شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

فغاية في المكابرة ونهاية في العناد.

ومنها : أن الحرام رزق لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيتناوله وينتفع به وذلك قد يكون حلالا ، وقد يكون حراما ، وهذا أولى من تفسيره بما يتغذى به الحيوان لخلوّه عن معنى الإضافة إلى الله تعالى مع أنه معتبر في مفهوم الرزق ، وذهب المعتزلة إلى أن الحرام ليس برزق لأنهم فسّروه تارة بمملوك يأكله الملك وأخرى بما لم يمنعه الشّارع من الانتفاع به ، وذل لا يكون إلّا حلالا ويردّ عليهم أنه يلزم على الأول أن لا يكون ما يأكله الدواب ، بل العبيد والإماء رزقا وعلى الوجهين الأخيرين من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى أصلا ، ويردّ الوجوه الثلاثة قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (١). إذ هو يقتضي أن يستوفي كل رزق نفسه حلالا كان أو حراما ولا يتصوّر أن لا يأكل إنسان رزقه ، أو يأكل غيره رزقه لأن ما قدّره الله تعالى غذاء لشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكله غيره ، وأما الرزق بمعنى الملك فلا يمتنع أن يأكله غيره ، ومنه قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢) والشيخ أبو الحسن الرستغني وأبو إسحاق الأسفرائيني ما حقّقنا الخلاف في هذه المسألة ، وقالا : الخلاف لفظي لا حقيقي قيل : وهو الصواب.

ومنها : أن الله تعالى يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، بمعنى أنه يخلق الضلالة والهداية لأنه الخالق وحده في الحقيقة لكن قد تضاف الهداية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجازا بطريق التسبيب كما في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣). كما تستند إلى القرآن كما في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٤). وقد يسند الإضلال إلى الشيطان مجازا ، ومنه قوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) (٥). كما يسند الإضلال إلى الأصنام في قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٦). وإلى غيرها كقوله تعالى :

__________________

 ـ الحرمين توفي سنة ٤٧٨ ه‍.

(١) الإسراء : ٩.

(٢) البقرة : ٣.

(٣) الشورى : ٥٢.

(٤) الإسراء : ٩.

(٥) الحجر : ٣٩ ، وص : ٨٢.

(٦) إبراهيم : ٣٦.

٢٢١

____________________________________

(وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (١) وفسّر المعتزلة الهداية ببيان طريق الصواب وهو باطل بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٢). الآية ، مع أنه عليه الصلاة والسلام بيّن طريق الإسلام ، ودعا إلى الهداية جميع الأنام قيل ، والمشهور عند المعتزلة أن الهداية هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، فينبغي بقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٣).

ومنها : أن ما هو أصلح للعبد فليس بواجب على الله سبحانه ، وإلّا لما خلق الكافر الفقير المعذّب في الدنيا والأخرى ، فإن العدم أصلح له من الوجود في عالم الشهود ، ولمّا كان له سبحانه منّة على العباد ، وقد قال الله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٤). ولمّا كان امتنانه على نحو موسى عليه‌السلام فوق امتنانه على نحو فرعون ، إذ فعل لكلّ منهما غاية مقدورة من الأصلح له ، ولمّا كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضرّاء والبأساء والبسط في الخصب والرخاء معنى لأن ما يفعله في حق كل أحد فهو مفسدة له يجب على الله تركها ، ولعمري أن مفاسد هذا الأصل وهو وجوب الأصلح ، بل أكثر أصول المعتزلة أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى ، وذلك لقصور نظرهم في المعارف الإلهية والعلوم المتعلقة بذاته وصفاته الثبوتية والسلبية ورسوخ قياس الغائب على الشاهد في طباعهم الدّنيّة القاصرة عن إدراك الحقائق الغيبية ، ثم ليت شعري ما معنى وجوب الشيء على الله سبحانه ، إذ ليس معناه استحقاق تاركه الذم والعقاب وهو ظاهر لأن الألوهية تنافي الوجوب في مقام الربوبية ، فإن الوجوب حكم من الأحكام ، والحكم لا يثبت إلا بالشرع ولا شارع على الشارع فتمّ المرام في أحسن النظام.

ومنها : أن خلف الوعيد كرم فيجوز من الله تعالى والمحقّقون على خلافه كيف وهو تبديل القول ، وقد قال الله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) (٥). أي بوقوع الخلف فيه يعني لا تبديل ولا خلف لقولي فلا [تطمعوا] (٦) أن أبدل وعيدي ، وقد أفردت في المسألة رسالة مستقلة سمّيتها (بالقول السديد في منع خلف الوعيد).

__________________

(١) طه : ٨٥.

(٢) القصص : ٥٦.

(٣) فصّلت : ١٦.

(٤) الحجرات : ١٧.

(٥) ق : ٢٩.

(٦) تصحّفت في الأصل إلى تطعموا وهو خطأ والصواب [تطمعوا] كما أثبتنا.

٢٢٢

____________________________________

ومنها : تجويز العقاب على الصغيرة سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا لدخولها تحت قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١). ولقوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٢). أي عدّها وحصرها والإحصاء إنما يكون للسؤال والجزاء ، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه لا بمعنى أنه يمتنع عقلا ، بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع كقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٣). وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر لأنه الكامل وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر ، وإن كانت الكاملة واحدة في الحكم أو إلى إفراده القائمة على ما تمهّد من قاعدة أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد كقولنا : ركب القوم دوابّهم ولبسوا ثيابهم كذا حقّقه العلّامة في شرح العقائد ، فيكون التقدير على التقرير الأول : أن تجتنبوا أنواع الكف وفيه أنه يلزم حينئذ أن لا يجوز العقاب على ما عدا الكفر صغيرة كانت أو كبيرة : اللهمّ إلّا أن يقال : المعنى نكفّر عنكم سيئاتكم المكتسبة قبل اجتناب الكفر ، فيكون الخطاب للكفرة ، وقيل : يقدّر فيه الاستثناء بالمشيئة أي نكفّر عنكم سيئاتكم إن شئنا ، وقال شيخنا ومولانا عبد الله السندي (٤) رحمه‌الله تعالى على ما وجدنا بخطه : إن تقدير الاستثناء يغني عن حمل الكبائر على الكفر قلت : ما قدّر الاستثناء إلا لتصحيح حمل الكبائر على الكفر دفعا للزوم المتقدّم إذ لو حمل الكبائر على عمومها لما صحّ الاستثناء للزوم انحصار الصغيرة تحت المشيئة ، وخروج الكبيرة وهو خلاف نص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٥) الآية. وأيضا يلزم كون الصغيرة تحت المشيئة بشرط اجتناب الكبائر وليس كذلك ، بل قد تكفّر الصغيرة بمكفّر ، أو بعفو من الله ، ولو كان صاحبها مرتكب الكبيرة وقال العلّامة مولانا عصام الدين في معنى الآية : أن المعلّق عليه لتكفير السيئات هو اجتناب عن الكفر ، فيدخل في التكفير الكبائر أيضا ، ولا خلاف أنها لا تكفّر بمجرد الاجتناب ، فالمغفرة والتكفير لا بدّ له من تعليق آخر وهو المشيئة عندنا مطلقا والتوبة في الكبائر عند

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) الكهف : ٤٩.

(٣) النساء : ٣١.

(٤) هو عبد الله بن سعد الدين المدني المعروف بالسندي المتوفى سنة ٩٨٤ ه‍ وله حاشية على شرح عوارف المعارف.

(٥) النساء : ٤٨.

٢٢٣

____________________________________

المعتزلة ، فالآية ليست على ظاهرها بالاتفاق فلا تكون تامّة في الدلالة على مطلوبهم ، ولا يخفى أن حمل (كبائر ما تنهون عنه) على الكفر على كلّ من الوجهين المذكورين في غاية البعد إذ البلاغة تقتضي أن تجتنبوا الكفر لو جازته وموافقته لعرف البيان ، فالحق أن مدلول الآية تكفير الصغائر بمجرد الاجتناب عن الكبائر ، وتعليق المغفرة بالمشيئة في آية أخرى مخصوص بما عدا ما اجتنب معه الكبائر. انتهى. ولا يخفى أن هذا مذهب ثالث مخالف للمذهبين المسمى بالملفّق ، فكيف يحكم بكونه الحق على الوجه المطلق ، ثم الأظهر أن الخطاب في الآية للمؤمنين ، وأن الكبائر على معناها المتعارف مما عدا كفر الكافرين كما يشير إليه قوله تعالى : (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (١) والمعنى : إن تجتنبوا كبائر المنهيّات (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٢) بالطاعات كما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣). وسائر الأحاديث الواردة في باب المكفّرات.

ومنها : أن دعاء الأحياء للأموات وصدقتهم عنه نفع لهم في علوّ الحالات خلافا للمعتزلة تمسّكا بأن القضاء لا يتبدل ، وكل نفس مرهونة بما كسبت والمرء مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأجيب بأن عدم تبدّل القضاء بالنسبة إلى الموتى لا ينافي نفع دعاء الأحياء لهم ، فإن ذلك النفع بالدعاء يجوز أن يكون بالقضاء ، وإن توفيق الأحياء للدعاء لهم يجوز أن يكون بكسبهم عملا في الدنيا يستحق به مثل ذلك الجزاء فيكون مجزيّا بعمله في الآخرة ، على أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة من الدعاء للأموات خصوصا في صلاة الجنازة ، وقد توارثه السّلف وأجمع عليه الخلف فلو لم يكن للأموات فيه نفع لكان عبثا ، بل جاء في القرآن آيات كثيرة متضمّنة للدعوات للأموات كقوله سبحانه : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٤). وقوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٥). وقوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٦). وعن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول الله! إن أم سعد ماتت ، فأيّ الصدقة أفضل؟ قال عليه الصلاة والسلام : «الماء» فحفر بئرا وقال :

__________________

(١) النساء : ٣١.

(٢) النساء : ٣١.

(٣) هود : ١١٤.

(٤) الإسراء : ٢٤.

(٥) نوح : ٢٨.

(٦) الحشر : ١٠.

٢٢٤

____________________________________

هذا لأم سعد (١). أخرجه أبو داود والنسائي رحمهما‌الله ، وأما ما ذكر في شرح العقائد من حديث : إن العالم والمتعلّم إذا مرّا على قرية فإن الله تعالى يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين يوما ، فقد صرّح الجلال السيوطي أنه لا أصل له.

قال القونوي : رحمه‌الله : والأصل في ذلك عند أهل السّنّة أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو حجّا أو صدقة أو غيرها ، والشافعي رحمه‌الله جوّز هذا في الصدقة والعبادة المالية وجوّزه في الحج ، وإذا قرئ على القبر فللميت أجر المستمع ، ومنع وصول ثواب القرآن إلى الموتى وثواب الصلاة والصوم وجميع الطاعات والعبادات غير المالية ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله وأصحابه : يجوز ذلك وثوابه إلى الميت وتمسّك المانع من ذلك بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٢). وبقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» (٣). الحديث. والجواب أن الآية حجة لنا لأن الذي أهدى ثواب عمله لغيره سعى في إيصال الثواب إلى ذلك الغير ، فيكون له ما سعى بهذه الآية ، ولا يكون له ما سعى إلا بوصول الثواب إليه فكانت الآية حجّة لنا لا علينا ، وأما الحديث فيدلّ على انقطاع عمله ، ونحن نقول به ، وإنما الكلام في وصول ثواب غيره إليه والموصل الثواب إلى الميت هو الله تعالى سبحانه ، لأن الميت لا يسمع بنفسه والقرب والبعد سواء في قدرة الحق سبحانه ، هذا وقد قال الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٤). وفيه ورد لما قاله بعض المعتزلة إن الدعاء لا تأثير له في تغيير القضاء ، والجواب أن الدعاء يردّ البلاء إذا كان على وفق القضاء ، والحاصل أن القضاء المعلّق يتغيّر بخلاف المبرم والله تعالى أعلم.

وأما الدعاء فمخّ العبادة سواء طابق القضاء أم لا ، فربما يخفّف البلاء ، واختلف في الأفضل هل هو الدعاء ، أو السكوت والرضاء فقيل : الأول لأنه عبادة في نفسه وهو مطلوب ومأمور بفعله ، وقيل : السكوت والرضاء والخمود تحت جريان الحكم أتمّ

__________________

(١) أخرجه أبو داود ١٦٨١ ، والنسائي ٦ / ٢٥٤ كلاهما من حديث سعد بن عبادة.

(٢) النجم : ٣٩.

(٣) أخرجه مسلم ١٦٣١ ، والترمذي ١٣٧٦ ، وأبو داود ٢٨٨٠ ، والنسائي ٦ / ٢٥١ ، وأحمد ٢ / ٣٨٢ ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم : ٣٨ ، وابن الجارود ٣٧٠ من حديث أبي هريرة. وتمامه : «انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده».

(٤) غافر : ٦٠.

٢٢٥

____________________________________

رضاء ، ولا يبعد أن يقال : الأتم هو أن يجمع بينهما بأن يدعو باللسان ، ويكون حامدا في الجنان تحت الجريان بحكم الحنّان المنّان ، وقيل : الأولى أن يقال إن الأوقات مختلفة ففي بعضها الدعاء أفضل ، وفي بعضها السكوت أفضل ، والفاصل بينهما الإشارة فمن وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء فهو وقته كما ورد من فتح له أبواب الدعاء فتحت له أبواب الإجابة ، أو الرحمة ، أو الجنة روايات ، ومن وجد في قلبه إشارة إلى السكوت فهو وقته كما جاء عن إبراهيم عليه‌السلام لمّا قال له جبريل عليه‌السلام : ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فسل ربّك ، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فلم يحترق منه إلّا وثاقه ببركة هذا القول ، وكان في النار سبعة أيام ، وقيل أربعين يوما. وهو ابن ستة عشر سنة حين ألقي في النار ، ويجوز أن يقال : ما كان للعباد فيه نصيب ، أو لله تعالى فيه حق. فالدعاء به أولى ، وما كان فيه حظّ نفس للداعي فالسكوت عنه أولى ، وهذا أعلى وأغلى.

وقال شارح عقيدة الطحاوي : اتفق أهل السّنّة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين أحدهما ما تسبّب فيه (١) الميت في حياته ، والثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج ، فعن محمد بن الحسن رحمه‌الله : إنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحج للحاج ، وعند عامّة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح ، واختلف في العبادات البدنية كالصوم وقراءة القرآن والذكر.

فذهب أبو حنيفة رحمه‌الله وأحمد وجمهور السّلف رحمهم‌الله إلى وصولها ، والمشهور من مذهب الشافعي رحمه‌الله ومالك عدم وصولها ، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتّة لا الدعاء ولا غيره ، وقوله (٢) : مردود بالكتاب والسّنّة ، واستدلاله بقوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣). مدفوع بأنه لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنما نفي ملكه بغير سعيه وبين الأمرين فرق بيّن ، فأخبر الله تعالى أنه لا يملك إلا سعيه وما سعى غيره ، فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى ، ومن الأدلة

__________________

(١) في شرح الطحاوية : إليه.

(٢) في شرح الطحاوية : وقولهم.

(٣) النجم : ٣٩ : وانتهى كلام شارح الطحاوية ٢ / ٦٦٤.

٢٢٦

____________________________________

الدالّة على وصول ثواب العبادة المالية حديث جابر رضي الله عنه قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال عليه الصلاة والسلام : «بسم الله والله أكبر : اللهمّ هذا عني ، وعمّن لم يضحّ من أمتي» (١). رواه أبو داود والترمذي ، وحديث الكبشين الذين قال عليه الصلاة والسلام في أحدهما : اللهمّ هذا عن أمتي جميعا ، وفي الآخر : اللهمّ هذا عن محمد وآل محمد (٢) ، رواه أحمد.

والقربة في الأضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره قال (٣) : وكذا عبادة الحج بدنية ، وليس المال ركنا فيه ، وإنما هو وسيلة ، ألا يرى أن المكّي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال ، وهذا هو الأظهر أعني أن الحج غير مركّب من مال وبدن بل بدني محض ، كما قد نصّ عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين (٤) قلت : هذا غير صحيح إذ صحة البدن شرط لوجوب الأداء ، ولهذا يجب عليه الإحجاج

__________________

(١) أخرجه أحمد ٣ / ٣٥٦ و ٣٦٢ ، وأبو داود ٢٨١٠ ، والترمذي ١٥٢١. وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار ٤ / ١٧٧ ـ ١٧٨ ، والدارقطني ٤ / ٢٨٥ ، والبيهقي ٩ / ٢٦٤ و ٢٨٧ ، من طريق عمرو مولى المطلب عن المطلب بن عبد الله (وزاد الطحاوي والبيهقي عن رجل من بني سلمة) عن جابر بن عبد الله ورجاله ثقات ، وصحّحه الحاكم ٤ / ٢٩٩ ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا ، فإن المطالب قد صرّح بالتحديث في رواية الطحاوي والحاكم فانتفت شبهة تدليسه ، وله طريق آخر بنحوه عند أبي داود ٢٧٩٥ ، والدارمي ٢ / ٧٥ ـ ٧٦ ، والطحاوي ٤ / ١٧٧ ، والبيهقي ٩ / ٢٨٥ و ٢٨٧ ، وسندهما حسن ، وصحّحه ابن خزيمة ٢٨٩٩ ، وثالث عند أبي يعلى ١٧٩٢ ، والطحاوي ، والبيهقي ، وسنده حسن كما قال الهيثمي في المجمع ٤ / ٢٢.

(٢) أخرجه أحمد ٦ / ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، والبزار ١٢٠٨ ، والبيهقي ٩ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ و ٢٦٨ من طريق أبي عامر العقدي ، عن زهير بن محمد العنبري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن علي بن حسين ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ضحّى ، اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلّاه ، فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : «اللهمّ إن هذا عن أمتي جميعا ممّن شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ، ثم يؤتى بالآخر ، فيذبحه بنفسه ويقول : «هذا عن محمد وآل محمد» فيطعمهما جميعا المساكين ، ويأكل هو وأهله منهما فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحّي قد كفاه الله المئونة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والغرم. وسنده حسن كما قال الهيثمي في المجمع ٤ / ٢٢ ، وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» ٤ / ١٧٧ من طريق علي بن معبد عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل به.

(٣) أي شارح الطحاوية ٢ / ٦٧٢.

(٤) انتهى كلام شارح الطحاوية.

٢٢٧

____________________________________

أو الإيصاء ، ثم قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة تصل إليه ، وأما لو أوصى بأن يعطي شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره ، فالوصية باطلة لأنه في معنى الأجرة كذا في الاختيار (١). وهذا مبني على عدم جواز الاستئجار على الطاعات ، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلّمه ويتعلّمه معونة لأهل القرآن على ذلك كان هذا من جنس الصدقة عنه فيجوز.

ثم القراءة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم‌الله في رواية لأنه محدث لم ترد به السّنّة ، وقال محمد بن الحسن وأحمد في رواية : لا يكره لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومنها : أنه لا يجوز أن يقال يستجاب دعاء الكافر على ما ذهب إليه الجمهور لقوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٢). أي في ضياع وخسار لا منفعة فيه ، وفيه أن مورده خاص بالعقبى فلا ينافي أن يستجاب دعاؤه في أمر الدنيا كما يدل عليه دعاء إبليس وإجابته سبحانه له في الإمهال ، ويؤيده حديث إن دعوة المظلوم تستجاب ، وإن كان كافرا وإلى جوازه ذهب أبو القاسم الحكيم وأبو نصر الدبوسي ، قال الصدر الشهيد : وبه يفتى وأما ما استدلّ به في شرح العقائد بأن الكافر لا يدعو الله تعالى لأنه لا يعرفه ففيه أنه قد ورد في حقهم قوله تعالى : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) (٣) الآية ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله ، وصاحباه : يكره أن يقول الرجل : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، ونحو ذلك إذ ليس لأحد على الله حق ، وكره أبو حنيفة ومحمد رحمهما‌الله تعالى أن يقول : الدّاعي اللهمّ إني أسألك بمقعد العز من عرشك ، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه قلت قد ورد أيضا : اللهمّ إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك (٤) ،

__________________

(١) الاختيار ٥ / ٨٤ وهو شرح المختار لأبي الفضل مجد الدين عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي المتوفى سنة ٦٨٣ ه‍. انظر الفوائد البهية ص ١٠٦.

(٢) الرعد : ١٤.

(٣) يونس : ٢٢.

(٤) أخرجه ابن ماجة ٧٧٨ من حديث أبي سعيد الخدري وفيه عطية العوفي ضعيف وضعّفه ابن تيمية في التوسّل والوسيلة ص ١٠٧ وقال هو ضعيف بإجماع أهل العلم. ا. ه.

٢٢٨

____________________________________

فالمراد بالحق الحرمة ، أو الحق الذي وعده بمقتضى الرحمة (١).

ومنها : أن الجنيّ الكافر يعذّب بالنار اتفاقا لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢). والمسلم منهم يثاب بالجنة عند أبي يوسف ومحمد رحمهم‌الله ووافقهما بقية أهل السّنّة والجماعة ويؤيّدهم ما ورد في سورة الرحمن عند تعداد نعيم الجنان ومنه قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣) الآيات. وأبو حنيفة رحمه‌الله توقف في كيفية ثوابهم لقوله تعالى : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٤). من غير أن يقرن به قوله ، ويثبكم بثواب مقيم فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا.

وظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله التوقّف في كيفية ثوابهم حيث قيل : ليس لهم أكل ولا شرب ، وإنما لهم شمّ ، ولكنه ليس بصحيح لما ورد التصريح بخلاف ذلك في الأحاديث الكثيرة ولا توقف له في استحقاقهم الجنة كالملائكة لأن الله تعالى لم يبيّن في القرآن ثوابهم ، ونحن نعلم يقينا أن الله تعالى لا يضيع إيمانهم فيعطيهم ما شاء مما يناسب شأنهم هذا ، وتوقعه لعدم الدليل القطعي لا ينافي ترجيح أحد الطرفين بالدليل الظني ، ونقل القونوي أنه سأل الرستغني عن الملائكة هل لهم ثواب وعقاب؟ فقال : نعم لهم ثواب وعقاب إلا أن عقابهم كعقاب الآدميين وثوابهم ليس كثواب الآدمين ، لأن ثوابهم التلذّذ بالشمّ ، ثم إن الله تعالى جعل الدنيا وشهواتنا في الدنيا من المأكول والمشروب ونحوهما ، فكذلك يجعل ثوابنا في الدار الآخرة ، وأما الملائكة فإن الله تعالى جعل لذّتهم وشهوتهم في الدنيا في طاعتهم لله تعالى وبذلك طابت أنفسهم ، وبها شبعهم وريّهم ، فكذلك في الآخرة استدلالا بالشاهد فغير مقبول لأن عقاب الملائكة مخالف لإجماع أهل الملّة ، وأما كون ثوابهم بقاؤهم على لذة طاعتهم فظاهر ، وأما قصر ثوابنا على اللذّة الظاهرية فممنوع لأن في الجنة يحصل لأهلها التلذّذ بالذكر والشكر وأنواع المعرفة وأصناف الزلفة والقربة التي نهايتها الرؤية مما ينسى بجنبها التلذّذ بالشهوات الحسّيّة واللذات النفسية.

__________________

(١) الصواب ما صرّح به الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله : إذ ليس لأحد على الله حق والله أعلم. وبذلك صرّح ابن مودود في الاختيار ٢ / ١٦٤ فانظره لزاما.

(٢) هود : ١١٩ ، والسجدة : ١٣.

(٣) الرحمن : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) تصحيف في الآية والصواب [ويجركم] ، الأحقاف : ٣١.

٢٢٩

____________________________________

ومنها : أن الشياطين لهم تصرّف في بني آدم خلافا للمعتزلة حيث يقولون : لا يمكنهم أن يوسوسوا ، وإنما نفس الإنسان توسوسه وهو مردود بقوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٢). ولمّا صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (٣) ، ثم الحكمة في أنهم يرونا ، ونحن لا نراهم أنهم خلقوا على صورة قبيحة ، فلو رأيناهم لم نقدر على تناول الطعام والشراب فستروا عنّا رحمة علينا في هذا الباب والملائكة خلقوا من النور فلو رأيناهم لطارت أرواحنا لديهم وأعيننا إليهم ، وأما قول القونوي من أن الجن خلقوا من الريح وأصل الريح أن لا يرى ، فكذا ما خلق منه فغير صحيح لقوله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٤).

ومنها : أن ما أخبر الله تعالى من الجور والقصور والأنهار والأشجار والأثمار لأهل الجنة ، ومن الزقوم والحميم والسلاسل والأغلال لأهل النار حق خلافا للباطنية والعدول عن ظواهر النصوص إلى معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد ...

ومنها : أن المجتهد في العقليات والشرعيات الأصلية والفرعية قد يخطئ ، وقد يصيب وذهب بعض الأشاعرة والمعتزلة إلى أن كل مجتهد في المسائل الشرعية الفرعية التي لا قاطع فيها مصيب ، والتحقيق أن في المسألة الاجتهادية احتمالات أربعة : الأول أن ليس لله فيها حكم معين قبل الاجتهاد ، بل الحكم فيها ما أدّى إليه رأي المجتهد ، فعلى هذا قد تتعدّد الأحكام الحقّة في حادثة واحدة ، ويكون كل مجتهد مصيبا ، والثاني : أن الحكم معين ولا دليل عليه منه سبحانه ، بل العثور عليه كالعثور على دفينة ، والثالث أن الحكم معين وله دليل قطعي ، والرابع : أن الحكم معين ، وله دليل ظنّي ، وقد ذهب إلى كل احتمال جماعة ، والمختار أن الحكم معين وعليه دليل ظنّي إن وجده المجتهد أصاب ، وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلّف بإصابته كما ذهب بعضهم ممّن ذهب إلى

__________________

(١) البقرة : ٢٦٨.

(٢) فاطر : ٦.

(٣) أخرجه البخاري ٢٠٣٥ ، ومسلم ٢١٧٥ ح ٢٤ و ٢٥ ، وأبو داود ٢٤٧١ ، وابن ماجة ١٧٧٩ ، والدارمي ٢ / ٧٧ ، والبيهقي ٤ / ٣٢١ و ٣٢٤ ، وأحمد ٦ / ٣٣٧ ، والطحاوي في المشكل ١٠٧ ، والبغوي ٤٢٠٨ ، وابن خزيمة ٣٢٣٤ ، وابن حبان ٣٦٧١ من حديث صفية بنت حييّ رضي الله عنها.

(٤) الحجر : ٢٧.

٢٣٠

____________________________________

الاحتمالات الثلاث ، وذلك لغموضه وخفائه ، فلذلك كان المخطئ معذورا فلمن أصاب أجران ، ولمن أخطأ أجر واحد (١) ، كما ورد في حديث آخر إذا أصبت فلك عشر حسنات ، وإن أخطأت فلك حسنة (٢) ، ثم الدليل على أن المجتهد قد يخطئ. قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) (٣). أي دون داود إذ الضمير راجع إلى الحكومة أو الفتيا ولو كان كلّ من الاجتهادين صوابا لما كان لتخصيص سليمان بالذكر فائدة ، وتوضيحه : أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث بدل إفساده ، وبالحرث لصاحب الغنم ، وحكم سليمان بأن يكون الغنم لصاحب الحرث فينتفع بها أي بدرّها ونسلها وشعرها وصوفها ، وحكم بدفع الحرث لصاحب الغنم ، فيقوم صاحب الغنم على الحرث حتى يرجع ويعود كما كان فإذا صار الحرث كما كان فيرجع ويأخذ كل واحد منهما ملكه وماله ، وهذا كان في شريعتهم ، وأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة رحمه‌الله وأصحابه سواء كان بالليل أو بالنهار ، إلا أن يكون مع البهيمة سائق ، أو قائد ، وعند الشافعي رحمه‌الله يجب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا ، وكان حكم داود وسليمان عليهم‌السلام بالاجتهاد دون الوحي ، وإلا لما جاز لسليمان عليه‌السلام خلافه ولا لداود عليه‌السلام الرجوع عنه ولو كان كلّ من الاجتهادين حقّا لكان كلّ منهما قد أصاب الحكم وفهمه ، ولم يكن لتخصيص سليمان عليه‌السلام بالذكر وجه ، فإنه وإن لم يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه دلالة كلية لكنه يدلّ عليه في هذا الموضع بمعونة المقام كما لا يخفى على من له معرفة بأفانين الكلام ، وهذا مبني على جواز اجتهاد الأنبياء عليهم‌السلام وتجويز وقوعهم في الخطأ لكن بشرط أن ينبّهوا حتى ينتبهوا وقد يجاب بأن المعنى من قوله : ففهمناها سليمان أي الفتوى والحكومة التي هي أحقّ ، وأولى بدليل قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٤) الآية ، فإنه يفهم منه إصابتهما في فصل الخصومات والعلم بأمر

__________________

(١) يشير المصنّف إلى حديث أبي هريرة : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر». أخرجه البخاري ٧٣٥٢ ، ومسلم ١٧١٦ ، وأبو داود ٣٥٧٤ ، والترمذي ١٣٢٦ ، والنسائي ٨ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، وأحمد ٤ / ١٩٨ ، والبيهقي ١٠ / ١١٩ ، والدارقطني ٤ / ٢٠٤ ، وابن حبّان ٥٠٦٠ ، والشافعي ٢ / ١٧٦.

(٢) أخرجه أحمد ٤ / ٢٠٥ ، والحاكم ٤ / ٨٨ من حديث عمرو بن العاص وصحّحه الحاكم واعترض عليه الذهبي بقوله : فرج ضعّفوه وذكره الهيثمي في المجمع ٤ / ١٩٥ وقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه من لم أعرفه.

(٣) الأنبياء : ٧٩.

(٤) الأنبياء : ٧٩.

٢٣١

____________________________________

الدين ، وبدليل قول سليمان عليه‌السلام غير هذا أوفق للفريقين ، أو أرفق كأنه قال هذا حق وغيره أحق ، وفيه إيماء إلى أن ترك الأولى من الأنبياء عليهم‌السلام بمنزلة الخطأ من العلماء ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ولا يخفى أنه لا يتم على من قال باستواء الحكمين ، ثم اعلم أن للأنبياء عليهم‌السلام أن يجتهدوا مطلقا وعليه الأكثر ، أو بعد انتظار الوحي وعليه الحنفية واختاره ابن الهمام في التحرير وإذا اجتهدوا فلا بدّ من إصابتهم ابتداء ، وانتهاء كما في المسايرة.

ومنها : أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق القلبي الذي بلغ حدّ الجزم والإذعان كما هو المشهور عند الجمهور ، وإن مال شارح العقائد وصاحب المواقف إلى اعتبار الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض ، فهو أيضا لا يتصوّر فيه زيادة ونقصان حتى أن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات ، أو ارتكب السيئات فتصديقه باق على حاله لا تغيّر فيه أصلا ، والآيات الدالّة على زيادة الإيمان محمولة على ما ذكره الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله أنهم كانوا آمنوا في الجملة ، ثم يأتي فرض بعد فرض ، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص ، وهذا التأويل بعينه مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي الكشاف عنه أن أول ما أتاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم الحج ، ثم الجهاد وازداد إيمانا إلى إيمانهم. انتهى.

وتقديم الحج على الجهاد سبق قلم من صاحب الكشاف إذ الجهاد فرض قبل الحج بلا خلاف ، وحاصل كلام الإمام أن الإيمان كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به ، وهذا مما لا يتصوّر في غير عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال شارح العقائد : وفيه نظر ، لأن الاطّلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجواب أن تلك التفاصيل لمّا كان الإيمان بها برمّتها إجمالا فبالاطّلاع عليها لم ينقلب الإيمان من النقصان إلى الزيادة ، بل من الإجمال إلى التفصيل فقط بخلاف ما في عصره عليه الصلاة والسلام فإن الإيمان لمّا كان عبارة عن التصديق بكل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، فكلما ازدادت تلك الجملة ازداد التصديق المتعلق به لا محالة ، وأما قوله : ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد بل أكمل فكونه أزيد ممنوع ، وأما كونه أكمل فمسلّم إلا أنه غير مفيد ، وأما ما نقل عن إمام الحرمين كما في شرح المقاصد من أن الثبات والدوام على الإيمان زيادة عليه في كل ساعة ، وحاصله أنه يزيد بزياد الأزمان لمّا أنه عرض لا يبقى إلا بتجدّد الأمثال فأجاب عنه شارح العقائد بأن حصول

٢٣٢

____________________________________

المثل بعد انعدام الشيء لا يكون من الزيادة في شيء كما في سواد الجسم مثلا انتهى.

وقد يجاب بأنه يلزم منه أن من هو أطول عمرا من الأنبياء والأولياء يكون إيمانه أزيد وأكمل من غيره ولا قائل به مع أن ابن الهمام نقل أن القول بعدم الزيادة والنقصان اختاره من الأشاعرة إمام الحرمين ، وجمع كثير ، وقيل المراد زيادة ثمرته وبهائه وإشراق نوره وضيائه في القلب وصفائه ، فإنه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي ، وفيه نظر ، لأن كثيرا من الناس تكثر منه الأعمال ولا يحصل له مزيد الأحوال ، وقد توجد المعاصي مع كمال الإيمان وتحقّق الإيقان لبعض أرباب الكمال ، ولذا لمّا سئل الجنيد أيزني العارف قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (١). وقال بعض المحقّقين : كالقاضي عضد الدين (٢) لا نسلّم أن حقيقة التصديق لا تقبل الزيادة والنقصان ، بل تتفاوت قوة وضعفا للقطع بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٣). ونوقش بأن هذا مسلّم لكن لا طائل تحته إذ النزاع إنما هو في تفاوت الإيمان بحسب الكمية أي القلة والكثرة فإن الزيادة والنقصان كثيرا ما تستعمل في الأعداد وأما التفاوت في الكيفية أي القوة والضعف فخارج عن محل النزاع.

ولذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا الخلاف لفظي راجع إلى تفسير الإيمان ، فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما لأن الواجب هو اليقين ، وأنه لا يقبل التفاوت ، وإن قلنا هو الأعمال أيضا فيقبلهما فهذا هو التحقيق الذي يجب أن يعوّل عليه ، نعم إذا قيل : الواجب في التصديق ما نعم اليقيني والاعتقاد الجازم المطابق ، وإن كان غير ثابت حيث يمكن أن يزول بالتشكيك فإن أيمان أكثر العوام من هذا القبيل فإنه حينئذ يقبل التفاوت في مراتب الإيمان دون مناقب الإيقان ، إلا باختلاف مرتبة علم اليقين فإنها دون مرتبة عين اليقين ، كما أشار إليه قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٤). فإن التصديق بحدوث العالم ليس كالتصديق بطلوع الشمس ، ولذا ورد في الخبر ليس الخبر كالمعاينة (٥) ، وأما قول عليّ كرّم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨.

(٢) هو عضد الدين الإيجي مرّت ترجمته.

(٣) الأحزاب : ٢٦٠.

(٤) البقرة : ٢٦٠.

(٥) تقدّم تخريجه فيما سبق.

٢٣٣

____________________________________

يقينا ، فمحمول على أصل اليقين فإن مقام العيان فوق مرتبة البيان عند جميع الأعيان ، بل فوقهما مقام يسمى حق اليقين فالإيمان الغيبي محله الدنيا والعيني في مواقف العقبي والحقي عند دخول جنة المأوى ، وتحقيق رؤية المولى.

هذا وذكر ابن الهمام أن الحنفية ومعهم إمام الحرمين لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس ذات التصديق ، بل يتفاوت المؤمن به عند الحنفية ومن وافقهم لا بسبب تفاوت ذات التصديق ، وروي عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه قال : إيماني كإيمان جبرائيل عليه الصلاة والسلام ، ولا أقول : مثل إيمان جبرائيل عليه الصلاة والسلام لأن المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات والتشبيه لا يقتضيه ، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضه فلا أحد يساوي بين إيمان آحاد الناس ، وإيمان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كل وجه.

اعلم أن الحديث المشهور أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (١) ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص كله غير صحيح على ما ذكره الفيروزآبادي (٢) في الصراط المستقيم ، وقد روى ابن ماجة بسنده إلى علي رضي الله عنه رفعة الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان (٣) ، لكن حكم عليه ابن الجوزي بالوضع ، وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عند هذه الآية وهي قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٤). فقال (٥) الفقيه : حدّثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم [السّاباذي] (٦) قالا : حدّثنا فارس بن مردويه ، قال : حدّثنا محمد بن الفضل بن [العابد] (٧) ، قال : حدّثنا يحيى بن عيسى قال : حدّثنا أبو مطيع عن

__________________

(١) تقدّم تخريجه فيما سبق.

(٢) هو الإمام اللغوي الشهير أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروزآبادي المتوفى سنة ٨١٧ ه‍.

(٣) أخرجه ابن ماجة ٦٥ من حديث علي بن أبي طالب. قال ابن ماجة : قال أبو الصلت : لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرأ.

وقال في الزوائد : إسناد هذا الحديث ضعيف لاتفاقهم على ضعف أبي الصلت الراوي.

(٤) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٥) في شرح الطحاوية : [حدّثنا الفقيه].

(٦) تصحّفت في الأصل : إلى الشاباري والصواب [السّاباذي] كما في شرح الطحاوية.

(٧) تصحفت في الأصل إلى العائد والصواب [العابد] كما في شرح الطحاوية.

٢٣٤

____________________________________

حماد بن سلمة عن أبي [المهزّم] (١) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا الإيمان مكمّل في القلب زيادته ونقصانه كفر (٢) ، فقال شارح عقيدة الطحاوي سئل شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون ولا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة ، وأما أبو مطيع فهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعّفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وعمر بن علي [الفلاس] (٣) والبخاري ، وأبو داود والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي ، والعقيلي ، وابن عدي والدارقطني ، وغيرهم رحمه‌الله تعالى ، وأما أبو [المهزّم] الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه فقد تصحف على الكاتب ، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدّثهم سبعين حديثا (٤).

ومنها : أن الإيمان والإسلام واحد لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الأحكام الشرعية ، وذلك حقيقة التصديق على ما مرّ ، كذا في شرح العقائد ، وفيه بحث لأن الانقياد الباطني هو التصديق والانقياد الظاهري هو الإقرار ، والتغاير بينهما حاصل في الاعتبار ، وأما قوله يؤيده قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥). ففيه أن ذلك لا يقتضي إلا صدق المؤمن والمسلم على من تبعه ، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة [و] (٦) عدم تغايرهما بمعنى أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر في اعتبار حكمهما لا باعتبار مفهوميهما ، ولهذا لا يصحّ أن يحكم على أحد بأنه مؤمن ، وليس بمسلم ، أو

__________________

(١) تصحفت في الأصل إلى المحزم والصواب [المهزّم] كما في شرح الطحاوية.

(٢) حديث باطل كما نقل الشارح عن شارح الطحاوية ٢ / ٤٨٠ عن الحافظ ابن كثير وقد حكم بوضعه أيضا ابن حبان والحاكم ، والجوزقاني ، وابن الجوزي ، والذهبي. انظر المجروحين والضعفاء ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وميزان الاعتدال ٣ / ٤٢ ، واللآلئ المصنوعة ١ / ٣٨ ، وتنزيه الشريعة ١ / ١٤٩.

(٣) تصحفت في الأصل إلى القلانسي والصواب [الفلاس] كما في شرح الطحاوية.

(٤) انظر الكامل لابن عدي ٧ / ٢٧٢١ ـ ٢٧٢٢.

(٥) الذاريات : ٣٦.

(٦) تصحفت في الأصل إلى نعم والصواب [وعدم].

٢٣٥

____________________________________

مسلم وليس بمؤمن لأن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثلاث فرق مؤمن ومنافق وكافر ليس فيهم رابع ، فالمؤمن من أيّ الفرق كالحشوية والظاهرية لا يصحّ أن يقال إنه من الكافرين للإجماع على خلافه ، ولقوله سبحانه : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (١) الآية ، فإن قالوا : إنه من المؤمنين تركوا مذهبهم ، وإن قالوا من المنافقين فيكون الإسلام هو النفاق عندهم فينبغي أن لا يقبل غير النفاق لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٢). وكذا يجب أن يكون مرضيا لقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٣) ، وأما قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٤). فظاهر في التغاير بينهما باعتبار اختلاف اللغة في مفهوميهما وحاصلهما أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان وهو في الآية بمعنى الانقياد الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفّظ بكلمة الشهادة من غير تصديق معتبر في حق الإيمان ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جواب جبرائيل عليه‌السلام الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت (٥) الحديث ، فدليل على مغايرته للإيمان المفسّر في ذلك الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلخ ... وفق الاستعمال اللغوي ، وهو لا يخالف الاصطلاح الشرعي من اعتبار جمعهما غايته أن الإيمان هو التصديق القلبي من الانقياد الباطني ، والإسلام هو إظهار ذلك الانقياد الباطني بالإقرار اللساني والإذعان للأحكام الإسلامية فلا يشكل بإدخال إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في مفهوم الإسلام على ما عليه أهل السّنّة والجماعة من أن عمل الطاعات خارج عن حقيقة الإيمان والإسلام ، نعم ظاهر الحديث يؤيد قول الجمهور من أن الإقرار شرط الإيمان لا أنه شطر وركن من الإيمان وأنه يحتمل السقوط في بعض الأحيان على أن القائلين بعدم اعتبار الإقرار اتفقوا على أن يعتقد أنه متى طولب به أتى به ، فإن طولب به فلم يقرّ فهو كفر عناد ، وهذا معنى ما قالوا : ترك العناد شرط وفسّروه به كما حقّقه ابن الهمام.

والحاصل أنه لا بدّ من وجودهما حتى يحكم على أحد بأنه من أهل الإيمان ،

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) آل عمران : ٨٥.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) الحجرات : ١٤.

(٥) تقدّم تخريجه فيما سبق.

٢٣٦

____________________________________

ولهذا عبّر الشّارع بالإيمان عن الإسلام تارة وبالإسلام عن الإيمان أخرى كما في قوله عليه الصلاة والسلام لقوم وفدوا عليه : أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال عليه الصلاة والسلام شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأن محمدا رسول الله أي عبده ورسوله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (١) ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلّا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق الحديث» (٢). وروي لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (٣).

ومنها : أن العقل آلة للمعرفة ، والموجب هو الله تعالى في الحقيقة ، ووجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة رحمه‌الله ، فقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى (٤) أن أبا حنيفة رحمه‌الله قال : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وغيره ، ويؤيده قوله تعالى : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥). وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٦). وحديث : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» (٧). قال : وعليه مشايخنا من أهل السّنّة والجماعة حتى قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي في الصبي العاقل : إنه تجب عليه معرفة الله تعالى ، وهو قول كثير من مشايخ العراق خلافا لكثير من مشايخنا لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : «رفع القلم عن

__________________

(١) أخرجه البخاري ٥٢٣ و ١٣٩٨ ، ومسلم ١٧ ح ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ ، وابن أبي شيبة ١١ / ٦ و ١٢ / ٢٠٢ ، وأبو داود ٤٦٧٧ ، والترمذي ١٥٩٩ ، والنسائي ٨ / ١٢٠ و ٣٢٣ ، وأحمد ١ / ٢٢٨ ، وابن خزيمة ٣٠٧ ، وابن حبان ١٥٧ ، والطبراني ١٢٩٥٠. كلهم من حديث ابن عباس.

(٢) أخرجه مسلم ٣٥ ح ٥٨ ، وأبو داود ٤٦٧٦ ، والنسائي ٨ / ١١٠ ، وابن ماجة ٥٧ ، وابن أبي شيبة ١١ / ٤٠ ، وأحمد ٢ / ٤١٤ ، والبغوي في شرح السّنّة ١٧ ، والآجري في الشريعة ١١٠ ، وابن حبّان ١٦٦ ، وابن مندة ١٤٧ ، والطيالسي ٢٤٠٢ كلهم من حديث أبي هريرة.

(٣) هو بعض حديث أخرجه البخاري ٦٥٢٨ ، ومسلم ٢٢١ ، ح ٣٧٧ ، والترمذي ٢٥٤٧ ، وابن ماجة ٤٢٨٣ ، والطيالسي ٣٢٤ ، وأحمد ١ / ٣٨٦ و ٤٣٧ ، وابن حبان ٧٢٤٥ ، والطحاوي في المشكل ٣٦١ ، وأبو يعلى ٥٣٨٦ ، والطبري في تفسيره ١٧ / ١١٢ كلهم من حديث عبد الله بن مسعود.

(٤) المنتقى : لمحمد بن محمد الشهير بالحاكم الشهيد البلخي صنّف المنتقى والكافي وهما أصلان من أصول المذهب الحنفي بعد كتاب محمد. توفي سنة ٣٤٤ ه‍.

(٥) إبراهيم : ١٠.

(٦) الزّمر : ٣٨.

(٧) تقدّم تخريجه فيما سبق.

٢٣٧

____________________________________

ثلاث الصبي حتى يبلغ أي يحتلم» (١) الحديث. وحمل الشيخ أبو منصور هذا الحديث على الشرائع مع اتفاقهم على أن إسلام هذا الصبي صحيح ويدعى هو إلى الإسلام كما يدعى البالغ إليه.

وقال الأشعري : لا يجب لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢). وأجيب بأن الرسول أعمّ من العقل والنبي وبتخصّص عموم الآية بالأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع وقيل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) عذاب الاستئصال في الدنيا.

(حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) والأظهر أن قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) لا ينافي الوجوب العقلي الذي لا يترتب على فعله ثواب ولا على تركه عقاب كما مرّ فتدبّر.

وثمرة الخلاف إنما تظهر في حق من لم تبلغه الدعوة أصلا بأن كان نشأ على شاهق جبل ولم يسمع رسولا ، ومات ولم يؤمن بالله فيعذّب عندنا لا عندهم ، ولا يعذّب المجنون الدائم المطبق ، وكذا الأطفال مطلقا ، وكذا من مات في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمن بالله فعندنا يعذّب وعندهم لا يعذّب.

ومنها : أنه لا يوصف الله تعالى بالقدرة على الظلم لأن المحال لا يدخل تحت القدرة ، وعند المعتزلة يقدر أنه ولكن لا يفعل.

ومنها : أن العبد إذا وجد منه التصديق والإقرار صحّ له أن يقول : أنا مؤمن حقّا لتحقّق الإيمان ، ولا ينبغي أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله لأنه إن كان للشك فهو كفر لا محالة ، وإن كان للتأدّب وإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى أو للشك في العاقبة والمآل لا في الآن ، والحال أو للتبرّك بذكر الله والتبرّي عن تزكية نفسه والإعجاب بحاله فالأولى تركه لما أنه يوهم الشك على ما ذكره شارح العقائد ، فإن صاحب التمهيد (٣) والكفاية (٤) وغيرهما من العلماء الحنفية كفّروا القائل به ، وحكموا ببطلان قولهم : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، وقالوا ذلك لا يصحّ كما لا يصحّ قول القائل : أنا حيّ إن شاء الله تعالى ، وأنا

__________________

(١) أخرجه أحمد ٦ / ١٠٠ ـ ١٠١ و ٢ / ١٧١ و ٦ / ١٤٤ ، وأبو داود ٤٣٩٨ ، والدارمي ٢ / ١٧١ ، والنسائي ٦ / ١٥٦ ، وابن ماجة ٢٠٤١ ، وابن حبان ١٤٢ ، والحاكم ٢ / ٥٩ وصحّحه ووافقه الذهبي ، وابن الجارود في المنتقى ١٤٨ كلهم بإسناد حسن عن عائشة.

(٢) الإسراء : ١٥.

(٣) هو التمهيد لقواعد التوحيد لأبو المعين ميمون بن محمد بن محمد النسفي المتوفى سنة ٥٠٨ ه‍.

(٤) هو الكفاية في مسائل الخلاف لأبي الحسن علي بين سعيد العبدري الحنفي المتوفى سنة ٤٩٣ ه‍.

٢٣٨

____________________________________

رجل إن شاء الله تعالى ، وقال صاحب التعديل (١) : فإن لم يثبت الكفر فلا أقل من أن يكون التلفّظ به حراما أنه صريح في الشك في الحال ، وهو لا يستعمل في المحقّق في الحال حيث لا يقال : أنا شاب إن شاء الله تعالى ، وفيه أنه وجه الكفر والكذب ، فإن بعضهم ذهبوا إلى الوجوب ، وكثير من السلف حتى الصحابة والتابعين ذهبوا إلى الجواز وهو المحكي عن الشافعي رحمه‌الله وأتباعه ، وقالوا : إن من شهد لنفسه بهذه الشهادة ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحالة ، وفيه أنه لا محظور في هذه المقالة فقد منعه الأكثرون ، وعليه أبو حنيفة رحمه‌الله وأصحابه مع أن هذا ليس من قبيل قول القائل : أنا طويل إن شاء الله تعالى ، بل نظير قولك : أنا زاهد أنا متّق أنا تائب إن شاء الله تعالى ، إما قاصدا هضم النفس والتواضع ، وهذا إنما يتصوّر في حق الأنبياء أو قاصدا جهله بحقيقة وجود شروطه ، وهذه الأشياء في الحال ، أو نظرا إلى مشيئة الله تعالى من احتمال تغيّر الحال في الاستقبال والعياذ بالله من سوء المآل ، ولذا لمّا سئل أبو يزيد البسطامي (٢) رحمه‌الله تعالى : هل لحيتك أفضل ، أم ذنب الكلب؟ فقال : إن متّ على الإسلام فلحيتي خير ، وإلا فذنبه أحسن فبهذا تبيّن أن من يقول : أنا مؤمن حقّا أو قيل له أنت من أهل الجنة حقّا لم يقدر أن يقول نعم ، فإنه من الأمر المبهم والله تعالى أعلم.

وأما القول بالتبرّك فمع أنه ظاهر في التشكيك والترديد فبعيد عن الطريق السديد ، وأما ما ذكره في شرح المقاصد أنه للتأدّب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله ، وهذا ليس فيه معنى للشك أصلا ، وإنما هو كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٣) الآية. وكقوله عليه الصلاة والسلام تعليما : «إذا دخل المقابر السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» (٤). فمع المناقضة بين كلاميه تلفيق بين الأقوال

__________________

(١) هو تعديل العلوم للعلّامة عبيد الله بن مسعود المعروف بصدر الشريعة البخاري الحنفي المتوفى سنة ٧٤٧ ه‍.

(٢) هو طيفور بن عيسى بن آدم بن عيسى بن سروشان أبو يزيد البسطامي الزاهد المشهور. توفي سنة ٢٦٤ ه‍. له من التصانيف معارج التحقيق في التصوّف ورسائل أخر.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) أخرجه مسلم ٢٤٩ ، والموطأ مطوّلا ١ / ٢٨ ـ ٣٠ ، وأبو داود ٣٢٣٧ ، والنسائي ١ / ٩٣ ـ ٩٥ ، وابن ماجة ٤٣٠٦ ، وأحمد ٢ / ٣٧٥ ، وعبد الرزاق ٦٧١٩ ، والبيهقي ٤٠ / ٧٨ ، وابن خزيمة في صحيحه ٦ ، وابن حبان ٣١٧١ كلهم من حديث أبي هريرة.

٢٣٩

____________________________________

المختلفة ، فإن الاستثناء في الآية لا يصحّ أن يكون من قبيل إحالة الأمور إلى المشيئة ، بل قيل : إنه للتبرّك بذكر اسمه سبحانه أو للمبالغة في باب الاستثناء في الأخبار حتى في متحقّق الوقوع على أنه قد يقال : التقدير لندخلنّ جميعكم إن شاء الله لتأخّر بعض المخاطبين من أهل الحديبية حيّا أو ميتا عن فتح مكة ، أو معنى إن شاء الله إذا شاء الله ، وهو تأويل لطيف يردّ ما فيه من إشكال ضعيف ، أو الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول ، أو تعليم للعباد ، وكذا الاستثناء في الحديث لا يصحّ أن يكون من باب إحالة الأمور إلى المشيئة ، فإن اللحوق بالأموات محقّق بلا شبهة بل هو محمول على تعليم الأمة لاحتمال تغيّرهم في المآل ، أو على أن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام بكم خصوص أهل البقيع مثلا في البلاد ، وقال حجة الإسلام الغزالي : الحاصل للعبد هو حقيقة التصديق الذي يخرج به عن الكفر ، لكن التصديق في نفسه قابل للشدّة والضعف ، وحصول التصديق الكامل المنجي المشار إليه بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (١). إنما هو في مشيئة الله سبحانه ، وحاصله أن التصديق المصحّح لإجراء أحكام الإيمان على العبد في الدنيا حاصل ، والمرء جازم به ، لكن التصديق الكامل المنوط به النجاة في العقبى أمر خفي له معارضات كثيرة خفيّة من الهوى والشيطان ، فعلى تقدير حصوله ، والجزم به لا يأمن المؤمن أن يشوبه شيء من منافاة النجاة من غير علمه بذل فيفوّض علمه إلى مشيئة الله سبحانه ، ولذا قيل : ينبغي للمؤمن أن يتعوّذ بهذا الدعاء صباحا ومساء : اللهمّ إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا ، وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم أنك أنت علّام الغيب (٢) ، قال ابن الهمام : ولا خلاف في أنه لا يقال إن شاء الله للشك في ثبوت الإيمان للحال ، وإلا لكان الإيمان منفيّا بل ثبوته في الحال مجزوم به غير أن بقاءه إلى الوفاة وهو المسمى بإيمان الموافاة غير معلوم ولما كان ذلك هو المعتبر في النجاة كان هو الملحوظ عند المتكلم في ربطه بالمشيئة ، وهو أمر مستقبل فالاستثناء فيه اتّباع لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي

__________________

(١) الأنفال : ٧٤.

(٢) أخرجه أحمد ٤ / ٤٠٣ ، والطبراني في الكبير ، والأوسط من حديث أبي علي رجل من بني كاهل عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وأبو علي لم يوثّقه غير ابن حبان ، ولكن له شاهد من حديث حذيفة رضي الله عنه رواه أبو يعلى الموصلي من رواية ليث بن أبي سليم ، فهو حديث حسن به. انظر مجمع الزوائد ١٠ / ٢٢٣ و ٢٢٤ ، والترغيب والترهيب ١ / ٧٦ ، وصحيح الجامع للألباني رقم ٣٦٢٥.

٢٤٠