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٢). انتهى ، وفي هذا الاستدلال إيماء إلى أن الحكمة في وضع الميزان للعباد حال المعاد ، إنما هو معرفة بيان مقادير أعمالهم ليتبيّن لهم الثواب والعقاب بحسب اختلاف أعمالهم ، وفيه إشعار بأن إعطاء كتاب الأعمال في أيدي العمال حق أيضا لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٣). أي سهلا لا يناقش فيه ، وهو أن يجازى على الحسنات ويتجاوز عن السيئات : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٤) أي مما في الجنة من الحور العين والآدميات أو إلى عشيرته المؤمنين أو إلى فريق المؤمنين : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) (٥). أي بشماله من وراء ظهره. (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (٦). أي هلاكا يقول يا ثبوراه : (وَيَصْلى سَعِيراً) أي يدخل النار (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي في الدنيا (مَسْرُوراً) أي باتّباع هواه وبدنياه في الكفر بطرا بالمال والجاه فارغا عن الآخرة. فبيّن الإمام الأعظم رحمه‌الله أن الحساب وإعطاء الكتاب متقاربان فكان حكمهما واحدا حيث لا ينفكّان فلم يذكره الإمام على حدة لابتغاء الاكتفاء ، والظاهر أن إعطاء الكتاب قبل ميزان الحساب لقوله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) فتفسيره ورد في السّنّة أن من نوقش في الحساب يوم القيامة عذب (٧).

وقد أنكر المعتزلة الميزان والحساب والكتاب بعقولهم الناقصة مع وجود الأدلة

__________________

(١) الأنبياء : ٤٧.

(٢) الإسراء : ١٤.

(٣) الانشقاق : ٨.

(٤) الانشقاق : ٩.

(٥) الانشقاق : ١٠.

(٦) الانشقاق : ١١.

(٧) أخرجه البخاري ١٠٣ و ٤٩٣٩ و ٦٥٣٧ ، ومسلم ٢٨٧٦ ح ٧٩ و ٨٠ ، وأبو داود ٣٠٩٣ ، والترمذي ٣٣٣٧ ، وأحمد ٦ / ٤٧ و ١٢٧ و ٢٠٦ ، وابن حبان ٧٣٦٩ ، والطبري ٣٠ / ١١٦ ، والبغوي ٤٣١٩ كلهم من حديث عائشة. وذكره السيوطي في الدرّ المنثور ٨ / ٤٥٦ وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه. ولفظه : «من حوسب عذّب. قالت : فقلت : يا رسول الله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ، قال : ذاك العرض ، ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك».

١٦٢

والقصاص فيما بين الخصوم بالحسنات يوم القيامة حق وإن لم تكن لهم الحسنات فطرح السيئات عليهم حق جائز ....

____________________________________

القاطعة في كلّ من هذه الأبواب ، وأما ما وقع في العمدة من أن كتاب الكافر يعطى بشماله أو من وراء ظهره فيوهم أنه شكّ ومتردّد في أمره ، وليس كذلك بل ذكره بأو لاختلاف ما جاء في الآيتين ، وهو إما محمول على الجمع بينهما كما أشرنا إليها ، وإما للتنويع فبعضهم يعطى بشماله وهو القريب من الإسلام ، وبعضهم يعطى من وراء ظهره وهو المدبّر بالكليّة عن قبول الأحكام ، وهي كتب كتبها الحفظة أيام حياتهم إلى حين مماتهم كما قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (١). أي ما يخفونه من الغير وما يتكلمون به فيما بينهم (بلى) أي نسمعهما (ورسلنا) أي الحفظة (لديهم يكتبون) أي جميع أفعالهم وأحوالهم وفيه ردّ على من زعم أن الملائكة ليس لهم اطّلاع على بواطن الخلق (والقصاص) أي المعاقبة بالمماثلة (فيما بين الخصوم) أي من نوع الإنسان والعباد (بالحسنات يوم القيامة) أي بالحسنات كما في نسخة حق أي ثابت يعني بأخذ حسنات الظالم وإعطائها للخصوم في مقابلة المظالم ، إذ ليس هناك الدنانير والدراهم (حق وإن لم تكن لهم) أي للظّلمة (الحسنات) أي بأن لم يوجد لهم الطاعات ، أو فنيت لكثرة السيئات (طرح) وفي نسخ فطرح (السيئات) أي وضع سيئات المظلومين (عليهم) أي على رقبة الظالمين (جائز وحق) ، وفي نسخة حق جائز وكلاهما للتأكيد ، ومعناهما ثابت وجائز عقلا ووارد نقلا ، فيجب الاعتماد على هذا الاعتقاد لما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من كانت له مظلمة لأخيه فليتحلّله منذ اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (٢). وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه الكرام : «أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ، ولا متاع ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة ، وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار» (٣). ثم هذا في حق

__________________

(١) الزخرف : ٨٠.

(٢) أخرجه البخاري ٢٤٤٩ و ٦٥٣٤ ، والترمذي ٢٤١٩ ، والطيالسي ٢٣٢٧ ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٧٠ ، وأحمد ٢ / ٤٣٥ و ٥٠٦ من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه مسلم ٢٥٨١ ، والترمذي ٢٤١٨ ، وأحمد ٢ / ٣٠٣ و ٣٣٤ و ٣٧٢ كلهم من حديث أبي هريرة.

١٦٣

وحوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ....

____________________________________

العباد وقد ورد في خصومه الحيوانات أنه سبحانه يقتصّ للشاة الجماء من القرناء ثم يقول لها : كوني ترابا (١) وحينئذ يقول الكافر الظالم الفاجر يا ليتني كنت ترابا (وحوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق) لقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (٢) وفسّره الجمهور بحوضه أو نهره ، ولا تنافي بينهما لأن نهره في الجنة وحوضه في موقف القيامة على خلاف في أنه قبل الصراط ، أو بعده ، وهو الأقرب والأنسب.

وقال القرطبي : وهما حوضان أحدهما قبل الصراط ، وقبل الميزان على الأصح ، فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم فيردّونه قبل الميزان والصراط الثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثرا. انتهى. وروى الترمذي وحسّنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون أيّهم أكثر واردة ، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة (٣) ، هذا ونقل القرطبي أن من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض والمعتزلة وكذا الظّلمة والفسقة المعلنة يطردون عن الحوض لما وقع بينهم من [إنكار] (٤) الحوض وحديث الحوض (٥). رواه من الصحابة بضع وثلاثون ، وكان أن يكون متواترا (٦) ، وقد ورد حديث : «حوضي

__________________

(١) أخرجه ابن جرير ٣٦١٦٢ من حديث أبي هريرة مرفوعا وإسناده ضعيف فيه راو لم يسمّ وأخرجه ابن جرير موقوفا عن عبد الله بن عمرو ٣٦١٦٠ ، وعن أبي هريرة ٣٦٦١. وله شواهد واهية انظر الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٧.

(٢) الكوثر : ١.

(٣) أخرجه الترمذي ٢٤٤٥ من حديث سمرة بن جندب وفي سنده سعيد بن بشير ، وهو ضعيف ، وعنعنه الحسن ، وذكر الترمذي أنه ورد مرسلا وقال : هو أصح ، وذكره الهيثمي في المجمع ١٠ / ٣٦٣ وقال : رواه الطبراني (٧٠٥٣) وفيه مروان بن جعفر السمري وثّقه ابن أبي حاتم ، وقال الأزدي يتكلمون فيه ، وبقية رجاله ثقات. انظر فتح الباري ١١ / ٤٦٧.

(٤) أضفت كلمة [إنكار] حتى يستقيم المعنى ولعل الصواب في إضافتها.

(٥) يشير المصنّف هنا إلى حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري ٦٥٨٢ ، ومسلم ٢٣٠٤ ولفظه : «ليردنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي فيقول : لا تدري ما ذا أحدثوا بعدك».

(٦) بل بلغت أحاديث الحوض حدّ التواتر ولقد استقصى طرقها الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية ١ / ٣٣٧ ـ ٣٧٣ وقال في مفتتحها : ذكر ما ورد في الحوض المحمدي سقانا الله منه يوم القيامة من الأحاديث المشهورة المتعددة من الطرق المأثورة الكثيرة المتضافرة ، وإن رغمت أنوف كثير من المبتدعة المكابرة القائلين بجحوده المنكرين لوجوده ، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده كما قال بعض السلف : من كذب بكرامة لم ينلها ، ولو اطّلع المنكر للحوض على ما سنورده من الأحاديث قبل مقالته لم يقلها. وانظر أيضا فتح الباري ١١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ فقد استوفى ـ

١٦٤

والجنة والنار مخلوقتان اليوم ...

____________________________________

في الجنة مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وطعمه ألذ وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، وحافّتاه من الزبرجد وأوانيه من الفضة وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا» (١). وعن أكثر السلف : هو الخير الكثير (٢) وفي الأحاديث الصحاح هو نهر في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة (٣) ، وقيل : هو النبوّة والقرآن (٤) (والجنة والنار مخلوقتان اليوم) أي موجودتان الآن قبل يوم القيامة لقوله تعالى : في نعت الجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). وفي وصف النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، وللحديث القدسي : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (٥) ، ولحديث الإسراء (٦) : أدخلت الجنّة وأريت النار». وهذه الصيغة موضوعة للمضي حقيقة فلا وجه للعدول عنها إلى المجاز إلا بصريح آية ، أو صحيح دلالة وفي المسألة خلاف للمعتزلة.

ثم الأصح أن الجنة في السماء ويدل عليه قوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٧). وقوله عليه الصلاة والسلام «سقف الجنة عرش الرحمن» (٨). وقيل :

__________________

 ـ تخريجها رحمه‌الله.

(١) أخرجه البخاري ٦٥٧٩ ، ومسلم ٢٢٩٢ ، والبيهقي في «البعث والنشور» ١٤٠ ، وابن حبان ٦٤٥٢ ، وابن مندة في «الإيمان» ١٠٧٦ و ١٠٦٧ ، وابن أبي عاصم في «السّنّة» ٧٢٨ كلهم من حديث عبد الله بن عمرو.

(٢) يشير المصنّف إلى ما رواه البخاري ٤٩٦٦ و ٦٥٧٨ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير : فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.

(٣) هو بعض حديث أخرجه مسلم ٤٠٠ ، وأبو داود ٤٧٤٧ ، والنسائي ٢ / ١٣٣ و ١٤٤ ، وأحمد ٣ / ١٠٢ كلهم من حديث أنس بن مالك.

(٤) والقائل هو عكرمة كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره ٤ / ٥٠٩.

(٥) أخرجه البخاري ٤٧٨٠ ، والترمذي ٣١٩٧ و ٣٢٩٢ ، وابن ماجة ٤٣٢٨ ، وأحمد ٢ / ٤٦٦ كلهم من حديث أبي هريرة.

(٦) حديث الإسراء من رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أخرجه البخاري ٣٢٠٧ و ٣٨٨٧ ، ومسلم ١٦٤ ، والنسائي ١ / ٢١٧ ، وأحمد ٤ / ٢٠٨ و ٢١٠ ، والطبراني في الكبير ١٩ / ٥٩٩ ، وابن حبان ٤٨ ولا توجد فيه هذه الصيغة التي ذكرها المصنّف. انظر تفسير ابن كثير ٣ / ٤ ـ ٢١. فقد استقصى جميع طرق حديث الإسراء رحمه‌الله.

(٧) النجم : ١٤.

(٨) أخرجه الديلمي في الفردوس ٣٥٢٧ من حديث أنس بن مالك.

١٦٥

____________________________________

في الأرض ، وقيل : بالوقف حيث لا يعلمه إلا الله تعالى ، واختاره شارح المقاصد ، وأما النار ، فقيل : تحت الأرضين السبع وقيل : فوقها. وقيل : بالتوقّف أيضا في حقها.

ووقع في أصل شارح هنا زيادة والصراط حق ، وليس في المتون وكأنه ملحق ، ولكن محله قبل ذكر الجنة والنار أليق وهو ثابت بالكتاب والسّنّة فقال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١). قال النووي في شرح الصحيح : أن المراد في الآية المرور على الصراط. انتهى. وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وجمهور المفسرين ، وقد روي مرفوعا أيضا وورد في صحيح مسلم : «أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف» (٢) ، وورد أيضا أنه يكون على بعض أهل النار أدق من الشعر ، وعلى بعض مثل الوادي الواسع وفي رواية : ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، وأكون أول من يجوّز من الرّسل بأمته ولا يتكلم يومئذ إلا الرّسل ، وكلام الرّسل يومئذ اللهمّ سلّم سلّم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوثق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو الحديث ؛ وفي رواية : فيمرّ المؤمنون كطرفة العين وكالبرق الخاطف وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم (٣) ، وفي هذه المسألة خلاف أكثر المعتزلة.

وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقيل : المراد بهم الكفّار ، فالمراد بالورود الدخول والخلود والأكثرون على العموم كما يفيد الحصر فقيل : معنى الورود هو العبور على متن جهنم وظهرها ، ويتميّزون حال ممرّها ، وقيل : معنى الورود الدخول إلا أنهم مختلفو الحال في الوصول لما روي عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال : الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم عليه‌السلام حتى إن للنار ضجيجا من

__________________

(١) مريم : ٧١.

(٢) لم يروه مسلم وهو غير صحيح فقد ورد من كلام ابن مسعود. انظر تفسير ابن كثير ٣ / ١٦٩.

(٣) أخرجه البخاري ٤٩١٩ و ٧٤٣٩ و ٤٥٨١ ، ومسلم ١٨٣ ، والترمذي ٢٥٩٨ ، والنسائي ٨ / ١١٢ ، وأحمد ٣ / ١٦ ، وابن حبان ٧٣٧٧ ، البيهقي في الأسماء ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، وعبد الرزاق ٢٠٨٥٧ ، وابن خزيمة في التوحيد ص ١٧٢ ـ ١٧٣ و ١٧٤ ، وابن مندة ٨١٦ و ٨١٨ ، والآجري في الشريعة ص ٢٦٠ ـ ٢٦١ كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.

١٦٦

____________________________________

[بردهم] (١) ، وفي رواية : تقول النار للمؤمن : جز فإن نورك أطفأ لهبي (٢) ، وعن جابر رضي الله عنه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أنّا نرد النار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة (٣) فلا ينافي قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٤). لأن المراد عن عذابها ، وعن مجاهد رضي الله عنه : ورود المؤمن النار هو مسّ الحمى جسده في الدنيا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمى من فيح جهنم» (٥). وهو محمول على أن المؤمن تكفّر ذنوبه في الدنيا بالحمى ونحوها لئلا يحسّ بألم النار عند ورودها لا أنه لا يراها في العقبى ، وقيل : المراد بالورود جثوهم حولها كما يشير إليه قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٦). هكذا ذكره صاحب الكشاف (٧) وهو من دسائس المعتزلة حيث أنكروا الصراط ، وإلا فليس في الآية دلالة على جثوهم حولها بل قوله : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا). يدل على خلافه.

ثم من العقائد أن إنطاق الجوارح حق كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨) ، وقال الله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) (٩) الآيتين ، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك ، بل تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح ، توسعا قلنا : نحن نقول كذلك : لأنه سبحانه يظهر هذا على طريق خرق العادة ، كما خلق الكلام في

__________________

(١) أخرجه أحمد ٣ / ٣٢٩ من حديث جابر بن عبد الله وقال الحافظ ابن كثير في تفسره ٣ / ١٢٥ غريب لم يخرّجوه. ا. ه. وتتمته «ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا». وتصحّفت كلمة بردهم في الأصل إلى بردها وهذا تصحيف والصواب ما أثبتناه من المسند وتفسير ابن كثير.

(٢) تقدّم تخريجه فيما سبق.

(٣) لم أجده.

(٤) الأنبياء : ١٠١.

(٥) أخرجه البخاري ٣٢٦١ ، وابن أبي شيبة ٨ / ٨١ ، وأحمد ١ / ٢٩١ ، وأبو يعلى ٢٧٣٢ ، وابن حبّان ٢٠٦٨ ، والطبراني ١٢٩٦٧ ، والحاكم ٤ / ٤٠٣ ، وصحّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي و ٤ / ٢٠٠ من طريقين عن همام به. وكلهم من حديث ابن عباس.

(٦) مريم : ٧٢.

(٧) هو الإمام الزمخشري المعتزلي.

(٨) النور : ٢٤.

(٩) فصّلت : ٢٠.

١٦٧

لا تفنيان أبدا ولا تموت الحور العين أبدا ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمدا ....

____________________________________

الشجرة (١) ، أو يخلق فيها الفهم والقدرة على النطق ، وأما القول بأنه يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدلّ على صدور تلك الأعمال ، وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يشهد هذا العالم بتغيّرات أحواله على حدوثها كما قال القونوي فمردود بأنه موافق لمذهب المعتزلة ، مع أن حمل الآية على المجاز مع إمكان الحقيقة لا يجوز على أنه مخالف لظاهر النص وهو قوله تعالى : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢). (لا تفنيان) أي ذواتهما وما فيهما من أهلهما (أبدا) وفي نسخة (ولا تموت الحور العين أبدا ولا يفنى عقاب الله ولا ثوابه سرمدا) ، وفي نسخة : ولا يفنى ثواب الله ولا عقابه سرمدا.

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : والجنة والنار حق وهما مخلوقتان ولا فناء لهما ولا لأهلهما لقوله تعالى في حق أهل الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وفي حق أهل النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ). خلقهما الله تعالى للثواب والعقاب ، وقال أيضا في الوصية : وأهل الجنة في الجنة خالدون ، وأهل النار في النار خالدون ، لقوله تعالى في حق المؤمنين : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣). وفي حق الكفار : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤) انتهى.

وذهب الجهمية وهم الجبرية الخالصة إلى أنهما تفنيان ويفنى أهلهما وهو باطل بلا

__________________

(١) قال القاضي ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية : ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣ : وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) [القصص : ٣٠]. على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة ، فسمعه موسى منها! وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها فإن الله تعالى قال : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ). والنداء : هو الكلام من بعد ، فسمع موسى عليه‌السلام النداء من حافة الوادي ثم قال : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) أي : أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة كما تقول : سمعت كلام زيد من البيت ، يكون «من البيت» لابتداء الغاية ، لا أن البيت هو المتكلم ، ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص : ٣٠] ، وهل قال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) غير ربّ العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] صدقا ، إذ كلّ من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله! وقد فرّقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد : أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون!! فحرّفوا وبدّلوا واعتقدوا خالقا غير الله. ا. ه.

(٢) فصّلت : ٢١.

(٣) هود : ٢٣.

(٤) يونس : ٢٧.

١٦٨

والله تعالى يهدي من يشاء فضلا منه ، ويضلّ من يشاء عدلا منه وإضلاله خذلانه ، وتفسير الخذلان أن لا يوفّق العبد إلى ما يرضاه منه وهو عدل منه ، وكذا عقوبة المخذول على المعصية. ولا يجوز أن نقول : إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرا وجبرا ، ولكن نقول العبد يدع الإيمان فحينئذ يسلبه منه الشيطان ...

____________________________________

شبهة ، لأنه مخالف للكتاب والسّنّة وإجماع الأمة (والله تعالى يهدي من يشاء) أي إلى الإيمان والطاعة (فضلا منه) أي يجعله مظهر جماله ومحل ثوابه (ويضلّ من يشاء) أي بالكفر والمعصية (عدلا منه) أي يجعله مظهر جلاله وموضع عقابه ، ثم هدايته توفيقه وإحسانه ، وهذه جملة مطويّة معلومة القضية ، ولذا لم يتعرّض له الإمام واكتفى بذكر ما فيه من اختلاف بعض الأنام حيث قال (وإضلاله خذلانه) أي عدم نصرته في مقام تحقيقه ومرام تصديقه (وتفسير الخذلان أن لا يوفّق العبد) أي لا يحمله (إلى ما يرضاه عنه) أي على ما يحبه من الإيمان والإحسان ، ويكون سببا لرضى الربّ عن العبد (وهو) أي الخذلان وعدم رضاه عنه (عدل منه) إذ لا يجب عليه شيء لغيره ، وقد وضع الشيء في موضعه كما قال الله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١). أي يوسع قلبه وينوّره للتوحيد وعلامته الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٢).

(وكذا عقوبة المخذول على المعصية) أي عدل منه في نظر أرباب العقول وأصحاب النقول ، وفي المسألة خلاف المعتزلة (ولا نقول) وفي نسخة ولا يجوز أن نقول : (إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرا وجبرا) أي لقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٣). أي حجة وتسلط على إغواء أحد من المخلصين (ولكن نقول العبد يدع الإيمان) أي بتركه باختياره واقتداره سواء يكون بسبب إغواء الشيطان ، أو هوى نفسه فإذا تركه (فحينئذ يسلبه منه الشيطان) أي يجعله تابعا له في الخذلان ، فيكون له عليه السلطان ، وهذا معنى قوله : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤). وقوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (٥).

__________________

(١) الأنعام : ١٢٥.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) الحجر : ٤٢.

(٥) الأعراف : ١٨.

١٦٩

وسؤال منكر ونكير في القبر حق كائن ...

____________________________________

(وسؤال منكر ونكير) أي حيث يقولان من ربك وما دينك ومن نبيّك (في القبر) أي في قبره ، أو مستقره (حق كائن) أي واقع ، وإخباره عليه الصلاة والسلام بعذابه صدق ، ففي (١) الصحيحين : «عذاب القبر حق» (٢) ومرّ عليه الصلاة والسلام على قبرين فقال : «إنهما ليعذّبان» (٣) ، وقد نزل فيه قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٤). أي في القبر كما في الصحيحين (٥) وغيرهما ، واستثنى من عموم سؤال القبر الأنبياء عليهم‌السلام والأطفال والشهداء. ففي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : «كفى ببارقة السيوف شاهدا» (٦) ففي الكفاية (٧) أن لا سؤال للأنبياء عليهم‌السلام.

وقال السيد أبو شجاع (٨) من علماء الحنفية : إن للصبيان سؤالا ، وكذا للأنبياء عند البعض ، وقال بعضهم : صبيان المسلمين مغفور لهم قطعا والسؤال لحكمة لم يطّلع

__________________

(١) تصحّفت في الأصل إلى : نفي ، والصواب : ففي. كما أثبتناه.

(٢) أخرجه البخاري ١٣٧٢ ، ومسلم ٥٨٤ ، والنسائي ٤ / ١٠٤ و ١٠٥ ، كلهم من حديث عائشة.

(٣) هو بعض حديث أخرجه البخاري ١٣٧٨ و ٢١٨ و ٦٠٥٢ ، ومسلم ٢٩٢ ، وأبو داود (٢٠) ، والترمذي (٧٠) ، والنسائي ١ / ٢٨ ـ ٣٠ ، وابن أبي شيبة ٣ / ٣٧٥ ، وأحمد ١ / ٢٢٥ ، والبيهقي ٢ / ٤١٢ ، والدارمي ١ / ١١٨ ـ ١٨٩ ، وابن حبان ٣١٢٨ ، والآجري في الشريعة ص ٣٦٢ ، والبغوي ١٨٣ كلهم من حديث ابن عباس.

(٤) إبراهيم : ٢٧.

(٥) يشير المصنّف إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ٤٦٩٩ ، ومسلم ٢٨٧١ ، وأبو داود ٤٧٥٠ ، والترمذي ٣١١٩ ، والنسائي ٦ / ١٠١ ، وابن ماجة ٤٢٦٩ ، كلهم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ).

(٦) الحديث لم يخرجه مسلم وليس هو في صحيحه كما وهم المصنّف بل أخرجه النسائي ٤ / ٩٩ في الجنائز باب الشهيد من حديث راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا قال : يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنته. وإسناده حسن.

(٧) هو البداية في أصول الدين والكفاية لنور الدين أبو بكر أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني البخاري الحنفي المتوفى سنة ٥٨٠ ه‍. انظر كشف الظنون ص ١٤٩٩ ، والفوائد البهية ص ٤٢.

(٨) هو محمد بن أحمد بن حمزة المشتهر بالسيد أبي شجاع كان في عصر ركن الإسلام علي بن الحسين السعدي بسمرقند وكان الإمام أبو الحسن الماتريدي معاصرا لهما وكان المعتبر في زمانهم في الفتاوى أن يجتمع خطّهم عليها. انظر الفوائد البهية ص ١٥٥.

١٧٠

وإعادة الروح إلى جسد العبد في قبره حق ، وضغطة القبر ...

____________________________________

عليها وتوقّف الإمام الأعظم رحمه‌الله في سؤال أطفال الكفرة ودخولهم الجنة وغيره حكم بذلك فيكونون خدم أهل الجنة (وإعادة الروح) أي ردّها ، أو تعلقها (إلى العبد) أي جسده بجميع أجزائه ، أو ببعضها مجتمعة أو متفرّقة (في حق قبره) والواو لمجرد الجمعية فلا ينافي أن السؤال بعد إعادة الروح وكمال الحال فيقول المؤمن : «ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول الكافر هاه هاه لا أدري» (١) ، رواه أبو داود وأصله في الصحيحين (٢) ، وفي المسألة خلاف المعتزلة وبعض الرافضة ، وقد وردت الأحاديث المتظاهرة في المبنى المتواترة في المعنى في تحقيق أحوال البرزخ والعقبى قد استوفاها شيخ مشايخنا الجلال السيوطي في كتابه المسمى بشرح الصدور في أحوال القبور ، وفي كتابه الآخر المسمى بالبدور السافرة في أحوال الآخرة ، فعليك بهما إن كنت تريد الاطّلاع وارتفاع النزاع عن الطباع ، ومن جملة الأدلة قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٣) أي صباحا ومساء قبل القيامة وذلك في القبر بدليل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤). ومعنى عرضهم على النار إحراقهم بها إلى يوم القيامة ، وذلك لأرواحهم. وكذا قوله سبحانه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) (٥) أي عذاب الآخرة ، وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي عن اتّباع القرآن فلم يؤمن به (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً). أي ضيقة في الدنيا ، أو في الآخرة : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٦). الآيات. وكأنها أيضا مأخذ قول الإمام الأعظم رحمه‌الله (وضغطة القبر) أي تضييقه (حق) حتى للمؤمن الكامل لحديث ، لو كان أحد نجا منها لنجا سعد بن معاذ (٧) الذي

__________________

(١) هو بعض حديث طويل أخرجه أبو داود ٤٧٥٣ ، وأحمد ٤ / ٢٨٧ كلاهما من حديث البراء بن عازب بإسناد صحيح.

(٢) هو بعض حديث أخرجه البخاري ١٣٣٨ ، ومسلم ٢٨٧٠ ح ٧١ ، وأبو داود مختصرا ٣٢٣١ و ٤٧٥١ ، والنسائي ٤ / ٩٧ ، والبيهقي ٤ / ٨٠ ، وأحمد ٣ / ١٢٦ ، والبغوي ١٥٢٢ ، والآجري في الشريعة ص ٣٦٥ ، وابن حبان ٣١٢٠ كلهم من حديث أنس بن مالك.

(٣) غافر : ٤٦.

(٤) غافر : ٤٦.

(٥) السجدة : ٢١.

(٦) طه : ١٢٤.

(٧) أخرجه أحمد ٦ / ٥٥ و ٩٨ من حديث عائشة ورجاله رجال الصحيح ، وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع ٣ / ٤٦ من حديث عائشة مطوّلا وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.

١٧١

وعذابه حق كائن للكفّار كلهم أجمعين ولبعض عصاة المسلمين ...

____________________________________

اهتزّ عرش الرحمن لموته (١) وهي أخذ أرض القبر وضيّقه أولا عليه ، ثم الله سبحانه يفسح ويوسع المكان مدّ نظره إليه قيل : وضغطته بالنسبة إلى المؤمن على هيئة معانقة الأم الشفيقة إذا قدم عليها ولدها من السفرة العميقة (وعذابه) أي إيلامه (حق كان للكفّار كلهم أجمعين ولبعض المسلمين) أي عصاة المسلمين كما في نسخة ، وكذا تنعيم بعض المؤمنين حق ، فقد ورد أن «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» (٢). رواه الترمذي والطبراني رحمهما‌الله. وفي الحديث : أن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه (٣). رواه الترمذي والنسائي ، والحاكم بسند صحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

واعلم أن أهل الحق اتفقوا على أن الله تعالى يخلق في الميت نوع حياة في القبر قدر ما يتألم ، أو يتلذّذ ، ولكن اختلفوا في أنه هل يعاد الروح إليه ، والمنقول عن أبي حنيفة رحمه‌الله التوقّف إلا أن كلامه هنا يدل على إعادة الروح ، إذ جواب الملكين فعل اختياري فلا يتصوّر بدون الروح وقيل : قد يتصوّر ألا ترى أن النائم يخرج روحه ، ويكون روحه متصلا بجسده حتى يتألم في المنام ويتنعّم ، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل كيف يوجع اللحم في القبور ، ولم يكن فيه الروح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما يوجع سنّك وليس فيه الروح» (٤).

وأما ما قاله الشيخ أبو المعين في أصوله على ما نقله عنه القونوي من أن عذاب القبر حق سواء كان مؤمنا أو كافرا أو مطيعا ، أو فاسقا ، ولكن إذا كان كافرا فعذابه يدوم

__________________

وأخرجه من حديث ابن عباس الطبراني في الكبير والأوسط كما في المجمع ٣ / ٤٦ ـ ٤٧ ورجاله موثوقين.

(١) أخرجه البخاري ٣٨٠٣ ، ومسلم ٢٤٦٦ ح ١٢٤ ، وابن ماجة ١٥٨ ، وأحمد ٣ / ٣١٦ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١٢٤ ، وسعيد بن منصور في سننه ٢٩٦٣ ، وابن سعد ٣ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤ ، والطبراني ٥٣٣٥ ، والبغوي ٣٩٨٠ ، وابن حبان ٧٠٣١ كلهم من حديث جابر بن عبد الله. وفي الباب أحاديث.

(٢) أخرجه الترمذي ٦٤٦٢ من حديث أبو سعيد الخدري بإسناد ضعيف. وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع ٣ / ٤٦ من حديث أبي هريرة وفيه محمد بن أيوب بن سويد وهو ضعيف.

(٣) أخرجه الترمذي ٢٣٠٨ ، والحاكم ٣ / ١٣١ من حديث عثمان بن عفان ولم يخرّجه النسائي. وقال الترمذي : حسن غريب ، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.

(٤) لم أجده وهو معارض بالأحاديث الصحيحة والظاهر أنه موضوع.

١٧٢

____________________________________

في القبر إلى يوم القيامة ويرفع عنه العذاب يوم الجمعة وشهر رمضان بحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ما دام في الأحياء لا يعذّبهم الله تعالى بحرمته فكذلك في القبر يرفع عنهم العذاب يوم الجمعة ، وكل رمضان بحرمته ففيه بحث لأنه يحتاج إلى نقل صحيح ، أو دليل صريح ، فالصواب ما قاله القونوي : من أن المؤمن إن كان مطيعا لا يكون له عذاب القبر ، ويكون له ضغطة فيجد هول ذلك وخوفه لما أنه كان يتنعّم بنعم الله سبحانه ولم يشكر الإنعام حقه قال : ويدلّ عليه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها : «كيف حالك عند ضغطة القبر وسؤال منكر ونكير»؟ ثم قال : «يا حميراء! إن ضغطة القبر للمؤمن كغمز الأم رجل ولدها ، وسؤال منكر ونكير للمؤمن كالإثمد للعين ، إذا رمدت» (١).

وكذا روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعمر رضي الله عنه : «كيف حالك إذا أتاك فتانا القبر»؟ فقال عمر : أفأكون في مثل هذه الحالة ، ويكون عقلي معي؟ قال عليه الصلاة والسلام : «نعم» ، قال عمر : إذا لا أبالي (٢).

وقال القونوي : وإن كان عاصيا يكون له عذاب القبر وضغطة القبر ، لكن ينقطع عنه عذاب القبر يوم الجمعة وليلة الجمعة ، ولا يعود العذاب إلى يوم القيامة ، وإن مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة يكون له العذاب ساعة واحدة وضغطة القبر ، ثم ينقطع عنه العذاب ، ولا يعود إلى يوم القيامة. انتهى. فلا يخفى أن المعتبر في العقائد هو الأدلة اليقينية وأحاديث الآحاد لو ثبتت إنما تكون ظنيّة. اللهمّ إلّا إذا تعدّد طرقه بحيث صار متواترا معنويّا فحينئذ قد يكون قطعيّا ، نعم ثبت في الجملة أن من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة يرفع العذاب عنه إلا أن لا يعود إليه إلى يوم القيامة ، فلا أعرف له أصلا ، وكذا رفع العذاب يوم الجمعة وليلتها مطلقا عن كل عاص ، ثم لا يعود إلى يوم القيامة فإنه باطل قطعا.

ثم من الأدلة على إنعام أهل الطاعة وإيلام أهل المعصية قوله سبحانه : (وَلا

__________________

(١) لم أجده وهو غير صحيح بكل حال فقد قال العلماء : لا يصح في ذكر يا حميراء حديث.

(٢) أخرجه ابن ماجة ٤٢٧٢ ، وأحمد ٢ / ١٧٢ ، وابن حبان ٣١١٥ ، وابن أبي عاصم في السنة ٨٦٧ ، وابن عدي في الكامل ٢ / ٨٥٥ كلهم من حديث عبد الله بن عمرو ، وذكره الهيثمي في المجمع ٣ / ٤٧ ، وقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح وفي إسناد أحمد بن لهيعة ضعيف.

١٧٣

____________________________________

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١). وقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٢). فإن الأصل في وضع الفاء للتعقيب ، واختلف في أنه بالروح أو بالبدن ، أو بهما وهو الأصح منهما إلّا أنّا نؤمن بصحته ولا نشتغل بكيفيته ، واختلف في حقيقة الروح فقيل : إنه جسم لطيف شابك الجسد مشابكة الماء بالعود الأخضر ، أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الحياة ما استمرت هي في الجسد ، فإذا فارقته توفّت الموت الحياة ، وقالوا : الحياة للروح بمنزلة الشعاع للشمس ، فإن الله تعالى أجرى العادة بأن يخلق النور والضياء في العالم ما دامت الشمس طالعة ، كذلك يخلق الحياة للبدن ما دامت الروح فيه ثابتة ، وإلى هذا القول مال المشايخ الصوفية.

وقال جماعة من أهل السّنّة والجماعة : الروح جوهر سارية في البدن كسريان ماء الورد في الورد. انتهى ، وهو لا يغاير القول الأول إلا في اختلافهم أنه جوهر ، أو جسم لطيف ، والأخير هو الصحيح بدليل ما ورد من أن الروح إذا خرجت من الجسد ، وإذا دخلت وأمثال ذلك من العرج إلى عليّين ومن النزول إلى سجّين ، وهذا الكلام في تحقيق المرام ما ينافي قوله سبحانه : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٣). فإن الأمر كله لله تعالى ، أو لأن الروح خلق بالأمر التنجيزي كبعض المخلوقات ، وأكثر الكائنات خلقوا بالوصف التدريجي ، ولذا قال الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٤) مع أن الكلام في جنسه على طريق الإجمال هو من العلم القليل استثنى الله تعالى بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٥). على أن أولى الأقاويل وأقواها أن يفوّض علمه إلى الله تعالى ، وهو قول جمهور أهل السّنّة والجماعة.

وقال الإمام الأعظم رحمه‌الله في كتابه الوصية : نقرّ بالله تعالى يحيي هذه النفوس بعد الموت يبعثهم الله يوما كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب ، وأداء الحقوق لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٦). انتهى. وقوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ)

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) الإسراء : ٨٥.

(٤) الأعراف : ٥٤.

(٥) الإسراء : ٨٥.

(٦) الحج : ٧٠.

١٧٤

____________________________________

أي أحيينا جميع الخلق. (فَلَمْ نُغادِرْ) أي لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) (١). وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٢). أي جمعت وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣). أي نعيد أول الخلق في الآخرة مثل الذي بدأناه في أول الخلق في الدنيا حين كونهما إيجادا عن العدم وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٤). أي للجزاء ففي هذه الآيات ردّ على الفلاسفة حيث أنكروا حشر الأجساد.

وقد ذكر الإمام الرازي على طريق إرخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان حيث قال : فإنّا إذا آمنّا بالبعث وتأهبنا له ، فإن كان حقّا فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلا لا يضرّنا هذا الاعتقاد غاية ما في الباب أن تفوتنا هذه اللذّات الجسمانية ، والواجب على العاقل أن لا يبالي بفواتها لكونها في غاية الخساسة إذ هي مشتركة بين الخنافس والديدان والكلاب ، ولأنها منقطعة سريعة الزوال والفناء فثبت أن الاحتياط في الإيمان بالمعاد ، ولهذا قال الشاعر :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لن يحشر الأموات قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صحّ قولي فالخسار عليكما

انتهى كلامه. ونقل البيتان عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه ، ووجهه أنه من قبيل قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥). لأن الاعتقاد بالمعاد على وجه الاحتياط صحيح في مقام الاعتماد ، لأن العلم اليقيني لا بدّ للمجتهد والحكم الجزمي للمقلّد من الأدلة اليقينية الحاصلة من الأدلة النقلية والعقلية ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٦). ثم من المعقول في المسألة أن الحكمة تقتضي الفصل بين المحقّ والمبطل على وجه يضطر المبطل إلى معرفة حاله في البطلان لئلا يبقى له ريبة في

__________________

(١) الكهف : ٤٧.

(٢) التكوير : ٥.

(٣) الأنبياء : ١٠٤.

(٤) المؤمنون : ١٦.

(٥) سبأ : ٢٤.

(٦) الجاثية : ٢١.

١٧٥

وكل شيء ذكره العلماء بالفارسية من صفات الله تعالى عزّ اسمه فجاز القول به سوى اليد بالفارسية ، ويجوز أن يقال : بروي خداى عزوجل بلا تشبيه ولا كيفية. وليس قرب الله ولا بعده ...

____________________________________

ذلك الشأن ، وليست الدنيا بدار هذا الاضطرار لأنها خلقت للابتلاء والاختبار ، فلا بدّ من دار يقع فيها هذا الأمر المختار ، ولذا قال الله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً). (١) ولأن الحكمة تقتضي جزاء كل عامل على حسب عمله ، وقد ينعم على العاصي ويبتلي المطيع في دار الدنيا للابتلاء فلا بدّ من دار الجزاء ، ولأن جزاء العمل الصالح نعمة لا يشوبها نقمة وجزاء العمل السيئ نقمة لا يشوبها نعمة ، ونعم الدنيا مشوبة بالنقم ونقمها بالنّعم فلا بدّ من دار يحصل فيها كمال الجزاء ، ولأنه قد يموت المحسن والمسيء قبل أن يصل إليهما ثواب ، أو عقاب فلولا حشر ونشر يصل بهما الثواب إلى المحسن والعقاب إلى المسيء لكانت هذه الحياة عبثا ، وقد قال الله سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢). (وكل ما) وفي نسخة وكل شيء (ذكره العلماء بالفارسية) أي بغير العبارة العربية (من صفات الله تعالى) أي المتشابهة كالوجه والقدم والعين ، وفي نسخة من صفات الباري (عزّت أسماؤه) أي غلبت على الأفهام (وتعالت صفاته) أي ارتفعت عن الأوهام (فجاز القول به) أي بأن نتبعهم في التعبير عن أسمائه وصفاته حسب ما ذكره العلماء باختلاف لغاته (سوى اليد بالفارسية) أي فإنه لا يجوز تعبيرها بالفارسية ، كما في نسخة أي بغير عبارة وردت في الكتاب والسّنّة ، ومفهومه : أنه يجوز للعلماء وغيرهم أن يعبّروا في صفته ونعته بذكر اليد ونحوها على وفق ما ورد بها كما يقال بيده أزمة التحقيق ، والله وليّ التوفيق ، ويتفرّع على الحصر المذكور بالوجه المسطور قوله : (ويجوز أن يقال : بروي خداى عزوجل) بضم الراء وسكون الواو أي وجه الله (بلا تشبيه ولا كيفية) أي مقرونا بنفي التشبيه والكيفية من الهيئة والكمية كما يقتضيه التنزيه ، وإذا كان القول مقرونا بالتنزيه ونفي التشبيه فالفرق بين اليد والوجه تدقيق يحتاج إلى تحقيق ، ثم رأيت السلف أجمعوا على عدم تأويل اليد وتبعهم الأشعري في ذلك بخلاف سائر الصفات فإن فيها خلافا عنهم بين التأويل والتفويض.

(وليس قرب الله تعالى) أي من أرباب الطاعة (ولا بعده) أي من أصحاب المعصية

__________________

(١) النبأ : ١٧.

(٢) الأنبياء : ١٦.

١٧٦

من طريق طول المسافة وقصرها ، ولكن على معنى الكرامة والهوان والمطيع قريب منه بلا كيف ، والعاصي بعيد عنه بلا كيف ، والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي. وكذلك

____________________________________

 كما في الحديث «أن السخي قريب من الله والبخيل بعيد من الله» (١) (من طريق طول المسافة) أي الحسّيّة المعبر عنها بالمساحة (وقصرها) بل المراد بهما القرب والبعد المعنوي ، كما يستفاد من منطوق قوله سبحانه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢). المفهوم منه أنه بعيد من المسيئين (ولا على معنى الكرامة والهوان) أي وليسا محمولين على معنى الكرامة والإحسان والذلّة والهوان ، فإن هذا التأويل في مقام أهل العرفان.

والإمام الأعظم رحمه‌الله تعالى جعلهما من باب المتشابه في مقام الإيقان ولذا قال : (ولكن المطيع قريب منه بلا كيف) أي من غير التشبيه (والعاصي بعيد عنه بلا كيف) أي بوصف التنزيه (والقرب والبعد والإقبال) أي وضدّه وهو الإعراض (يقع على المناجي) أي يطلق أيضا على العبد المتضرّع إلى الله المتذلّل لديه طالبا لرضاه كما في قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٣). أي اسجد لله وتقرّب إلى رضاه ، وقيل دم على السجود والتقرّب إلى الله حيث شئت ، وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد» (٤). لكنه بلا كيف كما يدل عليه تقييد ما قبله وما بعده به حيث قال : (وكذلك

__________________

(١) أخرجه الترمذي ١٩٦٢ من حديث سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسعيد بن محمد الوراق ضعيف كما قال الحافظ في التقريب. وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد ، إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. ا. ه.

يعني خالفه غيره في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد فرواه سعيد عن يحيى عن الأعرج عن أبي هريرة متصلا وجعله من مسند أبي هريرة ، ورواه غير سعيد بن محمد عن يحيى عن عائشة مرسلا وجعله من مسند عائشة.

أقول : ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن جابر ، والطبراني في الأوسط كما في المجمع ٣ / ١٢٧ عن عائشة وفيه سعيد بن محمد الورّاق وهو ضعيف.

وقال المناوي في التيسير : بأسانيد ضعيفة يقوّي بعضها بعضا». وقال الشيخ عبد القادر الأرناءوط في تخريج جامع الأصول ٥ / ٤ : أقول ومعنى الحديث صحيح. ا. ه.

(٢) الأعراف : ٤٦.

(٣) العلق : ١٩.

(٤) أخرجه مسلم ٤٨٢ ، وأبو داود ٨٧٥ ، والنسائي ٢ / ٢٢٦ ، وأحمد ٢ / ٤٢١ ، والبيهقي ٢ / ١١٠ ، وابن حبان ١٩٢٨ ، والبغوي في السّنّة ٦٥٨ ، وأبو عوانة ٢ / ١٨٠ كلهم من حديث أبي هريرة.

١٧٧

جواره في الجنة والوقوف بين يديه بلا كيف ....

____________________________________

جواره) بكسر الجيم أي مجاورة العبد لله (في الجنة) أي في مقام القربة (والوقوف) أي في القيامة (بين يديه بلا كيف) أي من غير وصف وبيان كشف كما في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (١). وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) (٢) الآية.

وقد أبعد شارح هنا حيث قال : القرب والبعد يقع على المناجي لا على الله ، ألا ترى أن القرب والبعد كان على معنى الكرامة والهوان وأن الله تعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، انتهى. ولا يخفى ما في كلامه من التناقض حيث يفهم من عمله أن القرب والبعد يقع على حقيقته بطريق المسافة على المناجي دون الله سبحانه ، ثم حملهما على معنى الكرامة والهوان الذي هو نص في المعنى المجازي ، ثم قوله : إن الله تعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد حيث أثبت له القرب من العبد ، مع أن نسبة القرب والبعد متساوية في الربّ والعبد فالتحقيق في مقام التوفيق أن مختار الإمام أن قرب الحق من الخلق ، وقرب الخلق من الحق وصف بلا كيف ونعت بلا كشف ، والجمهور يؤوّلونهما ويحملونهما على قرب رحمته بطاعته وبعد نعمته بمعصيته ، هذا وبلسان أرباب العبارات وأصحاب الإشارات معنى القرب إلى الربّ أن ترى نعمته وتشاهد منّته في جميع حالاتك وتغيب فيها عن رؤية أفعالك ومجاهداتك.

وقد قال بعض العلماء في قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣). إنه سبحانه وتعالى لفرط قربه منك لا تراه ، ولغاية بعدك عنه لا ترى شيئا سواه ، وهذا تمام لمن يطلب معرفة مولاه ولا يصحّ الطلب إلا لمن خالف هواه.

__________________

قال النووي في شرح مسلم ٤ / ٢٠٠ : معناه أقرب ما يكون من رحمة ربه ، وفضله وفيه الحثّ على الدعاء في السجود ، وفيه دليل لمن يقول : إن السجود أفضل من القيام وسائر أركان الصلاة ، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب : أحدها أن تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل حكاه الترمذي ، والبغوي عن جماعة ، وممّن قال بتفضيل تطويل السجود ابن عمر رضي الله عنهما ، والمذهب الثاني مذهب الشافعي رضي الله عنه وجماعة أن تطويل القيام أفضل لحديث جابر في صحيح مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أفضل الصلاة طول القنوت». والمراد بالقنوت القيام ، ولأن ذكر القيام القراءة ، وذكر السجود التسبيح ، والقراءة أفضل ، لأن المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود ، والمذهب الثالث أنهما سواء ، وتوقف أحمد بن حنبل رضي الله عنه في المسألة ولم يقض فيها بشيء.

(١) الرحمن : ٤٦.

(٢) النازعات : ٤٠.

(٣) ق : ١٦.

١٧٨

والقرآن منزّل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المصاحف مكتوب وآيات القرآن في معنى الكلام كلها مستوية في الفضيلة والعظمة ، إلا أن لبعضها فضيلة الذكر ، وفضيلة المذكور مثل آية الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله تعالى وعظمته وصفاته فاجتمعت فيها فضيلتان فضيلة الذكر وفضيلة المذكور ولبعضها فضيلة الذكر فحسب مثل قصة الكفار ، وليس للمذكور فيها فضل وهم الكفّار ، وكذلك الأسماء والصفات كلها مستوية في العظمة والفضل لا تفاوت بينهما .....

____________________________________

(والقرآن منزّل) بالتشديد أي نزل منجّما (على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أي في ثلاثة وعشرين عاما (وهو في المصاحف) أي في جنسه ، وفي نسخة في المصاحف (مكتوب) أي مزبور ومسطور وفيه إيماء إلى أن ما بين الدفّتين كلام الله تعالى على ما هو المشهور (وآيات القرآن) أي جميعها (في معنى الكلام كلها) أي في مقام المرام سواء يكون في رحمة الله ومدح أوليائه ، أو في غضب الله وذمّ أعدائه وسائر الأحكام المتعلقة بحكم ابتلائه (مستوية في الفضيلة) أي اللفظية (والعظمة) أي المعنوية (إلا أن لبعضها فضيلة الذكر) أي باعتبار مبناها (وفضيلة المذكور) أي باعتبار معناها (مثل آية الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله) أي هيبته (وعظمته وصفاته) أي نعته الخاص بذاته (فاجتمعت فيها فضيلتان فضيلة الذكر وفضيلة المذكور) ومثلها سورة الإخلاص فإنها مختصّة بنعوت الاختصاص ، (وفي صفة الكفّار) أي كسورة «تبّت» ونحوها من أحوال الفجّار (فضيلة الذكر فحسب) بسكون السين أي فقط (وليس في المذكور وهم الكفار فضيلة) تأكيد لما قبله وتصريح بما علم ضمنا من مفهومه بما ورد في فضائل القرآن وسور منه وآيات منه محمول على ما ذكرنا جميعا بين اختلاف الروايات ، (وكذلك الأسماء) أي نحو : الله الأحد الصمد الملك الواحد الفرد (والصفات) أي نحو له الملك ، وله الحمد وله الكبرياء والمجد (كلها مستوية في العظمة) أي بحسب المبنى (والفضل) أي باعتبار المعنى (لا تفاوت بينهما) أي من حيث إطلاقها على ذاته وصفاته كليهما ، وهو لا ينافي أن يكون بعض الأسماء وبعض الصفات أعظم من بعضها على ما ثبت في الأحاديث الواردة في فضل الاسم الأعظم والله تعالى أعلم.

وقد روى الحاكم الشهيد (١) في المنتفى عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه قال : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه ، وعنه رحمه

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المروزي الشهير بالحاكم الشهيد من أكابر فقهاء الحنفية ، توفي شهيدا سنة ٣٣٤ ه‍. من تصانيفه الكافي في الفروع والمنتقى في الفروع.

١٧٩

____________________________________

الله أيضا أنه قال : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم ، فالفرق بيننا وبين المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين ما ذكره الأستاذ أبو منصور الماتريدي وعامّة مشايخ سمرقند رحمهم‌الله تعالى : أن العقل عندهم إذا أدرك الحسن والقبح يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما ، وعندنا الموجب هو الله تعالى يوجبه على عباده ، ولا يجب عليه سبحانه شيء باتفاق أهل السّنّة والجماعة.

والعقل عندنا آلة يعرف بها ذلك الحكم بواسطة اطّلاع الله تعالى على الحسن والقبح الكائنين في الفعل ، والفرق بيننا وبين الأشاعرة أنهم قائلون بأنه لا يعرف حكم من أحكام الله إلا بعد بعثة نبي ، ونحن نقول : قد يعرف بعض الأحكام قبل البعثة بخلق الله تعالى العلم به إما بلا كسب كوجوب تصديق النبي وحرمة الكذب الضارّ ، وإما مع كسب بالنظر والفكر وقد لا يعرف إلا بالكتاب والنبي عليه‌السلام كأكثر الأحكام ، وقال أئمة بخارى : عندنا لا يجب إيمان ، ولا يحرم كفر قبل البعثة كقول الأشاعرة وحملوا المرويّ عن أبي حنيفة رحمه‌الله على ما بعد البعثة.

قال ابن الهمام : وهذا الحمل ممكن في العبارة الأولى دون الثانية ، إلا أنه قدر في تحريره (١) أنه يجب حمل الوجوب في قوله لوجب عليهم معرفة الله بعقولهم على معنى ينبغي فحمل الوجوب على المعنى العرفي ، وهو الأليق والأولى ، لأن تسمية الأفعال طاعة ومعصية قبل البعثة تجوّز إذ هما فرع الأمر والنهي فإطلاق الطاعة والمعصية قبل ورود أمر ونهي مجاز من قبيل إطلاق الشيء على ما يؤول إليه ، فكيف يتحقّق طاعة أو معصية قبل ورود أمر ونهي.

قال ابن الهمام : بل يجوز العقل بذكر اسمه شكرا فلولا أنه سبحانه أطلق بفضله ذكر اسمه سمعا ووعد عليه أجرا حيث قال سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢). ونحوه لخاف من اتّضح لعقله عظمة كبريائه وجلاله من أن يسمّيه تعالى بلسانه في جميع أحواله إذ يرى أنه أحقر من ذلك ، فسبحان من تقرّب إلى خلقه بفضله وعظيم برّه. انتهى.

__________________

(١) هو التحرير للكمال ابن الهمام شرحه تلميذه محمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبي المتوفّى سنة ٨٧٩ ه‍ في كتاب اسمه التقرير والتحبير ، كما شرحه محمد أمين ، أمير بادشاه في كتاب اسمه تيسير التحرير في أربعة أجزاء.

(٢) البقرة : ١٥٢.

١٨٠