تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

الله خلق السموات والأرض

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ومن أودع فيهما حكمته وقوّته ومواطن الرزق في تدبيره ، ومن أبدع الظواهر الكونية والسنن الإنسانية في حركتهما حتى استطاع الإنسان أن يطمئن للحياة فيهما بكل طمأنينة وراحة ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ليعطيا الحياة الإشراق والدفء ، ويمنحاها عناصر الامتداد في ما يتحركان فيه من نظام دقيق يعطي الإنسان توازنه من خلالهما (لَيَقُولُنَّ اللهُ) فهو الخالق والمدبّر والمسخّر. وتلك هي الحقيقة الفطرية العميقة التي تفرض نفسها على قناعاتهم ، لأنهم لا يرون أيّة قوّة أخرى ممّن حولهم جديرة بأن تكون هي التي تفعل ذلك كله ، باعتبار أن كل القوى حادثة مفتقرة إلى من يعطيها سرّ الوجود وسرّ الحركة والامتداد فيه ، كما أنهم لا يرون أن الحياة يمكن أن تنطلق بعيدا عن الخالق ، لأنها لا يمكن أن تخلق من لا شيء أو تخلق نفسها. ولهذا فإن حضور الله في الكون ، هو الحضور القويّ الذي يفرض نفسه على الفكر والوجدان والحياة.

وإذا كان هذا هو الجواب فكيف يتصرفون هذا التصرف المضادّ للحقيقة ، (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي يصرفون عن الحق ، ويبتعدون عن الالتزام بنهجه في إطاعة أمر الله ونهيه ، وفي الاعتراف بأن الله هو وحده مصدر كل شيء في الوجود ، فلا شيء إلا وهو مخلوق له ومستمدّ منه.

* * *

الله يبسط الرزق ويقدر

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) فهو الذي ينظم حركة الرزق وكميته ونوعيته وتوزيعه للناس فيوسع على جماعة لأن الحكمة تقتضي ذلك ، ويضيق على أخرى ، انطلاقا من الحكمة الخفية التي لا يعلمها إلا هو ، وقد

٨١

يكتشفها بعض عباده.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو الذي يعرف أسرار خلقه ، كما يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم في طبيعة قدراتهم وظروف الحياة من حولهم ، وهو الذي يقدر ما يريد من أمورهم على حسب ما يعلمه من ذلك كله.

* * *

الله ينزل من السماء ماء

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) مما يجعل النموّ للأرض في ما يكمن في داخلها من البذور التي تهتز بنزول الماء عليها ، وما يحقق الحياة للعناصر الحية من إنسان وحيوان ، من إمكانات الحياة التي لا يمكن أن تستمر بدون الثروة المائية التي تختزنها الأرض في أغوارها السحيقة ، لتتفجر منها الينابيع والأنهار ، (لَيَقُولُنَّ اللهُ) فإذا كان الله هو مصدر ذلك كله ، فهل يمكن أن يكون مصدر الرزق غيره ، وهل من المعقول أن يدّعوا اختصاصهم بذلك ليمنعوا غيرهم منه ، أو ليروا فيه امتيازا لهم على غيرهم في موارده ومصادره ، (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي أظهر الحق ، وأكمل الحجة عليهم في ضرورة الالتزام بعبادة الله ، ورفض عبادة الأصنام. ولكن المشكلة لديهم أنهم لا يحركون عقولهم في آفاق الوعي ، بل يجمّدونها في مواقع غرائزهم وشهواتهم ، ليكون الإحساس المادي هو ما يشغل اهتماماتهم ، لا التفكير العقلاني الوجداني (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لا بمعنى فقدان العقل الذي يملك قوّة التفكير ، بل بمعنى فقدان استخدامه كقوّة متحركة تفكر وتحاكم وتناقش وتكتشف خفايا الأشياء ، وترجع الأمور إلى مصادرها الحقيقية ، وتحركها في اتجاه خطوطها البارزة التي تتجه إلى ما فيه مصلحة الإنسان وتطوّره في مدارج الرقيّ والتقدم والسلام

* * *

٨٢

الآية

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٦٤)

* * *

مفهوم القرآن للحياة الدنيا والحياة الآخرة

ما هو مفهوم القرآن للحياة الدنيا؟ وما هو مفهومه للحياة الآخرة؟ وما هو موقفه منهما؟

إن هذه الآية تشرح الفكرة من خلال المقارنة بين الحياة الدنيا والدار الآخرة.

* * *

الحياة الدنيا لهو ولعب

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) ما ذا في الحياة الدنيا ، مما يتنافس فيه الناس ويتصارعون من أجله؟ إن هناك الأموال والأزواج والأبناء والجاه

٨٣

المتحرك في مواقع الرئاسة ، وفي تجمعات الأتباع والأنصار ، وفي الشهوات الحسية ، وما إلى ذلك من شؤون الحياة وقضاياها ، مما يأخذ الناس به فترة يشغلون بها أنفسهم ويستغرقون فيها بالمستوى الذي يفصلهم عن القضايا المهمّة المرتبطة بمصيرهم ، ويشغلهم عن التفكير في أعماق ذواتهم ، وعن المستقبل في اليوم الآخر ، ثم يتركونه عند ما تهرب منهم الفرص ، وهم أحياء ، أو عند ما تضيع منهم الحياة أمام استحقاق الموت ، مما يجعل المسألة في طبيعتها مسألة لهو يملأ فراغ الإنسان ويشغل حياته ، ثم يفارقه بعد وقت قصير ، من دون أن يبقى له منه إلا الانفعالات التي سرعان ما تتبخر وتذوب أمام الأحداث الجديدة ، أو اللهو الجديد.

هذه هي الروحية التي تكمن وراء تعامل الناس مع قضايا الدنيا ، فلا نلمح فيها إلا الحالات الانفعالية السريعة التي يجتمع فيها الناس حول هذه الأمور التي يتولعون فيها ، ويستغرقون في لذائذها وشهواتها وحركاتها ، ثم تنتهي فرصة ذلك ، ويتفرقون ، ويترك كل واحد منهم صاحبه ، كما يترك أدوات الشغل التي تأخذ كل اهتماماته ، تماما كما هو اللعب الذي لا يحمل في داخله أيّ هدف يمتد بامتداد الزمن ، بل يحمل في عمقه الانفعال المزاجي الذي يلتهب في الذهن وفي العاطفة ، ثم يتبخر ليواجه الفراغ الجديد الذي يعيش الرعب أمام الاستحقاقات الصعبة.

إن هذه الحياة الدنيا التي تتجرد عن قضية الرسالة التي تمنحها امتدادا وبقاء وعمقا هي لهو ولعب ، لأنها لا تملأ الفراغ بما يبقى ، بل تشغله بما يفنى ، ثم يترك الإنسان ذلك كله ليواجه الفراغ القاتل في غياهب الظلام.

* * *

٨٤

الدار الآخرة هي المستقر

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) وهذه الكلمة مصدر كالحياة ، وقيل : الحياة التي لا موت فيها ، لأنها التي تعبر عن معنى الحياة بكل دقائقها ومفرداتها ، فلا فراغ فيها للعدم ، ولذلك فإن الاهتمام بها والتخطيط لها ، يحملان في داخلهما الحصول على الحياة الخالدة التي يملك فيها الإنسان حياته ومصيره المشرق الذي ينير له كل مواقع الرضوان الإلهي والنعيم الدائم. ولكن المسألة تحتاج إلى وعي كامل للخط والوسيلة والهدف ، ومعرفة ممتدّة عميقة واسعة ، مما قد يجهل الكثيرون من الناس طبيعته وخطورته ليتداركوا الأوضاع السلبية التي يتحركون فيها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ولكن الغفلة المطبقة على عقولهم تمنعهم من ذلك كله.

وعلى ضوء هذه المقارنة بين الحياة الدنيا ، التي تحمل دور الحالة الطارئة التي تنتظر الموت في نهايتها ، وبين الدار الآخرة التي تمثل الحياة الخالدة التي لا موت فيها ، نستطيع استيحاء الفكرة التي تجعل الثبات للدور الإنساني في الحياة قائما على الخط الذي يربط بين الدنيا والآخرة من خلال الرسالة التي تحكم تفكير الإنسان وخطواته وتطلعاته في علاقته بالله ، مما يجعل دنياه آخرة في نتائجها الممتدة بامتداد نتائج الرسالة في قضية المصير ، كما يجعل من الآخرة عنوانا للدنيا وهدفا لها. وبذلك نفهم أن الإسلام لا يرفض الحياة الدنيا ، إلا من خلال اعتبارها فرصة للهو واللعب الذي لا يجعل لها عمقا في المصير ، ولذلك فإنه يقبلها ويدعو إليها ويعتبرها قيمة روحية إذا تحركت في خط الرسالة المنفتحة على الله في رضوانه وعلى الجنة التي وعد الله بها المتقين في الدار الآخرة.

* * *

٨٥

الآيات

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ(٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)(٦٨)

* * *

معاني المفردات

(وَيُتَخَطَّفُ) : التّخطف كالخطف : استلاب الشيء بسرعة واختلاسه.

* * *

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ)

إن مشكلة هؤلاء الكافرين الذين يعلنون الكفر وينصرفون عن عبادة الله

٨٦

إلى عبادة غيره ، هي أنهم يناقضون أنفسهم في بعض الحالات التي يشتد عليهم فيها الضغط في دائرة الخطر على الحياة ، فيلجئون إلى الله ، لأنهم لا يرون أمامهم سبيلا للنجاة إلا اللجوء إليه.

* * *

اللجوء إلى الله عند انقطاع السبل

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) وثارت بهم الرياح من كل الاتجاهات ، وأحاط بهم الموج من كل مكان ، ورأوا الموت بأعينهم ، واهتزت بهم الفلك حتى كادت أن تنقلب بهم لتغرقهم في أعماق البحر (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أن ينقذهم من ذلك ، ويسير بهم إلى الشاطئ الأمين ، ليرجعوا إليه ويعبدوه بإخلاص ويتجهوا بكل حياتهم إلى دينه ، ويتركوا كل ما سواه. ولكنها مجرد حالة طارئة ، وانفعال سريع في حالة الخطر (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) واستراحوا إلى السلامة ، وعاشوا الأمل الكبير في امتداد الحياة بهم ، تركوا كل عهودهم ومواثيقهم واستعدادهم ، في ما التزموا به على أنفسهم أمام الله ، ونسوا ذلك كله (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) بالله ، فيما تفرضه عليهم أطماعهم ، فيرجعون إلى أوثانهم وأصنامهم وإلى آلهتهم التي يعبدونها من دون الله.

* * *

لا مفرّ للكافرين من العذاب

كيف يكفر هؤلاء؟ ما ذا ينتظرون؟ هل يفكرون بالامتداد الخالد للحياة في أجسادهم؟ هل ينتظرون أن تبقى لهم هذه الشهوات في أوضاعهم؟

٨٧

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ما شاؤوا أن يكفروا ، وليمتدوا في عبادة غير الله (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بكل أطايب الحياة وشهواتها ولذاتها ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عند ما يشاهدون عذاب الله في نار جهنم ، عند ما تنتهي الحياة ، ويواجهون المسؤولية أمام الله. ثم كيف ينكر هؤلاء نعمة الله عليهم في ما وهبهم من الأمن المستقر في بلدهم؟

* * *

الحرم الآمن

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) وهو مكة وما حولها ، فقد جعله الله حرما آمنا يأوي إليه الناس من كل مكان ، فيتعبدون ويتّجرون ويجتمعون من دون أن يخاف أحد على نفسه ، كما يشعر أهله بالحفظ والرعاية والخير الذي يأتيهم من ذلك (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) في ما كان يعيشه العرب من حالة استلاب وخطف في أوضاع الغزو التي يغير فيها بعضهم على بعض بالقتل والسلب والنهب والسبي ، بحيث لا يشعر أحد بالأمن في مكانه. فكيف يغفلون عن هذه النعمة العظيمة التي كانت هبة من الله ، استجابة لدعاء نبيه إبراهيم عليه‌السلام ، ولا يشكرونها بالانفتاح على رسالة الله التي جاء بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور؟!

* * *

٨٨

الافتراء على الله أشد الظلم

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) في ما اتخذوه لأنفسهم من نهج الشرك في حياتهم العامة (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) في ما ابتعدوا به عن الأرض وعن الإيمان برسالته. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن ينسب إلى الله شريكا لا حقيقة له ولا واقع لموقعه ، فيعبده من دون الله. إن ذلك هو الظلم الأكبر ، لأنه يشتمل على ظلم الله بالتجاوز عن حقه في وحدانية العبادة ، وعلى ظلم الحياة وظلم الإنسانية عند ما يفرض عليها السير في خط لا يلتقي بالخير والصفاء والروحية الفياضة بالطمأنينة والاستقرار ، (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) برسالة الله في كتابه الذي يحمله الرسول إلى الناس نورا وهدى ورحمة للمؤمنين.

ما هو مصير هؤلاء إزاء ذلك كله؟ هل يملكون حجة على ما هم عليه في هذا التمرد على الله بالشرك والجحود ، وفي هذا التكذيب برسالته ، وفي النهج المنحرف عنه في الفكر والعاطفة والحياة؟ وما ذا ينتظرون من الله إلا العذاب؟ (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) برسالة الله وبنعمته ، وهل يستحقون غير ذلك؟!

* * *

٨٩

الآية

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

* * *

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)

من هم القريبون إلى الله الذين يفوزون بهذا القرب الإلهي إلى قلوبهم وحياتهم؟

من هؤلاء الذين يهديهم الله إلى طريقه ، ويدلّهم على آفاق رضوانه ويتعهدهم في مسيرتهم في هذا الطريق ، وفي تطلعهم إلى تلك الآفاق؟

من هم الذين يشعرون بأن الله معهم في إحسانهم ، يوحي إليهم بأنه معهم عند ما تضيق بهم الحياة ، وتشتدّ بهم الأزمات ، وتحف بهم الأخطار؟

إنهم المجاهدون في الله ، الذين تحرك جهادهم في الدائرة الإلهية ، فلا يتحركون به بعيدا عنها ، بل ينفذون في كل طاقتهم إلى ما يريده الله في جانب العقيدة والعمل ، ليؤكدوا موقفهم عنده ، وليتحركوا معه في جهاد النفس ،

٩٠

لتكون جديرة في أفكارها وتطلعاتها وخطواتها بمحبة الله ، وفي جهاد الشيطان ، ليعطّلوا حركته ، وليفسدوا خططه ، وليبطلوا أثره ، وفي جهاد العدو ، ليحفظوا للإسلام قوّته ، وللمسلمين حريتهم وعزتهم وكرامتهم ، وليهزموا أعداء الله ويذلوهم ويسقطوا كل امتيازاتهم في القوّة والامتداد.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وهي الطرق العديدة المتنوعة التي تؤدي إلى الغايات التي يحبها الله في الحياة في ما يريد للإنسان أن يحققه في نشاطه وجهده من أجل بناء الحياة على الأسس الأخلاقية والروحية والعملية الثابتة ، كما تؤدي بالإنسان إلى الحصول على محبة الله ورضوانه ، والدخول في جنته.

(وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا العقيدة ، فكانت عقيدة الحق ، وأحسنوا العمل ، فكان العمل الصالح ، إن الله مع هؤلاء في رعايته لهم ، ونصرته لمواقعهم ومواقفهم ، وتأييده وتسديده لكل خطواتهم في الحياة ، لأن الله قريب من كل الذين ينطلقون في مبادئهم وفي أقوالهم وأعمالهم ليتقربوا بذلك إليه ، لأنه يحب المحسنين ، وتلك هي غاية الإنسان في حياته ، وسعادته في مصيره.

* * *

٩١
٩٢

سورة الرّوم

مكيّة

وآياتها ستّون

٩٣
٩٤

الأجواء العامة لسورة الروم

للآيات الأولى في هذه السورة قصة تتصل بالأجواء العامّة التي كانت تسود ساحة الصراع ، في ما كان يدور من تسجيل النقاط بين المسلمين والمشركين على ضوء ما كان يحدث من أوضاع وتطورات في داخل معسكر الإيمان الذي يمثله أهل الكتاب ، وفي داخل معسكر الكفر الذي يمثله الفرس الذين كانوا على دين المجوسية الرافضة للتوحيد ، وذلك عند ما تغلب الفرس على الروم ، مما اعتبره المشركون انتصارا للخط العقيدي الذي يلتقون به في أكثر من موقع لقاء ، وهزيمة للخط التوحيدي الذي يعارضونه.

وربما أثار المشركون الكثير من اللغط والضوضاء والاستهزاء والتعالي على المسلمين. وربما قابل المسلمون ذلك بالشعور بالضعف والهزيمة أمام قوة الشرك على التوحيد.

وقد روى ابن جرير ، بإسناده عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم فلما نزلت : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ

٩٥

سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق. قالوا : هل لك إلى أن نقامرك؟ فبايعوه على أربعة قلائص إلى سبع سنين ، فمضى سبع السنين ولم يكن شيء. ففرح المشركون بذلك ، وشقّ على المسلمين ، وذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم؟ قالوا : دون العشر. قال : اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل. قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك (١).

وقد نلاحظ على الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عارفا بالتوقيت الدقيق للمدة ، مما قد يضعف الموقف ، وأن أبا بكر قد أعطى توقيت السبع من دون أساس ، لأن كلمة البضع قد تمتد في مفهومها المبهم المردّد بين الثلاثة والعشرة ، وأنه إذا كان قد شاور النبي في ذلك ، فعندها ستصبح صدقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الميزان ، وهذا أمر غير وارد أصلا ، لأنه سيخدش أصل نبوّته ، إذ لا يعقل أن يخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبرا من أخبار الغيب من عنده ، بل لا بد من أن يتلقاه من عالم الغيب الذي لا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء ، أي الله سبحانه وتعالى. ولكن ذلك لا يبعد المسألة عن جوّ الآية التي تدلّ على أن الحادثة كانت منطلقا للتحدي القرشي ، باعتبار أن قوّة المحور الشركيّ ينعكس إيجابا على قوّة كل مواقعه وطروحاته ، كما أن ضعف المحور الإيماني ينعكس سلبا على ضعف كل مواقعه وطروحاته.

وقد كانت الآية في موقع رد التحدي الواقعي الحاضر ، بالتحدي المستقبلي الذي يحمل دلالتين :

الأولى : الطبيعة الغيبيّة الحاسمة التي تؤكد صدق القرآن في وحيه ، في

__________________

(١) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ، ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٦ ، ص : ٤٧٩.

٩٦

غياب أيّ دلائل واقعية واضحة على الموضوع ، لا سيّما أن القضية لم تكن واردة في ظروف قوّة الفرس وضعف الروم ، بل هي من قضايا النبوءات المستقبلية التي يختزنها الغيب المجهول الذي لا يمكن لأحد أن يعرفه ذاتيا.

الثانية : الطبيعة المتحدّية التي لا تترك الموقف في دائرة الانفعالات المثيرة التي يطلقها الآخرون في مواجهة المؤمنين من أجل إضعاف روحيتهم المعنوية ، بل تعمل على إعطاء المسألة قدرا كبيرا من القوّة التي تدفع الموقف إلى نوع من التوازن ، في إبقاء الوضع في دائرة إثارة قلق الآخرين حول الموضوع في المستقبل ، في مقابل القلق الذي عاشه المؤمنون في الحاضر.

وهناك نقطة مهمّة في المضمون الرسالي الذي يعبّر عن موقف سياسيّ مميّز ، وهي انفتاح الإسلام على الديانات الأخرى من خلال القواسم المشتركة التي تربطه بها ، مما يجعله ينظر إلى مواقعها في ساحة النصر أو الهزيمة أمام الجماعات الملحدة ، نظرة جدّية مليئة بالاهتمام الشعوري من الناحية الإيجابية التي تفرح للنصر ، أو من الناحية السلبية التي تتألّم للهزيمة ، من حيث إخلاصه لقضية التوحيد المشتركة ، ومن حيث انعكاس ذلك على مواقعه في ساحة الصراع. كما أن الآخرين الذين يملكون الموقف المضاد ، ينظرون إلى أيّ موقع من مواقع الإيمان بالنظرة نفسها التي ينظرون بها إلى الموقع الآخر.

وقد نستوحي من ذلك ، أن مواطن اللقاء بالآخرين ، حتى مع غير أهل الديانات ، قد تترك الأثر نفسه ، وتفرض الموقف ذاته ، لأن القاعدة التي تحكم الموقف ، هي النظرة الإيجابية الإسلامية إلى مواقع اللقاء مع الآخرين في حركة العقيدة ، وفي علاقات الحياة ، في الجوّ الدفاعيّ عن موقع الإسلام والمسلمين في معركة التحديات المباشرة وغير المباشرة.

* * *

٩٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦)

* * *

معاني المفردات

(غُلِبَتِ) : الغلب والغلبة مصدر غلب ، والغلبة : الاستيلاء على القرن بالقهر.

(بِضْعِ) : البضع : القطعة من العدد ما بين الثلاثة إلى عشرة.

* * *

٩٨

التنبؤ بغلبة الروم

(الم) من الحروف المقطعة التي تقدم الحديث عنها في أوائل سورة البقرة.

(غُلِبَتِ الرُّومُ) وهم القوّة التي كانت تمثل امبراطورية واسعة من المغرب إلى بلاد الشام ، وكانت بينهم وبين الفرس ؛ القوّة الامبراطورية الأخرى في بلاد فارس حتى بلاد العرب ، حروب شديدة ، في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز ـ كما قيل ـ فتغلبت فارس التي كانت تدين بالمجوسية على الروم الذين كانوا يدينون بالنصرانية ، (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وهي القريبة إلى بلاد العرب ، (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) وسيطرة الفرس على مواقعهم في ساحة الحرب (سَيَغْلِبُونَ) فتدور الدائرة على الفرس في الحرب الجديدة التي يشنونها عليهم (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهو العدد ما بين الثلاثة والعشرة ، كما قيل.

وقد اعتبرت هذه الآية ، التي تحدثت عن غيب المستقبل الذي لم يكن هناك أيّ مؤشر عليه من خلال طبيعة أحداث الحاضر ، وجها من وجوه الإعجاز القرآني ، لأن النبي لم يملك علم ذلك في نفسه ، أو في ما يمكن أن يكون قد تعلّمه ، لعدم وجود الوسائل التي تؤدي إلى ذلك ، فلا بد من أن يكون ذلك من وحي علّام الغيوب الذي لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.

* * *

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تحكم كل قضايا الحياة المتعلقة بالناس في علاقاتهم في ساحة النصر أو الهزيمة ، فقد

٩٩

يتحركون في ذلك بإرادتهم الذاتية ، في ما يأخذون به أو يتركونه من الوسائل الواقعية ، ولكن العمق الأساس للإرادة الإلهية التي تخطط للحياة قوانينها وسننها الطبيعية ، هو أن الله من وراء كل شيء ، فهو يملك كل الأمر في حركة الواقع ، لأنه هو السبب الأعمق في كل مواقع الأسباب في قانون السببية للأشياء ، مما يجعل الإنسان المؤمن واثقا بالله في كل الأمور التي يتحرك بها الحاضر ، أو يختزنها المستقبل ، فلا يعيش الإنسان القلق الذي يثير الاهتزاز في داخله أمام أيّ حدث طارئ ، بل يترك الأمر لله من خلال هذه الحقيقة التي تؤكد للناس كلهم بأن الأمر لله من قبل ومن بعد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وكانت الحكمة هي الأساس في تدبير الله للكون ، وكانت الرحمة هي الصفة الإلهية التي ترعى للإنسان حياته ، فلا مشكلة هناك ، فيسلّم الأمر له ، وينطلق إلى الأهداف الكبرى بخطوات ثابتة.

وهكذا ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا الموقف المعقّد الذي حاول المشركون أن يسقطوا به روحهم المعنوية ، للإيحاء لهم بالهزيمة المرتقبة لهم ، من خلال هزيمة المؤمنين الآخرين من أهل الكتاب ، على أساس أن انتصار الكفر في موقع يعني انتصار كل الكافرين ، وأن ضعف الإيمان في موقع يعني ضعف كل المؤمنين.

إن عليهم أن يواجهوا المسألة من خلال الحقيقة الإيمانية لا من خلال بعض الأحداث القلقة التي لا تمثل قاعدة ثابتة للحياة كلها ، بل هي من بعض أوضاع الحياة العامة التي تنتقل بين انتصار فريق هنا وهزيمة فريق هناك ، وذلك في ما توحي به الآية الكريمة : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠].

فإذا كان الله قد تكفل بنصر دينه ، فعليهم أن يثقوا بذلك وينتظروا النصر المؤكد منه.

* * *

١٠٠