شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

الكلام منه لفقيه الكتاب ، أو لكاتب المصحف ، وعلى التقديرين فالمعنى خذ أجرة تعليمه أو كتابته ولا محذور فيه لا سيما ، والجمهور من المتأخرين جوّزوا تعليم القرآن بالأجرة ، واتفقوا على جواز أجرة كتابة المصحف ثم قال : ومن قال لما في القدر إذا سئل ما فيه ، أو قال : لما هو في القدر والباقيات الصالحات كفر يعني ، لأنه إما قاله : مزاحا أو وضع كلامه سبحانه موضع كلامه كما يدل عليه إتيان الواو في : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) (١).

وفي الظهيرية تخاصموا فقال أحدهما : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وقال الآخر : لا حول ليس على أمر ، أو قال ما ذا أفعل بلا حول ولا قوة إلا بالله ، أو قال : لا حول لا يغني من جوع ، أو لا يغني من الخبز ، أو لا يكفي من الخبز ، أو لا يأتي من لا حول شيء ، أو قال لا حول لا يثرد في القصعة كفر في الوجوه كلها.

وفي المحيط : وكذلك إذا قال كله عند التسبيح والتهليل كفر ، وكذلك إذا قال : سبحان الله ، وقال الآخر : سلخت اسم الله أو إلى كم سبحان الله ، أو تقول سبحان الله كفر لاستخفافه في الكل باسم الله ، قلت : وهذا تعليل حسن يفيد أنه لو قال إلى كم سبحان الله أو إلام تقول سبحان الله بطريق الاستفهام لا سيما عند إطالة هذا الكلام لا يكفر ، ثم قال : وكذلك إذا قال وقت قمار كعبتين بسم الله كفر. انتهى. ولا يخفى أن في معناه وقت قمار الشطرنج بل وقت لعبه ولو من غير قمار وكذا رمي الرمل وطرح الحصى كما يفعله أرباب الفأل ، وفي التتمة من قال عند ابتداء شرب الخمر أو الزنا أو أكل الحرام : بسم الله كفر ، وفيه أنه ينبغي أن يكون محمولا على الحرام المحض المتفق عليه ، وأن يكون عالما بنسبة التحريم إليه بأن تكون حرمته مما علم من الدين بالضرورة كشرب الخمر ، ثم قال : ولو قال بعد أكل الحرام : الحمد لله اختلفوا فيه ، فإن أراد به الحمد على أنه رزق كفر أي رزق الحرام فإنه استحسان له حيث عدّه نعمة وهو كفر أما لو أراد الحمد على الرزق المطلق من غير أن يخطر بباله الحرام أو الحلال فلا يكفر بخلاف مذهب المعتزلة ، فإن الحرام ليس رزقا عندهم ، وعندنا الرزق يشمل الحرام والحلال ، تعالى أعلم بالأحوال.

ثم قال البدر الرشيد أو صاحب فتاوى التتمة : سمعت عن بعض الأكابر أنه قال موضع الأمر للشيء ، أو قال : موضع الإجازة بسم الله مثل أن يقول أحد أدخل ، أو أقوم

__________________

(١) الكهف : ٤٦.

٢٨١

____________________________________

أو أصعد أو أسير أو أتقدم ، فقال المستشار : بسم الله يعني به أدنتك فيما استأذنت كفر يعني حيث وضع كلام الله موضع مهانة توجب إهانة ، وهذا تصوير مسألة الإجازة ، وأما تصوير مسألة الأمر للشيء فهو أن صاحب الطعام يقول لمن حضر : بسم الله ، وهذه المسألة كثيرة الوقوع في هذا الزمان وتكفيرهم حرج في الأديان ، والظاهر المتبادر من صنيعهم هذا أنه يتأدبون مع المخاطب حيث لا يشافهونه بالأمر ويتباركون بهذه الكلمة مع احتمال تعلقه بالفعل المقدّر أي كل باسم الله وادخل بسم الله على أن متعلق البسملة في غالب الأحوال يكون محذوفا من الأفعال ، فلا يقال للمصنّف ، أو القارئ إذا قال بسم الله أنه أراد وضع كلام الله موضع كلامه ، بل يقال : تقديره أصنّف أو أقرأ أو أبتدئ كلامي ونحوه بسم الله فالمقصود أنه لا ينبغي للمفتي أن يعتمد على ظاهر هذا النقل لا سيما وهو مجهول الأصل ، وليس مستندا إلى من يتعيّن علينا تقليده فيجوز لنا تقييده ، وأما ما نقله البزازي (١) عن مشايخ خوارزم من أن الكيال والوزان يقول في ابتداء العدّ في مقام أن يقول : واحد بسم الله ويضعه مكان قوله واحد لا يريد به ابتداء العدّ لأنه لو أراد لقال : بسم الله واحد ، لكنه لا يقول كذلك ، بل يقتصر على بسم الله يكفر ففيه المناقشة المذكورة هنالك فإنه لا يبعد أنه أراد ابتداء العد كما تدل عليه البسملة المتعلقة غالبا بابتدئ أو ابتدائي أو ابتدأت المقدّرة أولا أو آخر فحينئذ يستغنى ، بهذا القدر عن قوله واحد فتدبر ، فإنه إيجاز في الكلام ، وليس على صاحبه شيء من الملام ونظيره ما يقوله بعض الجهلة عند استلام الحجر الأسود : اللهمّ صلّ على نبي قبلك فإنه كفر بظاهره إلا أنهم يريدون به الالتفات في الكلام ، وفي المحيط من قال : القرآن أعجمي كفر يعني لأنه معارضة لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢). وبوجود كلمة أعجمية فيه معربة لا يخرج عن كونه عربيّا لأن العبرة للأكثر فتدبر ، وفيه أيضا من رأى الغزاة الذين يخرجون للغزو فقال : فقال : هؤلاء أكلة الرز ، فقد قيل : يخشى عليه الكفر يعني إن أراد به مجرد إهانتهم من جهة طاعتهم كفر ، وأما إن قال ذلك نظرا إلى عدم تصحيح نيّتهم وتحسين طويّتهم فلا يكون كفرا ، وفيه أيضا من صلى الفجر وقال بالفارسية : فجرك وانماز كر دم يعني صليت الفجر بصيغة التصغير للتحقير ، أو قال : آن دابر سر من دادم كفر يعني أدّيت ما وضع على مثل ما يضعه الحاكم الظالم على الرعية ، وتسمى الرمية في اللغة العربية ، ومن قال : والله

__________________

(١) البزازي : محمد بن محمد الكردي صاحب الفتاوى المسماة بالوجيز ، وتعرف بالبزازية توفي سنة ٨٢٧ ه‍.

(٢) يوسف : ٢.

٢٨٢

____________________________________

لا أصلي ولا أقرأ القرآن ، أو قال هو إن صلى أو قرأ أو شدّد الأمر على نفسه ، أو صعب ، أو أطول ، أو قال : إن الله نقص من مالي ، وأنا أنقص من حقه ولا أصلي انتهى. كذا من غير بيان حكم ، والظاهر عدم الكفر في الصور الأول والكفر في المسألة الأخيرة ، فتأمل فإن معارضة الرب من علامة كفر القلب بخلاف القسم على ترك الصلاة فإنه ينبئ عن تعظيم الله سبحانه في الجملة مع نوع من المخالفة في الطاعة التي لا تخرجه عن الإيمان والله المستعان ...

وأما قوله وفي نسخة منسوبة إلى التتمة من قال : لا أصلّي جحودا ، أو استخفافا ، أو على أنه لم يؤمر أو ليس بواجب انتهى. فلا شك أنه كفر في الكل ، وفي الفتاوى الصغرى (١) ، أو قال للمكتوبة : لا أصلّيها أبدا انتهى ، وظاهر عطفه بأو على ما قبله أنه يشاركه في حكمه بالكفر ، وفي المسألة الأولى كفره ظاهر إن أراد به عدم الوجوب بخلاف ما إذا أراد الجواب والله أعلم بالصواب. وبخلاف المسألة الثانية : اللهمّ إلّا أن يقال الإصرار على الكبيرة كفر حقيقي ، نعم كفر باعتبار أنه يخشى عليه من الكفر ، فإن المعاصي تزيد الكفر ، وإلا فترك الطاعات بالكلية وارتكاب السيئات بأسرها لا يخرج المؤمن عن الإيمان عند أهل السّنّة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة.

وفي الخلاصة أو قال : لو أمرني الله تعالى بعشر صلوات لا أصلّيها ، أو قال : لو كانت القبلة إلى هذه الجهة لا أصلّي إليها ، وإن كان محالا يعني يكفر مع كونه محالا لأنه معارضة لأمر الله سبحانه نحو قول إبليس : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢) فإنه ما كفر إلا بالمعارضة لا بترك السجدة ، وإلا فهو كآدم عليه‌السلام في مرتبة واحدة حيث خالف بأكل الشجرة ، ثم في نسخة منسوبة إلى الظهيرية ، أو قال العبد : لا أصلي فإن الثواب يكون للسيد يعني أنه كفر لزعمه أنه لا ثواب له مع أنه يجب على العبد مطاوعة مولاه سواء يكون له ثواب أم لا على أن الثواب حاصل للعبد ولمالكه ثواب السببية ، والفضل واسع ، بل قال الإمام الرازي : من عبد الله لرجاء جنته أو خوف ناره بحيث أنه لو لم يخلق جنة ولا نارا ما كان يعبد الله سبحانه ، فهو كافر لأنه تعالى يستحق أن يعبد لذاته وطلب مرضاته ، ومن صلى في

__________________

(١) الفتاوى الصغرى للشيخ الإمام عمر بن عبد العزيز المعروف بحسام الدين الشهيد المقتول سنة ٥٣٦ ه‍.

(٢) الحجر : ٣٣.

٢٨٣

____________________________________

رمضان لا غير فقال : هذا أيضا كثير ، وهذا يزيد أو زائد لأن كل صلاة بسبعين كفر في الكل أي فيه وفي ما قبله ، ووجه ما فيه أنه مستكثر هذا المقدار من الطاعة لله تعالى مع أن الواجب عليه أكثر من ذلك إلا أنه خفّف بشفاعة الرسول هنالك ، وأما تعليله بأن كل صلاة بسبعين فيستفاد منه أنه يعتقد أن المضاعفة تسقط أصل الطاعة وأعداد العبادة ، وهو كفر ، ومن قيل له : صلّ فقال : لا أصلّي بأمرك كفر ، وفيه بحث ظاهر نعم في نسخة لا أصلّي من غير قوله : بأمرك وهو أظهر في كونه كفرا لأنه كالمعارضة لأمر الله سبحانه حيث أمره صاحبه بالمعروف ، أو لم يره فرضا كفر أيضا ، وهذا واضح جدّا ، أو قال : يصلي الناس لأجلنا كفر لأجل اعتقاد أن الصلاة المكتوبة فرض كفاية ، أو أراد به استهزاء. أو سخرية ، وفي فوز النجاة ، أو قال : لا أصلي لأنه لا زوجة له ولا ولد يعني كفر لأنه اعتقد أنها لا تجب إلا على من له زوجة أو ولد ، أو أراد المعارضة مع الربّ والمناقضة في مقابلة فعله سبحانه ، وفي الظهيرية : أو قال : كم من هذه الصلاة فإنه ضاق صدري منها ، أو ملّ أي حصل الملالة منها ، فإنه كفر للاعتراض على فرضية كمية هذه الصلاة في أكثر الأوقات.

وقال في الجواهر ، أو قال : شبعت منها ، أو كرهتها ، أو قال : من يقدر على تمشية الأمر ، أو على إخراجه يعني كفر ، فإنه يدلّ على أنه يعتقد أن الله تعالى كلّفه فوق طاقته ، وقد قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ، أو قال : أصير إلى مجيء شهر رمضان يعني أنه يكفر على اعتقاد عدم فرضية الصلاة في غيره ، أو لزعمه أن الصلاة في تسدّ عنها في غيره ، أو قال العقلاء : لا يدخلون في أمر لا يقدرون على أن لا يمضوه إذ فيه ما سبق من اعتقاد التكليف فوق الطاقة ، أو قال : إني لا أدخل الابتلاء يعني كفر فإنه عدّ الطاعة ابتلاء مع أن المعصية هي الابتلاء في البلاء ، ولذا كان الشبلي رحمه‌الله تعالى إذا رأى أحدا من أرباب الدنيا قال : اللهمّ إني أسألك العافية ، وإن كان مجموع التكليف بالطاعة هو الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان ليكرم المرء أو يهان ، أو قال : إلى م أي إلى متى أفعل هذه البطالة والتعطيل ، أو قال : إنها شديدة الثقالة أو شديدة الصعوبة عليّ يعني كفر لأن تسمية الطاعة تعطيلا وبطالة كفر بلا شبهة ، وأما قوله : شديدة الثقالة ، أو شديدة الصعوبة عليّ فلا وجه لكفره إلا أن يحمل على أنه أراد الاعتراض على الله سبحانه ، أو اعتقد أنه كلّفه فوق الطاقة ، أو

__________________

(١) البقرة : ٣٨٦.

٢٨٤

____________________________________

اعترف بما قاله سبحانه : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (١). أي المؤمنين حقّا لقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢). وفي المحيط ، أو قال : من يقدر على أن يبلغ هذا الأمر إلى نهايته يعني كفر ووجهه ما تقدّم ، أو قال : لن أصلّي ووالداي كلاهما قد ماتا ، أو قال : لا أصلّي ووالداي حيّان بعد لم يمت منهما واحد يعني كفر حيث علّق وجوب الصلاة وأداءها على وجودهما أو على عدمهما ، أو قال للآمر : ما زدت ، أو ما ربحت من صلاتك يعني كفر ، لأنه اعتقد أن الصلاة لا تزيد في الأجر ، ولا يكون في تجارتها ربح في الأمر ، أو قال : الصلاة وتركها واحد كفر في الوجود كلها ، وقد تقدّم وجوه جميعها إلا الأخير فإنه اعتقد أن الطاعة والمعصية حكمهما واحد في الشريعة ، والحقيقة ، وقد قال الله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا). أي اكتسبوا (السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٣). وفي جواهر الفقه : من جحد فرضا مجمعا عليه كالصلاة والصوم والزكاة والغسل من الجنابة كفر.

قلت : وفي معناه من أنكر حرمة محرم مجمع عليه كشرب الخمر والزنا ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم والربا ، ثم قال : ومن قال بعد شهر من إسلامه فصاعدا في ديارنا أي ديار الإسلام إذا سئل عن خمس صلوات ، أو عن زكاة فقال : لا أعلم أنها فريضة كفر ، قلت : هذا في الصلاة ظاهر ، وأما في الزكاة فمحل بحث إلا إذا كان ممن تجب عليه الزكاة ، ولو قيل لفاسق : صلّ حتى تجد حلاوة الإيمان ، فقال : لا أصلي حتى أجد حلاوة الترك كفر يعني حيث رجّح حلاوة المعصية على حلاوة الطاعة ، وساوى بينهما ، ولو قال : لو أمرني الله بأكثر من خمس صلوات ، أو بأكثر من صوم شهر رمضان أو بأكثر من ربع العشر في الزكاة لم أفعل يعني كفر ، ووجهه ما تقدّم.

وفي فوز النجاة أو قال : ما أحسن أو ما أطيب امرئ لا يصلي كفر ، يعني لاستحسانه المعصية ومرتكبها ، وفي الفتاوى الصغرى والجواهر : ومن صلى مع الإمام بجماعة بغير طهارة عمدا كفر ، وفيه أن قيد الجماعة مع الإمام لا يظهر وجهه ، ثم الصلاة بغير طهارة معصية فلا ينبغي أن يقال بكفره إلا إذا استحلّها ، وكذا قولهما : ومن صلّى

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

(٢) البقرة : ٤٦.

(٣) الجاثية : ٢١.

٢٨٥

____________________________________

إلى غير القبلة عمدا كفر إلا أن يحمل على ما إذا اعتقد جوازها ، أو فعلها استهزاء ، قال : وكذا من تحوّل عن جهة التحرّي وصلى عمدا كفر يعني لأن جهة التحرّي ظنّا حكمه حكم القبلة قطعا ، وفيه ما تقدم مع زيادة الشّبهة ، وفي التتمة من سجد أو صلى محدثا رياء كفر فيه إن قيد الرياء يفيد أنه إن صلى حياء لا يكفر وأما إذا جمع بين الرياء وترك الطهارة ، فكأنه غلط المعصية ، ومع هذا لا يخلو عن الشبهة لا سيما في السجدة المفردة حيث يتوهّم كثيرون أنها تجوز من غير طهارة ، وربما يسجدون لغير الله واختلفوا في كفره.

وأما قوله : ومن ترك صلاة تهاونا أي استخفافا لا تكاسلا فقد كفر. أقول : وهو أحد تأويلات قوله عليه الصلاة والسلام : «من ترك صلاة متعمّدا فقد كفر» (١).

وفي المحيط : من صلى إلى غير القبلة متعمّدا فوافق ذلك القبلة أي ولو وافقها. قال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : هو كافر كالمستخف فيه إشارة إلى أن يكون مستحلّا كالمستخف ، وبه أخذ الفقيه أبو الليث يعني أفتى به ، وكذا إذا صلى بغير طهارة ، أو مع الثوب النجس يعني مع القدرة على الثوب الطاهر كفر يعني إذا استحلّ وإلا فلا شك إنها معصية وإنه كأنه ترك تلك الصلاة وبمجرد تركها لا يكفر.

وفي التتمة بفوت الصلاة ويقضيها جملة ويقول لمن يعترض عليه : إن كل غريم يجب أداء مديونه حقوقه جملة واحدة يعني كفر حيث سمّى العبادة غرامة ، ووصف الكريم بنعت الغريم ، أو قال : لم أغسل رأسي لصلة أو ما غسلت رأسي لصلاة ، أو ما غسلت لصلاة رأسي ، وفيه أن مؤداهما واحد وكونه كفرا لا يظهر إلا إذا قاله استهزاء بالصلاة ، وهذا معنى ، أو قال : إن الصلاة ليست بشيء ، وأما قوله : إذا هي غير مؤداة فلا يظهر وجهه بخلاف قوله : أو خسف بها الأرض ، فإنه لا يشك أنه قال ذلك إهانة لها ، فهذا كله كفر أي على ما قرّرناه.

__________________

(١) رواه الطبراني في الأوسط كما في المجمع ١ / ٢٩٥ من حديث أنس بن مالك قال الهيثمي : ورجاله موثوقون إلا محمد بن أبي داود فإني لم أجد من ترجمه وقد ذكر ابن حبان في الثقات محمد بن أبي داود البغدادي فلا أدري هو هذا أم لا. ا. ه.

٢٨٦

____________________________________

فصل في العلم والعلماء

وفي الخلاصة من أبغض عالما من غير سبب ظاهر خيف عليه الكفر ، قلت الظاهر أنه يكفر لأنه إذا أبغض العالم من غير سبب دنيوي ، أو أخروي فيكون بغضه لعلم الشريعة ، ولا شك في كفر من أنكره فضلا عمّن أبغضه. وفي الظهيرية من قال لفقيه : أخذ شاربه ما أعجب قبحا أو أشدّ قبحا قصّ الشارب ولفّ طرف العمامة تحت الذقن يكفر لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم‌السلام ، لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقصّ الشارب من سنن الأنبياء عليهم‌السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.

وفي الخلاصة من قال : قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافا يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر ، أو قال : ما أقبح امرئ قصّ الشارب ولفّ طرف العمامة على العنق كذا في الخلاصة للحميدي وفيه إن إعادته للتأكيد.

وفي المحيط من جلس على مكان مرتفع والناس حوله يسألون منه مسائل بطريق الاستهزاء ثم يضربونه بالوسائد أي مثلا وهم يضحكون كفروا جميعا أي لاستخفافهم بالشرع ، وكذا لو لم يجلس على المكان المرتفع.

نقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبّه بالمعلم على وجه السخرية وأخذ الخشبة وشرب الصبيان كفر يعني لأن معلّم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلّمه يكون كفرا.

وفي الظهيرية ولو جلس مجلس الشرب على مكان مرتفع وذكر مضاحك يستهزىء بالمذكر فضحك وضحكوا كفروا جميعا يعني لأن المذكر واعظ وهو من جملة العلماء وخليفة الأنبياء عليهم‌السلام.

وفي الخلاصة : من رجع من مجلس العلم فقال آخر : رجع هذا من الكنيسة كفر يعني لأنه جعل موضع الشريعة ومقرّ الإيمان مكان الكفر والكفران.

وفي الظهيرية من قيل له : قم نذهب أو اذهب إلى مجلس العلم فقال : من يقدر على الإتيان بما يقولون ، أو قال : ما لي ومجلس العلم يعني كفر. أما المسألة الأولى : فلما تقدّم من أنه يلزم من قوله تكليف ما لا يطاق في الشريعة ، وقد قال الله تعالى : (لا

٢٨٧

____________________________________

يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١). وأما المسألة الثانية : فمحمولة على ما إذا أراد به أيّ حاجة لي إلى مجلس العلم بخلاف ما إذا أراد به أيّ مناسبة لي ولذلك المجلس.

وفي الجواهر ، أو قال : من يقدر على أن يعمل بما أمر العلماء به كفر أي لأنه يلزم منه إما تكليف ما لا يطاق ، أو كذب العلماء على الأنبياء وهو كفر ، وفي التتمة من قال لآخر : لا تذهب إلى مجلس العلم فإن ذهبت إليه تطلق أو تحرم امرأتك ممازحة أو جدّا كفر.

وفي الفتاوى الصغرى : من قال لأيّ شيء : أعرف العلم كفر يعني حيث استخفّ بالعلم ، أو اعتقد أنه لا حاجة إلى العلم ، أو قال : قصعة ثريد خير من العلم كفر ووجهه ظاهر.

وفي الظهيرية : ومن بيّن وجها شرعيّا فقال خصمه : هذا كون الرجل عالما أو قال : لا تفعل معي عالميّا لأنه لا ينفذ عندي أي لا يجوز ولا يمضي عليه الكفر.

وفي الخلاصة أو قال : لما ذا يصلح لي مجلس العلم ووجهه ما تقدم أو ألقى الفتوى على الأرض أي إهانة كما تشير إليه عبارة الإلقاء ، أو قال : ما ذا الشرع هذا كفر.

وفي المحيط : من قال إذا أعرف الطلاق والملاق ، أو قال : لا أعرف الطلاق والملاق ينبغي أن تكون والدة الولد في البيت يعني سواء يقع الطلاق أم لا ، يكفر أي لاستواء الحلال والحرام عنه ، ولو قالت اللعنة ، أو لعنة الله على الزوج العالم كفرت ، أي لأنها لعنت نعت العلم وأهانت الشريعة ، ومن قال لعالم : عويلم أو لعلوي عليوي أي بصيغة التصغير فيهما للتحقير كما قيّده بقوله قاصدا به الاستخفاف كفر ، وأمر الإمام الفضلي (٢) بقتل من قال لفقيه ترك كتابه وذهب تركت المنشار هنا وذهبت كفرا ، أي لأنه شبّه تعليم علم الشريعة وتعلّمه بصنعة الحرفة والآلة بالآلة وقيّدنا بعلم الشريعة لأنه لو كان الكتاب في المنطق ونحوه لا يكون كفرا لأنه يجوز إهانته في الشريعة أيضا حتى أفتى بعض الحنفية ، وكذا بعض الشافعية بجواز الاستنجاء به إذا كان خاليا عن ذكر الله تعالى مع الاتفاق على عدم جواز الاستنجاء بالورق الأبيض الخالي عن الكتابة.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الفضلي : هو محمد بن الفضل أبو بكر ، رحل إليه أئمة البلاد ، وكتب الفتاوى مشحونة بفتاواه ، توفي سنة ٣٨١ ه‍.

٢٨٨

____________________________________

وفي المحيط ذكر أن فقيها وضع كتابه في دكان وذهب ثم مرّ على ذلك الدكان ، فقال صاحب الدكان : هاهنا نسيت المنشار فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار فقال صاحب الدكان : النجار بالمنشار يقطع الخشب ، وأنتم تقطعون به حلق الناس ، أو قال حق الناس فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل فأمر بقتل ذلك الرجل لأنه كفر باستخفاف كتاب الفقه. وفي التتمة من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بدّ منها كفر ومن ضحك من المتيمّم كفر.

ومن قال : لا أعرف الحلال والحرام كفر يعني : إذا أراد به عدم الفرق في الاستعمال ، أو اعتقاد الاستحلال بخلاف الاعتراف بأنه من الجهّال. وفي المحيط من قال لفقيه يذكر شيئا من العلم أو يروي حديثا صحيحا أي ثابتا لا موضوعا : هذا ليس بشيء ، أو قال لأيّ أمر يصلح هذا الكلام ينبغي أن يكون الدرهم أي يوجد لأن العزّ والحرمة اليوم للدرهم لا للعلم كفر لأنه معارضة لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١). وقوله سبحانه : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) (٢). ومن قال لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : لما ذا أعرف العلم ، أو لما ذا أعرف الله إني وضعت نفسي للجحيم ، أو قال : أعددت نفسي للجحيم ، أو قال : وضعت أو ألقيت وسادتي أو مرفقي أو مخدّتي في الجحيم كفر أي لأنه أهان الشريعة ، أو أيس من الرحمة ، فكلاهما كفر.

وفي الظهيرية من قال : لا يساوي درهما من لا درهم له كفر أي لعموم عبارته العالم والصالح والمؤمن وغيرهم لكن له أن يقول : ما أردت به إلا أرباب الدنيا عند أهلها فلا يكفر ، ومن قال لا أشتغل بالعلم في آخر عمري لأنه من المهد إلى اللحد أي كفر ، ووجهه غير ظاهر إلا إن أراد به الاستغناء عن علوم الشريعة بالكلية ، فإن منها بعض الفروض العينية ، ومن قال لعابد : مهلا أو اجلس حتى لا تتجاوز الجنة ، أو لا تقع وراء الجنة أي بزيادة الطاعة والعبادة كفر أي لاستهزائه ، وفي الجواهر من قال : لو كان فلان قبلة ، أو جهة القبلة لم أتوجّه إليه كفر ، لأنه صار كإبليس حيث امتنع عن السجود لآدم عليه‌السلام حين جعل كالقبلة ، ومن قال لرجل صالح : لقاؤك عندي كلقاء الخنزير يخاف عليه الكفر يعني إذا لم يكن بينه وبينه مخاصمة دينية أو دنيوية ، ومن قال لآخر : اذهب معي إلى الشرع ، فقال الآخر : لا أذهب حتى تأتي بالبيدق أي المحضر كفر لأنه عاند

__________________

(١) المنافقون : ٨.

(٢) التوبة : ٤٠.

٢٨٩

____________________________________

الشرع يعني إذا كان إباؤه وتعلّله لمعاندة الشرع بخلاف ما إذا أراد دفعه في الجملة عن المخاصمة أو قصد أنه يصحّح الدعوى فيستحق المطالبة إذا تعلّل أو لأن القاضي ربما لا يكون جالسا في المحكمة ، فإنه لا يكفر في هذه الوجوه كلها ، وفي المحيط ولو قال إلى القاضي أي اذهب مسعى إلى القاضي فقال : لا أذهب يعني لا يكفر لما سبق وجهه ، ولأن الامتناع عن الذهاب إلى القاضي لا يوجب الامتناع عن الذهاب إلى الشرع إذ ربما يكون القاضي لا يحكم بالشرع ، وليس كما يزعمه الجهلة من قضاة الزمان حيث لا يفرّقون في القضية بين مكان ومكان ، ومن قال : أي في جوابه لما ذا أعرف الشرع ، أو قال : عندي مقمع ما ذا أصنع بالشرع؟ كفر ، ومن قال : الشرع وأمثاله لا يفيدني ولا ينفذ عندي كفر ، وفي الظهيرية لو قال : أين كان الشرع وأمثاله حين أخذت الدرهم؟ كفر يعني إذا عاند الشرع بخلاف ما إذا أراد توبيخه بأنك حين أخذت ما طلبتني إلى الشرع وحين أطلبك فما تعطيني إلا بالقضاء فليس هذا من باب الوفاء ، وفي المحيط من ذكره عنده الشرع فتجشأ أي عمدا أو تكلفا أو صوّت صوتا كريها أي تقذّرا أو تكرّها أو قال : هذا الشر كفر أي حيث شبّه الشرع بالأمر المكروه في الطبع.

حكي أن في زمن المأمون الخليفة سئل واحد عمّن قتل جائكا فأجاب فقال : يلزمه غضارة غراء أي جارية شابة رعناء فسمع المأمون ذلك فأمر بضرب عنق المجيب حتى مات ، وقال : هذا استهزاء بحكم الشرع والاستهزاء بحكم من أحكام الشرع كفر ، وحكي أن الأمير الكبير تيمور ذات يوم ملّ وانقبض ولم يجب أحدا فيما سأل فدخل ضحكته فأخذ يقول مضاحكة دخل عليّ قاضي بلدة كذا وأخذ في شهور رمضان ، فقال : يا حاكم الشرع! فلان أكل صوم رمضان ، ولي فيها شهود ، فقال ذلك القاضي : ليت آخر يأكل الصلاة لنخلص منهما ليضحك الأمير ، فقال الأمير : أما وجدتم مضحكا سوى أمر الدين ، فأمر بضربه حتى أثخنه فرحم الله من عظّم دين الإسلام.

٢٩٠

____________________________________

فصل في الكفر صريحا وكناية

وفي المحيط رجل قال : أنا مؤمن إن شاء الله من غير تأويل كفر ، أي لأنه تردّد في إيمانه عند نفسه بخلاف ما إذا أراد أنا مؤمن إن تعلقت مشيئته بتحقيق إيماني عنده ... ولو قال لا أدري هل أخرج من الدنيا مؤمنا أو لا ، لا يكفر أي لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ، فلو قال : إني أدري هل أخرج من الدنيا مؤمنا أو كافرا يكفر أيضا ، وفي الظهيرية قال الإمام الفضلي رحمه‌الله : لا ينبغي لرجل أن يستثني في إيمانه فلا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله لأنه مأمور بتحقيق الإيمان أي وهو بالتصديق والإقرار والاستثناء يضادّه أي يناقضه ظاهرا ، ولأنه مسئول عن الحال فلا وجه للجوب عن الاستقبال ، وهذا معنى قوله : قال الله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) (١). من غير استثناء ، وقال الله تعالى خبرا عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : بلى من غير استثناء حين قال : أو لم تؤمن؟.

وقد ذكر الشيخ عبد الله السندي في كتاب الكشف في مناقب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى عن موسى بن أبي بكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخرج شاة لتذبح فمرّ رجل فقال له : أمؤمن أنت؟ فقال : نعم إن شاء الله ، فقال ابن عمر رضي الله عنه : لا يذبح نسكي من شك في إيمانه ، ثم مرّ آخر فقال له : أمؤمن أنت؟ فقال : نعم ولم يستثن في إيمانه فأمره بذبح شاته ، فلم يجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من يستثني في إيمانه مؤمنا انتهى. ولا يخفى أنه يحتمل أن ابن عمر راعى الأحوط في القضية إذا أجمع السلف والخلف على أنه لا يخرج من الإيمان باستثنائه إلا إذا كان متردّدا في تصديقه وإيمانه كما يدل عليه قوله ، وفي المحيط قد صحّ عن بعض السّلف أنهم كانوا يستثنون في إيمانهم والعذر عنهم أنهم ما كانوا يستثنون لشكّهم في إيمانهم ، بل يستثنون لما جاء في صفة المؤمن في الأخبار كقوله : المؤمن من أمن الناس من شرّه ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن من أمن جاره بوائقه» (٢) ، وكقوله : عليه الصلاة والسلام : «ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره طاو» (٣) أي جيعان ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن من

__________________

(١) البقرة : ١٣٦.

(٢) رواه بنحوه البزار كما في كشف الأستار ٢٠٣١ من حديث أبي هريرة ولفظه : «لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه ...». وقال الهيثمي في المجمع ٨ / ٧٥ : رواه البزار وفيه محمد بن كثير وهو ضعيف جدّا.

(٣) ذكره ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث ٣ / ١٤٦ ولم أجده مسندا.

٢٩١

____________________________________

اجتمع عنده كذا وكذا خصلة» (١) فمن استثنى من المتقدمين فإنما استثنى على أنه لم يعرف ذلك من نفسه لا أنه يشك في إيمانه انتهى. وحاصله أن الاستثناء راجع إلى كمال إيمانه وجمال إحسانه لا إلى تصديقه في جنانه ، أو إقراره بلسانه ، وقد سبق تحقيق البحث مع برهانه ، وفي الخلاصة كافر قال لمسلم : اعرض عليّ الإسلام ، فقال : اذهب إلى فلان العالم كفر لأنه رضي ببقائه في الكفر إلى حين ملازم العالم ولقائه أو لجهله بتحقيق الإيمان لمجرد إقراره بكلمتي الشهادة ، فإن الإيمان الإجمالي صحيح إجماعا.

وقال أبو الليث : إن بعثه إلى عالم لا يكفر لأن العالم ربما يحسن ما لا يحسن الجاهل فلم يكن راضيا بكفره ساعة بل كان راضيا بإسلامه أتمّ وأكمل.

وفي الجواهر من قيل له : ما الإيمان؟ فقال : لا أدري كفر ، وفيه بحث إذ يحتمل السؤال عن حقيقة الإيمان وحده ، وعن الإجمالي والتفصيلي وليس كل واحد يعلم التفصيلي بل ولا حدّه الجامع المانع كما أشار إليه سبحانه بقوله لسيد خلقه : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٢) الآية ، مع أن الإجماع على أنه كان مؤمنا ، نعم لو قيل له : أمؤمن أنت ، أو من صدق بقلبه وشهد بلسانه (أنه لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله) يجوز قتله فقال : لا أدري يكفر ...

ومن قال لمريد الإسلام لا أدري صفته ، أو اذهب إلى عالم أو إلى فلان يعرض عليك الإسلام أو اصبر إلى آخر المجلس كفر ، يعني في الصور كلها ، أما في الصورة الأخيرة فالكفر ظاهر ، وأما فيما قبلها فتقدم الكلام عليها. وفي الظهيرية : كافر. قال لمسلم : أعرض عليّ الإسلام ، فقال : لا أدري صفته كفر ، لأن الرضاء بكفر نفسه كفر ، وفي أن الرضاء بكفر غيره أيضا كفر إلا فيما استثنى منه على ما سيأتي ، وإنما الكلام على أنه إذا قال : لا أدري صفة الإسلام وأراد نعته بالوجه التمام هل يكفر أم لا؟ والظاهر أنه لا يكفر كما سبق عليه الكلام ، وقال : وفي موضع آخر من الظهيرية : الرضاء بالكفر كفر عند الحامدي ، وفيه أن المسألة إذا كانت مختلفا فيها لا يجوز تكفير مسلم بها ، وفي الحاوي من قيل له : أتعرف التوحيد وحده وإنك موحد أم لا؟ فقال : لا فلا وجه لتكفيره أصلا.

__________________

(١) لعل المصنف ساقه بالمعنى والله أعلم.

(٢) الشورى : ٥٢.

٢٩٢

____________________________________

وفي المحيط من قال : لا أدري صفة الإسلام فهو كافر ، وقال شمس الأئمة الحلواني فهذا رجل لا دين له ولا صلاة ولا صيام ولا طاعة ولا نكاح ، وأولاده أولاد الزنا ، وفيه أن الرجل إذا صدق بجنانه وأقرّ بلسانه فهو مسلم بالإجماع وعدم علمه بصفة الإسلام بعد اتّصافه به لا يخرجه عن الإسلام من غير نزاع ، ونظيره من أكل شيئا ولم يعرف اسمه ووصفه ، وكذا إذا صلى وصام بشرائطهما وأركانهما ولم يعرف تفصيلهما ، وقال : لا أدري عند سؤاله عنهما ، فإنه لا يكفر ، وإلا فلا يبقى مؤمن في الدنيا إلا قليل ممّن يعرف علم الكلام ، وفيه حرج على أهل الإسلام فمثل هذا السؤال مغلطة للجهّال ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأغلوطات (١).

ثم قوله : وأولاده أولاد الزنا ليس على إطلاقه لأن أولاده قبل هذا السؤال منه لا شك أنهم أولاد الحلال ، وإنما الكلام فيما بعد السؤال إن لم يقع منه ما يكون توبة ورجوعا إلى الإسلام على تقدير فرض كفره عند العلماء الأعلام ، ثم قال : صغيرة نصرانية تحت مسلم كبرت غير معتوهة ولا مجنونة وهي لا تعرف دينا من الأديان تبين من زوجها ، وفيه أنها إذا كانت عاقلة فلا شك أنها مقلّدة لآبائها وأمّهاتها ، أو لأهل بلدتها أو قريتها كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». على أنها يوم كانت النصرانية ثابتة لها بالتبعية ما بانت من زوجها فكيف إذا كانت على الفطرة الأصلية من غير تلبّس وتدنّس بالنصرانية ، ثم قال : وكذا الصغيرة المسلمة إذا بلغت عاقلة وهي لا تعرف الإسلام ولا تصفه بانت من زوجها ، وفيه ما سبق من أنه لا يلزم معرفة حكم الإسلام ولا وصفه تفصيلا وإجمالا في تحقيق إيمانها ، بل يكفيها التصديق والإقرار مع أنه إذا سئلت من أن من أسلم هل يحرم دمه وماله فتقول : لا ، فلا شك في إيمانها ومعرفتها لحكم الإسلام إلا أنها جاهلة بمورد الكلام ، وهو لا يضرّها في مقام المرام.

ثم قال : لأنهما جاهلتان ليست لهما ملّة مخصوصة وهي شرط النكاح ابتداء وبقاء ، وفيه أن كونهما جاهلتين بتفاصيل الأحكام مسلم ، أما نفي الملّة المخصوصة عنهما فمدفوع لأن بنت النصرانية إذا قيل لها : أنت على أيّ ملّة لا شك أنها تقول على ملّة النصرانية ، فكذا إذا قيل للمسلمة الكبيرة : أنت على أيّ ملّة؟ فلا مرية أنها تقول على ملّة الإسلام.

__________________

(١) تقدم تخريجه فيما سبق.

٢٩٣

____________________________________

نعم! ولو قيل لهما : على أيّ ملّة أنتما فقالتا : ما نحن على ملّة أو لا ندري على أيّ ملّة فكفرهما ظاهر. ثم قال : ومحمد رحمه‌الله سمى هذه في الكتاب مرتدّة لأنّا حكمنا بإسلامهما بالتبعية ، والآن بكفرهما لفقد التبعية ومعرفة دين فكأنهما مرتدّتان. أقول : قوله ومعرفة دين عطف على التبعية ، والمعنى لفقد معرفة دين ، وقد تقدّم أنهما إذا كانا لم يعرفا دينا من الأديان لم يكونا من أهل الإيمان ، وإنما الكلام في تصوّره وتحقّقه في حقهما.

إنما قال فكأنهما مرتدّتان لأن الارتداد فرع الإيمان السابق وهو مفقود منهما على ما تصوّر لهما ، وهذه مسألة كثيرة الوقوع في هذا الزمان خصوصا في بعض البلدان يصدر من قضاء السوء حيث تقع المرأة مطلّقة بالثلاث مع أنها ديّنة قارئة القرآن مصلية في كل الأزمان وصائمة في شهر رمضان ، فيقول لها القاضي : ما حكم الإسلام؟ فهي لجهلها بمراتب الكلام تقول لا أدري فيحكم بكفرها وببطلان نكاحها الأول ، ويجدد لها النكاح الثاني ، وربما يكفر القاضي بهذا الفعل الشنيع حيث رضي بهذا الكفر البديع ، فإن المسكينة لو وصفت لها المسألة وبيّنت لها القضية لأتت بالجواب الصواب فإن ديانتها أقوى من قضاة هذا الزمان من جميع الأبواب ، وإنما يتوسلون بمثل هذه الأفعال إلى الرشوة المحرّمة في جميع الأقوال والعمل في المطلّقة بالثلاث بقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه أولى من قبح هذه الأحوال ، ثم انظر إلى الشيطان الموسوس للزوج المتدنّس أنه رضي بتكفير امرأته وبتضييع طاعاتها وما يترتب عليه من أن جماعة لها كان حراما عليه وأمثالها ويستنكف عن العمل بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (١). وبقوله عليه الصلاة والسلام : «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (٢). إنما أطنبت في هذا الكلام لأنه موضع زلّة الأقدام ولعزّة الإقدام

__________________

(١) البقرة : ٢٣٠.

(٢) هو بعض حديث أخرجه البخاري ٢٦٣٩ و ٥٢٦٠ ، ومسلم ١٤٣٣ ح ١١١ و ١١٢ ، وأبو داود ٢٣٠٩ ، والترمذي ١١١٨ ، والنسائي ٦ / ٩٣ ، وابن ماجة ١٩٣٢ ، وأحمد ٦ / ٣٤ و ٣٧ ، والدارمي ٢ / ١٦١ ـ ١٦٢ ، والبيهقي ٧ / ٣٧٣ و ٣٧٤ ، والطيالسي ١٤٣٧ ، وأبو يعلى ٤٤٢٣ كلهم من حديث عائشة.

قال الترمذي : حديث عائشة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم ، أن الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا غيره ، فطلقها قبل أن يدخل بها ، أنها لا تحلّ للزوج الأول إذا لم يكن جامع الزوج الآخر.

٢٩٤

____________________________________

فيما فيه مضرّة عظيمة في دين الإسلام. ثم قوله : وهي شرط النكاح ابتداء إنما هو على تقدير صحة إسلام الزوج وإلا فإذا كان من قبيلها في مقام الجهل فلا شك في صحة نكاحهما أو لا ، كما في أنكحة الكفّار ابتداء ، وفيه تنبيه على أن الواجب كان على القاضي المكفّر للمرأة أن يستوصف الرجل أيضا ، فإذا كان مثلها فيحكم بكفره وبطلان طاعاته في جميع عمره ، ثم يعرض الإسلام عليهما فيتشهدان ويعلمان أحكام الإسلام ، ثم يعقد بينهما عقد المرام.

ويؤيّد بحثنا في هذا المقام ما حقّقه الإمام ابن الهمام رحمه‌الله في كلامهم قالوا : اشترى جارية ، أو تزوج امرأة فاستوصفها صفة الإسلام فلم تعرفه لا تكون مسلمة حيث قال : المراد من عدم المعرفة ليس ما يظهر من التوقّف في جواب ما الإيمان ، وما الإسلام ، كما يكون في بعض العوامّ لقصورهم في التعبير ، بل في قيام الجهل بذلك بالباطل مثلا بأن البعث هل يوجد أو لا ، وأن إرسال الرّسل وإنزال الكتب عليهم كان أو لا ، فإنه يكون في اعتقاد طرف الأثبات لا الجهل البسيط ، كمن سئل عن ذلك ، فقال : لا أعرفه ، وقل ما يكون ذلك لمن نشأ في دار الإسلام. انتهى.

وهو غاية المقصود في نقل المرام ، ثم رأيت في المضمرات (١) نقلا عن محمد بن الحسن في الجامع الكبير مسألة تدل على ما ذكرنا وهي أن المرأة إذا لم تعرف صفة الإيمان والإسلام ، قال محمد : يفرق بينها وبين زوجها ، وبيان ذلك أنه إذا وصف الإيمان والإسلام والدين بين يديها ، فلو قالت : هكذا آمنت وصدقت فإنها تخرج عن حدّ التقليد ، ويجوز نكاحها ، ولو قالت : لا أدري أو قالت : ما عرفت لا يجوز نكاحها انتهى كلامه. وفي المضمرات : لو أفتى لامرأة بالكفر حين تبين من زوجها فقد كفر قبلها وتجبر المرأة على الإسلام ، وتضرب خمسة وسبعين سوطا ، وليس لها أن تتزوج إلا بزوجها الأول ، هكذا قال أبو بكر رحمه‌الله ، وكان أبو جعفر رحمه‌الله يفتي بها ويأخذ بهذا. انتهى.

وقال بعضهم : إن ردّتها لا تؤثّر في إفساد النكاح ، ولا يؤمر الزوج بتجديد النكاح حسما لهذا الباب عليهن ، وعامّة علماء بخارى يقولون كفرها يعمل في إفساد النكاح ،

__________________

(١) هو جامع المضمرات والمشكلات ويقال له المضمرات أيضا ، وهو من شروح مختصر القدوري.

كذا ذكره صاحب كشف الظنون ١ / ٥٧٤ ولم يذكر اسم مؤلفه.

٢٩٥

____________________________________

لكنها تجبر على النكاح مع زوجها قطعا ، وهذه فرقة بغير طلاق بالإجماع وعليها الفتوى ، وكذا في منهاج المصلين.

وفي الخلاصة : من دعى على غيره ، فقال : أخذه الله على الكفر ، كفر ، أي لأنه رضي بنفس الكفر ، ولذا أتبعه بقوله. وقال الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل : لم يكن الدعاء على الكافر بذلك كفرا ، وفيه أن القول الأول عامّ ، وهذا جواب خاص يفيد أن الدعاء على المسلم بالكفر كفر ، والتحقيق أنه إذا أراد الانتقام لا يكفر لا سيما وقرينة الدعاء عليه شاهدة على المرام ، وسيأتي على هذا مزيد الكلام ...

وفي الجواهر من قال لمسلم : ليأخذ الله منك الإسلام ، ومن قال له : آمين كفر ، أو أريد كفر فلان المسلم يكفر أو لا أريد به إلا الكفر ، أو قال : أخرجه أي الله من الدنيا بلا إيمان ، أو كافرا ، أو أماته بلا إيمان ، أو كافرا ، أو أبّده الله في النار وأخلده فيها ، ولم يخرجه الله من نار جهنم كفر أي إذا كان مستحسنا للكفر وراضيا به نفسه إلا إذا أراد انتقام الظالم بالكفر وتعذيبه مخلدا كما يشعر به بعض كلامه.

وفي المحيط : من رضي بكفر نفسه فقد كفر أي إجماعا ، وبكفر غيره ، اختلف المشايخ ، وذكر شيخ الإسلام أن الرضا بكفر غيره إنما يكون كفرا إذا كان يستجيزه ويستحسنه ، وأما إذا كان لا يستجيزه ولا يستحسنه ، ولكن يقول : أحب موت المؤذي الشرّير ، أو قتله على الكفر حتى ينتقم الله تعالى منه ، فهذا لا يكون كفرا ومن تأمل قول الله عزوجل : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (١). يظهر عليه صحة ما ادّعيناه ، وعلى هذا إذا دعا على ظالم أماتك الله على الكفر ، أو قال : سلب الله عنك الإيمان بسبب ما اجترأ على الله تعالى ، وكابر في ظلمه ولم يترحّم عليه أدنى ترحّم لا يكون كفرا ، وقد عثرنا على رواية أبي حنيفة رحمه‌الله أن الرضاء بكفر الغير كفر من غير تفصيل ، ويحتمل أن هذه الجملة من صاحب المحيط ، أو الجامع لهذه المسائل ، وعلى كل تقدير فالجواب أن رواية أبي حنيفة رحمه‌الله إذا كانت مجملة أو عبارته مطلقة ، قلنا : أن نفصلها ونقيدها على مقتضى القواعد الحنيفية والأصول الحنفية.

وفي الجواهر من قال : قتل فلان حلال أو مباح قبل أن يعلم منه ردّة ، أو قتل نفس

__________________

(١) يونس : ٨٨.

٢٩٦

____________________________________

بآلة جارحة عمدا على غير حق أو يعلم منه زنا بعد إحصان كفر ، أي لأنه جعل الحرام حلالا أو مباحا وهو كفر إلا أنه لا بدّ أن يزاد ولا يعلم منه قطع طريق وسعي بالفساد في البلاد ، ومنه الظلم في حق العباد فإن قتلهما حلال أو مباح حينئذ ، وكذلك ترك الصلاة موجب للقتل عند الشافعي رحمه‌الله وارتداد عند أحمد رحمه‌الله ، فترك الصلاة من الخلافية ، فالقول بأن قتله حلال لا يكون كفرا متّفقا عليه ، ثم قال : ومن قال لهذا القائل صدقت ، أو قال لأمير يقتل بغير حق ، أو قال لقاتل سارق : جوّدت له ، أو أحسنت يكفر ، أو قال : مال فلان المسلم حلال قبل تحليل المالك إيّاه ، أو قال : دم فلان حلال ، ومن صدقه كفر الكل أي بشروطه المعروفة ...

وفي الخلاصة أو الحاوي بناء على أن رمز الجامع خاء معجمة أو مهملة والنسخ مختلفة ، من قال لآخر : اللعنة عليك وعلى إسلامك كفر أي بقوله على إسلامك فتدبر ... كافر أسلم فأعطى له شيئا ، فقال مسلم : ليته كافر فيسلم حتى يعطي شيئا أي كفر لأن شرط الإسلام هو الاستقامة على الأحكام ، ولذا لو نوى أن يكفر في الاستقبال كفر في الحال ، وفي المحيط أي زاد فيه ، أو يتمنى ذلك بقلبه كفر أي ولو لم يتلفّظ بلسانه لأن القلب هو محل التصديق وموضع الإيمان في التحقيق.

وفي الخلاصة من قال حين مات أبوه على الكفر وترك مالا ليته أي الولد نفسه لم يسلم إلى هذا أي هذا الوقت ليرث أباه الكافر كفر ، لأنه تمنّى الكفر ، وذلك كفر ، وفي الجواهر : وليتني لم أسلم حتى أسلم حتى ورثت كفر أي المسلم القائل.

وفي الفتاوى الصغرى أسلم كافر فقال له مسلم لو لم تسلم حتى ترفع ميراثا أي تأخذه كفر أي المسلم القائل ... وفي المحيط مسلم رأى نصرانية سمينة وتمنى أن يكون نصرانيّا حتى يتزوجها كفر ، قلت : وهذا من حماقته إذ يجوز للمسلم أن يتزوج نصرانية مع أن السّمان الحسان كثيرات في الملّة الحنفية ولكن علة الضم هي الجنسية ، ولذا قال الله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (١). وفي فتاوى قاضي خان أو الفتاوى الصغرى بناء على أن الرمز قاف أو فاء واختلاف النسخ فيهما من قال : متى جالست الصغار فأنا صغير والكبار فأنا كبير ، قلت : ولا محظور فيهما ، وإنما هو توطئة لما بعدهما من قوله : وإن جالست المسلم فأنا مسلم أو النصراني أو اليهودي فأنا

__________________

(١) النور : ٣.

٢٩٧

____________________________________

يهودي كفر أي لأنه زنديق خارج عن الأديان كلها.

وفي الخلاصة من قال لمن أسلم : ما ذا ضرّك دينك الذي كنت عليه حتى أسلمت؟ كفر ، وكذا لو قال : هذا زمان الكفر لا زمان كسب الإسلام أي كفر ، إن أراد به أنه ينبغي في هذا الزمان كسب الكفر لا كسب الإسلام بخلاف ما إذا أراد أن هذا زمان غلبة أهل الكفر ، والجهل وضعف كسب الإسلام والعلم.

وفي فتاوي قاضي خان أو الصغرى لو قيل : لمن كان له شهر من إسلامه : ألست بمسلم فقال : لا ، كفر ، ولعل وجه التقييد بالشهر إنه إذا كان أقلّ منه ربما يسبق على لسانه جريا على ما كان عليه أولا.

وفي المحيط والجواهر أيضا قيل للضارب : ألست بمسلم فقال : عمدا ، لا ، كفر ، وإن قال خطأ لا يكفر .. وفي التتمّة من قال : لا أسمع كلامك وأفعل اجتراء في جواب من قال : اتق الله ولا تفعل كفر ... ومن قال لمرتكب حرام خف الله واتّقه فقال : لا أخاف كفر ، وإن كان في أمر غير حرام وغير مستحب لا يكفر إلا إذا قاله استخفافا فيكفر وتبين امرأته ...

ومن قيل له في أمر : ألا تخاف الله؟ فقال : لا ، كفر.

وقال أبو بكر البلخي رحمه‌الله : رجل قيل له : ألا تخشى الله؟ فقال : لا في حال غضبه صار كافرا وبانت امرأته ... وفي المحيط قالت لزوجها : ليس لك حمية ولا دين إذ ترضى خلوتي مع الأجانب فقال : لا حمية ولا دين كفر ، يعني بقوله لا دين لي فإنه خرج بهذا عن دين الإسلام باعترافه ، كما دخل فيه أولا بإقراره سواء يكون الإقرار شرطا أو ركنا ... ومن قال : أنت وثني ، أو مجوسي؟ فقال : مجوسي كفر أو قال : ألست بمسلم؟ فقال : لا ، كفر ، أو قال : أنا كما قلت ، أو قال : لو لم يكن كما قلت لما سكنت معك ، أو لما أسكنني معك.

وفي الجواهر قال : لبّيك في جواب من قال يا كافر ، أو يا مجوسي ، أو يا يهودي ، أو يا نصراني! وفي المحيط أو قال : مكان لبيك هبني كذلك كفر ، أي بقوله هذا ، فإن معناه أعددني وأحبني مثل ما قلت.

وفي فتاوي قاضي خان : لو كنت كذلك ففارقني لا يكفر ، وفي المحيط : أو قال : إذا كنت أنا هكذا فلا تقم معي أو عندي فالأظهر أنه يكفر أي لأن إذا موضوعة لمتحقّق

٢٩٨

____________________________________

الوقوع إلا أنها قد تستعمل بمعنى إن فلو قال : إن أنا كنت كذا فلا تقم لا يكفر ، ومن قال : يا كافر! فسكت المخاطب. كان الفقيه أبو بكر البلخي يقول : يكفر هذا القاذف أي الشاتم ، وقال غيره من مشايخ بلخ : لا يكفر ثم جاء إلى بلخ فتاوى بعض أئمة بخارى أنه يكفر فرجع الكل إلى فتاوى أبي بكر البلخي رحمه‌الله ، وقالوا : كفر الشاتم انتهى. ولعل فائدة قوله فسكت المخاطب إن هذا هو الحكم ، ولو سكت المخاطب لئلا يتوهم أن سكوت المخاطب رضا منه أو إقرار به لاحتمال أن يكون سكوته حلما ، أو غيظا أو تأخيرا للمرافقة في المسألة.

وفي الجواهر من قال لخصمه : كل ساعة أفعل من الطين مثلك كفر انتهى. وفيه بحث لا يخفى إذ غايته أن يكون كاذبا في قوله المخالف لفعله ، نعم لو قال : أخلق بدل أفعل فالظاهر أنه يكفر مع احتمال عدم كفره لقول عيسى عليه الصلاة والسلام (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١). ولا يلزم منه التشبيه من جميع الوجوه ، ولذا قال عيسى عليه الصلاة والسلام : (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

وفي المحيط : ومن قال لمن ينازعه أفعل كل يوم مثلك عشرا من الطين ، أو لم يقل من الطين كفر ، ومن قيل له : يا أحمر! فقال : خلقني الله من سويق التفاح ، وخلقك من الطين ، أو من الحمأة ، وهي ليست كالسويق. كفر أي لافترائه على الله تعالى مع احتمال أنه لا يكفر بناء على أنه كذب في دعواه.

وفي فتاوي قاضي خان من قال لغيره : خلقه الله ثم طرده من عنده قال أكثر المشايخ : إنه يكفر. قلت : الظاهر أنه لا يكفر لاحتمال أن يكون كاذبا أو صادقا في مقاله ، لكن يشكل بما في الظهيرية والمحيط أنه كفر عند الكل ، ولعلهما أرادا بالكل الأكثر فتدبر.

وفي الخلاصة من قال لولده : يا ولد الكافر ، يا ولد المجوسي ، وقال يا ولد الكافر ، قال بعض العلماء : يكفر. قلت : الأظهر أنه لا يكفر لأنه أراد شتمه وقصد قذفه لا أنه عني بنفسه أنه مجوسي ، أو كافر واللزوم ممنوع لتحقّق الاحتمال والله تعالى أعلم بالحال.

__________________

(١) آل عمران : ٤٩.

(٢) آل عمران : ٤٩.

٢٩٩

____________________________________

ومن قال لدابته : يا دابة الكافر ، ويا كافر المالك أي يا ملك الكافر إن كانت نتجت عنده يكفر وإلا فلا ، أي لاحتمال أن يكون مالكه الأول كافرا ...

وفي فتاوي قاضي خان ، وهذا الكلام فيما إذا قال لولده أو دابّته ولم ينو شيئا أما إذا نوى نفسه كفر اتفاقا أي ، لأنه إقرار بكفره ... وفي الظهيرية من قال : لا أعلم الكائن وغير الكائن كفر ، وفيه بحث اللهمّ إلا إذا أريد بالكائن يوم القيامة فيكفر لنفي علمه المستلزم منه نفي اعتقاده به.

وفي التتمة من قال : أنا على اعتقاد فرعون أو إبليس أو اعتقادي كاعتقاد فرعون أو إبليس كفر ، وإن قال : أنا إبليس أو فرعون لا يكفر أي إذا أراد المشاركة الاسمية ، أو مجرد الشرارة النفسية لا كفر الفرعونية وإباء الإبليسية.

ومن قال معتذرا أي عن جهله ببعض الأحكام الشرعية كنت كافرا فأسلمت أي قريبا قيل : يكفر ، وقيل : لا يكفر ، قلت : وهو الأظهر لأن غايته أن يكون كاذبا في قوله الأول فتأمل.

ومن قال : لا ألعن أو لست ألعن في جواب من قال : إن الله يلعن على إبليس كفر ، أي لأن ظاهره المعارضة كما سبق في جواب حديث الدباء وإلا فالامتناع عن لعن إبليس لا يكون معصية فضلا عن أن يكون كفرا ... ومن صنع صنما كفر أي لأنه رضي به وأراد ترويجه.

وفي فتاوي قاضي خان من قال : دعني أصر كافرا كفر أي لأنه نوى الكفر ، أو كدت أن أكفر كفر وفيه بحث إذ لا يلزم من مقاربة الكفر مفارقته اللهمّ إلا أن يريد قصدت الكفر وما كفرت فإنه يكفر لقصده ونيّته ، وقال : دعني فقد كفرت كفر أي لظاهر كلامه ، وإن احتمل أنه أراد قاربت الكفر وفيه ما تقدم والله تعالى أعلم ...

وفي المحيط وفتاوى الصغرى أيضا : من لقن غيره كلمة الكفر ليتكلم بها كفر الملقن ، وإن كان على وجه اللعب والضحك ، قلت : فما يحكى أن مالكيّا أو شافعيّا رجع إلى بلده بعد تحصيل بعد الفقه في مذهبه فكل ما سئل عن مسألة فقال فيها وجهان لمالك ، أو قولان للشافعي رحمه‌الله ، فقال له قائل : أفي الله شك ، فقال : فيه الوجهان ، أو القولان فكفّروه فيحكم بكفر ملقّنه أيضا حيث رضي بكفره بناء على غلبة ظنه أنه يتفوّه بقول ما يوجب كفره ...

٣٠٠