شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

بواسط خطب الناس يوم الأضحى ، فقال : يا أيها الناس! ضحّوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحّ بالجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا [ولم يكلم موسى تكليما] (١) ، ثم نزل فذبحه (٢) ، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء الدين ، والمعتقد أن محبة الله وخلّته كما يليق به كسائر صفاته ، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، ثم نوح وموسى وعيسى عليهم‌السلام أفضل من سائر الأنبياء والخمسة هم أولو العزم من الرّسل عند جمهور العلماء ، وقد جمعهم الله تعالى في موضعين من كتابه حيث قال الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) (٣). أي ابن مريم فبدأ بنوح عليه‌السلام لأنه أول المرسلين ، ثم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه خاتم النبيّين ، ثم ذكر ما بينهما من الثلاثة ، والظاهر أن نوحا عليه‌السلام أفضل ، ثم موسى عليه‌السلام ، ثم عيسى عليه‌السلام لما سبق من تخصيص إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وقال شيخ مشايخنا الجلال السيوطي رحمه‌الله : لم أقف على نقل أي الثلاثة أفضل. انتهى. وقال الله عزوجل في موضع آخر : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (٤). بترتيب الأربعة وفق الوجود ، وقدّم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدّم رتبته في عالم الشهود. ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى كافّة الأنام كما ينته في غير هذا المقام.

ومن جملة الأدلة قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ

__________________

(١) ما بين قوسين ساقط من الأصل.

(٢) أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص ٦٩ ، والدارمي في «الرد على الجهمية» ص ١١٣ ، واللالكائي في شرح السّنّة ٢ / ٣١٩ من طريق القاسم بن محمد عن عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده ... ، وعبد الرحمن وأبوه لا يعرفان ، وأخرجه ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية من طريق عيسى بن أبي عمران الرملي ، حدّثنا أيوب بن سويد ، عن السري عن يحيى ، قال : خطبنا خالد القسري فذكره ... وعيسى بن أبي عمران كتب عنه ابن أبي حاتم بالرملة ، فنظر أبوه في حديثه فقال : يدلّ حديثه أنه غير صدوق ، فترك الرواية عنه.

الجرح والتعديل ٦ / ٢٨٤ ، وأيوب بن سويد ضعّفه أحمد ، والبخاري ، وابن معين ، والنسائي ، وأبو حاتم ، وغيرهم.

(٣) الشورى : ١٣.

(٤) الأحزاب : ٧.

٢٠١

____________________________________

نَذِيراً) (١). وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (٢). والله تعالى أعلم. وحديث مسلم : بعثت إلى الخلق كافّة (٣) فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٤). وقد جاء عليه‌السلام بالسيف للمعاندين والظالمين ، فالجواب : ما قال الزمخشري على وجه المثال : أنه سبحانه فجّر عينا غديقة فيسقي ناس مواشيهم وزروعهم بمائها فيفلحون ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعون فالعين في نفسها نعمة من الله ورحمة للفريقين ، لكن الكسلان جعلها محنة على نفسه حيث حرمها ولم ينفعها هذا ، وفي شرح العقائد أن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر (٥) ضعيف لأنه لا يدلّ على كونه أفضل من آدم عليه‌السلام ، بل من أولاده. انتهى ، وفيه أن من أولاده من هو أفضل منه كإبراهيم عليه‌السلام فيكون نبيّنا أفضل منه بلا نزاع مع أنه قد يراد بولد آدم الجنس الإنساني ، كما ورد «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني» (٦) الحديث القدسي ، وقد جاء في أول حديث الشفاعة «أنا سيد الناس يوم القيامة» (٧). كما ذكره القونوي ، ثم قال : بل الأولى أن يستدل بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٨) انتهى. ولا يخفى عدم قوة هذا

__________________

(١) الفرقان : ١.

(٢) الأنبياء : ٢٩.

(٣) أخرجه البخاري ٣٣٥ و ٤٣٨ ، ومسلم ٥٢١ ، وابن أبي شيبة ١١ / ٤٣٢ ، والنسائي ١ / ٢٠٩ ـ ٢١١ ، وأحمد ٣ / ٣٠٤ ، والدارمي ١ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ، والبيهقي في السنن ١ / ٢١٢ و ٢ / ٣٢٩ ، وفي الدلائل ٥ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ، والبغوي ٣٦١٦ ، وابن حبان ٦٣٩٨ ، واللالكائي في أصول الاعتقاد ١٤٣٩ كلهم من حدث جابر بن عبد الله.

(٤) الأنبياء : ١٠٧.

(٥) تقدم تخريجه فيما سبق ص ١٦٩ تعليق ٤.

(٦) أخرجه الترمذي ٣٥٣٤ من حديث أنس بن مالك وفي سنده كثير بن فائد لم يوثّقه غير ابن حبان ، وباقي رجاله ثقات. وقال الترمذي حديث حسن غريب ، وهو كما قال. ونصه : «قال الله : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ، ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني : غفرت لك ، ولا أبالي ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا : لأتيتك بقرابها مغفرة».

(٧) أخرجه البخاري ٣٣٤٠ و ٣٣٦١ ، ومسلم ١٩٤ ، وابن أبي شيبة ١١ / ٤٤٤ ، والترمذي ٢٤٣٤ ، وأحمد ٢ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦ ، وابن حبان ٦٤٦٥ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص ٣١٥ ، والبغوي ٤٣٣٢ ، وابن أبي عاصم في السنة ٨١١ ، وابن خزيمة في التوحيد ص ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، وابن مندة ٨٧٩ و ٨٨٠ ، وأبو عوانة ١ / ١٧٠ كلهم من حديث أبي هريرة مطوّلا.

(٨) آل عمران : ١١٠.

٢٠٢

____________________________________

الاستدلال بالنسبة إلى ما قدّمناه من الأقوال ثم بيانه أنه لمّا كانت أمته عليه الصلاة والسلام خير الأمم كان هو خير الأنبياء ، كما أشار إليه صاحب البردة إلا أنه عكس القضية في محصول الزبدة حيث قال :

لمّا دعا الله داعينا لطاعته

بأكرم الرّسل كنّا أكرم الأمم

وهذا من جهة المنقول ، وأما من جهة المعقول فكما أفاده العلّامة القونوي في شرح عمدة النسفي من أن الإنسان إما أن يكون ناقصا كالعوامّ من الجهلاء ، أو كاملا غير قادر على التكميل كالأولياء ، أو كاملا مكمّلا كالأنبياء عليهم‌السلام ، وهذا الكمال والتكميل في القوّتين النظرية والعملية ورأس الكمالات في القوة النظرية معرفة الله تعالى ، وفي القوّة العملية طاعة الله تعالى ، ومن كانت مرتبته في كمالات هاتين المرتبتين أعلى كانت ولايته أكمل ، ومن كانت درجته في تكميله الغير في هاتين المرتبتين أعلى كانت نبوّته أكمل ، فإذا ثبت هذا.

فنقول : عند مقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت الشرائع بأسرها مندرسة والحكم بأجمعها منطمسة وآثار الظلم بادية وأعلام الجور باقية والكفر قد طبق الأرض بأكنافها والباطل ملأها بأطرافها فالعرب اتخذوا الأصنام آلهة ووأد البنات شريعة لازمة والسعي في الأرض بالفساد عادة دائمة ، وسفك الدماء طبيعة فاسحة والنهب والإغارة تجارة رابحة والفرس اشتغلوا بعبادة النيران ووطئ الأمهات والروم مثابرون على تخريب البلاد وتعذيب من ظفروا به من العباد ومواظبون على الركض في أطراف الأرض من الطول إلى العرض دينهم عبادة الأصنام ودأبهم ظلم الأنام وجمهور الهند لا يعرفون إلّا عبادة الأوثان وإحراق أنفسهم بالنيران واليهود مشتغلون بالتحريف والتشبيه وتكذيب المسيح والنصارى بالحلول والتثليث ، فلما بعث رسول الحق الصادق المصدّق المؤيد بالأعلام الباهرة ، والمعجزات الظاهرة والملّة الغرّاء والحجة البيضاء والدين القويم والصراط المستقيم داعيا إلى ما يقتضيه العقل الصريح من التوحيد المحض الصحيح والعبادات الخالصة والسّنن العادلة والسياسات الفاضلة ، ورفض الرسوم الجائرة والعادات الفاسدة زالت هذه الجهالات الفاحشة والضلالات الباطلة ، وصارت الملّة الحنفية لائحة المنار باقية الآثار كثيرة الأعيان قوية الأركان في عامّة البلدان ، وانطلقت الألسنة بتوحيد الملك العلّام ، واستنارت العقول بمعرفة خالق الأنام ، ورجع الخلق من حبّ الدنيا إلى حبّ المولى ، ولما لم يكن معنى النبوّة إلا تكميل الناقص في القوة العملية والعملية ، وهذا بسبب

٢٠٣

____________________________________

مقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أكمل وأظهر وأشمل وأكثر وأشهر مما كان لموسى وعيسى وغيرهما ، فدعوة موسى مقصورة على بني إسرائيل وهم بالنسبة إلينا كالقطرة إلى البحر ، وما آمن بعيسى إلا شر ذمة قليلون علمنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء وسيّد الأصفياء ، وسند الأولياء (١).

ثم قال ونبي واحد أفضل من جميع الأولياء. وقد ضلّ أقوام بتفضيل الولي على النبي حيث أمر موسى بالتعلّم من الخضر ، وهو وليّ قلنا : الخضر كان نبيّا وإن لم يكن كما زعم البعض فهو ابتلاء في حق موسى على أن أهل الكتاب يقولون : إن موسى هذا ليس بموسى بن عمران ، إنما هو موسى بن متان ، ومن المحال أن يكون الولي وليّا بإيمانه بالنبي ، ثم يكون النبي دون الولي ولا غضاضة في طلب موسى العلم ، لأن الزيادة في العلم مطلوبة.

ومنها : تفضيل الملائكة فخواصّهم أفضل بعد الأنبياء عليهم‌السلام من عموم الأولياء والعلماء رحمهم‌الله وأفضلهم جبريل عليه‌السلام كما في حديث رواه الطبراني : «وعامة الملائكة أفضل من عامّة المؤمنين لكونهم مجرمين ، والملائكة معصومون» (٢) ، وفي المسألة خلاف المعتزلة حيث قالوا : «الملائكة أفضل من الأنبياء ، ووافقهم من الأشاعرة بعض العلماء ، وتوقف جمع في هذه المسألة ومنهم الإمام رحمه‌الله على ما ذكره في آمالي الفتاوى أنه لم يقطع فيها بجواب ، قلت : فلتكن المسألة ظنيّة لا قطعية ، وهو كذلك بلا شبهة ، فإن قيل : أليس قد كفر إبليس ، وكان من الملائكة بدلالة أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فالجواب : أنه كما قال الله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٣).

وأما هاروت وماروت فالأصح أنهما ملكان لم يصدر عنهما كفر ولا كبيرة وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما يعاتب الأنبياء عليهم‌السلام على السهو والزلّة مع أن المشهور أنهما لمّا عابا على بني آدم صدر عنهم من المعاصي وفق ما جرى به القلم ، وادّعيا أنهما لو ركب فيهما ما ركب في الإنسان من مقتضيات البشرية لم يرتكبا شيئا من الأمور المنهيّة فركب فيهما فخرجا عن ماهيّة الملكية وهيئة العصمة الإلهية.

__________________

(١) السند في اللغة : معتمد الإنسان كما جاء في القاموس ومعتمد الإنسان هو الله ولا يجوز إطلاق هذه العبارة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها من خصوصيات الله سبحانه وتعالى.

(٢) لم أقف على إسناده وأمارة الوضع ظاهرة عليه ، ولو صحّ لما اختلف المتكلمون في هذا الشأن.

(٣) الكهف : ٥٠.

٢٠٤

____________________________________

ثم لا كفر في تعلّم السحر ، بل في اعتقاد ترتّب الأثر عليه بمعنى جعله مستند إليه ، وفي العمل به كذا في شرح العقائد. وقال صاحب الروضة (١) : ويحرم فعل السحر بالإجماع ، وأما تعليمه وتعلّمه ففيه ثلاثة أقوال :

الأول : الصحيح الذي قطع به الجمهور أنهما حرامان.

والثاني : أنهما مكروهان.

والثالث : أنهما مباحان. انتهى.

وأما ما ذكره التفتازاني في شرح الكشاف من أنه لا يروي خلاف في كون العمل به كفرا فيخالفه هذا الخلاف مع أن بين كلاميه تناقض وتناف ، وفي شرح القونوي : قال بعض أهل السّنّة : جملة بني آدم أفضل من جملة الملائكة فإن عندنا صاحب الكبيرة كامل الإيمان ، ثم هو مبتلي بالإيمان بالغيب ، فكان أحقّ من الملائكة. انتهى. ولا يخفى فساده لأن صاحب الكبيرة الذي هو فاسق بالإجماع كيف يكون أفضل من المعصوم بلا نزاع ، ولعلّ وجهه أنه من جهة إيمانه الغيبي أفضل من الإيمان الشهودي الحاصل للملائكة ، فتكون الأفضلية من هذه الحيثية مع ما فيه من المنافاة بأن الإيمان يزيد بالإتقان والاطمئنان ، وإن الخبر ليس كالعيان والله المستعان.

وأما ما أجابه القونوي عما تشبث به المعتزلة في تفضيل الملائكة وهو قوله سبحانه وتعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢). فإن هذا يقتضي أن تكون الملائكة أفضل من المسيح ، أي : لن يرتفع عيسى عليه‌السلام عن العبودية ، ولا من هو أرفع درجة منه بقوله : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من المسيح عليه‌السلام ، ولا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح عليه‌السلام كونهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففيه أنه ينتقض بما تقدّم من أن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة ، فالجواب : الصواب أن الملائكة صيغة جمع ، فيفيد أن جميع الملائكة أفضل من المسيح ، ولا يقتضي أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح عليه‌السلام ، وإنما فيه الكلام ، والله تعالى أعلم بحقيقة المرام.

__________________

(١) هي الروضة في فروع الحنفية للناطفي المتوفى سنة ٤٤٦ ه‍ ، وهي صغيرة الحجم كثيرة الفوائد ، وفيها فروع غريبة.

(٢) النساء : ١٧٢.

٢٠٥

____________________________________

ومنها : تفضيل سائر الصحابة بعد الأربعة رضي الله عنهم ، فقال أبو منصور البغدادي (١) من أكابر أئمة الشافعية : أجمع أهل السّنّة والجماعة على أن أفضل الصحابة أبو بكر فعمر فعثمان فعليّ ، فبقية العشرة المبشرة بالجنة ، فأهل بدر فباقي أهل أحد فباقي أهل بيعة الرضوان بالحديبية ، فباقي الصحابة رضي الله عنهم. انتهى.

ولعله أراد بالإجماع إجماع أكثر أهل السّنّة والجماعة لأن الاختلاف واقع بين علي وعثمان رضي الله عنهم عند بعض أهل السّنّة ، وإن كان الجمهور على الترتيب المذكور هذا ، وقد روى أصحاب السّنن وصحّحه الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : عشرة في الجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعد بن وقّاص وسعيد بن زيد رضي الله عنهم (٢) ، وقد ورد أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة (٣) والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة (٤) ، وأما عدّة أهل بدر فثلاثمائة وبضعة عشر ، وقد روى ابن ماجة عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : جاء جبريل ، أو ملك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما تعدّون من شهد بدرا فيكم؟ قال : خيارنا. قال : كذلك هم عندنا خيار الملائكة (٥) ، وروى أبو داود والترمذي وصحّحه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشجرة (٦).

وبالجملة فالسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار أفضل من غيرهم لقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى). (٧)

__________________

(١) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي الشافعي المكنّى بأبي منصور توفي بأسفرايين سنة ٤٢٩ ه‍ من تصانيفه إبطال القول بالتولّد ونفي خلق القرآن ، والفرق بين الفرق وغيرها.

(٢) أخرجه أبو داود ٤٦٤٩ ، والترمذي ٣٧٥٧. وحسّنه ابن ماجة ١٣٣ ، والطيالسي ٢٣٦ ، وأحمد ١ / ١٨٨ ، والنسائي في الفضائل ٩٠ و ١٠٠ و ١٠٦ ، وابن حبان ٦٩٩٣ ، وابن أبي عاصم ١٤٢٨ ، و ١٤٢٩ كلهم بإسناد صحيح عن سعيد بن زيد وليس عن أبي سعيد كما توهم الشارح.

(٣) تقدم تخريجه فيما سبق.

(٤) تقدم تخريجه فيما سبق ص ١٦٤ ت : ٦.

(٥) أخرجه ابن ماجة ١٦٠ من حديث رافع بن خديج.

(٦) أخرجه أبو داود ٤٦٥٣ ، والترمذي ٣٨٦٠ ، وأحمد ٣ / ٣٥٠ ، وابن حبان ٤٨٠٢ كلهم من حديث جابر بن عبد الله بإسناد صحيح.

(٧) الحديد : ١٠.

٢٠٦

____________________________________

ومنها تفضيل التابعين رضي الله عنهم ، فقد قال شيخ الإسلام محمد بن خفيف الشيرازي. واختلف الناس في أفضل التابعين ، فأهل المدينة يقولون سعيد بن المسيب رضي الله عنه ، وأهل البصرة يقولون : الحسن البصري رضي الله عنه ، وأهل الكوفة يقولون : أويس القرني رضي الله عنه ، وقال بعض المتأخرين : الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما روي من مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن خير التابعين رجل يقال له : أويس» (١) الحديث.

والحاصل أن التابعين أفضل الأمة بعد الصحابة لقوله عليه الصلاة والسلام : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم» (٢).

فنعتقد أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم أبو حنيفة رضي الله عنه أفضل الأئمة المجتهدين ، وأكمل الفقهاء في علوم الدين ، ثم الإمام مالك رضي الله عنه فإنه من أتباع التابعين ، ثم الإمام الشافعي رضي الله عنه لكونه تلميذ الإمام مالك رضي الله عنه ، بل تلميذ الإمام مالك رضي الله عنه ، بل تلميذ الإمام محمد رضي الله عنه ، ثم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإنه كالتلميذ للشافعي رحمه‌الله.

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢٥٤٢ ح ٢٢٤ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١٥٣ ، وأحمد ١ / ٣٨ ، وابن سعد ٦ / ١٦١ ـ ١٦٢ ، والبزار ٣٤٢ ، وأبو نعيم في الحلية ٢ / ٧٩ ـ ٨٠ كلهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(٢) أخرجه من حديث عمران بن حصين : البخاري ٢٦٥١ ، ومسلم ٢٥٣٥ ، والترمذي ٢٢٢١ ، وأبو داود ٤٦٥٧ ، وأحمد ٤ / ٤٢٦ و ٤٢٧ ، والنسائي ٧ / ١٧ ـ ١٨ ، وابن حبان ٢٢٨٥ ، والحاكم ٣ / ٤٧١ ، والطيالسي ٨٥٢ ، والطحاوي في المشكل ٣ / ١٧٦ و ١٧٧ ، والطبراني في الكبير ١٨ / ٥٢٦ ، وأبو نعيم في الحلية ٢ / ٧٨.

وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود : البخاري ٢٦٥٢ ، ومسلم ٢٥٣٣ ح ٢١٢ ، والترمذي ٣٨٥٩ ، وابن ماجة ٢٣٦٢ ، وأحمد ١ / ٣٧٨ ، والطيالسي ٢٩٩ ، والطحاوي في المشكل ٣ / ١٧٦ ، وابن أبي عاصم ١٤٦٦ ، والطبراني في الكبير ١٠٣٣٧ ، والخطيب في تاريخه ١٤ / ٥٣. وأخرجه من حديث أبي هريرة : مسلم ٢٥٣٤ ح ٢١٣ ، وأحمد ٢ / ٢٢٨ ، والطيالسي ٢٥٥٠. وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب : الترمذي ٢٣٠٤ ، وابن ماجة ٢٣٦٣ ، والبزار ٢٧٦٤ ، والطحاوي في المشكل ٣ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٢٨. وأخرجه من حديث النعمان بن بشير : أحمد ٤ / ٢٧٦ ، والبزار ٢٦٢٧ ، والطحاوي ٣ / ١٧٧ ، وأبو نعيم ٢ / ٧٨ و ٤ / ١٢٥ ، وابن أبي عاصم ١٤٧٧. وأخرجه من حديث بريدة الأسلمي : أحمد ٥ / ٣٥٠ ، وابن أبي عاصم ١٤٧٣ ، وأبو نعيم ٢ / ٧٨.

٢٠٧

____________________________________

ومنها : تفضيل النساء ، فروى الترمذي وصحّحه ، وحسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآسية امرأة فرعون (١) ، رضي الله تعالى عنهنّ ، وفي الصحيحين من حديث علي ، رضي الله عنه ، خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد (٢).

وروى الترمذي ، موصولا من حديث عليّ رضي الله عنه بلفظ : خير نسائها مريم ، وخير نسائها فاطمة (٣) ، رضي الله عنها.

وروى الحارث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل : «مريم خير نساء عالمها ، وفاطمة خير نساء عالمها» (٤).

وفي الصحيح ، فاطمة سيدة نساء هذه الأمة.

وفي رواية النسائي : «سيدة نساء أهل الجنة» (٥).

لكن أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة سيّدة نساء العالمين بعد مريم بنت عمران» (٦). ويؤيده أنه قال بعضهم بنبوّتها ، لكن حكى الإمام والبيضاوي وغيرهما الإجماع على عدم نبوّتها ، وكذا حديث ابن عساكر عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون» (٧). فهذا في

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٣٧٧٨ ، وأحمد ٣ / ١٣٥ ، والطحاوي في المشكل ، وابن حبان ٧٠٠٣ ، والحاكم ٣ / ١٥٧ ـ ١٥٨ كلهم بإسناد صحيح عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه البخاري ٣٤٣٢ و ٣٨١٥ ، ومسلم ٢٤٣٠ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١٣٤ ، والترمذي ٣٨٧٧ ، وأحمد ١ / ٨٤ ، والحاكم ٣ / ١٨٤ ، وعبد الرزاق ١٤٠٠٦ ، والبزار ٤٦٧ و ٤٦٨ ، وأبو يعلى ٥٢٢ ، والبغوي في شرح السّنّة ٢٩٥٤ ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ٣٤٨ كلهم من حديث علي بن أبي طالب.

(٣) أخرجه الترمذي ٣٨٧٧ من حديث علي وهو الحديث السابق ولفظه : «خير نسائها خديجة بنت خويلد وخير نسائها مريم ابنة عمران» ولا يوجد في لفظة فاطمة كما توهم المصنف.

(٤) أخرجه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية ٣٩٨٢ عن عروة مرسلا وقال الحافظ هذا مرسل صحيح الإسناد.

(٥) تقدم تخريجه فيما سبق.

(٦) لم أقف على إسناده والغريب فيه لفظ ثم وهو مشهور بالعطف وانظر ما قبله من أحاديث.

(٧) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٩٣ ، والفضائل ٢٥٠ و ٢٥٢ و ٢٥٩ ، والطحاوي في مشكل الآثار ـ

٢٠٨

____________________________________

الترتيب صريح لو وجد له سند صحيح.

وعن ابن العماد أن خديجة إنما فضلت على فاطمة باعتبار الأمومة لا السيادة العمومية ، وقد سئل ابن داود : أيّ أفضل هي أم أمها؟ قال : فاطمة بضعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا نعدل بها أحدا ، يعني من هذه الحيثية لا بالكليّة.

وسئل السبكي (١) فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل ، ثم أمها خديجة ، ثم عائشة ، وقد صحّح ابن العماد أيضا أن خديجة أفضل من عائشة لما ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة حين قالت قد رزقك الله خيرا منها ، فقال عليه الصلاة والسلام لها : «لا والله ما رزقني الله خيرا منها ، آمنت بي حين كذّبني الناس ، وأعطتني مالها حين حرمني الناس» (٢). ويؤيده أن عائشة أقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلام من جبريل عليه‌السلام (٣) ، وخديجة أقرأها السلام جبرائيل من ربها (٤) ، إلّا أن حديث كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء ولا مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفضل عائشة على النساء ،

__________________

 ـ ١٤٨ ، وأبو يعلى ٢٧٢٢ ، وابن حبان ٧٠١٠ ، والحاكم ٢ / ٥٩٤ و ٣ / ١٦٠ و ١٥٨ ، وصححه ووافقه الذهبي ، والطبراني ١١٩٢٨ و ٢٢ / ١٠١٩ و ٢٣ / ١ بإسناد صحيح عن ابن عباس.

(١) هو علي بن عبد الكافي بن سليم السبكي تقي الدين الحافظ الفقيه الشافعي المتوفى بالقاهرة ٧٥٦ ه‍. من تصانيفه الابتهاج في شرح المنهاج للنووي في الفقه وغيره.

(٢) أخرجه أحمد ٦ / ١١٨ ، والطبراني ٢٣ / ٢٢ كلاهما بهذا اللفظ عن عائشة ، وقال الهيثمي في المجمع ٩ / ٢٢٤ : رواه أحمد وإسناده حسن.

وأخرجه البخاري تعليقا ٣٨٢١ ، ومسلم ٢٤٣٧ ، وأحمد ٦ / ١٥٠ ، والطبراني ٢٣ / ١٤ عن عائشة : ولفظه : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر ذكر خديجة قلت : لقد أخلفك الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين فتمعّر وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمعّرا ما كنت أراه منه إلا عند نزول الوحي وإذا رأى المخيلة حتى يعلم أرحمة أو عذاب». وقول عائشة : المخيلة : السحابة.

(٣) أخرجه البخاري ٣٢١٧ و ٦٢٤٩ ، ومسلم ٢٤٤٧ ، والترمذي ٣٨٨١ ، والنسائي ٧ / ٧٠ ، وأحمد ٦ / ٨٨ كلهم من حديث عائشة ونصه : «يا عائش هذا جبريل عليه‌السلام وهو يقرأ عليك السلام فقالت : وعليه‌السلام ورحمه‌الله. قالت : وهو يرى ما لا نرى».

(٤) أخرجه البخاري ٣٨٢٠ و ٧٤٩٧ ، ومسلم ٢٤٣٢ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١٣٣ ، وأحمد ٢ / ٢٣١ ، والنسائي في الفضائل ٢٥٣ ، والطبراني ٢٣ / ١٠ ، وأبو يعلى ٦٠٨٩ ، وابن حبان ٧٠٠٩ ، والحاكم ٣ / ١٨٥ ، والبغوي ٣٩٥٣ كلهم من حديث أبي هريرة قال : أتى جبريل صلى الله عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ، هذه خديجة أتتك بإناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربّها السلام ، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا سخب فيه ولا نصب».

٢٠٩

____________________________________

كفضل الثريد على سائر الطعام (١) ، على ما ذكره السيوطي في النقاية ، ولفظه : في الجامع الصغير على ما رواه أحمد ، والشيخان ، والترمذي ، وابن ماجة ، عن أبي موسى ، رضي الله تعالى عنهم ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، الحديث ظاهر في أن عائشة أفضل أفراد النساء على ما اختاره إمام الفقهاء ، وأما حمله على العهد بأن المراد بهنّ الأزواج الطاهرات ، ففي مقام البعد ، ثم تقييدهنّ بما عدا خديجة في غاية من التكلّف والتعسّف ، ولعلّ في وجه التشبيه إشعار بوجه الأفضلية المشعرة بالجامعية بين أوصاف الأكملية من الفضائل العلمية والشمائل العلمية ، وقال السيوطي : وفي التفضيل بين خديجة وعائشة ، رضي الله تعالى عنهما ، أقوال : ثالثها الوقف هذا ، وقد ورد كما رواه الطبراني عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول الله وبم ذلك؟ قال : «لصلاتهنّ وصيامهنّ وعبادتهنّ لله تعالى» (٢).

ومنها القول بتفضيل أولاد الصحابة ، رضي الله عنهم ، فقال بعضهم : لا نفضل بين الصحابة ، رضي الله عنهم ، أحدا إلا بالعلم والتقوى والأصح أن فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فإنهم يفضلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم لقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم العترة الطاهرة والذريّة الطيبة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، كذا في الكفاية.

ومنها : أن الولي لا يبلغ درجة النبي لأن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون مأمونون عن خوف الخاتمة مكرمون بالوحي حتى في المنام وبمشاهدة الملائكة الكرام مأمورون بتبليغ الأحكام وإرشاد الأنام بعد الإنصاف بكمالات الأولياء العظام ، فما نقل عن بعض الكرامية من جواز كون الولي أفضل من النبي كفر وضلالة وإلحاد وجهالة ، نعم قد يقع تردّد في أن مرتبة النبوّة أفضل أم مرتبة الولاية بعد القطع بأن النبي متّصف بالمرتبتين ، وأنه أفضل من الولي الذي ليس بنبي ، فمنهم من قال بالأول بناء على أن النبوّة تكميل

__________________

(١) أخرجه البخاري ٣٤١١ و ٣٤٣٣ و ٣٧٦٩ و ٥٤١٨ ، ومسلم ٢٤٣١ ، والنسائي ٧ / ٦٨ ، وابن ماجة ٣٢٨٠ ، وابن أبي شيبة ١٢ / ١٢٨ ، وأحمد ٤ / ٣٩٤ ، وابن حبان ٧١١٤ ، والطبراني ٢٣ / ١٠٦ ، والطيالسي ٥٠٤ ، والبغوي ٣٩٦٢ كلهم من حديث أبي موسى الأشعري.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط كما في المجمع ١٠ / ٤١٧ ـ ٤١٨. قال الهيثمي : في إسنادهما سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف ا. ه.

٢١٠

____________________________________

للغير ، وهو بعد الكمال وفوقه في الجمال ، ويؤيده حديث «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (١).

ومنهم من قال بالثاني زعما بأن الولاية عبارة عن العرفان بالله تعالى وصفاته وقرب منه وكرامة عنده ، والنبوّة عبارة عن سفارة بينه وبين عبده ، وتبليغ أحكامه إليه والقيام بخدمة متعلقة بمصلحة العبد ، وقاسوا الغائب على الشاهد والخلق على المخلوق فإنهم شبّهوا الولي بمجالس الملك والنبي بالوزير في قيام أمر الملك ، ولم يعرفوا أن مقام جمع الجمع حاصل للأنبياء ، ولكلّ أتباعهم من الأصفياء وهو أن لا تحجبهم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة ، وهو فوق مرتبة التوحيد الصرف ، الذي هو مقام عموم الأولياء ، فقول بعض الصوفية : إن الولاية أفضل من النبوّة (٢) معناه أن ولاية النبي أفضل من نبوّته إذ عرفت أن النبوّة والرسالة أكمل في علو درجته ، وهذا الا ينافي إجماع العلماء على أن الأنبياء أفضل من الأولياء.

وأما قول بعض الصوفية أن بداية الولاية نهاية النبوّة (٣) فمعناه أن الولاية ما تتحقّق إلا بعد قيام صاحبها بجميع ما تقرر من عند صاحب النبوّة ، فإن الولي من واظب على الطاعات ولم يرتكب شيئا من المحرّمات ، فما دام عليه امتثال أمر واجتناب زجر فلا يطلق عليه اسم الولي العرفي ، وإن كان يقال لكل مؤمن : إنه الولي اللغوي ، وأما ما حكي عن ابن العربي من خلاف ذلك فحسن الظن به أنه من المفتريات عليه المنسوبات إليه (٤).

__________________

(١) أخرجه الديلمي في الفردوس ٤٣٤٦ من حديث أبي سعيد الخدري وأورده ابن الجوزي في الواهيات وقال : لا يصح فيه سلام الطويل قال الدارقطني وغيره متروك.

(٢) لا داعي لهذا التأويل وهذا الاعتذار الذي يحاول المصنف تأويله لتبرئة هؤلاء الصوفية فمهما حاول فلن يفلح فقد قال الصوفية :

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

انظر الفتوحات المكيّة لابن عربي ٢ / ٢٥٢ ، ولطائف الأسرار له ص ٤٩ ، وانظر ردّ شارح الطحاوية على هذه المسألة ٢ / ٧٤٢ ـ ٧٤٣ ، وما بعدها.

(٣) النبي أفضل من الولي قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته : ٢ / ٧٤١ : «لا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم‌السلام ، ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء».

(٤) انظر كلامه في فصوص الحكم ١ / ٦٣ ، والفتوحات المكية ٢ / ٢٥٢ ، ولطائف الأسرار ص ٤٩ ، وغيرها من كتبه فتتّضح لك عقيدته.

٢١١

____________________________________

ومنها : أن العبد ما دام عاقلا بالغا لا يصل إلى مقام يسقط عنه الأمر والنهي لقوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١). فقد أجمع المفسّرون على أن المراد به الموت ، وذهب بعض أهل الإباحة إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة وصفا قلبه من الغفلة واختار الإيمان على الكفر والنكران سقط عنه الأمر والنهي ، ولا يدخله الله النار بارتكاب الكبائر ، وذهب بعضهم إلى أنه تسقط عنه العبادات الظاهرة وتكون عباداته التفكّر وتحسين الأخلاق الباطنة ، وهذا كفر وزندقة وضلالة وجهالة ، فقد قال حجة الإسلام : إن قتل هذا أولى من مائة كافر ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا أحبّ الله عبدا لم يضرّه ذنب» (٢). فمعناه أنه عصمه من الذنوب ، فلم يلحقه ضرر العيوب ، أو وافقه للتوبة بعد الحوبة ومفهوم هذا الحديث أن من أبغضه الله فلا تنفعه طاعة حيث لا يصدر عنه عبادة صالحة ونيّة صادقة. ولذا قيل :

من لم يكن للوصال أهلا

فكلّ طاعاته ذنوب

وأما ما نقل عن بعض الصوفية من أن العبد السالك إذا بلغ مقام المعرفة سقط عنه تكليف العبادة فوجهه بعض المحقّقين منهم بأن التكليف مأخوذ من الكلفة بمعنى المشقّة والعارف تصدر عنه العبادة بلا كلفة ومشقّة ، بل يتلذّذ بالعبادة وينشرح قلبه بالطاعة ، ويزداد شوقه ونشاطه بالزيادة علما بأنها سبب السعادة ، ولذا قال بعض المشايخ : الدنيا أفضل من الآخرة لأنها دار الخدمة ، والآخرة دار النعمة ومقام الخدمة أولى من مرتبة النعمة (٣).

وقد حكي عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه أنه قال : لو خيّرت بين المسجد والجنة لاخترت المسجد لأنه حق الله سبحانه ، والجنة حظّ النفس ، ومن ثم اختار بعض الأولياء طول البقاء في الدنيا على الموت مع وجود اللقاء في العقبى ، والحاصل أن الترقّي فوق التوقف فإنه كالتدلّي (٤).

__________________

(١) الحجر : ٩٩.

(٢) أخرجه الديلمي في الفردوس ٢٤٣٢ من حديث أنس ولفظه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا أحبّ الله عبدا لم يضرّه ذنب».

(٣) هذا الكلام مخالف للقرآن الكريم فقد قال الله سبحانه مخاطبا نبيّه : «وللآخرة خير لك من الأولى».

(٤) لم يصح عن علي كرّم الله وجهه هذا القول وكيف يقول ذلك وهو الذي كان طيلة عمره يتمنى الشهادة في سبيل الله من أجل الوصول إلى الجنة.

٢١٢

____________________________________

ومنها : أن النصوص من الكتاب والسّنّة تحمل على ظواهرها ما لم تكن من قبيل المتشابهات فإن فيه خلافا مشهورا بين السّلف والخلف في منع التأويل وجوازه ، وأما العدول عن ظواهرها إلى معان يدّعيها الملاحدة والباطنية فزندقة بخلاف ما ذهب إليه بعض الصوفية رحمهم‌الله تعالى من أن النصوص على ظواهر العبارات إلا أن فيها بعض الإشارات فهو من كمال الإيمان ، وجمال العرفان كما نقل عن الإمام حجة الإسلام أن في قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب» (١). إشارة إلى أن رحمة الله لا تدخل قلبا ارتسخ فيه صفات سبعية (٢).

ومنها : هل يجوز رؤية الله تعالى في الدنيا بعين البصر للأولياء؟ فقد جاءني سؤال واقعة حال فيمن ادّعى ذلك من بعض الأغبياء فكتبت الجواب بحسب ما ظهر لي وجه الصواب وهو إجماع الأئمة من أهل السّنّة والجماعة على أن رؤيته تعالى بعين البصر جائزة في الدنيا والآخرة عقلا وواقعة وثابتة في العقبى سمعا ونقلا. واختلفوا في جوازها في الدنيا شرعا فأثبتها أكثرون ونفاها آخرون ، ثم الذين أثبتوها في الدنيا خصّوا وقوعها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة الإسراء على خلاف في ذلك بين السّلف والخلف من العلماء والأولياء (٣) ، والصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما رأى ربه بفؤاده لا بعينه (٤) كما في شرح العقائد وغيره ، فالقائل بأني أرى الله في الدنيا بعين بصرية إن أراد به رؤيته في المنام ففي جوازه خلاف مشهور بين علماء الأنام مع أن الرؤية المنامية لا تكون بالحاسّة البصرية ، بل بالتصوّرات المثالية أو التمثّلات الخيالية ، وإن أراد بها حال اليقظة فإن قصد به حذف

__________________

(١) أخرجه البخاري ٣٢٢٥ و ٣٣٢٢ ، ومسلم ٢١٠٦ ح ٨٣ و ٨٤ ، والترمذي ٢٨٠٤ ، والنسائي ٧ / ١٨٥ ـ ١٨٦ و ٨ / ٢١٢ ، وابن ماجة ٣٦٤٩ ، والبيهقي ١ / ٢٥١ و ٧ / ٢٦٨ ، والطحاوي في معاني الآثار ٤ / ٢٨٢ ، وابن حبان ٥٨٥٥ ، والبغوي ٢ / ٣٢ ، وأبو يعلى ١٤٣٠ كلهم من حديث أبي طلحة الأنصاري.

(٢) انظر إحياء علوم الدين : ١ / ٤٩. والحديث واضح ولا حاجة لهذا التأويل الذي لا يحتمله النص فلم يؤثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا الأئمة المجتهدين مثل هذا التأويل فليسعنا ما وسع هؤلاء الأخيار في فهمهم للنصوص على ظاهرها.

(٣) الصحيح الذي عليه العلماء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير ربه ليلة الإسراء فقد أخرج الإمام مسلم ١٧٨ و ٢٩١ و ٢٩٢ عن أبي ذر أنه سأله هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أنى أراه» أي حال بيني وبين رؤيته النور كما قال في لفظ آخر : «رأيت نورا». انظر زاد المعاد لابن القيّم ٣ / ٣٦ و ٣٧.

(٤) من القائلين بذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما أخرج عنه مسلم ١٧٦ و ٢٨٤ و ١٨٥ ، والترمذي ٣٢٧٥ و ٣٢٧٦ و ٣٢٧٧. انظر زاد المعاد ٣ / ٣٦.

٢١٣

____________________________________

المضاف وأراد أنه يرى أنوار صفاته ويشاهد آثار مصنوعاته ، فهذا جائز بلا مرية كما ورد عن بعض الصوفية ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ، أو بعده أو فيه ، أو معه (١) ، وأما من ادّعى هذا المعنى لنفسه من غير تأويل في المبنى فهو في اعتقاد فاسد ، وزعم كاسد ، وفي حضيض ضلالة وتضليل ، وفي مطعن وبيل بعيد عن سواء السبيل.

فقد قال صاحب التعرّف (٢) وهو كتاب لم يصنّف مثله في التصوّف أطبق المشايخ كلهم عن تضليل من قال ذلك ، وتكذيب من ادّعاه هنالك وصنّفوا في ذلك كتبا ورسائل منهم أبو سعيد الخزاز (٣) والجنيد (٤) ، وصرّحوا بأن من قال ذلك المقال لم يعرف الله الملك المتعال ، وأقرّه الشيخ علاء الدين القونوي في شرحه ، وقال : إن صحّ عن أحد دعوى نحوه فيمكن تأويله بأن غلبة الأحوال تجعل الغائب كالشاهد حتى إذا كثر اشتغال السرّ بشيء واستحضاره له يصير كأنه حضر بين يديه (٥). انتهى.

ويؤيده حديث الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه» (٦). وكذا حديث عبد الله بن عمر حال الطواف : كنّا نتراءى الله (٧) ، وقال صاحب عوارف المعارف (٨) في كتابه أعلام الهدى وعقيدة أرباب التّقى : أن رؤية العيان متعذّرة في هذه الدار لأنها دار الفناء ، والآخرة هي دار البقاء فلقوم من العلماء نصيب من علم اليقين في الدنيا وللآخرة أعلى منهم مرتبة نصيب من عين اليقين ، كما قال قائلهم رأى قلبي ربي. انتهى.

__________________

(١) هذا قول الصوفية القائلين بالاتحاد ووحدة الوجود فهم لا يفرّقون بين العبد والرب فكلاهما شيء واحد عندهم. انظر فصوص الحكم وغيرها من كتبهم.

(٢) هو كتاب التعرّف لمذهب أهل التصوّف لأبي بكر محمد الكلاباذي المتوفى سنة ٣٨٠ ه‍. وهو كتاب مختصر مشهور عند الصوفية الذين قالوا عنه لو لا التعرّف لما عرف التصوّف.

(٣) صوفي من متصوّفة بغداد ، توفي سنة ٢٧٧ ه‍.

(٤) هو إمام الطائفة الصوفية ، توفي في بغداد سنة ٢٩٧ ه‍.

(٥) يحاول المتصوفة تأويل كلام الكفر الذي ينطق به بعضهم إخفاء لحقيقة قولهم بوحدة الوجود وما شابه ذلك من كفريات وشطحات.

(٦) هو بعض حديث أخرجه مسلم ٨ ، وابن أبي شيبة ١١ / ٤٤ ـ ٤٥ ، وأبو داود ٤٦٩٥ ، والترمذي ٢٦١٠ ، والنسائي ٨ / ٩٧ ، وابن ماجة ٦٣ ، وأحمد ١ / ٥٢ و ٥٣ ، وابن حبان ١٦٨ ، والبغوي في شرح السّنّة ٢ و ٣ و ٤ ، وابن مندة في الإيمان ١ و ٢ و ٣ كلهم من حديث عمر بن الخطاب.

(٧) لم أقف عليه بعد بحث وهو موضوع على ابن عمر.

(٨) هو عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي الصوفي البغدادي المتوفى سنة ٦٣٢ ه‍.

٢١٤

____________________________________

والحاصل أن الأمة قد اتفقت على أنه تعالى لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال عروجه على ما صرّح به في شرح عقيدة الطحاوي (١) ، ثم هذا القائل إن قبل التأويل السابق فيها فبها وإلّا فإن كان مصمّما على مقوله ولم يرجع بالمنقول عن معقوله فيجب تعزيره وتشهيره بما يراه الحاكم الشرعي كما يقتضيه تقريره ، فإنه لا يخلو من أن يدّعي ادّعاء مطلقا في بيانه أو منزّها عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه ، فيكون ممّن افترى على الله كذبا وهو من أكبر الكبائر ، بل عدّ بعض العلماء الكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفرا ، فمن أظلم ممّن كذب على الله أو ادّعى ادّعاء معينا مشتملا على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة ، فيصير كافرا لا محالة ، وهذا مجمل مقال بعض أرباب العقائد المنظومة :

ومن قال في الدنيا يراه بعينه

فذلك زنديق طغا وتمرّدا

وخالف كتب الله والرّسل كلها

وزاغ عن الشرع الشريف وأبعدا

وذلك مما قال فيه إلهنا

يرى وجهه يوم القيامة أسودا

إشارة إلى قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٢). وقد نقل جماعة الإجماع على أن رؤية الله تعالى لا تحصل للأولياء في الدنيا ، وقد قال ابن صلاح وأبو شامة (٣) : إنه لا يصدق مدّعي الرؤية في الدنيا حال اليقظة فإنها شيء منع منه كليم الله موسى عليه‌السلام ، واختلف في حصول هذا المرام لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك المقام ، فكيف يسمع لمن لم يصل إلى مقامهما ، وقال الكواشي (٤) في تفسير سورة النجم ومعتقد رؤية الله تعالى هنا بالعين لغير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مسلم وقال الأردبيلي (٥) في كتابه الأنوار : ولو قال إني أرى الله تعالى عيانا في

__________________

(١) ١ / ٢٧٥.

(٢) الزّمر : ٦٠.

(٣) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان العلّامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي المشهور بأبي شامة. توفي سنة ٦٦٥ ه‍. من مصنفاته الباعث على إنكار البدع والحوادث وغيرها.

(٤) هو أحمد يوسف الكواشي أبو العباس موفّق الدين الضرير الموصلي الشافعي المتوفى سنة ٦٨٠ ه‍. له من المصنفات تبصرة المتذكّر وتذكرة المتبصّر في تفسير القرآن وغيرها.

(٥) هو جمال الدين محمد بن شمس الدين عبد الغني الأردبيلي المتوفى سنة ٨٨٦ ه‍. له شرح ـ

٢١٥

____________________________________

الدنيا ، أو يكلّمني شفاها كفر. انتهى.

لكن الإقدام على التكفير بمجرد دعوى الرؤية من الصعب الخطير فإن الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم في الفرض ، والتقدير : فالصواب ما قدّمناه من الجواب أنه إن انضم مع الدعوى ما يخرج به عن عقيدة أهل التّقى فيحكم عليه بأنه من أهل الضلالة والرّدى والسلام على من اتّبع الهدى.

ومنها : رؤية الله سبحانه وتعالى في المنام فالأكثرون على جوازها من غير كيفية وجهة وهيئة في هذا المرام ، فقد نقل أن الإمام أبا حنيفة قال : رأيت ربّ العزّة في المنام تسعا وتسعين مرة ، ثم رآه مرة أخرى تمام المائة ، وقصتها طويلة لا يسعها هذا المقام.

ونقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قال : رأيت ربّ العزّة في المنام ، فقلت : يا رب! بم يتقرّب المتقربون إليك؟ قال : بكلامي يا أحمد. قلت : يا رب! بفهم أو بغير فهم؟ قال : بفهم وبغير فهم (١) ، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «رأيت ربي في المنام» (٢). وقد روي عن كثير من السلف في هذا المقام وهو نوع مشاهدة يكون بالقلب للكرام فلا وجه للمنع عن هذا المرام مع أنه ليس باختيار أحد من الأنام ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة» (٣). وفي رواية في صورة شاب (٤) ، فقال الإمام الرازي في تأسيس التقديس ، يجوز أن يرى النبي ربه في المنام في صورة مخصوصة من الأنام ، لأن الرؤيا من تصرفات الخيال ، وهو غير منفك عن الصور المتخيلة في عالم المثال. انتهى.

وقد قال بعض مشايخنا : إن الله تعالى سبحانه تجليات صورية في العقبى ، وبه

__________________

 ـ الأنموذج للزمخشري في النحو.

(١) لم يصح عن الإمام أحمد ذلك وإذا فرضنا جدلا أن ذلك صحيح فإنه مخالف لقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤]. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية ٤ / ١٦٢ : «يقول تعالى أمرا بتدبّر القرآن وتفهّمه ناهيا عن الإعراض عنه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) أي بل على قلوب أقفالها ، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه ...». ا. ه.

(٢) قطعة من حديث صحيح طويل أخرجه أحمد ١ / ٣٦٨ ، والترمذي ٣٢٣١ و ٣٢٣٢ ، من حديث ابن عباس ، وأحمد ٥ / ٢٤٣ ، والترمذي ٣٢٣٣ من حديث معاذ بن جبل.

(٣) أخرجه أحمد ٤ / ٦٦ و ٥ / ٣٧٨ من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) لم تصحّ هذه الرواية ولم يذكرها أئمة الحديث في كتبهم.

٢١٦

____________________________________

تزول كثير من الإشكالات على ما لا يخفى ، وأما ما ذكره قاضي خان (١) من منع هذا المنام وشدّد في هذا المقام وقوّاه بنقله عن بعض العلماء الفخام فقد بيّنت جوابه وعيّنت صوابه في المرقاة شرح المشكاة.

ومنها : أن المقتول ميت بأجله ووقته المقدّر لموته فقد قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢). وزعم بعض المعتزلة (٣) أن الله قد قطع عليه أجله ، كذا عبارة شرح العقائد والصواب ما في شرح المقاصد من أن القاتل قطع عليه الأجل ، لأن قتل المقتول عندهم فعل القاتل ، واستدلّوا بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات يزيد في العمر ، وبأنه لو كان ميتا بأجله لما استحق القاتل ذمّا ولا عقابا ولا دية ولا قصاصا ، وأجيب عن الأول بأن الله تعالى كان يعلم أنه لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين سنة ، لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبت هذه الزيادة إلى تلك الطاعة والعبادة بناء على علم الله سبحانه أنه لولاها لما كانت تلك الزيادة ، كذا في شرح العقائد ، وفيه أنه يعود إلى القول بتعدّد الأجل كما زعم الكعبي (٤) من المعتزلة ، والمذهب أنه واحد فالأوجه أن يقال : المراد بالزيادة والنقصان بحسب الخير والبركة ، أو بالنسبة إلى ما في اللوح المحفوظ مطلق وهو في علم الله مقيد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٥). (ولا يتوهم) من قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٦). أنه قدّر أجلان لأن الأجل الحقيقي واحد مآلا ، وأجيب عن الثاني أن وجوب العقاب والضمان على القاتل تعبّدي لارتكابه المنهي عنه وكسبه الفعل الذي يخلق الله عقيبه الموت بطريق جري العادة ، فإن القتل فعل القاتل كسبا ، وإن لم يكن له خلفا ، والموت قائم بالميت ومخلوق الله تعالى لا صنع فيه للعبد تخليقا ولا اكتسابا ، كذا وقع في شرح العقائد ذكر التعبّد ومعناه إظهار العبودية

__________________

(١) قاضي خان : هو حسين بن منصور الأوزجندي ، كان غوّاصا في المعاني الدقيقة مجتهدا له الفتاوى المشهورة ب «فتاوى قاضي خان» ، والواقعات والأمالي ، وشرح الزيادات. توفي سنة ٥٩٢ ه‍.

(٢) الأعراف : ٣٤.

(٣) تصحّفت في الأصل إلى المنزلة والصواب : المعتزلة.

(٤) هو عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الحنفي أبو القاسم الكعبي المعتزلي البغدادي المتوفى سنة ٣١٧ ه‍. من مصنفاته ، أدب الجدل وأوائل الأدلة في أصول الدين وغيرها.

(٥) الرعد : ٣٩.

(٦) الأنعام : ٢.

٢١٧

____________________________________

ووجوب التفويض والتسليم إلى أمر الربوبية ، وفيه أن التعبّد إنما يكون فيما هو غير معقول المعنى ، وما نحن فيه ليس من ذلك المبنى ، ولذا ترك التعبّد في شرح المقاصد.

ثم اعلم أنه سبحانه قدّر للخلق أقدارا وضرب لهم آجالا. قال الله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١). وقال الله تعالى أيضا : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢). وفي صحيح مسلم عن ابن عمرو (٣) رضي الله عنهما مرفوعا : أنه عليه الصلاة والسلام قال : قدّر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء (٤) ، وقال الله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) (٥). وقال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٦). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قالت أم حبيبة : اللهمّ متّعني بزوجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ، قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئا قبل حلّه ، ولن يؤخّر شيئا عن محله ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار ، وعذاب القبر كان خيرا وأفضل» (٧).

فالمقتول ميت بأجله وقد علم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا يموت بسبب القتل ، وهذا بالهدم ، وهذا بالهرم ، وهذا بالغرق ، وهذا بالحرق ، وهذا بالقبض ، وهذا بالإسهال ، وهذا بالسّمّ ، وهذا بالغمّ والله سبحانه خلق الموت والحياة وخلق أسبابهما ، ولهذا كان أحمد بن حنبل رحمه‌الله يكره أن يدعى له بطول العمر ، ويقول : هذا أمر قد فرغ منه ، وقد علم من حديث أم حبيبة رضي الله عنها

__________________

(١) الفرقان : ٢.

(٢) القمر : ٤٩.

(٣) تصحفت في الأصل إلى ابن عمر والصواب ابن عمرو كما في مسلم وبقية المصادر.

(٤) أخرجه مسلم ٢٦٥٣ من حديث عبد الله بن عمرو : بلفظ «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء». وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص ٣٧٤ بلفظ : «قدّر الله المقادير». وأخرجه أيضا بلفظ : «فرغ الله عزوجل من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض ـ وعرشه على الماء ـ بخمسين ألف سنة».

ورواه من دون قوله : «وعرشه على الماء» أحمد ٢ / ١٦٩ ، والترمذي ٢١٥٦.

(٥) المنافقون : ١١.

(٦) آل عمران : ١٤٥.

(٧) أخرجه مسلم ٢٦٦٣ ح ٣٢ و ٣٣ بلفظ «اللهم أمتعني» ، وأحمد ١ / ٣٩٠ و ٤١٣ و ٤٣٣ و ٤٤٥ و ٤٦٦ ، والسّنّة لابن أبي عاصم ٢٦٢ و ٢٦٣ ، ومصنّف ابن أبي شيبة ١٠ / ١٩٠ ـ ١٩١.

٢١٨

____________________________________

أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الأشياء وإن كان الكل تحت التقدير والقضاء.

ثم اعلم أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة ، وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام أن العالم محدث ومضى على هذا الصحاب والتابعون حتى نبغت نابغة ممّن قصر فهمه في الكتاب والسّنّ فزعم أنها قديمة ، واحتجّ بأنها روح من أمر الله تعالى ، وأمره غير مخلوق وبأن الله تعالى أضافها إليه بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١). وبقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢). كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعته وبصره ويده وتوقف آخرون واتفق أهل السّنّة والجماعة على أنها مخلوقة ، وممّن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما (٣) رحمهم‌الله ، واختلف الناس هل تموت الروح أم لا ، فقالت طائفة : تموت لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقال آخرون : لا تموت فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان ، وقد دلّ على ذلك الأحاديث الواردة في نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها.

ثم اعلم أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلّق متغايرة الأحكام ، الأول : تعلقها به في بطن الأم جنينا ، والثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض ، والثالث : تعلّقها به في حال النوم فلها به تعلّق من وجه ومفارقة من وجه. والرابع : تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجرّدت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليّا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتّة فإنه ورد ردّها إليه وقت سلام المسلم (٤) عليه ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه (٥) وهذا الرد إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة. والخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلّقها [بالبدن ولا نسبة لما قبله

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) الحجر : ٢٩.

(٣) الكلام من قوله ثم اعلم أن الروح إلى هنا منقول من شرح الطحاوية ٢ / ٥٦٣.

(٤) أخرج أبو داود ٢٠٤١ من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله روحي حتى أردّ عليه‌السلام».

وصحّحه النووي في «رياض الصالحين» و «الأذكار» وقال الحافظ فيما نقله عنه ابن علان ٣ / ٣١٦ : إنه حديث غريب أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح إلا أبا صخر فأخرج له مسلم وحده ، وقد اختلف فيه قول ابن معين ثم في ابن قسيط فقال ، توقف فيه مالك ، فقال في حديث آخر من روايته خارج الموطأ ووصله ليس بذاك وانفراده بهذا عن أبي هريرة يمنع من الجزم بصحته.

(٥) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري ١٣٣٨ و ١٣٤٦ ، ومسلم ٢٨٧٠.

٢١٩

____________________________________

من أنواع التعلّق إليه] (١). إذ [هو تعليق] (٢) لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا شيئا من الفساد (٣) وليس السؤال في البرزخ (٤) للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح ، والأحاديث الصحيحة تردّ القولين (٥).

والحاصل أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها ، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها ، وأحكام الحشر والنشر على الأرواح والأجساد جميعا.

ومنها : أن الكافر منعم عليه في الدنيا على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني منّا وجماعة من أكابر المعتزلة حيث خوّله قوى ظاهرة وباطنة ، وجعل له أموالا ممتدة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) (٦) ويدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٧). إلا أن الأشعري قال : إذا كان الأمر الذي ناله في الدنيا قد حجبه عن الله تعالى فليس بنعمة ، بل هو نقمة ويدلّ عليه قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٨). والخلاف لفظي فإنها نعمة دنيوية ونقمة أخروية ، ولذا قال ابن الهمام : الخلق أنها في نفسها نعم ، وإن كانت سبب نقم.

ومنها : أنه لا يجب على الله شيء من رعاية الأصلح للعباد وغيرها خلافا للمعتزلة ، فقد قال حجّة الإسلام : لا شك أن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة ، فأما أن يخلقهم في دار البلاء ويعرّضهم للخطايا ، ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب ، فما في ذلك عظة لأولي الألباب. انتهى. وأما ما نقل عن معتزلة بغداد من أنهم قالوا الأصلح تخليد الكفّار في النار ، كما نقل عنهم صاحب الإرشاد (٩)

__________________

(١) ما بين قوسين سقط من الأصل واستدركناه من شرح الطحاوية ٢ / ٥٧٩.

(٢) ما بين قوسين سقط من الأصل واستدركناه من شرح الطحاوية ٢ / ٥٧٩.

(٣) في الطحاوية : ولا فسادا.

(٤) في الطحاوية : في القبر.

(٥) شرح الطحاوية ٢ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩.

(٦) الأعراف : ٧٤.

(٧) أخرجه مسلم ٢٩٥٦ ، والترمذي ٢٣٢٤ ، وابن ماجة ٤١١٣ ، وأحمد ٢ / ٣٢٣ و ٤٨٥ ، والبغوي في شرح السّنّة ٤١٠٤ ، وابن حبان ٦٨٧ ، وأبو نعيم في الحلية ٦ / ٣٥٠ من حديث أبي هريرة.

(٨) المؤمنون : ٥٦.

(٩) الإرشاد لإمام الحرمين عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني النيسابوري الشافعي المعروف بإمام ـ

٢٢٠