تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

فرح المؤمنين بنصر الله

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) الذي يعطي أولئك المغلوبين النصرة على أساس سننه الكونية ، وحكمته العميقة ، (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) بقوته ورحمته وحكمته وتدبيره (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الذي ينطلق تدبيره من قاعدة العزة التي لا ينتقص أحد من قوتها شيئا ، ومن موقع الحكمة التي لا يجادل فيها أحد ، من أي نقطة من نقاط حركتها في الحياة.

أمّا فرح المؤمنين بذلك ، فلأنهم استطاعوا أن يواجهوا موقف الشمائة القرشي في ساحة الشرك ، بموقف قوّة ضاغط في ساحة الإيمان ، هذا بالإضافة إلى ما يوحيه من إمكانات الانتصار عليهم ، بعد أن بدأت هزيمة جماعاتهم في مجالات الكفر.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لأن إخلاف الوعد مظهر ضعف ، وعلامة نقص ، في حركة الذات في واقع الإنسان والحياة ، في ما يوحيه من خوف صاحب الوعد من إعلان الحقيقة ، أو اضطراره لكسب ثقة الناس في الحاضر ، والاعتذار منهم في المستقبل ، والله أعظم من ذلك كله ، وهناك ملاحظة مهمّة ، وهي أن الله يريد أن يؤكد الثقة به وبرسوله من خلال الإيحاء للمؤمنين بنصره لمن يشاء في المستقبل على أساس أن الأمور كلها بيده ، فلا يتخلّف هناك شيء عما يريد ، كما يريد أن يقوّي مواقع الإيمان في ساحة التحدي ، ويضعف مواقع الكفر ، ولا بدّ في ذلك من صدق الوعد الذي يؤكد الثقة ، ويضع القوّة ، ويرد التحدي بأقوى منه.

ولذلك كانت مسألة الوعد الإلهي ، في ما أنزله الله على رسوله ، في كتابه وفي ما عرّفه إيّاه في وحيه ، من المسائل الحاسمة في ضمير المؤمنين

١٠١

الذين يتطلعون إلى المستقبل بثقة وإيمان ، في ما يحدّثهم الله عما يحدث لهم أو لغيرهم في المستقبل ، لأنها تمثل الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها في كل مجال ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يعرفون الامتداد المستقبلي للحقائق ليكتشفوه من خلال مصادره الأساسية في قضية المعرفة ، بل يرتبطون بالأمور الحاضرة السريعة ، فيختنقون في دائرة اللحظة عند ما تحاصرهم أفكارها ومشاكلها وتهاويلها ، بالخوف والهزيمة.

* * *

١٠٢

الآيات

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ

١٠٣

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١٩)

* * *

معاني المفردات

(وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : إثارة الأرض : قلبها ظهرا ببطن للحرث والتّعمير ونحو ذلك.

(السُّواى) : الخلة التي تسوء صاحبها إذا أدركها ، والمراد بها : سوء العذاب.

(يُبْلِسُ) : الإبلاس : اليأس من الله ، وفيه كل الشقاء.

(رَوْضَةٍ) : الروضة : البستان المتناهي منظرا وطيبا.

* * *

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)

تلك هي مشكلة الكثيرين من الناس الذين لا يؤمنون بالله ، أو الذين يشركون بالله غيره ، هي أنهم لا يتعاملون مع قضايا المعرفة من عمق النظرة للأشياء ، بل يتحركون فيها من موقع السطح ، ولذلك فإنهم لا ينظرون إلى الحقيقة الكامنة في الآخرة ، بل يبقون مشدودين إلى المشاهد المثيرة ، والأضواء البرّاقة من الحياة الدنيا ، فيبتعدون بذلك عن معرفة الله ورسله وكتبه وشرائعه ، ويتهربون من مسئولية الحياة كلها في آفاق الله ، مما يجعل من المسألة مسألة تتصل بالمنهج لا بالجانب الذاتي التجريدي من المعرفة.

ولهذا كان هذا الفصل من السورة حركة قرآنية تحمل الكثير من اللمسات

١٠٤

واللمعات والإشارات التي تثير في داخل الإنسان الكثير من الأفكار ، وترسم الكثير من علامات الاستفهام حول القضايا المتصلة بالله وبالآخرة وبالمسؤولية في قضية المصير وتتحدث عن هؤلاء الذين لا يعلمون.

* * *

بعض الناس عن الآخرة غافلون

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في ألوانها وزخارفها ومظاهرها ولذائذها وشهواتها وأوضاعها وامتيازات الناس الظاهرة فيها ، ولكنهم لا ينفذون إلى عمقها ليعرفوا ما في داخلها من آلام وأحزان وقبائح وأشجان ، وليتلمسوا كيف يواجهون الأفراح المختلطة بالأحزان واللذات الممتزجة بالآلام والورود المحاطة بالأشواك ، ليعرفوا أن المسؤولية التي يخضع الإنسان لها في حياته ، هي التي تجعل لهذا المزيج معنى معقولا وروحا طيّبة ، تكون الحياة من خلالهما ذات معنى يلتقي بالأهداف الكبيرة للإنسان ، وذلك هو الذي يتمثل بالوعي الكامن في فكرة الآخرة ، كعقيدة ومصير ونهاية ، ولكنهم لا يفهمون ذلك كله ، لأنهم يستغرقون في الجانب الظاهر من الحياة الدنيا. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لأنهم لا يلتفتون إلا إلى الجانب المادي الذي يتصل بالقضايا بشكل مباشر ، ولا يتطلعون إلى الجوانب الروحية الكامنة في معنى الغيب الذي يطل على آفاق الله الرحبة الممتدة التي تتجاوز الدنيا إلى الآخرة ، لتأخذ من فناء الدنيا فكرة الخلود للآخرة. وهكذا تحجبهم شواغل الحياة الدنيا عن التفكير في الآخرة ، وفي المسؤولية التي تختزنها في معناها الداخلي ، وإذا كف الناس عن تحريك الفكر في اتجاه المعرفة ، وعن إثارة المعرفة في أجواء الإيمان ، فإنهم سوف يفقدون التوازن في الموقف ، ويبتعدون عن الخط المستقيم في الحياة ، ولهذا جاءت الآيات المتتابعة لتدعوهم إلى التفكير في كل شيء.

* * *

١٠٥

خلق الله السماوات والأرض بالحق

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) عند ما يحدّقون في الظواهر الكونية في ما تثيره في داخل الفكر الواعي من علامات الاستفهام حول حركة هذه الظواهر ودورها في تنظيم العالم ، وتوازن النظام الكوني ، وذلك من خلال القوانين الطبيعية والسنن الكونية التي أودعها الله في عمق الكون كله ، ليجدوا الحقيقة الإلهية في انتظارهم.

(ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) فليس هناك حالة عبثية في ما يتحرك في هذه الآفاق ، أو في ما يسكن ، بل هناك سرّ كامن في العمق ، يفرضه السكون هنا ، والحركة هناك ، والنظام الذي يتدخل في التفاصيل ، مما يوحي للمتأمّل الذي يلاحق كل هذه الظواهر بأنّ هناك شيئا ما وراء ذلك كله. ولذلك فإنه يعمل على اكتشافه ، فلا يكون شأنه شأن المتخبّط الذي لا يعرف شيئا ولا يسعى إلى هدف ، بل إنّ شأنه شأن السائر إلى غاية يحسّ بها ولكنه لا يعرف تفاصيلها وذلك هو ما تمثله كلمة الحق الذي يمثل الثبات للظاهرة من خلال الأسس القوية التي ترتكز عليها ، ولكنه لا يحمل الخلود في ذاته ، بل ينتهي إلى غاية معينة وأجل محدود في ما أودعه الله في الحياة من حدود الزمن للأشياء.

(وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ينتهي بالأشياء إلى شاطئ الآخرة التي تبدأ فيها وضعا جديدا وحياة جديدة ، يقف فيها الناس كلهم ليواجهوا المسؤولية في لقاء الله ، وهذا هو الذي يريد الله لهم أن يختزنوه في داخلهم ، ويتحركوا به في إدارة شؤون حياتهم ، من خلال أن تحديد الأجل يعمّق المسؤولية في وعي الإنسان لطاقته.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) مما يدعو إلى الدهشة

١٠٦

والتعجب ، لأن الكفر ينطلق من فقدان الأسس التي يرتكز عليها الإيمان ، فإذا كان هؤلاء يؤمنون بإيجاد الله للكون وللناس فيه ، فكيف لا يكون قادرا على إعادتهم بعد الموت ، على أساس أن طبيعة القدرة واحدة هنا وهناك؟!

* * *

عاقبة الأمم السابقة

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السالفة (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد كان منهم العمالقة والجبابرة وكان منهم الجماعات التي تملك الحضارة والتقدم والرقيّ والعمران (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي حرثوها وأصلحوها للزراعة (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) بما كانوا يملكون من ثقافة عمرانية ، وقدرة معمارية وهندسية. (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) التي تشرح صدورهم للإيمان ، وتخطط لهم الطريق

للتقوى ، مما لا يدع لهم شكا ولا شبهة في أيّ شأن من شؤون ذلك. ولكنهم لم يلتزموا بالعقيدة الحقّة ، ولم يسيروا على خط الله ، فأهلكهم الله بذنوبهم ، وأخذهم بكفرهم أخذ عزيز مقتدر ، لأنهم استحقوا ذلك (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) لأن الله ليس بحاجة إلى أن يظلم عباده ، لأن الظلم مظهر ضعف يتعالى عنه الله القويّ العزيز (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنهم لم يتحملوا مسئولية الإيمان بعد قيام الحجة عليهم فيه ، ولم يستقيموا في خط العمل الصالح ، بعد نزول الوحي عليهم في أوامر الله ونواهيه.

كيف يغفل هؤلاء عن ذلك كله؟ وكيف يمرّون على منازل هؤلاء الناس دون أن يثير ذلك فيهم أيّ فكر يتطلع للمعرفة من خلال حركة التاريخ في الماضي ، ودون أن يدفعهم إلى الاعتبار بما حصل للسابقين ليعرفوا ما ذا يحدث لهم ولمن بعدهم في المستقبل.

١٠٧

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) السوأى هي الحالة السيئة ، تأنيث للسوء كالحسنى تأنيث الأحسن.

وهناك تفسيران للآية :

أحدهما : أن تكون السوأى كناية عن العذاب باعتبار أنه الأسوأ في ما يصل إليه الإنسان ، وبذلك يكون معنى الآية : ثم كان عاقبة هؤلاء الذين أساؤوا العمل ، العاقبة الأسوأ ، وهي العذاب ، لأنهم كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها ، على أساس أن تكون كلمة «السوأى» اسم كان ، وتكون كلمة «عاقبة» خبرا مقدّما.

ثانيهما : أن تكون كلمة السوأى تعبيرا عن العمل السيّئ وهو المعاصي التي يمارسونها ، فتكون مفعولا لأساؤوا ، وبذلك يكون المعنى : ثم كان عاقبة الذين عملوا الأعمال السيئة التي كان ينهاهم عنها الرسول ، أنّ أمرهم انتهى إلى التكذيب والاستهزاء ، لأنّ تأثير المعاصي في نفوسهم جعلهم في موقع الخط الذي يبرّر لهم ما يفعلون ، وهو الكفر ، مما يجعل جانب الكفر أقرب إلى نمط حياتهم من جانب الإيمان ، لأن الإيمان لا يرضى لهم بذلك.

ويعلّق صاحب الميزان على المعنى الثاني ، بأنه صحيح في نفسه ، لكنه مخالف لسياق الآيات مع موافقة المعنى الأول له ، «لأن المقام مقام الاعتبار والإنذار ، والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب ، لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أعظمها» (١).

أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو أن هذه الآية تتحدث عن حالة التكذيب الصادرة من الكافرين ، في ما يستتبعه من الاستهزاء ، لأن الجوّ هو جو المواجهة التي كانوا يواجهون بها الرسل الذين جاؤوا لينذروهم بعذاب الله

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٦٤.

١٠٨

ليتركوا النهج السيئ الذي يسيرون عليه ، وليس الجوّ هو جو الحديث عن العذاب ، بل إن ذلك لا حقّ للآية في ما يأتي من الآيات الأخرى.

* * *

أحوال المجرمين يوم البعث

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فكيف تكذبون بآياته ، ورسله الذين يدعونكم إلى الإيمان بهذه الحقيقة ، التي تؤكد لكم البعث والوقوف غدا بين يدي الله لمواجهة اللحظة الحاسمة في موقف الحساب. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) التي تنتظر الناس بعد موتهم ليواجهوا من خلالها الموقف الحاسم الذي تتحدد فيه نتائج المسؤولية ، (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) والإبلاس هو اليأس عن فلا يجدون مجالا لأيّ أمل بالحصول على رحمته ، والنجاة من عذاب الله ، لأنهم لم يتركوا أيّ موقع في حياتهم الدنيا للرحمة ، ولم يقوموا بأيّ عمل للإنقاذ ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) في ما كانوا يتخذونه من شركاء لله في العقيدة أو في العبادة ، انطلاقا مما كانوا يعتقدونه فيهم من أسرار القوّة ومواقع السرّ الخفي في ما تختزنه الأشياء من معاني الغيب في أوهام الكافرين. فها هم يرونهم لا يملكون شيئا من المكانة التي ينطلقون فيها للشفاعة التي كانوا يأملون بها في أدنى الأحوال ، ليقربوهم إلى الله زلفى ، ولذلك يصل بهم الأمر إلى الكفر بهم عند ما يتعرفون إلى الحقيقة الحاسمة في ذلك ، (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) عند ما يقفون معهم ، في موقف واحد ، فيتبرأ كل فريق من الآخر.

* * *

١٠٩

التفرق عند قيام الساعة

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) ليذهب كل فريق إلى الغاية التي عمل لها بعد ما كانوا في الدنيا مجتمعين في النوادي التي تضمهم ، والمعاهد التي تجمعهم ، والأسواق التي يترددون إليها ، والبيوت التي يسكنونها ، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي يعيشون في حالة السرور الذي يفيض على قلوبهم ومشاعرهم ، في أجواء الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) في ما يستتبعه ذلك من الحزن الذي يهز القلوب والمشاعر والأجساد. وتلك هي النتيجة التي يتمايز بها الناس في الآخرة عند ما يتمايزون في حركة الإيمان والكفر ، وعمل الخير وعمل الشر في الدنيا.

* * *

التسبيح والحمد لله

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) فذلك هو الذي ينبغي للإنسان أن يستوحيه من تأمّله وتفكيره في التدبير الإلهي ، في دائرة النظام الدقيق الذي يشمل حركة الكون في وجوده ، وحركة الإنسان في عمله ، ممّا يوحي بعظمة الله التي تجعل المؤمن يتطلع إلى آفاق الله ، ليستغرق في جوانب العظمة ويتحرك في المجال العملي من خلال مراقبتها ، في ما هي المحبة ، وفي ما هو الخوف من الله ، ليبدأ صباحه في تسبيح الله وتعظيمه ، كما يبدأ مساءه بذلك ، ليكون ذلك دافعا له إلى الطاعة ومانعا عن المعصية في الصباح والمساء.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما من شيء مخلوق لله تعالى ، إلا

١١٠

وله حمده الخاص له تعالى ، وذلك في ما استودعه فيه من إبداع وإتقان وجمال وتدبير وتصريف لشؤون وجوده منطلقا وحركة ومصيرا ، وليكون الحمد بذلك ـ إلى جانب التسبيح ـ هو الجوّ الذي يحكم حركتكم في بداية النهار وفي بداية الليل ، (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وذلك في منتصف الليل ومنتصف النهار ، ليكون التسبيح والتوحيد شاملين للزمن كله ، ليؤدي بكم ذلك إلى الاستغراق في جوانب العظمة ، كمدخل للاستغراق في طاعته.

وهناك تفسير آخر لصاحب الميزان يختلف بعض الشيء عما ألمحنا إليه ، فقد ذكر : «أن التسبيح والتحميد في الآيتين إنشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره ، حتى يكون المعنى : قولوا سبحان الله ، وقولوا الحمد لله ، فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه ، كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) [الصافات : ١٨٠] وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١]» (١).

أمّا تعليقنا عليه ، فهو أن هذا الذي ذكره صحيح في نفسه ، ولكن توجيه الخطاب إلى الناس بقوله : (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى قوله (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، قد يجعل المعنى الذي ذكرناه أقرب مما ذكره ، في ما قد يظهر منه أن المراد هو توجيه الناس إلى ممارسة تسبيحه وتحميده ، والله العالم.

* * *

يخرج الحي من الميت

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) فهو الذي يهب الحياة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٦٦.

١١١

ويحركها فيعطي الحياة للبذور التي لا تملك في ذاتها شيئا من الحياة ، كما يمنع الحياة عن بعضها ، فتجفّ وتصفر وتتحول إلى هشيم. وهو الذي يعطي الإنسان الحياة في ما يتوالد من الأجنّة التي يتكامل نموّها وتتوفر فيها كل شروط الحياة ، وهو الذي يمنعها عن أجنّة أخرى. وهكذا تبقى دورة الحياة في كل لحظة ، وفي كل شيء حيّ.

(وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عند ما تهتز بالخضرة الطافرة ، والنباتات المتنوعة ، والألوان الزاهية ، فتشعر بالحياة التي تتحرك في كل ذرّة من ذراتها ، وفي كل مساحة من مساحاتها ، مما يوحي للإنسان بحركة الحياة والموت ، في عملية الخلق والإعادة ، ليوحي له ذلك بفكرة البعث بعد الموت ، ليجدها في حركة الحياة في الأرض وفي كل الأشياء الحيّة ، قبل أن يفكر بها في دائرة العقل ، (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) فلا غرابة في ذلك لأن طبيعة قانون الحياة يفرض ذلك.

* * *

١١٢

الآيات

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)(٢٥)

* * *

معاني المفردات

(تَنْتَشِرُونَ) : تنبسطون في الأرض ، وتتفرقون في أطرافها.

(وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : الفضل : الزيادة على مقدار الحاجة ، ويطلق

١١٣

على العطية ، والمراد به هنا : الرزق ، وابتغاء الفضل : طلب الرزق.

* * *

من آيات الله في الإنسان والكون والحياة

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ثم نفخ فيكم من روحه ، فتحوّلتم بشرا أحياء أسوياء ، وجعل من عنصر التراب ، في م ا يتحول إليه من الغذاء ، نطفة تحمل في داخلها سرّ الحياة (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) فتملأون الأرض كلها وتديرون حركتها من خلال خصائص البشرية العاقلة المتحركة.

وتلك هي قصة الإعجاز في تفاصيل عظمة خلق الإنسان في كل أجهزته التي تمثل فيها النظام الدقيق الذي تتحرك الحكمة في جميع دقائقه ، ولكنها الألفة التي يعيشها الإنسان في مواجهته لوجوده ، حيث يفقد معها كل شعور بالعظمة والدقة والإعجاز ، مما يريد القرآن له أن يخرج من هذا الجو ليفكر ويتدبر ويجد في ذلك كله الآية الظاهرة الدالة على وجود الله.

* * *

آية خلق الأزواج من أنفسكم

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) في أجواء الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية ، والاستقرار الغريزي ، والهدوء العاطفي ، في طبيعة التكامل الإنساني في علاقة الرجل بالمرأة ، في ما يحس به كل واحد منهما أن الآخر جزء من ذاته وقطعة من نفسه ، بحيث يعيش في فراغ شعوري هائل عند ما يشعر بالابتعاد عنه والحرمان منه ، وذلك من خلال طبيعة

١١٤

الانجذاب الذاتي الذي يتحرك في كيان الإنسان من خلال الفطرة التي فطر الناس عليها ، مما يجعل من المسألة مسألة لا تقتصر على الجانب الجنسي في حرارة العلاقة المتكاملة ، بل تتعداه إلى سائر الجوانب الروحية والشعورية ذات الآفاق المتنوّعة في أحاسيس الإنسان وتطلعاته. وهكذا يكون التعبير بالسكن في دائرة العلاقة الزوجية ، تعبيرا حيّا يتجاوز السكينة الجسدية الباحثة عما يشبع جوع الغريزة ويروي ظمأها ، إلى السكينة الروحية التي يخرج بها الإنسان من الشعور بالعزلة والوحدة والوحشة إلى الشعور بالاندماج والأنس والالتقاء بالآخر ، مما يعمّق في داخله السكينة الروحية في كل آفاق الذات. وربما كان التعبير بكلمة «أزواجا» إيحاء بالعلاقة الزوجية التي تمثل الرباط الوثيق الشرعي بين الرجل والمرأة ، فهي التي يحس كلّ منهما فيها بالشعور بامتلاء الفراغ الروحي في ذاته ، حيث يشعر بأن هناك إنسانا ينتظره ويخصّه ويعيش معه مسئولية الحياة كلها ، كما يعيش معه مسئوليته تجاه نفسه ، تماما كما هو الجزء مع الجزء ، بينما لا تمثل العلاقات الحرّة مثل هذا العمق الشعوري في السكينة الروحية ، إذ يعيش الأشخاص في داخلها ، ويعبّون من اللذات الجسدية ما شاءت لهم شهواتهم ، ولكنهم يرجعون إلى أنفسهم ، فيشعرون بالفراغ والقلق بأقسى ما يكونان ، لأن الجانب الجسدي وحده ، في نطاق العلاقات غير المرتبطة بالوثاق الشرعي ، لا يحقق أيّ شيء من ذلك.

* * *

علاقة الزواج بالمودة والرحمة في الإسلام

(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) في ما أودعه في عمق إحساس الرجل والمرأة ، من مشاعر الحبّ والودّ ، ومن علاقة الرحمة النابضة بالروح الكامنة في حركة الحياة لديهما ، في ما يكفل معه كل واحد منهما الآخر ، فيتحمل

١١٥

مسئوليته ، فيتألّم لألمه ويفرح لفرحه ، ويقوم برعايته في حالات ضعفه ، من موقع الرحمة المتحركة في الذات ، المرفرفة في الروح والشعور.

وهذا هو سرّ الإعجاز في تكوين الإنسان الذي يعيش التنوّع في طبيعة الخصائص الذاتية ، ولكنه يتحرك في اتجاه الوحدة والتكامل من خلال حاجة كل خصوصية إلى الخصوصية الأخرى بحيث تفقد معنى الحياة من دون التكامل معها ، ولذلك فهي تتجه إليها تلقائيا بكل محبّة ورعاية وانجذاب ورحمة تنطلق في حركة الإحساس والممارسة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويكتشفون من خلال الفكر المتأمّل العميق أسرار خلق الإنسان في تفاعل خصائص الروح وخصائص الجسد ، فينفتح الجسد على الروح في نداء الذات التي لا ترتاح لخصائص الجسد إذا لم تفض عليها الروح بمعانيها الروحية ، وتتحرك الروح في اتجاه الجسد لتكون حركته وخصوصيته أساسيّتين في توليد المشاعر الروحية في أفعال العبادة وأخلاقية الممارسة.

وقد نلاحظ أن الله يريد للناس أن يجعلوا التفكير أساسا لحركة العقيدة في الذات ، في ما يكشف لها من دلائل العظمة في خلق الله ، ممّا يوحي لها بعظمة الله من أقرب طريق ، ويؤكد على الحقيقة الإيمانية في انطلاق الإيمان من حركة العقل في الإنسان ، لا من المشاعر العمياء التي لا تخضع للحجة أو الدليل.

وإذا كان الله قد جعل العلاقة الزوجية مبنيّة على المودة والرحمة في ما هو الانجذاب الذاتي بين الزوجين ، فقد نستوحي من ذلك أنه يريد لهما أن يعملا على إخضاع الحركة الإراديّة في داخل الحياة الزوجية لهذين العنصرين ، فتكون المودة القلبية أساسا روحيا للعلاقة بينهما من خلال ما يحمل أحدهما للآخر من مشاعر الود ، وتكون الرحمة القائمة على أساس دراسة كل منهما

١١٦

عقلية الآخر وظروفه الخاصة الذاتية والعملية ، بحيث يراعيها ويأخذها في الحسبان ، وبالتالي عليه أن يرحمه من خلال تقديره لكل العوامل السلبية والإيجابية التي يخضع لها في حركة الخطأ والصواب في علاقته بالآخر ، أو في تصرفاته الشخصية في نفسه ، مما يجعل العلاقة مرتكزة على العنصر الداخلي الحميم فيما بينهما ، أكثر مما هي مرتكزة على القانون في قيوده.

* * *

التنوع في خلق الله

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في ما يتمثل فيهما من أسرار ودلائل الإبداع من خلال ما بثّ الله فيهما من الظواهر الكونية ، التي تتحرك بالنظام الكوني الذي يخضع له الإنسان وتتحرك من خلاله الحياة ، على أساس الحكمة التي تضع كل شيء في موضعه ، وتحسب لكل صغيرة وكبيرة من مفرداته حسابها في حركة الوجود ، بما يوحي للعقل المتأمّل بأن وراء ذلك قدرة حكيمة خالقة أعطت كل شيء هدايته ، ومنحته سرّه (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) فكيف اختلفت الألسنة ، وكيف نشأت اللغة ، وما هو السرّ في اختلاف اللغات؟ هل هي الحاجة إلى التعبير؟ وكيف اختلفت وسائل التعبير عنها ، هل هناك معلّم علّم هؤلاء غير ما علّم أولئك ، أو هناك أكثر من معلم تختلف ثقافتهم اللغويّة اللسانية ، ومن هو الذي علّمهم؟ هل هناك غير الله الذي ألهم هؤلاء غير ما ألهم أولئك ليكون ذلك سبيلا للتنوّع الذي قد تختلف فيه الخصائص الذاتية فتتبعها الخصائص الحضارية؟

ثم ، كيف اختلفت ألوانهم ، وهل السرّ يتعلّق بالأرض ، أو بالمناخ؟ وكيف تتفق الألوان في المكان الواحد والمناخ الواحد؟ قد يكون لبعض هذا دخل في هذا وذاك ، وقد تكون هناك خصائص ومؤثرات أخرى ، ولكن السبب في ذلك هو خالق الإنسان كله ، بأسوده وأبيضه وأحمره وأصفره ، وعربيّه

١١٧

وأعجميّه ، ليكون ذلك أساسا لاختلاف الطباع والأمزجة والخصائص الذاتية ، ليكون في اللقاء مع التنوع ، ما يغني التجارب الإنسانية ، ويحقق التعارف القائم على التفاعل والتجاذب والتمازج فيما بين الناس. ومهما كان الأمر ، فإن التفسير الوحيد الذي يوضح ذلك كله في السبب الأعمق الكامن خلف كل هذه الظواهر الإنسانية ، هو الإرادة الإلهية التي تعلقت بهذا التنوّع العجيب ، انطلاقا من الحكمة التي أراد الله للحياة أن ترتكز عليها ، ليعرف الإنسان عظمة الخالق من خلال عظمة خلقه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) الباحثين عن حقائق الكون في كل الظواهر الكونية والإنسانية التي تمثل وحدة النظام وتوازنه واستقراره.

* * *

النوم والاكتساب ؛ من آيات الله

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) في ما يعبر عنه نظام السكون والحركة في وجود الإنسان الذي يحتاج إلى السعي المتواصل من أجل كسب وسائل العيش ، وتنظيم قضايا الحياة ، في ما يتوقف عليه نظام حياته في مختلف شؤونها وأوضاعها وعلاقاتها العامة والخاصة ، مما يفرض اليقظة المنفتحة على الواقع ، في حيوية الإنسان الجسدية ، والنور المتدفق من الشمس في النهار الذي يضيء له كل السبل التي يريد السير فيها ، والمواقع التي يتحرك في داخلها ، كما يفرض الحاجة إلى الراحة الشاملة التي يعيش الجسد فيها في إغفاءة هادئة مستغرفة تسكن فيها الأعضاء ، وتهدأ الأعصاب ، ويستريح العقل في أجواء الظلام الذي يوحي بالسكينة واسترخاء الجسد. وهكذا كان هذا النظام الدقيق الذي ربط حركة الإنسان وسكونه ، بالأوضاع الكونية في تعاقب

١١٨

الليل والنهار فجعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار معاشا ، لتستقيم للإنسان حياته ، ولينتظم معاشه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) الحديث عن تفاصيل العظمة في الخلق ، فيعون معانيه بعقولهم ، فيهتدون إلى دلالة ذلك على وجود الله وتوحيده.

* * *

رؤية البرق خوفا وطمعا

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) في ما يثيره في وعي الإنسان من الخوف إذ كان نذير الصاعقة التي تقتل وتحرق وتدمّر ، ومن الطمع إذا كان نذير المطر الذي ينعش ويحيي الأرض والإنسان والحيوان ويدعو ذلك إلى التأمّل والملاحظة الدقيقة التي قد يكتشف فيها الإنسان عمق هذه الظاهرة الكونية وتأثيرها في حركة النظام الكوني الذي تخضع له حركة الحياة كلها ، في دلالته على الحكمة والدقة والإبداع.

* * *

الماء يحيي الأرض بعد موتها

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) لأن الماء يؤمن عوامل نموّها وعناصر حركتها وحيويتها وامتدادها ، وهو ، بالإضافة الى ذلك ، يحمل معنى النعمة التي تفتح قلب الإنسان على الله من موقع الشكر العميق ، واللفتة

١١٩

الروحية الحميمة ، إحساسا بالعلاقة الوثيقة الدائمة بالله التي لا مجال للاستغناء عنها ، في مسألة الحياة ، في كلّ مفرداتها الصغيرة والكبيرة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فيرون في هذا التدبير الإلهي سرّ الحكمة ، لا معنى الصدفة.

* * *

السماء والأرض تقومان بأمر الله

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) فهو الذي يدير نظامهما بعد أن خلقهما ، فبإرادته تتحركان وتسكنان في مجرى الحركة والسكون في الظواهر المتنوعة التي تحكم نظامهما وتوجّه مسيرتهما ، وتنظم وجودهما. فإذا كانت هناك قوانين طبيعية وسنن كونية ، تمنح نظامهما صفة الحتمية والثبات ، فإنها تنطلق من خلال إرادته ، فهو الذي خلقها في عمق تكوين السماء والأرض ، وهو الذي أشرف على تدبير حركتهما التي أرادها لهما.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) عند ما تتعلق إرادته بخروجكم من الأجداث لتقفوا بين يديه في موقف الحساب ، فإن الأرض تستسلم لإرادته ، وتنقاد لدعوته ، في ما يوحي به إليها من تهيئة الشروط الطبيعية في تكوينها لذلك ، مما يوحي إليكم بأن كل الأشياء منوطة بإرادته ، فكيف تستبعدون البعث الذي أعدّكم له ووعدكم به ، وليس هو إلا بعض مظاهر هذه الإرادة الحاسمة التي تقول لكل شيء كن فيكون.

* * *

١٢٠