تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

يملك فيها عناصر القوّة التي يملك معها الاستقلال في حياته ، وربما فسّرها البعض بالنطفة التي تمثل الضعف كله في طبيعتها ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) تتمثل في مرحلة الشباب التي هي قمّة الحيوية في مراحل النمو الجسدي للإنسان ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) وهي مرحلة الشيخوخة التي يدب فيها الوهن إلى كل مفاصل الإنسان الجسدية فتضعف حركته ، وربما يضعف عقله بسبب ذلك ، (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) في ألوان الخلق وأشكاله وأوضاعه (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) لما يمثله العلم من مواقع الحكمة في خلقه ، وفي ما توحي به القدرة من مواقع القوّة في الإيجاد من خلال مشيئته في إدارة الكون كله.

* * *

١٦١

الآيات

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٥٧)

* * *

معاني المفردات

(يُؤْفَكُونَ) : يكذبون ، وقيل : يصرفون ، أي صرفهم خجلهم عن الحق في الدارين.

(يُسْتَعْتَبُونَ) : الاستعتاب : طلب العتبى ، وهي إزالة العتاب.

* * *

١٦٢

هذا يوم البعث ولكن كنتم لا تعلمون

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) وذلك من خلال استغراقهم في أجواء اللحظة في إحساسهم بالزمن ، فلا يعيشون امتداده في ما مضى ، كما لو كانوا لا يشعرون بمسؤوليته في ما يستقبلون ، أو من خلال غفلتهم عنه ، وفقدانهم الإحساس بحركته في حياتهم الماضية حتى يوم البعث ، أو في المدة التي امتدت منذ الموت حتى البعث. ولهذا أقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة ، فأكدوا بذلك فقدان ذاكرتهم حول الماضي أو غياب التركيز في وعيهم لمضمون ما في الذاكرة ، من خلال ما يتولاهم من الدهشة والمفاجأة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي يبتعدون ويصرفون عن الحق إلى الباطل عند ما كانوا في الدنيا يؤكدون للآخرين نفي البعث والحساب. وبذلك كانت القضية لديهم هي قضية الشخصية القلقة الرافضة للحقيقة ، الهاربة من مواجهتها ، والغافلة عنها الهاربة من إعلانها ، مما يجعل السلوك الذاتي المنحرف خاضعا للخلفيات المرضية الكامنة في العمق الداخلي للذات.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) في ما أخذوا به من أسباب العلم الذي أغنوا به عقولهم وقناعاتهم ، فلم يستسلموا للجهالات وللشبهات ، وفي ما اقتنعوا به من مواقع الإيمان ، في ما عاشوه من وعي الفطرة ، وما استمعوا إليه من نداء الإحساس ، وما تأملوه من حقائق العقل ، فكانت كلماتهم صادرة من حركة الحقيقة في العقل والوجدان (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) فقد لبثتم أمدا طويلا لا يحصيه إلا الله في كتابه الذي قد يكون كناية عن علمه ، وامتد بكم الزمن إلى يوم البعث ، ومهما كان الزمن الذي لبثتموه ، قليلا أو كثيرا ، فإنه لا يغير شيئا من النتائج الحاسمة في مسألة المصير ، (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه وتسخرون من الذين يدعونكم إلى

١٦٣

الإيمان به ممن يعتقدون أنه الحقيقة ، فهل تستطيعون إنكاره الآن ، (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لأنكم ابتعدتم عن الاستماع إلى وحي الله ، وتمردتم على الدعوة إلى الحوار من أجل الوصول إلى معرفة الحق في هذا الموضوع ، فلم تحصلوا على شيء من العلم ، وغرقتم في بحار الجهل والضلال.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والضلال (مَعْذِرَتُهُمْ) في ما يمكن أن يعتذروا به عن موقفهم المنحرف في العقيدة والعمل ، لأن الأعذار قد تساقطت في الدنيا أمام فقدان الحجة التي تدعم موقفهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى ، وهي إزالة العتاب عن أنفسهم ، بالاستقامة مما فعلوه ، أو بالاعتذار عنه ، فليست لهم أيّة فرصة للنجاة على كل صعيد.

* * *

١٦٤

الآيات

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

* * *

معاني المفردات

(مُبْطِلُونَ) : أي أصحاب أباطيل.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) : لا يستفزنك ، وقيل : لا يحملنّك كفرهم على الخفة والعجلة فتفعل خلاف ما أمرت به من الصبر والرفق.

* * *

١٦٥

ضرب الأمثال في القرآن

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) في ما أردناه من توضيح حقائق العقيدة والشريعة والحياة ، بمختلف الأساليب التي قد تعمل على توضيح الفكرة بشكل مباشر ، أو من خلال تقديم الفكرة المماثلة التي يوحي مضمونها الصادق بصدق الفكرة المطروحة. فليس للإنسان أيّ عذر في الكفر والضلال من هذه الناحية ، لأن المسألة لا تحتمل الغموض في الأسلوب وفي المضمون ، ولكن المشكلة أن بعض الناس من أمثال هؤلاء المشركين لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير والتأمل والمناقشة العلمية الموضوعية ، بل يبادرون إلى إلقاء الأحكام الارتجالية السريعة ، المنطلقة من مواقع الانفعال من جهة ، أو من مواقع الانحراف الاختياري عن الحق ومحاولة مواجهته بالاتهام الظالم ، من جهة أخرى.

* * *

الإصرار على الجحود

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ، إنهم يطلقون هذا الحكم على الموقف كله ، من دون أن يثيروا أيّ إشكال فكريّ هو في المضمون ، ليبحث المتهمون أو المحكوم عليهم ، مدى جدّية هذا الإشكال وصدقه ، تماما كما هي الطريقة المتبعة لدى الذين يملكون السلطة الغاشمة والقوّة الظالمة ، عند ما يريدون مواجهة الدعوات التي تدعوهم إلى العدل والحق والخير ، فإنهم يستغلّون مواقعهم المتقدمة ، ليوجهوا إلى المظلومين

١٦٦

والمحقين والخيّرين الاتهامات بالظلم والباطل والشرّ ، ليدافعوا عن أنفسهم بهذه الطريقة الانفعالية الكاذبة ، (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فقد ختم الله على قلوبهم ، فأغلقها عن وعي حقائق الأشياء ، انطلاقا من اختيارهم الأخذ بأسباب الجهل والبعد عن مواقع العلم ، مما جعل مسألة انغلاق القلب وعمى العقل ، مسألة نتيجة طبيعية للأسباب التي اختاروها بممارستهم الخاطئة المتمردة على الحق وأهله ، وهكذا كانت نسبة طبع القلب إلى الله ، من خلال ما أودعه الله في الأشياء من الربط التكويني بين الأسباب والمسببات ، وبين المقدمات والنتائج ، بعد أن جعل تحريك الأسباب في الواقع وفعل المقدمات بيد الإنسان واختياره.

* * *

وعد الله حق

(فَاصْبِرْ) يا محمد في دعوتك ، وليصبر الدعاة معك ، ومن بعدك ، لأن النتائج النهائية ستكون في مصلحة الدعوة عند ما تنتصر على الشرك كله ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فقد وعدك الله بالنصر ولا يخلف الله وعده (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ليهزّوا موقفك ، وليثيروا القلق في مشاعرك ، وليجعلوا موقعك من الموقف الحق ، موقفا خفيفا مهتزّا غير ثابت من خلال هؤلاء الذين لا يوقنون بالله سبحانه.

* * *

١٦٧
١٦٨

سورة لقمان

مكيّة

وآياتها أربع وثلاثون

١٦٩
١٧٠

في آفاق سورة لقمان

لقد أطلق اسم لقمان على هذه السورة ، لأنها تضمنت بعض الحديث عن وصاياه لولده ، مما يريد الله للناس أن يتعرفوا عليه من الحكمة ، التي تتصل بالعقيدة وبالسلوك الإنساني في الحياة ، على مستوى الممارسة الذاتية وعلى مستوى العلاقات العامة والخاصة.

* * *

شخصية لقمان

أمّا شخصية لقمان ، فلا نملك مصادر تاريخية للتعرف على ملامحها ، وعلى المرحلة الزمنية التي عاشها هذا الرجل الذي اقترن اسمه بالحكمة عند ما يتحدث الناس عن لقمان الحكيم.

ولكن هناك ـ إلى جانب الملامح الفكرية التي جاءت في القرآن ـ أحاديث مأثورة في المصادر الإسلامية الدينية قد تعرض لبعض ملامحه وخصوصياته الذاتية.

وقد جاء في القرآن أنّ الله آتاه الحكمة ، في ما توحي به من العقل والفطنة ، والوعي الدقيق لحقائق الأمور وخلفياتها ودقائقها ، بحيث يتحول

١٧١

الإنسان المتّصف بها إلى إنسان منفتح يملك وضوح الرؤية للمواقف ، فلا ينحرف عن خط الاستقامة فيها وسداد الرأي في القضايا ، ولا يخطئ في الحكم عليها إلا بشكل بسيط. وقد رأيناه كيف يوصي ولده بالانفتاح على الله وعلى الحياة من حوله من موقع الثقة بالله في تحريكها نحو الخير والاتزان والمسؤولية والصبر على مشاكل الحياة باعتبار ذلك مظهر عزم وقوّة ، من أجل أن يصوغ شخصيته صياغة متوازنة من الداخل ، وفي علاقته بالناس وبالحياة من حوله ، ممّا يثير في تقديرنا وتصورنا له ، كيف يكون الأب المسؤول واعيا للفكر المتأمّل والتجربة الواعية ، من أجل إغناء شخصيته بالحكمة ، وتوجيه ولده نحو الاستقامة في الفكر والعمل.

وقد جاء في تفسير القمي بإسناده عن حماد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزوجل ، فقال : «أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ، ولكنه كان رجلا قويّا في أمر الله ، متورّعا في الله ، ساكتا مستكينا ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغنيا بالعبر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدّة تستّره وعمق نظره وتحفظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قط ، مخافة الإثم ، ولم يغضب قط ، ولم يمازح إنسانا قط ، ولم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قط ، وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير ، وقدّم أكثرهم أفراطا ، فما بكى على موت أحد منهم.

ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلّا أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحابّا ، ولم يسمع قولا قطّ من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره وعمّن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ، فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لغرّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به

١٧٢

هواه ويحترز به من الشيطان ، يداوي قلبه بالفكر ويداوي نفسه بالعبر ، وكان لا يظعن إلا في ما يعنيه ، فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة» (١).

وقد جاء في بعض هذه الأحاديث ذكر بعض الوصايا المتفرقة التي تخضع للأجواء العامة في شخصيته ، مما لا مجال للتفصيل فيها في هذا التفسير.

وقد نستوحي من حديث الله في القرآن عن هذا الرجل الحكيم ، أن الله يعطي الدور الكبير من الأهمية للحكمة الإنسانية المنطلقة من الفكر والتجربة كما يعطي الدور للنبوّات المنطلقة في حركة وحيه ، لأن الله يريد للإنسان أن يعيش تجربته في حركة فكره وعمله ، كما يريده أن يستلهم وحيه في عقيدته وسلوكه ، ليكون للوحي الخط العام في حياة الإنسان ، وللمعاناة الذاتية الخطوط التفصيلية في خدمة الخط العام.

* * *

أغراض السورة

إن التدقيق في آيات هذه السورة يوحي بأن العقيدة في تصوراتها ومواقعها ومنطلقاتها وآفاقها في الكون كله ، هي ما يمثل العنوان الكبير للسورة. فقد تحدثت عن توحيد الخالق في مواجهة فكر الشرك ، وعن عبادته في مواجهة عبادة الأصنام ، وعن شكره ، وعن اليقين بالآخرة وما فيها من حركة الحساب في خط الثواب والعقاب ، وفي الانسجام العملي في خط الشريعة في ما أنزله الله من وحي يحدّد فيه للإنسان خطه السلوكي بعيدا عن كل

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ٢٢٧

١٧٣

المألوفات والمعتقدات ، وذلك في أجواء الأساليب الفكرية والعاطفية التي تخاطب العقل والوجدان والشعور ، في جولة واسعة في رحاب الكون ، وفي أعماق النفس الإنسانية ، في انفعال الذات بما حولها ومن حولها من قضايا الحياة والناس.

* * *

١٧٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

* * *

آيات الكتاب هدى ورحمة للمحسنين

(الم) من الحروف المقطّعة في القرآن ، وقد تقدّم الحديث عنها في سورة البقرة ، (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) الذي ينطلق في تخطيطه للعقيدة وللحياة على أساس الحكمة التي تضع لكل شيء حدودا تتصل بخصوصياته وتتحرك في اتجاه غاياته الخيّرة السليمة ، ولذلك فإن من المفروض أن يلتمس

١٧٥

الناس في آياته القواعد الفكرية والعملية التي تركز حياتهم على أسس ثابتة متينة ، (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) فهي التي تشق للحياة درب الفكر المتّزن العميق في آفاق القيم الروحية في الدائرة الإنسانية. وبذلك يمكن للإنسان أن يجد فيها الهدى الذي يكفل له النجاة في الدنيا والآخرة. وهي التي تتفجر في إيحاءاتها بالمشاعر الروحية الحميمة التي تنمّي الروح المنفتحة على آلام الناس في مشاكلهم الخاصة والعامة بالمستوى الذي تتحول فيه المسؤولية إلى حالة شعورية في العمق الداخلي من الشخصية ، تماما كما هي حالة فكرية وإيمانية ، لتوحّد التوجه الإنساني إلى التكامل والتوحّد في القضايا المشتركة. إنها الآيات الحيّة التي تتحسس وتنفعل وتوحي بالفكر وبالخير والرحمة وتثير الصفاء والنقاء في الحياة كلها ، من أجل الإنسان الذي يتحوّل في أفكاره ومشاعره وخطواته في الحياة ليكون إنسان الله في كل شؤونه وأوضاعه.

ولكن الهدى في كل موقع من مواقعه ، والرحمة في كل أفق من آفاقها ، لا يتحققان إلا للذين ينطلقون من القاعدة التي يمتدان منها ويتحركان في مجالها ، وهي القاعدة الإيمانية التي يلتقي فيها الإنسان بربه في خط العقيدة والحياة ، فيلتقي من خلاله بكل هدى ورحمة ، لأن الله هو الرب الهادي الرحيم الذي يهتدي بهداه ويعيش في رحمته عباده المؤمنون المحسنون في أجواء العقيدة والسلوك.

* * *

صفات المحسنين

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في حركة الروح في العبادة (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) في

١٧٦

دائرة العطاء في الروح (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) اليقين بالغاية التي يواجه فيها الناس نتائج المسؤولية بين يدي الله ، ليتحركوا في خط المسؤولية في الحياة.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في دينه وشريعته ومنهجه ، مما يؤهلهم لقيادة الحائرين الضالين الذين يبحثون عن مواقع النور الإلهيّ ليخرجوهم من كهوف الظلام الفكري والروحي والعملي.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين أخذوا بأسباب الفلاح عند ما أخذوا بأوامر الله ونواهيه ، وساروا إليه في خط التقوى والإيمان.

* * *

١٧٧

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٩)

* * *

معاني المفردات

(وَقْراً) : الوقر : الحمل الثقيل ، وقيل هو كناية عن الصمم.

* * *

١٧٨

مناسبة النزول

ورد في سبب نزول قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أنها نزلت في النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم ، فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا ـ عليه الصّلاة والسلام ـ يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث ، رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن .. رواه الكلبي (١).

* * *

الصد عن سبيل الله بلهو الحديث

للدعوة مشاكلها في ساحة التحدي المضاد التي يثيرها الآخرون من الذين يحملون الفكر المضاد ، أو الشعور المضاد. وقد يكون من بين هذه المشاكل ، الوسائل المتنوعة التي تشغل الناس عن الانتباه للداعية ، أو الاستماع إليه ، أو التجاوب معه ، في ما يمكن أن يصرفهم عنه ، من الكلمات والأساليب والأجواء ، مما يجعل الداعية في حرج شديد ومأزق كبير ، لأن المسألة التي تتحداه هي كيف يفتح قلوب الناس وأسماعهم عليه ، ليجتمعوا لديه ويستمعوا إليه ، قبل أن يثير أمامهم القناعات الفكرية والروحية.

وهذا هو ما واجهه النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الدعوة ، عند ما كان بعض المشركين يصد الناس عن الاستماع لآيات الله في القرآن بتقديم الأحاديث

__________________

(١) الواحدي النيسابوري ، أبو الحسن علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ١٩٢.

١٧٩

المغرية المشوّقة التي تثير التفاصيل الغريبة الملفتة للذهن ، المثيرة للانتباه ، لتجذب أسماع الناس إليه ، وتبعدهم عن الاستماع للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا هو ما نحاول أن نستوحيه من هذه الآيات التي قد تشير إلى هذه الفكرة ، ثم تتجاوزها إلى مجالات أوسع وأكبر من أصناف لهو الحديث ، لتلتقي كل وسائل اللهو من خلال اللحن والكلمة والأسلوب والجوّ والحركة ، لتمنع الناس من الانفتاح على كلمات الله ، بالاستغراق في الساحة اللّاهية العابثة ، في ما يلهو به اللاهون أو يعبث فيه العابثون.

* * *

(لَهْوَ الْحَدِيثِ)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) في القصص التاريخية التي تحدثت عن تاريخ الطغاة والمستكبرين الذين قهروا المستضعفين من شعوبهم ، لتعميق عظمتهم في النفوس ، وإثارة الإعجاب بهم في العقول ، مما قد يؤدّي إلى فقدان الأمة الروح المعنوية المتحدية للظلم وأهله وللاستكبار وجنوده ، عند ما تنهزم أمام تهاويل التاريخ في حركة الحاضر ، أو في القصص العاطفية أو الخلاعية التي تثير في الداخل لهيب الغرائز وفحيح الشهوات ، لتنحرف بالعاطفة الإنسانية إلى الأجواء المنحرفة التي يقدس فيها الإنسان الشهوة المحرّمة والغريزة الجامحة ، بالطريقة التي ينسى معها ربّه ودينه ورسالته ومسئولية واهتماماته المصيرية في الحياة. ويفقد في داخلها روح الطهارة في الشعور ، وصفاء الروح في التأمّل ، ونقاء الإحساس في القلب لتتحول الحياة عندها إلى وحل غريزيّ يغرق فيه الحاضر والمستقبل ، أو في الألحان اللاهية العابثة المثيرة للطرب الذي يهز المشاعر حتى تفقد توازنها واستقلاليتها

١٨٠