شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١). انتهى.

ولا يخفى أن ما نحن فيه ليس داخلا في عموم مفهوم الآية لأنها في الأمر المستقبل وجودا لا بقاء والكلام في الاستثناء الموجود حالا على احتمال أنه ربما يعرض له حال يوجب له زوالا ، ولهذا مثّل مشايخنا هذا الاستثناء بقوله : أنا شاب إن شاء الله تعالى حيث يحتمل أنه يصير شيخا ، وهو ليس تحته طائل وإدخاله تحت قوله سبحانه : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ) لا يقول به قائل هذا ، وقال بعضهم : الإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ، والصوم الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلامية من أهل السّنّة والجماعة وغيرهم ، وعند هؤلاء إن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه يموت مؤمنا فالصحابة رضي الله عنهم ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم وإبليس ، ومن ارتدّ عن دينه ما زال الله تعالى يبغضه ، وإن كان لم يكفر بعد كذا ، ذكره شارح عقيدة الطحاوي ، وفيه أن الإيمان إذا تحقّق بشروطه كيف يكون كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل إكمالها ، والصوم الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، ولما بنوا على هذا الأساس الواهي صار طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة يقول صلّيت إن شاء الله تعالى ، ونحو ذلك يعني لقبول الله ، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله تعالى ، هذا حبل إن شاء الله تعالى ، فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه يقولون : نعم لكن إذا شاء أن يغيّره غيره ، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك ، وأما ما أجاب الزمخشري عن قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) (٢) من أنه قد يكون الملك قد قاله فأثبت قرآنا أو أن الرسول قاله فكلاهما باطل لأنه جعل من القرآن ما هو غير كلام الله فيدخل في وعيد من قال : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٣). والحاصل أن المستثنى إذا أراد الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء ، وهذا لا خلاف فيه ، وأما إن أراد أنه مؤمن كامل ، أو ممّن يموت على الإيمان فالاستثناء حينئذ جائز إلا أن الأولى تركه باللسان وملاحظته بالجنان.

ومنها : ما يتفرّع على هذه المسألة (وهو ما نقل عن بعض الأشاعرة) أنه يصح أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بناء على أن العبرة في الإيمان والكفر والسعادة

__________________

(١) الكهف : ٢٣.

(٢) الفتح : ٢٧.

(٣) المدّثر : ٢٥.

٢٤١

____________________________________

والشقاوة بالخاتمة حتى أن المؤمن السعيد من مات على الإيمان ، وإن كان طول عمره على الكفر والعصيان والكافر الشقي من مات على الكفر ، وإن كان طول عمره على التصديق والشكر كما يدلّ عليه حديث : «إنّ أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل عمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها ، وإنّما الأعمال بالخواتيم» ، وكما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى في حق إبليس : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١) حيث دلّت الآية على أن إبليس لم يزل كافرا مع صحة إيمانه وكثرة طاعاته قبل خلق آدم عليه‌السلام حتى عدّ من الملائكة الكرام ، فظهر أن المعتبر هو إيمان الموافاة الواصل إلى آخر الحياة ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» (٢). فإن المراد بالسعادة فيه السعادة المعتدّ بها لمن علم الله تعالى أن يختم له بالسعادة ، وكذا في جانب الشقاوة ، ولذا قال أرباب العقائد : السعيد وهو المتّصف بسعادة الإيمان بظاهر الحال قد يشقى بأن يرتدّ في المآل ، والشقي قد يسعد في المقال والأفعال ، والتغيّر قد يكون على السعادة والشقاوة دون الإسعاد والإشقاء ، فإنهما من صفات الله سبحانه وتعالى لأن الإسعاد تكوين السعادة والإشقاء تكوين الشقاوة ، ولا تغيّر على الله تعالى ولا على صفاته فلا يلزم من تغيرهما أن يكون علم الله تعالى متغيّرا ، فإن القديم لا يكون محلا للحوادث فعلى هذا يصحّ أن يقال في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣). أي صار منهم مع أن العارفين قالوا الارتداد علامة عدم الإسعاد ، فمن رجع فإنما رجع عن الطريق فإن السعيد الحقيقي لم يزل عن التحقيق وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (٤). أي لا انقطاع لوصلها ، ومن حكم شيخ مشايخنا أبي الحسن البكري : إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب.

__________________

(١) أخرجه البخاري ٢٨٩٨ و ٤٢٠٢ و ٦٤٩٣ ، ومسلم ١١٢ ، وأحمد ٥ / ٣٣١ ـ ٣٣٢ و ٣٣٥ ، وابن حبان ٦١٧٥ ، والطبراني في الكبير ٥٧٨٤ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢١٦ ، والبيهقي في الدلائل ٤ / ٢٥٢ ، والآجري في الشريعة ص ١٨٥ ، وأبو عوانة في مسنده ١ / ٥٠ ـ ٥١. كلهم من حديث سهل بن سعد.

(٢) أخرجه البزار ، والطبراني في الصغير كما في المجمع ٧ / ١٩٣ من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي : ورجال البزار رجال الصحيح. ا. ه.

(٣) البقرة : ٣٤.

(٤) البقرة : ٢٥٦.

٢٤٢

____________________________________

وقال القونوي : فإن قيل : إنما يجوز الاستثناء للخاتمة ، قلنا : هذا واجب عندنا لكن لا كلام فيه إنما الكلام في الإيمان ، وإن كفر بعد ذلك أي بعد الإيمان لا يتبيّن أنه لم يكن مؤمنا قبل الكفر كإبليس ، فالسعيد قد يشقى والشقي قد يسعد ، وعند الأشعري العبرة للختم ، ولا عبرة لإيمان من وجد منه التصديق في الحال ، ولا كفر من وجد منه التكذيب للحال فإن كان في علم الله سبحانه ، إن هذا الشخص المعيّن يختم له بالإيمان فهو للحال مؤمن ، وإن كان كافرا بالله ورسوله ، وإن كان في علمه أنه يختم له بالكفر يكون للحال كافرا ، وإن كان مصدّقا لله ورسوله وقالوا : إن إبليس حين كان معلّما للملائكة كان كافرا ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). أي وكان في سابق علم الله منهم وأجيب عن الآية بأن معناه وصار من الكافرين.

قال شارح العقائد : والحق أنه لا خلاف في المعنى يعني بل الخلاف في المبنى ، فإنه إن أريد بالإيمان والسعادة مجرد حصول المعنى أي الإذعان وقبول العبادة ، فهو حاصل في الحال ، وإن أريد ما يترتب عليه النجاة والثمرات في المآل فهو في مشيئة الله تعالى لا قطع بحصوله في الحال ، فمن قطع بالحصول أراد الأول ، ومن فوّض إلى المشيئة أراد الثاني انتهى. وهو غاية التحقيق ونهاية التدقيق والله تعالى وليّ التوفيق.

ومنها : أن تكليف ما لا يطاق غير جائز خلافا للأشعري لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١). أي طاقتها واختلف أصحابه في وقوعه ، والأصح عدم الوقوع ، ثم تكليف ما لا يطاق هو التكليف بما هو خارج عن مقدور البشر كتكليف الأعمى بالأبصار ، والزمن بالمشي بحيث لو أتي به يثاب ، ولو تركه يعاقب ، وأما التكليف بما هو ممتنع لغيره كإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مثل فرعون وأبي جهل ، وأبي لهب ، وسائر الكفّار الذين ماتوا على الكفر فقد اتفق الكل على جوازه ووقوعه شرعا ، وأما قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٢). فاستعاذة عن تحميل ما لا يطاق لا عن تكليفه إذ عندنا يجوز أن يحمله جبلا لا يطيقه بأن يلقى عليه فيموت ، ولا يجوز أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ، ولو امتنع يعاقب فلا جرم صحّت الاستعاذة منه بقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا) الآية. وإنما ذكر التحميل في هذه الآية ، والحمل في الآية الأولى لأن الشاقّ يمكن حمله بخلاف ما لا يكون مقدورا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

٢٤٣

____________________________________

ثم التحقيق أن للعبد مقامين أحدهما قيامه بظاهر الشريعة ، وثانيهما شروعه في مبدأ المكاشفة وذلك أن يشتغل بمعرفة الله سبحانه وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التثاقل وفي المقام الثاني قال : لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك ، ولا شكرا يليق بكمالك ، ولا معرفة تليق بحضرتك وعظمتك ، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ، ولا طاقة لي بذلك في جوامع أمري ، ولمّا كانت الشريعة مقدّمة على الحقيقة قدّم الجمل السابقة.

ومنها : أن الإيمان مخلوق ، أو غير مخلوق اختلف فيه المشايخ الحنفية ، فذهب أهل سمرقند إلى الأول ، وذهب أهل بخارا إلى الثاني مع اتفاقهم على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله سبحانه ، وبالغ بعض مشايخ بخارا فكفّروا من قال بأن الإيمان مخلوق ، وألزموا عليه خلق كلام الله تعالى ، ونقلوا عن نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رحمه‌الله أن الإيمان غير مخلوق ، لكن نوح عند أهل الحديث غير معتمد وعلّل هؤلاء كون الإيمان غير مخلوق بأن الإيمان أمر حاصل من الله للعبد لأنه قال : بكلامه الذي ليس بمخلوق فاعلم أنه لا إله إلّا الله ، وقال الله تعالى ، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ، فيكون المتكلم بمجموع ما ذكر قد قام به ما ليس بمخلوق كما أن من قرأ القرآن كلام الله الذي ليس بمخلوق ، وهذا غاية متمسّكهم ، وقد نسبهم مشايخ سمرقند إلى الجهل إذ الإيمان بالوفاق هو التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، وكلّ منهما فعل من أفعال العباد وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى باتفاق أهل السّنّة والجماعة.

قال ابن الهمام : في المسايرة ونص كلام أبي حنيفة رحمه‌الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه التوصية صريح في خلق الإيمان حيث قال : نقرّ بأن العبد مع جميع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقا فأولى أن يكون فعله مخلوقا. انتهى.

هذا وقد نقل بعض أهل السّنّة والجماعة أنهم منعوا من إطلاق القول بحلول كلامه سبحانه في لسان ، أو قلب ، أو مصحف ، وإن أريد به اللفظي رعاية للأدب مع الرب لئلا يتوهّم إرادة النفسي القديم ، وقد حكى الأشعري أن ممّن ذهب إلى أن الإيمان مخلوق حادث حارث المحاسبي وجعفر بن حرب وعبد الله بن كلاب ، وعبد العزيز المكّي وغيرهم من أهل النظر ، ثم قال : وذكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنهم يقولون : إن الإيمان غير مخلوق.

قال صاحب المسايرة : ومال إليه الأشعري ووجهه بما حاصله أن إطلاق الإيمان في

٢٤٤

____________________________________

قول من قال : إن الإيمان غير مخلوق ينطبق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى من أسمائه الحسنى : المؤمن كما نطق به الكتاب العزيز ، وإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم وإخباره الأزلي بوحدانيته كما دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (١). ولا يقال : إن تصديقه محدث ولا مخلوق تعالى الله أن يقوم به حادث انتهى ، ولا يخفى أن الكلام ليس في هذا المرام إذ أجمعوا على أن ذاته وصفاته تعالى أزلية قديمة ، وإن اعتبر هذا المبنى لا يصحّ أن يقال الصبر والشكر ونحوهما مخلوق حيث وردت معانيها في أسماء الله تعالى الحسنى. بل السمع والبصر والحياة والقدرة وأمثالها ، ولا أظن أن أحدا قال بهذا العموم ، وأوجب الكفر بهذا المفهوم الموهوم لأن صفاته سبحانه مستثناة عقلا ونقلا.

ومنها : أن الإيمان باق مع النوم والغفلة والإغماء والموت وإن كان كلّ منهما يضادّ التصديق والمعرفة حقيقة ، لأن الشرع حكم ببقاء حكمهما إلى أن يقصد صاحبهما إلى إبطالهما باكتساب أمر حكم الشرع بمنافاته لهما فيرتفع ذلك الحكم خلافا للمعتزلة في قولهم : إن النوم والموت يضادّان المعرفة فلا يوصف النائم ولا الميت بأنه مؤمن ، كذا ذكره ابن الهمام ، لكنه مخالف لما في المواقف عنهم أنهم قالوا : لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدّقا كالنائم حال نومه والغافل حين غفلته وأنه خلاف الإجماع انتهى. فارتفع النزاع.

ومنها : أن إيمان المقلد الذي لا دليل معه صحيح ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله ، وسفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وعامّة الفقهاء وأهل الحديث رحمهم‌الله تعالى صحّ إيمانه ، ولكنه عاص بترك الاستدلال ، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك ، وعند الأشعري لا بدّ أن يعرف ذلك بدلالة العقل وعند المعتزلة ما لم يعرف كل مسألة بدلالة العقل على وجه يمكنه دفع الشبهة لا يكون مؤمنا.

قال القونوي : عند المعتزلة إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب اعتقاده بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحلّ جميع ما يوردونه عليه من الشبهة حتى إذا عجز عن شيء من ذلك لم يحكم بإسلامه ، وقال الأشعري : شرط صحة الإيمان أن يعرف كل مسألة من مسائل الأصول بدليل عقلي غير أن الشرط أن يعرف ذلك بقلبه ، ولا

__________________

(١) طه : ١٤.

٢٤٥

____________________________________

يشترط أن يعبّر عن ذلك بلسانه ، وهذا وإن لم يكن مؤمنا عنده على الإطلاق ، ولكنه ليس بكافر لوجود ما يضادّ الكفر وهو التصديق فهو عاص بترك النظر والاستدلال ، وهو في مشيئة الله تعالى كسائر العصاة إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذّبه بقدر ذنبه وصار عاقبة أمره إلى الجنة انتهى.

ولا يخفى أن هذا مناف لما صدّره من كلامه حيث جعله شرط صحة الإيمان فإن أريد به شرط صحة كمال الإيمان فهو موافق مع الجمهور في هذه المسألة ، ثم الأظهر ما قاله أبو الحسن الرستغني وأبو عبد الله الحليمي من أنه ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي ، ولكن إذا بنى اعتقاده على قول الرسول بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق ، فهذا القدر كاف لصحة إيمانه وهذا لا ينافي ما سبق من الجمهور من الحكم بعصيان تارك الاستدلال فيما يتعلق بالإيمان على حسب الإجمال ، وأما الإيمان وهو التصديق المأمور به فقد وجد فينال ثواب ما وعد به سواء وجد منه التصديق عن دليل ، أو عن غير دليل ، وأما ما نقله القونوي من أن أبا حنيفة رحمه‌الله حين قيل له : ما بال أقوام يقولون بدخول المؤمن النار؟ فقال : لا يدخل النار إلا كل مؤمن ، فقيل له : فالكافر؟ فقال : هم يؤمنون يومئذ ، كذا ذكره في الفقه الأكبر فليس بموجود في الأصول المعتبرة والنسخ المشتهرة.

ثم قال ومعنى قول العلماء إن الإيمان عند معاينة العذاب لا يصح أي لا ينفع أقول ، بل لا يصح لأن الأمر الشرعي هو الإيمان الغيبي ، ثم التحقيق أن الاستدلال ليتوصل به إلى التصديق في المآل ، فإذا وصل إلى المقصود حصل المطلوب إذ لا عبرة لعدم الذريعة والوسيلة عند حصول المراد من الفضيلة ، وتحقيقه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّ من آمن به وصدقه فيما جاء به من عند الله مؤمنا ولم يشتغل بتعليمه الدلائل العقلية في المسائل الاعتقادية ، وكذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم حيث قبلوا إيمان الزط والأنباط مع قلة أذهانهم وبلادة أفهامهم ، ولو لم يكن ذلك إيمانا لفقد شرطه وهو الاستدلال العقلي لاشتغلوا بأحد الأمرين إما بالإعراض عن قبول إسلامهم ، أو بنصب متكلم حاذق بصير بالأدلة عالم بكيفية المحاجّة لتعليم صناعة الكلام ، والمناظرة ، ثم بعد ذلك يحكمون بإيمانهم وعند امتناع الصحابة رضي الله عنهم ، وامتناع كلّ من قام مقامهم إلى يومنا هذا من ذلك ظهر أن ما ذهبوا إليه باطل لأنه خلاف صنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه العظام رضي الله عنهم وغيرهم من الأئمة الكرام على أن من أصحابنا من قال : إن المقلّد لا يخلو عن نوع علم فإنه ما لم يقع عنده أن المخبر صادق لا يصدقه فيما أخبر به وخبر

٢٤٦

____________________________________

الواحد ، وإن كان محتملا للصدق والكذب في ذاته لكن متى ما وقع عنده أنه صادق ولم يخطر بباله احتمال الكذب ، وكان في الحقيقة صادقا نزل منزلة العالم لأنه بنى اعتقاده على ما يصلح دليلا في الجملة ، وأما من لم تبلغه الدعوة ورآه مسلم ودعاه إلى الدين وأخبره أن رسولا لنا بلغ الدين عن الله تعالى ، ودعانا إليه ، وقد ظهرت المعجزات على يديه وتصدق هذا الإنسان في جميع ذلك فاعتقد الدين من غير تأمّل وتفكّر فيما هنالك ، فهذا هو المقلّد الذي فيه خلاف بيننا وبين الأشعري بخلاف من نشأ فيما بين المسلمين من أهل القرى والأمصار من ذوي النّهى والأبصار ، فلا يخلو إيمانهم عن الاستدلال والاستبصار ، وإن كان لا يهتدي إلى العبارة عن دليل بطريق النظّار فإنه محل الخلاف بيننا وبين المعتزلة.

والصحيح ما عليه عامّة أهل العلم فإن الإيمان هو التصديق مطلقا فمن أخبر بخبر فصدقه صحّ أن يقال : آمن به ، وآمن له ولأن الصحابة كانوا يقلون إيمان عوامّ الأمصار التي فتحوها من العجم تحت السيف ، أو لموافقة بعضهم بعضا وتجويز حملهم إياهم على الاستدلال لا سيما في بعض الأحوال ، وهذا الخلاف فيمن نشأ على شاهق الجبل ولم يتفكّر في العالم ، ولا في الصانع عزوجل أصلا ، فأما من نشأ في بلاد المسلمين وسبّح الله تعالى عند رؤية صنائعه فهو خارج عن حدّ التقليد ، فقد قيل لأعرابي : بم عرفت الله؟ فقال : البعرة تدلّ على البعير ، وآثار الأقدام تدلّ على المسير ، فهذا الإيوان العلوي ، والمركز السفلي ألا يدلّان على الصانع الخبير أما إذا اعتقد وجعل ذلك قلادة في عنق الداعي له إليه على معنى أنه كان حقّا فحقّ وإن كان باطلا فوباله عليه فهذا المقلد ليس بمؤمن بلا خلاف ، لأنه شاكّ في إيمانه ، وقيل : معرف مسائل الاعتقاد كحدوث العالم ووجود الباري ، وما يجب له وما يمتنع عليه من أدلتها فرض عين على كل مكلف فيجب النظر ، ولا يجوز التقليد ، وهذا هو الذي رجحه الإمام الرازي والآمدي ، والمراد النظر بدليل إجمالي ، وأما النظر بدليل تفصيلي يتمكّن معه من إزالة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين ففرض كفاية وأما من يخشى عليه من الخوض فيه الوقوع في الشبه فالأوجه أن المنع متوجّه في حقه فقد قال البيهقي : إنما نهى الشافعي رحمه‌الله وغيره عن علم الكلام لإشفاقهم على الضّعفة أن لا يبلغوا ما يريدون منه فيضلّوا عنه.

وفي التاتارخانية كره جماعة الاشتغال بعلم الكلام وتأويله عندنا أنه كره مع المناظرة والمجادلة لأنه يؤدي إلى إثارة الفتنة والبدعة وتشويش العقائد الثابتة ، أو يكون المناظر

٢٤٧

____________________________________

قليل الفهم ، أو المعرفة ، أو لا يكون طالبا للحق بل للغلبة ، وأما معرفة الله وتوحيده ومعرفة النبوّة ، وما يتعلق بها فهو من فروض الكفاية وفي شرح الهداية (١) لابن الهمام ، أما قول أبي يوسف رحمه‌الله : لا تجوز الصلاة خلف المتكلم. فيجوز أن يريد الذي قرره أبو حنيفة رحمه‌الله حين رأى ابنه حمادا يناظر في الكلام ، فنهاه فقال : رأيتك تناظر في الكلام ، وتنهاني فقال : كنا نناظر وكأن على رءوسنا الطير مخافة أن يزلّ صاحبنا ، وأنتم تناظرون وتريدون زلّة صاحبكم ومن أراد زلّة صاحبه ، فقد أراد كفره ، ومن أراد كفره فقد كفر هذا هو الخوض المنهي عنه. انتهى.

وفي شرح المواقف فائدة علم الكلام هو الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان قال أيضا تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٢). خصّ العلماء الموقنين مع اندراجهم في المؤمنين رفعا لمنزلتهم كأنه قال : وخصوصا هؤلاء الأعلام منكم بما جمعوا من العلم والعمل.

ومنها : أن السحر والعين حق عندنا خلافا للمعتزلة لقوله عليه الصلاة والسلام : «العين حق» (٣) رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة وزيد في رواية ، وأن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر (٤) ، وجاء في رواية أن السحر حق (٥) ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) (٦). وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) (٧). وأما قوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) (٨). فهذا نوع من السحر ، ثم

__________________

(١) هو فتح القدير شرح الهداية.

(٢) المجادلة : ١١.

(٣) أخرجه البخاري ٥٧٤٠ و ٥٩٤٤ ، ومسلم ٢١٨٧ ، وأحمد ٢ / ٣١٩ ، وابن حبان ٥٥٠٣ ، والبغوي ٣١٩٠ ، وعبد الرزاق ١٩٧٧٨ ، وهمام في صحيفته ١٣١ كلهم من حديث أبي هريرة ولم يخرجه أحد من أصحاب السّنن.

(٤) حديث ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية ٧ / ٩٠ ، والخطيب في تاريخه ٩ / ٢٤٤ من حديث جابر بن عبد الله. وقد تفرّد به شعيب بن أيوب عن معاوية عن هشام ... قال الصابوني : وبلغني أنه قيل له : ينبغي أن تمسك عن هذه الرواية ففعل. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة شعيب بن أيوب : وله حديث منكر ذكره الخطيب في تاريخه. يريد هذا الحديث.

(٥) لم أجده في شيء من كتب التخريج المتقدمة.

(٦) البقرة : ١٠٢.

(٧) الفلق : ٣.

(٨) طه : ٦٦.

٢٤٨

____________________________________

قول بعض أصحابنا أن السحر كفر مؤوّل ، فقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ ، بل يجب البحث عنه ، فإن كان ردّ ما لزمه في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ، فلو فعل ما فيه هلاك إنسان ، أو مرضه ، أو تفريق بينه وبين امرأته وهو غير منكر لشيء من شرائط الإيمان لا يكفر ، لكنه يكون فاسقا ساعيا في الأرض بالفساد فيقتل الساحر والساحرة لأن علّة القتل السعي في الأرض بالفساد ، وهذه العلة تشمل الذكر والأنثى ، وأما إذا كان سحرا هو كفر فيقتل الساحر لا الساحرة لأن علّة القتل الردّة والمرتدّة لا تقتل كذا ذكره صاحب الإرشاد في الإشراق ونقله القونوي.

ومنها : المعدوم ليس بشيء ثابت في الخارج ، كما يشير إليه قوله سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١). على أن المراد بالحين قبل خلق الماء والطين خلافا للمعتزلة القائلين بأن المعدوم الممكن الوجود ثابت في الخارج ، والتحقيق أنه إن أريد بالشيء الثابت المحقّق على ما ذهب إليه المحقّقون من أن الشيئية ترادف الوجود والثبوت والعدم يرادف النفي ، فهذا حكم ضروري لا ينازع فيه إلا من تقدّم من المعتزلة ، وإن أريد أن المعدوم لا يسمى شيئا فهو بحث لغوي مبني على تفسير الشيء أنه الموجود ، كما ذهب إليه الأشاعرة أو المعلوم كما ذهب إليه معتزلة البصرة ، أو ما صحّ أن يعلم ويخبر عنه على ما وقع في كلام الزمخشري ، ونقل مثله عن سيبويه ، وبعضهم جعله اسما للجسم ، وبعضهم للقديم ، وبعضهم للحادث فالمرجع إلى نقل الأقوال وتتبّع موارد الاستعمال.

ومنها : أن اليأس من رحمة الله تعالى كفر لقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢). وكذا الآمن من عقوبته كفر لقوله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٣). والأنبياء مأمونون لا آمنون بل خائفون منه أكثر من غيرهم لأنهم أعرف بما له من صفات الجلال وكونهم مأمونين إنما هو من قبله سبحانه تفضلا في شأنهم وعلوّ مكانهم.

ومنها : أن تصديق الكاهن بما يخبره من الغيب كفر لقوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ

__________________

(١) الدهر : ١.

(٢) يوسف : ٧٨.

(٣) الأعراف : ٩٩.

٢٤٩

____________________________________

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (١) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (٢) ، ثم الكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ، ويدّعي معرفة الأسرار في المكان ، وقيل : الكاهن الساحر والمنجّم إذا ادّعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن وفي معناه الرمال.

قال القونوي : والحديث يشمل الكاهن والعرّاف والمنجّم فلا يجوز اتّباع المنجّم والرمال وغيرهما كالضارب بالحصى ، وما يعطى هؤلاء حرام بالإجماع كما نقله البغوي ، والقاضي عياض وغيرهما ولا اتّباع من ادّعى الإلهام فيما يخبر به عن إلهاماته بعد الأنبياء عليهم‌السلام ولا اتّباع قول من ادّعى علم الحروف المهجات لأنه في معنى الكاهن انتهى.

ومن جملة علم الحروف فأل المصحف حيث يفتحونه وينظرون في أول الصحيفة أيّ حرف وافقه ، وكذا في سابع الورقة السابعة فإن جاء حرف من الحروف المركّبة من تخلاكم حكموا بأنه غير مستحسن وفي سائر الحروف بخلاف ذلك ، وقد صرّح ابن العجمي (٣) في منسكه وقال : لا يؤخذ الفأل من المصحف ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك فكرهه بعضهم ، وأجازه بعضهم ونصّ المالكية على تحريمه انتهى ، ولعل من أجاز الفأل أو كرهه اعتمد على المعنى ومن حرّمه اعتبر حروف المبنى فإنه في معنى الاستقسام بالأزلام ، قال الكرماني : ولا ينبغي أن يكتب على ثلاث ورقات من البياض ، أو غيره افعل لا تفعل أو يكتب الخير والشر ، ونحو ذلك فإنه بدعة انتهى. وذكر في المدارك ما يدلّ على أنه أي الاستقسام بالأزلام والأقداح حرام بالنص ، لأنه قال في تفسير قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (٤). إلى قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) (٥) ، أي قال : كان أحدهم في الجاهلية إذا أراد سفرا أو غيره من

__________________

(١) النمل : ٦٥.

(٢) أخرجه أبو داود ٣٩٠٤ ، والترمذي ١٣٥ ، وابن ماجة ٦٣٩ ، وابن الجارود ١٠٧ ، والبيهقي ٧ / ١٩٨ ، والطحاوي في شرح معاني الآثار ٣ / ٤٤ ـ ٤٥ ، والدارمي ١ / ٢٥٩ ، وأحمد ٢ / ٤٠٨ و ٤٢٩ و ٤٧٦ كلهم من حديث أبي هريرة بإسناد قوي.

(٣) اشتهر بهذا الاسم ثلاثة : أولهما أحمد بن عبد العزيز بن محمد ، وثانيهما أحمد بن محمد بن يوسف المصري الشافعي المتوفى سنة ٨٤٠ ه‍ ، وثالثهما : محمد بن أحمد بن جامع الأصبهاني المتوفى سنة ٧٢٧ ه‍.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) المائدة : ٣.

٢٥٠

____________________________________

الأمور يعمد ، ويقصد إلى أقداح ثلاثة لا ريش لها ، ولا نصل على واحد منها مكتوب أمرني ربي ومكتوب على الآخر نهاني ربي. والثالث : غفل لا شيء عليه ، فإن خرج الأمر مضى على ذلك الأمر ، وإن خرج الناهي أمسك وترك أمره سنة ، وإن خرج الغفل أجالها وأعادها ثانيا حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله تعالى عن ذلك وحرّمه.

قال الزجّاج : ولا فرق بين هذا وبين قول المنجّمين لا تخرج من أجل نجم كذا ، واخرج لطلوع نجم كذا قلت ولإبطال هذه الأشياء جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الاستخارة وبعدها الدعاء المأثور كما هو المشهور ، وقد ورد ما خاب من استخار ولا ندم من استشار (١).

وقال شارح العقيدة الطحاوية : الواجب على وليّ الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجّمين [الكهّان] (٢) والعرّافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والفألات ومنعهم من الجلوس في الحوانيت ، أو الطرقات ، أو أن يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته مع قدرته على ذلك قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣) ، ولهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسّنّة أنواع.

نوع منهم أهل تلبيس وكذب وخداع الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له أو يدّعي الحال من أهل المحال كالمشايخ النصّابين والفقراء الكذابين والطرقية المكّارين فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس ، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل كمن يدّعي النبوّة بمثل هذه الخزعبلات أو يطلب [تغيير] (٤) شيء من الشريعة ونحو ذلك.

ونوع منهم يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجدّ والحقيقة بأنواع السحر وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله ومالك وأحمد رحمه‌الله تعالى في المنصوص عنه ، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم كعمر وابنه

__________________

(١) موضوع رواه الطبراني في الصغير ٢ / ٧٨ ، والأوسط ١ / ٩٧ ، مجمع البحرين والقضاعي ٧٧٤ من حديث أنس وفيه عبد القدوس بن حبيب كذاب وعبد السلام ابنه اتهمه ابن حبان بالوضع.

(٢) تصحّفت في الأصل إلى الكهانين والصواب الكهان وهو ما أثبتناه من شرح الطحاوية.

(٣) المائدة : ٧٩.

(٤) تصحفت في الأصل إلى تغير.

٢٥١

____________________________________

وعثمان وغيرهم ، ثم اختلف هؤلاء هل يستتاب أم لا وهل يكفر بالسحر أم يقتل لسعيه في الأرض بالفساد ، وقالت طائفة إن قتل بالسحر وإلا عوقب بدون القتل إذا لم يكن في قوله وعمله كفر ، وهذا هو المنقول عن الشافعي وهو قول في مذهب أحمد ، وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه والأكثرون يقولون : أنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه ، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل ، واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوى الكواكب السبعة أو غيرها أو خطابها أو السجود لها والتقرّب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتيم والبخور ونحو ذلك فإنه كفر ، وهو من أعظم أبواب الشرّ واتفقوا كلهم أيضا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به ، وكذا الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف ، ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بأس بالرقي ما لم تكن شركا» (١). ولا تجوز الاستعانة (٢) بالجن فقد ذمّ الله الكافرين على ذلك فقال الله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٣). قالوا : كان الإنسي في الجاهلية إذا نزل بالوادي في سفره يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ، فزادوهم يعني الإنس للجنّ باستعاذتهم بهم رهقا أي إثما وطغيانا وجرأة وشرّا وتكبّرا وإرهابا ، وذلك أنهم قد قالوا : سدنا الجن والإنس ، فالجن تتعاظم في أنفسها وتزداد كفرا إذا عاملتهم الإنس بهذه المعاملة ، وقال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) (٤) الآية. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وأخباره بشيء من المغيبات ، ونحو ذلك واستمتاع الجن بالإنسي تعظيمه إيّاه واستعانته به ، واستغاثته به وخضوعه له.

ونوع منهم [يتكلم] (٥) بالأحوال الشيطانية والكشوف بالرياضيات النفسانية ومخاطبة رجال الغيب وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله ، وكان من هؤلاء من يعين

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢٢٠٠ ، وأبو داود ٣٨٨٦ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٧ / ٥٦ ، والطبراني ١٨ / ٨٨ كلهم من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

(٢) في بعض نسخ الطحاوية : الاستعاذة.

(٣) الجن : ٦.

(٤) الأنعام : ١٢٨.

(٥) سقطت من الأصل ، وأثبتناها بين قوسين من شرح الطحاوية.

٢٥٢

____________________________________

المشركين على المسلمين ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين لكون المسلمين قد عصوا وهؤلاء في الحقيقة أخوان المشركين.

ثم الناس من أهل العلم في حق رجال الغيب ثلاثة أحزاب : حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد عاينهم الناس وثبت ذلك ممن عاينهم أو حدّثه الثقات بما رأوه وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم ، وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر واعتقدوا أن ثمة في الباطن طريقا إلى الله غير طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا وليّا خارجا عن دائرة الرسول فقالوا : يكون الرسول هو ممدّا للطائفتين فهؤلاء معظّمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه ، والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين ، وأن رجال الغيب هم الجنّ لأن الإنس لا يكون دائما محتجبا عن أبصار الإنس وإنما يحتجب أحيانا ، فمن ظنّ أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن (١) ، وبالجملة فالعلم بالغيب أمر تفرّد به سبحانه ، ولا سبيل للعباد إليه إلا بإعلام منه وإلهام بطريق المعجزة ، أو الكرامة ، أو الإرشاد إلى الاستدلال بالأمارات فيما يمكن فيه ذلك. ولهذا ذكر في الفتاوى أن قول القائل عند رؤية هالة القمر أي دائرته يكون مطر مدّعيا علم الغيب لا بعلامة كفر.

ومن اللطائف ما حكاه بعض أرباب الظرائف أن منجّما صلب فقيل له : هل رأيت هذا في نجمك؟ فقال : رأيت رفعة ، ولكن ما عرفت أنها فوق خشبة.

ثم اعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما علّمهم الله تعالى أحيانا.

وذكر الحنفية تصريحا بالتكفير باعتقاد أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لمعارضة قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (٢). كذا في المسايرة.

ومنها : ما ذكره شارح عقيدة الطحاوي (٣) عن الشيخ حافظ الدين .....

__________________

(١) شرح الطحاوية ٢ / ٧٦٣ ـ ٦٦٧ بشيء من التصرف.

(٢) النمل : ٦٥.

(٣) ١ / ٢٠٤.

٢٥٣

____________________________________

النسفي (١) في المنار أن القرآن اسم للنظم ، والمعنى : جميعا ، وكذا قال غيره من أهل الأصول ، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه‌الله ، أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه (٢) ، وقال : لا يجوز مع القدرة بغير العربية ، وقال : لو قرأ بغير العربية فأما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم بهذه اللغة والإعجاز حصل بنظمه ومعناه.

ومنها : إن استحلال المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية ، وكذا الاستهانة بها كفر بأن يعدّها هيّنة سهلة ويرتكبها من غير مبالاة بها ويجريها مجرى المباحات في ارتكابها ، وكذا الاستهزاء على الشريعة الغرّاء كفر لأن ذلك من أمارات تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال ابن الهمام : وبالجملة فقد ضمّ إلى تحقيق الإيمان إثبات أمور الإخلال بها إخلال بالإيمان اتفاقا كترك السجود لصنم ، وقتل نبي ، أو الاستخفاف به ، أو بالمصحف ، أو الكعبة ، وكذا مخالفة ما أجمع عليه وإنكاره بعد العلم به يعني من أمور الدين فإن من أنكر جود حاتم ، أو شجاعة عليّ رضي الله عنه لا يكفر ، قال ابن الهمام : وقد كفّر الحنفية من واظب على ترك سنّة استخفافا بها بسبب أنها فعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه ، أو إخفاء شاربه.

قلت : ولذا روي أن أبا يوسف رحمه‌الله ذكر أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الدباء فقال رجل : أنا ما أحبّها فحكم بارتداده وعلى هذه الأصول تبتني الفروع التي ذكرت في الفتاوى من أنه إذا اعتقد الحرام حلالا فإن كان حرمته لعينه ، وقد ثبت بدليل قطعي يكفر ، وإلا فلا بأن تكون حرمته لغيره ، أو ثبت بدليل ظنّي ، وبعضهم لم يفرّق بين الحرام لعينه ولغيره ، فقال : من استحلّ حراما ، وقد علم في دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحريمه كنكاح ذوي المحارم ، أو شرب الخمر ، أو أكل ميتة ، أو دم ، أو لحم خنزير من غير

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود ، أبو البركات النسفي الفقيه الأصولي ، المحدّث المتوفى سنة ٧١٠ ه‍ وكتابه المنار اسمه الكامل «منار الأنوار» مختصر مفيد في أصول الفقه كثير التداول والانتشار وعليه شروح كثيرة.

(٢) في الهداية ، وشرحها للعيني ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠ : ويروى رجوع أبي حنيفة في أصل المسألة ـ يعني القراءة بالفارسية ـ إلى قول أبي يوسف ومحمد ، في عدم حجة القراءة بغير العربية ، رواه أبو بكر الرازي وغيره ، وعليه الاعتماد لتنزيله منزلة الإجماع فإن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعا بالإجماع. ا. ه.

٢٥٤

____________________________________

ضرورة فكافر ، ومن استحل شرب النبيذ إلى السكر كفر ، أما لو قال لحرام : هذا حلال لترويج السلعة ، أو بحكم الجهل لا يكفر ولو تمنى أن لا يكون الخمر حراما أو لا يكون صوم رمضان فرضا لما يشقّ عليه لا يكفر بخلاف ما إذا تمنى أن لا يحرم الزنا ، وقتل النفس بغير حق فإنه يكفر لأن حرمة هذين ثابتة في جميع الأديان موافقة للحكمة ، ومن أراد الخروج عن الحكمة ، فقد أراد أن يحكم الله ما ليس بحكمة ، وهذا جهل منه بربه سبحانه ، وتوضيحه ما قال بعضهم من أن الضابطة هي أن الحرام الذي كان حلالا في شريعة فتمنّى حلّه ليس كفر ، والذي لم يكن حلالا في شريعة فتمنى حله كفر ، لأن حرمته الأبدية إنما هي التي اقتضتها الحكمة الأزلية مع قطع النظر عن أحوال الأشخاص الأوّلية والأخروية ، ثم قال : فإن قلت : كون الحرمة موافقة الحكمة الله تعالى هو المدار في التكفير فالأمر في حرمة الخمر أيضا ، كذلك لأن تحريمه بالنسبة إلى هذه الأمة ، إنما هو لاقتضاء الحكمة قلت : لكن هذه الحكمة مقيدة وتلك مطلقة فإرادة الخروج من الثانية خروج من الحكمة مطلقا ، ومن الأولى ليس كذلك بل هي موافقة للحكمة بوجه ، وإن كان مخالفة لها أيضا بوجه آخر فافترقا. انتهى.

وفي هذا الفرق نظر لا يخفى إذ لا يطابق ورود السؤال ، ولا يصحّ جوابا عنه في المآل فإن حرمة الخمر في هذه الأمة لا يقال أنها موافقة للحكمة من وجه مخالفة لها من وجه هذا ، وفي كون تمنّي أمثال ذلك كفرا إشكال لكون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمنّوا أنهم لم يخلقوا ، وقد يتمنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يأكل من الشجرة حتى لم يقع في الدنيا المتعبة ، وغاية الأمر أن خلاف الحكمة وقوعه محال ، والتمنّي إنما يكون محله في الحال على أن التمنّي ليس له تعرّض بالحكمة لا نفيا ولا إثباتا ليكون سببا للكفر.

وذكر الإمام السرخسي رحمه‌الله أنه لو استحلّ وطأ امرأته الحائض يكفر ، وفي النوادر عن محمد رحمه‌الله لا يكفر ، وهو الصحيح ، وفي استحلال اللواطة بامرأته لا يكفر على الأصح لأنه مجتهد فيه ، وأما الأول فلأن النص الدّالّ على حرمته قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١) ظنّيّ الدلالة مع أن حرمته لغيره وهو مجاورة الأذى ، فهذا مبني على الخلاف فيمن استحلّ حراما لغيره هل يكفر أم لا.

ومن وصف الله بما لا يليق به أو سخّر باسم من أسمائه أو بأمر من أوامره ، أو

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٢٥٥

____________________________________

أنكر وعده أو وعيده يكفّر. وكذا لو تمنّى أن لا يكون نبي من الأنبياء على قصد استخفاف أو عداوة قيل : ينبغي أن لا يقيّد التكفير بذلك بهذا لأن وجود الأنبياء مما اقتضته الحكمة بلا شبهة فتمنى أن لا يوجد نبي من الأنبياء كفر مطلقا ، وأجيب بأن اقتضاء الحكمة ذلك إنما هو لتبليغ الأحكام الإلهية إلى عباده ، ويمكن أن تبلغ تلك الأحكام إليهم بلا واسطة نبي فعدم تكوّن الأنبياء بالتمام لا يستلزم أن لا تثبت تلك الأحكام حتى يكون تمنّي ذلك موجبا للكفر على أن تمنّي ذلك لغو لا أثر له في الوجود بخلاف تمنّي حلّ الزنا وأمثاله ، مما يتعلق بأفعال العباد. لأن أمثال ذلك يتضمن الفساد : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (١). وفيه بحث من وجوه.

أما أولا ، فلأنه لا شك أن وساطة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن حكمة خاصة بهم ، وإن كان يمكن إعلام الأحكام بدونهم.

وأما ثانيا ، فلأن الفرق غير ظاهر بينهما ، بل تمنّي عدم وجود الأنبياء أعمّ وأتمّ من تمنّي حلّ الزنا ، وقتل النفس ونحوهما.

وأما ثالثا ، فلأن الفساد لا يوجب كونه كفرا في البلاد والله رءوف بالعباد. وكذا لو ضحك على وجه الرضا ممّن تكلم بالكفر ، وأما إذا ضحك لا على وجه الرضى بل بسبب أن كلام الموجب للكفر عجيبا غريبا يضحك السامع ضرورة فلا يكفر.

وكذا لو جلس على مكان مرتفع وحوله جماعة يسألونه مسائل ويضحكون ويضربونه بالوسائد يكفرون جميعا وذلك لأن هذه الجماعة يجعلون ذلك الشخص مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينزلون الغير منزلة أصحابه الكرام في السؤال بالمسائل والأحكام استهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه نعوذ بالله من ذلك.

وكذا لو أمر رجلا أن يكفر بالله ، أو عزم على أن يأمره بالكفر وذلك لأنه رضا بالكفر والرضا بالكفر كفر سواء كان بكفر نفسه أو بكفر غيره ، وقد سبق زيادة بيان في هذا الكلام وتحقيق أمره.

وكذا لو قال عند شرب الخمر أو الزنا بسم الله أي عمدا أو باعتقاد أنهما حلالان. وكذا لو أفتى لامرأة بالكفر لتبيّن من زوجها ، وذلك بأن يقول المفتي أو القاضي للمرأة

__________________

(١) البقرة : ٢٠٥.

٢٥٦

____________________________________

المطلّقة بالثلاث مثلا ما حكم الإسلام فتقول : لا أعرف مع أنه لو قيل لها : إذا أسلم أحد هل يجوز قتله وأخذ ماله فتقول : لا ، فحينئذ يقول هذا المفتي الجاهل أو القاضي المائل أفتيت بكفرها ، أو حكمت بأنها ما كانت مسلمة من أصلها فنكاحها الأول فاسد ، وهذا عمل باطل وأمر كاسد.

وكذا لو صلى لغير القبلة أو بغير طهارة متعمّدا يكفّر ، وإن وافق ذلك القبلة يعني وكذا إن وافق الطهارة.

وكذا لو أطلق كلمة الكفر استخفافا لا اعتقادا إلى غير ذلك من الفروع. والجمع بين قولهم لا يكفّر أحد من أهل القبلة وقولهم يكفّر من قال بخلق القرآن ، أو استحالة الرؤية أو سبّ الشيخين أو لعنهما ، وأمثال ذلك مشكل كما قال شارح العقائد ، وكذا شارح المواقف إن جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفّر أحد من أهل القبلة ، وقد ذكر في كتب الفتاوى أن سبّ الشيخين كفر ، وكذا إنكار إمامتهما كفر ، ولا شك أن أمثال هذه المسألة مقبولة بين جمهور المسلمين فالجمع بين القولين المذكورين مشكل. انتهى.

ووجه الإشكال عدم المطابقة بين المسائل الفرعية والدلائل الأصولية التي من جملتها اتفاق المتكلمين ، على عدم تكفير أهل القبلة المحمدية ويدفع الإشكال بأن نقل كتاب الفتاوى مع جهالة قائله وعدم إظهار دلائله ليس بحجة من ناقله إذ مدار الاعتقاد في المسائل الدينية على الأدلة القطعية على أن في تكفير المسلم قد يترتب مفاسد جليّة وخفيّة فلا يفيد قول بعضهم إنما ذكروه بناء على الأمور التهديدية والتغليظية.

وقد تصدّى الإمام ابن الهمام في شرح الهداية للجواب عن هذه الحكاية حيث قال : اعلم أن الحكم بكفر من ذكرنا من أهل الأهواء مع ما ثبت عن أبي حنيفة رحمه‌الله والشافعي رحمه‌الله من عدم تكفير أهل القبلة من المبتدعة كلهم محمله أن ذلك المعتقد في نفسه كفر فالقائل به قائل بما هو كفر ، وإن لم يكفر بناء على كون قوله ذلك عن استفراغ وسعه مجتهد في طلب الحق لكن جزمهم ببطلان الصلاة خلفه لا يصحح هذا الجمع اللهمّ إلا أن يراد بعدم الجواز خلفهم عدم الحلّ أي عدم حلّ أن يفعل وهو لا ينافي صحة الصلاة وإلا فهو مشكل ؛ انتهى ، ولا يخفى أنه يمكن أن يقال في دفع الإشكال إن جزمهم ببطلان الصلاة خلفهم احتياطا لا يستلزم جزمهم بكفرهم ألا ترى أنهم جزموا ببطلان الصلاة مستقبلا إلى الحجر احتياطا مع عدم جزمهم بأنه ليس من

٢٥٧

____________________________________

البيت ، بل حكموا بموجب ظنهم فيه أنه منه فأوجبوا الطواف من ورائه.

ثم اعلم أن المراد بأهل القبلة الذين اتفقوا على ما هو من ضرورات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الله بالكليّات والجزئيات ، وما أشبه ذلك من المسائل فمن واظب طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم ، أو نفي الحشر ، أو نفي علمه سبحانه بالجزئيات لا يكون من أهل القبلة ، وإن المراد بعدم تكفير أحد من أهل القبلة عند أهل السّنّة أنه لا يكفر ما لم يوجد شيء من أمارات الكفر وعلاماته ولم يصدر عنه شيء من موجباته ، فإذا عرفت من ذلك فاعلم أن أهل القبلة المتفقون على ما ذكرنا من أصول العقيدة اختلفوا في أصول أخر كمسألة الصفات وخلق الأعمال ، وعموم الإرادة وقدم الكلام وجواز الرؤية ونحو ذلك مما لا نزاع في أن الحق فيها واحد واختلفوا أيضا هل يكفّر المخالف للحق بذلك الاعتقاد والقول به على وجه الاعتماد أم لا فذهب الأشعري ، وأكثر أصحابه إلى أنه ليس بكافر وبه يشعر ما قاله الشافعي رحمه‌الله لا أردّ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية (١) لاستحلالهم الكذب.

وفي المنتفى عن أبي حنيفة رحمه‌الله لم نكفّر أحدا من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال بكفر المخالفين. وقال قدماء المعتزلة : يكفّر القائل بالصفات القديمة وبخلق الأعمال ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : نكفّر من يكفّرنا ومن لا فلا ، واختار الرازي أن لا يكفّر أحد من أهل القبلة ، وقد أجيب عن الإشكال بأن عدم التكفير مذهب المتكلمين ، والتكفير مذهب الفقهاء فلا يتّحد القائل بالنقيضين ، فلا محذور ، ولو سلّم فيجوز أن يكون الثاني للتغليظ في ردّ ما ذهب إليه المخالفون ، والأول لاحترام شأن أهل القبلة فإنهم في الجملة معنا موافقون.

ومنها : بحث التوبة اعلم أولا أن قبول التوبة وهو إسقاط عقوبة الذنب عن التائب غير واجب على الله تعالى عقلا ، بل كان ذلك منه فضلا خلافا للمعتزلة ، فأما وقوع قبولها شرعا فقيل : هو مرجو غير مقطوع به ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٢). علقه بالمشيئة ، ولذا حسن من الله تعالى ومن رسوله تأخير قبول توبة

__________________

(١) الخطابية نسبة إلى أبو الخطاب الأسدي وهو محمد بن أبي زينب ويكنّى أيضا أبا إسماعيل. ظل على ضلاله ومخرقته حتى قتله عيسى بن موسى والي الكوفة من قبل العباسيين وكان ذلك في سنة ١٤٣ ه‍. انظر الملل والنّحل ١ / ١٧٩ ـ ١٨٠ ، والفرق بين الفرق ص ١٨٨.

(٢) التوبة : ١٥.

٢٥٨

____________________________________

المتخلفين عن الجهاد (١) مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إخلاص توبتهم ، وكثرة بكائهم ، وشدّة ندامتهم بخلاف التوبة عن الكفر حيث يقبل قطعا عرفناه بإجماع الصحابة والسلف رضي الله عنهم فإنهم يرغبون إلى الله تعالى في قبول توبتهم عن الذنوب والمعاصي ، كما في قبول صلاتهم وسائر أعمالهم ويقطعون بقبول توبة الكافر ، كذا ذكره القونوي ، ويمكن أن يقال : إن عدم جزمهم بتوبة أنفسهم لكونهم غير جازمين بحصول شرائطها ، إذ هي كثيرة بخلاف التوبة من الكفر فإن الاعتبار فيه مجرد الإقرار بحسب الظواهر والله أعلم بالسرائر.

ولذا كان السلف خائفين من قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٢). أي حالا ومآلا والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلا يرد أنه نزل في حق المنافقين ، وأما قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (٣). فمعناه يوفّقه للتوبة بقرينة كلمة على لا أنه يقبل توبته حيث لم يقل عن ، ولقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (٤). والآية في المؤمنين وإخبار الله تعالى حق ووعده صدق فإنكاره كفر ، كما قال به بعضهم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : التائب من الذنب كمن لا ذنب له». وأما تأخير قبول توبة المخلفين عنه عليه الصلاة والسلام لعدم اطّلاعه على ما في قلوبهم وللتأدّب مع الله في الاستقلال بالحكم في أمرهم ، وأما هو سبحانه فلعله أخّر إظهار قبول توبتهم زجرا لهم ولأمثالهم عن عودهم إلى زلّتهم على أنه لا يبعد أنهم ما أخلصوا في نيّتهم إلا عند نزول قبول توبتهم.

وفي عمدة النسفي : ومن تاب عن كبيرة صحّت توبته مع الإصرار على كبيرة أخرى ولا يعاقب بها أي على الكبيرة التي تاب عنها خلافا لأبي هاشم من المعتزلة ، ثم قال : ومن تاب عن الكبائر لا يستغني عن توبة الصغائر ، ويجوز أن يعاقب بها عند أهل السّنّة والجماعة وعند الخوارج من عصى صغيرة أو كبيرة فهو كافر مخلد في النار إذا مات من

__________________

(١) حديث المخلفين عن غزوة تبوك أخرجه البخاري ٤٤١٨ ، ومسلم ٢٧٦٩ ، وأبو داود ٣٣٢٠ ، والترمذي ٣١٠٢ ، والنسائي ٢ / ٥٣ ـ ٥٤ و ٦ / ١٥٢ و ١٥٤ ، وابن ماجة ١٣٩٣ ، وأحمد ٦ / ٣٩٠ ، وابن أبي شيبة ١٤ / ٥٤٠ و ٥٤٥ ، وعبد الرزاق ١٩٧٤٤ ، والطبراني في الكبير ١٩ / ٩٠ ، وابن حبان ٣٣٧٠ كلهم من حديث كعب بن مالك.

(٢) البقرة : ٨.

(٣) التوبة : ١٥.

(٤) الشورى : ٢٥.

٢٥٩

____________________________________

غير توبة ، وعند المعتزلة تفصيل في المسألة فإن كانت كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر إلا أنه مخلد في النار ، وإن كانت صغيرة واجتنب الكبائر لا يجوز التعذيب عليها ، وإن ارتكب الكبائر لا يجوز العفو عنها وردّ عليهم بأجمعهم قوله سبحانه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١). كما مرّ بيانه في الإثناء وفي الإيماء إلى أنه سبحانه يعفو عن بعض أرباب الذنوب إلا أنه لا ندري في حق كل واحد على التعيين أنه هل يعفي عنه أم لا ، وإذا عذّبه فإنه لا يؤيده كما تدلّ عليه الأحاديث منها : «من قال لا إله إلّا الله دخل الجنة وإن زنى ، وإن سرق» (٢). وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السّنّة والجماعة ، ثم الفرق لأصحابنا بين الكفر وبين ما دونه من الذنوب في جوار العفو عمّا دون الكفر وامتناعه فيه ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي في التوحيد : أن الكفر مذهب يعتقد إذ المذاهب تعتقد للأبد فعلى ذلك عقوبته أن يخلد في النار وسائر الكبائر لا تفعل للأبد ، بل في بعض الأوقات عند غلبة الشهوات فعلى ذلك عقوبتها في بعض الحالات إن لم يعف عنه ، ولم تتداركه الشفاعات ، وهذا في حق العصاة ، وأما غيرهم فقد قال الطحاوي : نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته. انتهى.

وإنما استعمل الرجاء لظاهر إحسانهم في الحال لا على تحقيق الإيقان في المآل ، ولأن العمل الصالح ليس بموجب للجزاء ، بل الجزاء بفضل الله وبرحمته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله ، فقيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمته» (٣) ، وهذا لا ينافي ما قال الله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤) فإنه لمّا كان لا يتفضّل بدخول الجنة إلّا على من آمن وعمل صالحا ، فكأنه

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) أخرجه البخاري ٣٢٢٢ و ٢٣٨٨ ، ومسلم ٩٤ ، والترمذي ٢٦٤٤ ، والطيالسي ٤٤٤ ، وأحمد ٥ / ١٦٦ ، والنسائي في «اليوم والليلة» ١١٢٢ ، وابن حبان ١٦٩ ، والبغوي في شرح السّنّة ٥٤ ، وأبو عوانة ١ / ١٩ ، وابن مندة في الإيمان ٨٣ كلهم من حديث أبي ذر الغفاري.

(٣) أخرجه البخاري ٥٦٧٣ و ٦٣٦٣ ، ومسلم ٢٨١٦ ، وابن ماجة ٤٢٠١ ، وأحمد ٢ / ٢٣٥ و ٢٥٦ ، والبخاري في الأدب المفرد ٤٦١ ، والبغوي ٤١٩٢ و ٤١٩٣ و ٤١٩٤ من حديث أبي هريرة.

وأخرجه من حديث عائشة : البخاري ٦٤٦٤ و ٦٤٦٧ ، ومسلم ٢٨١٨ ، وأحمد ٦ / ١٢٥. وأخرجه من حديث جابر : مسلم ٢٨١٧ ، وأحمد ٣ / ٣٣٧ و ٣٦٢ ، والدارمي ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦. وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري : أحمد ٣ / ٥٢.

(٤) النحل : ٣٢.

٢٦٠