تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

الآيات

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٩)

* * *

كل ما في السموات والأرض ملك لله

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والجن والإنسان ، مهما اختلفت درجاتهم ومواقعهم وملكاتهم وطاقاتهم وأشكالهم وألوانهم ، فهم جميعا خلق الله الذي أوجدهم من عدم ، وملكه الذي يملكه من موقع إيجاده وسيطرته المطلقة وحاجته الدائمة إليه ، فلا يملك أحد منهم شيئا إلا ما ملّكه (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) طائعون خاضعون له بانقيادهم له في إرادتهم في ما

١٢١

يختارونه من طاعته عند ما يطيعونه ، وفي ما يخضعون له من القوانين والسنن الكونية التي يرتبط بها وجودهم حيث لا يملكون الخروج عنه والتمرد عليه.

* * *

إعادة الخلق أهون من بدئه

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) فيوجده من عدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت ليعود خلقا حيّا من جديد (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) لأنّ الإعادة أسهل من البدء ، باعتبار أنه يمثل الخلق من غير مثال ، بينما تمثل الإعادة الإنشاء على صورة الإنشاء الأوّل من خلال النموذج السابق.

وقد أثار المفسرون الجدل حول معنى الآية ، لأنها جعلت الإعادة أهون على الله من البدء ، وذلك يعني اختلاف قدرته في تعلقها بالأشياء في ميزان السهولة والشدة ، وهذا مناف للقدرة الإلهية المطلقة التي لا يختلف حالها في تعلقها بشيء دون شيء ، مما يجعل تعلقها بالسهل والصعب على حدّ سواء. والظاهر أن المشكلة انطلقت من خلال التركيز على كلمة «عليه» التي توحي بالتفاضل بين الأهون والأصعب في قدرة الله ، لأنه موقع التفاضل في التعبير. ولكن المتبادر هو ما ذكره الزمخشري من أن التفضيل إنما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى (١). ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧]».

ولا وجه لما اعترض به صاحب تفسير الميزان بقوله : «وفيه أن تقييد

__________________

(١) يراجع : الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمي ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ٣ ، ص ٢٢.

١٢٢

الوصف بقوله : «عليه» أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الإعادة والإنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة والإنشاء ، فالإشكال على ما كان» (١).

وقد نلاحظ على هذا الاعتراض ، أنّ احتمال اختصاص القياس بالله هو إمكان أن تكون هناك خصوصية في فعله تستدعي الاختصاص ، وهذا غير وارد لأن هذا الموضوع ، في مسألة القياس ، منطلق من طبيعة الأشياء ، مما لا يجعل هناك فرق ذاتي بين صدورها من الله أو من خلقه.

* * *

لله المثل الأعلى

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يدانيه في صفاته شيء ولا يساويه شيء ، لأن كل صفة كمال في أيّ موجود ، هي مستمدة منه وراجعة إلى إرادته ، ومشتملة على جانب معين من جوانب النقصان ، أمّا صفاته ، فهي الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص ، ولا تشوبه شائبة ، وهي فوق كل شيء (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا ينتقص أحد من عزته في ساحة جلاله وقدرته ولا ينال أيّ حدث من حكمته المتمثلة في كل فعل من أفعاله.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) في ما تعيشونه من مفردات حياتكم الخاصة التي تتحسسونها وتفهمونها ، مما يجعل منها النموذج الحيّ لأكثر من فكرة مماثلة (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) هل يمكن أن يكون المملوك الذي تملكونه كما تملكون أيّ مال من أموالكم ، شريكا لكم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٧٨

١٢٣

في ما تملكونه من أموال ، وهل يمكن أن يكون المملوك في مستوى المالك في ذلك؟ (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) من خلال وحدة المستوى التي تؤدي إلى الحذر من التصرفات التي لا ترضيهم ، فإذا كان ذلك غير مقبول لديكم ، فكيف يمكن أن تقبلوا أن يكون هناك من الإنس والجن أو الملائكة الذين هم من خلق الله ، وعبيد الله المملوكون له ، شريك لله في ما يملكه من مخلوقاته ، ليكون إلها في مستوى الله.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأن العقلاء ـ وحدهم ـ هم الذين يوازنون بين الأمور ويخرجون منها بنتيجة حاسمة في مسألة العقيدة التوحيدية.

* * *

اتباع الظالمين أهواءهم

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فلم يشركوا بالله من موقع شبهة فكرية جعلتهم يتوقفون عندها ليمتنعوا عن الإيمان من خلالها ، بل كان شركهم نتيجة اتباع الهوى الذي يتحرك فيه الإنسان تحت تأثير شهوة أو نزوة أو طمع أو حالة انفعال سريع ، مما يتحرك به الناس الذين تقودهم العاطفة الى ما يحبون أو يكرهون ، في ما يفعلون أو يتركون ، بعيدا عن العلم الذي يحدد للأشياء موازينها وللأوضاع مواقعها.

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) في ما ربط به بين إرادة الضلال الخاضعة للهوى وبين الضلال الفكري والعملي ، لأن مثل هذه الإرادة تمنع الإنسان من الانفتاح على العقل في ما يحدده من موازين العقيدة ، من حق وباطل ،

١٢٤

ومن خير وشرّ ، وتقوده إلى التعصب والاختناق في دائرة الرأي المحدود ، والزاوية المغلقة ، ممّا يؤدي إلى استحالة الهدى عليه ، انطلاقا من استحالة وجود المعلول بدون وجود العلّة. وهكذا كان هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم باختيار الشرك ، في موقع بعيد عن الهدى بسوء اختيارهم ، فلا هادي لهم من الناس (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مما ينالهم من عذاب الله جزاء على كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا.

* * *

١٢٥

الآيات

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

* * *

معاني المفردات

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) : المراد بإقامة الوجه للدين : الإقبال عليه بالتوجه بثبات ومن غير انحراف.

(حَنِيفاً) : معتدلا.

(مُنِيبِينَ) : الإنابة : الرجوع بالتوبة.

* * *

١٢٦

الإسلام هو دين الاعتدال والاستقامة

هل الدين في قاعدته الفكرية حالة خارجيّة طارئة تدخل إلى الذهن الإنساني من الخارج ، بعيدا عما هو التكوين الطبيعيّ للإنسان؟ أم هو حالة عميقة في ذاته ، تنبعث من فطرته الذاتية ، وتتحرك في حركة العقل والوجدان ، لتتحول إلى فكر وشعور ومعاناة والتزام.

إنّ هذه الآيات تحدّد الجواب عن ذلك في خطاب الوجدان النبويّ من موقعه الإنساني الفطري في دائرة العقيدة والعمل.

* * *

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ، والحنف ميل القدمين إلى الوسط ، فيكون المراد به الكناية عن الاعتدال.

لا بد للإنسان من خطّ يسير عليه من أجل الوصول إلى غايته المثلى في الحياة ، ليؤكد معنى إنسانيته في عمق ذاته ، فما هو هذا الخط؟

إنه خطّ الاستقامة والاعتدال الذي لا ينحرف ولا يميل ولا يزيغ ، الذي يريد الله للإنسان أن يقبل عليه بوجهه ، لا الوجه الظاهر المعروف ، بل كيانه المشتمل على عقله وروحه في ما يتمثل به حقائق الأمور العامة.

إنه دين الله الذي يجمع الخير كله ، وينفتح على الحياة الحرّة الواسعة التي تلتقي عندها كل خطوط السعادة في الدنيا والآخرة.

إنه توحيد الله الذي يعيش فيه الإنسان التصوّر الشامل الذي يتحرك في آفاقه الصدق ، والعدل ، والإحسان ، والقوّة المفتوحة على الرحمة والسماح في خط التوازن بين المادة والروح ، وانسجام الشخصية الفردية والاجتماعية ، في

١٢٧

ما يمثله هدى الله في ذلك كله.

قد تكون التفاصيل كثيرة متنوعة في مفردات نشاط الإنسان في مختلف مجالات حياته ، ولكن المهم أن يبقى الانفتاح على صفات الله الواحد وأسمائه الحسنى التي لا تقف عند حدّ في كمالها وجلالها وجمالها ، قائما ، حتى لا يتيه الإنسان في زحمة هذه التفاصيل ، وحتى يبقى مرتبطا بصراط كماله الحق.

إنه يختصر الدين كله ، فإذا أقبل الإنسان عليه بكيانه ، فقد أقبل على الدين كله ، لأنه الذي يجعل الحياة كلها مربوطة بالله ، ومتحركة برحمته وسائرة في هداه ، فلا يلتفت إلى أيّ جانب إلا من خلاله ، ولا يتحرك في أيّ اتجاه إلا إليه ، لأنه خالق كل شيء وغاية كل شيء (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) وانطلق في حياتك ، وأقم كل ذاتك لله وحده في خط الاستقامة الذي لا يخلص إلّا له ولا يتوجه لأحد غيره.

* * *

الإسلام هو دين الفطرة

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) في ما يتحرك فيه العمق العميق للفطرة الإنسانية الكامنة في معنى الخلقة ، وفي حركة الوجود الذاتي الطبيعي للإنسان ، فهي التي جعلها الله أساس حقيقته وسرّ وجوده ومنطلق انفتاحه على الحقيقة كلها ، وهي التي تقوده إلى معرفة الله في وحدانيته التي تأبى الشريك ، لأنه لا معنى لشريك يكون مخلوقا لله ومربوبا له ومحتاجا إليه في كل شيء ، فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا به. وبذلك كانت الوحدانية ، في صفاء العقل ، ونقاء الوجدان ، هي الحقيقة البسيطة الصافية التي تتصل بها الذات من دون عناء ، لأنها تستقبلها كما تستقبل العيون المفتحة على الشمس ، كلّ ما في

١٢٨

الشمس من إشراق النور ، وهي التي أكدها القرآن في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣] مما يوحي بأن التوحيد هو القاعدة التي يرتكز عليها الدين ، وتنطلق منه كل الخطوط العريضة في حركة الإنسان في الحياة الباحثة عن الله في الأعماق ، وفي مدارج السموّ ، وفي خط الامتداد.

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لأن الفطرة هي أساس الشخصية التي تبقى في سرّ وجود الإنسان ، مهما تغيرت أوضاعه ، أو امتدت سنوات عمره ، أو اختلفت مواقعه ، فهي الشيء الوحيد الذي لا يتبدل فيه ، وهي التي تحقق في داخله معنى الوجدان ، وهي وحدها التي يكتشف من خلالها وجود الله ووحدانيته وعبوديته له ، وخضوع الحياة لإرادته ، فإذا أحاطت بها الظلمات والتهاويل ، فإنها تستطيع أن تشرق من جديد لتشق كل حجب الظلام عن العقل ، وكل تهاويل الضلال عن الوجدان ، ليعود الإيمان صافيا كالنور طاهرا كالينابيع ، منفتحا كالأفق الرحب في موعد الشروق ، وبذلك كانت هي الضمانة الوحيدة للإيمان بالله ، أمام كل إشكالات الواقع ، وشبهات الإلحاد.

* * *

قيمومة الدين

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الذي جاءت به الأنبياء ، لتكون الحياة كلها لله في مواجهة كل الآلهة المزعومة التي أرادت أن تكون سلطتها هي الهيمنة على الناس ، في ما تثيره من الأوهام ، وتخطط له من الأضاليل ، وتتحرك به من الخطوات في اتجاه الفساد والإفساد ، فكان التوحيد هو الذي يواجه ذلك كله بالقوّة الفكرية والعملية ، وهو الدين القيّم الذي يملك القيام على شؤون الحياة والإنسان ، فيرعاهما بالشريعة السمحة التي تنطلق من وحي الله لتتجه

١٢٩

إلى الله وحده ، كما يملك القيمومة على الواقع كله.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الغشاوة قد أغشت أبصارهم وقلوبهم ، وجمّدت مشاعرهم ووجداناتهم ، فالتزموا الشرك في ما صنعوه من آلهة ، وفي ما اختلقوه من أصنام. وإذا فقد الإنسان صفاء البصر ، فقد صفاء الرؤية ووضوحها ، وإذا لم يحصل على انفتاح القلب على الحقيقة ، لم يحصل على العلم الذي يهديه سبل الهداية.

* * *

دعوة إلى الإنابة والتقوى وإقامة الصلاة

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي كونوا ـ أيها الناس ـ في موقع الراجعين إلى الله الذي تتمثل في وحدانيته حركة الفطرة في وضوح الرؤية. (وَاتَّقُوهُ). إن الذين يكتشفون الله في وحدانية العظمة المطلقة وفي قدرته الشاملة التي لا تقف عند حد ، لا بدّ من أن يعيشوا عمق الخوف منه وسرّ المحبة له ، فيدفعهم ذلك إلى التقوى التي يراقب الإنسان ـ من خلالها ـ نفسه ، ويحاسب عمله ، ويضبط خطواته ، ويحدّد طريقه ، ويعرف هدفه.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) التي تعبّرون بها عن عبوديتكم لله وحده في ممارسة عملية للعقيدة التوحيدية ، وفي إحساس عميق بالتقوى ، وفي تأكيد خاضع خاشع في الرجوع إليه من رحلة الكفر والضلال في سجودكم وركوعكم بين يديه.

* * *

١٣٠

نبذ الشرك والتفريق

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين ابتعدوا عن الله الواحد الذي يوحد لهم تصورهم للكون والحياة ، كما يوحدهم في الموقع والموقف ، والمنهج والهدف ، وانطلقوا إلى غيره ليتعبدوا له من خلال أوهامهم ، فاختار كل فريق منهم إلها لنفسه ، فتعددت الآلهة ، وتعدّدت المواقع تبعا لذلك ، واختلفت أيضا المواقف ، ولم يشعر الناس بأيّ شيء يوحدهم ، لأن آلهة الكفر والضلال لا يتوحدون في التصوّر ولا في الطريق ولا في الغاية ، لأن لكلّ منهم هوى يحكم موقفه ، ويحدّد موقعه ويحدد موقع الذين جعلوه شريكا من دون الله ، (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) فكان كل فريق شيعة لشخص ، وملتزما بدين ، ومتحركا في نطاق دائرة خاصة تختلف عن الدوائر التي يتحرك فيها الأفرقاء الآخرون ، وانطلق كل واحد منهم يتحزب لصاحبه ودينه ودائرته ويتعصب لمواقعه الخاصة (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فهم مستغرقون في داخل ذواتهم وأوضاعهم وانتماءاتهم ، لا يلتفتون إلى ما لدى الآخرين ، ولا ينطلقون إلى معرفة الحقيقة في آفاقها الواسعة ، ولا يدخلون في حوار حول ما يفكرون به أو يتحركون فيه أو يتوجهون إليه ، ليتعرفوا وجه الخطأ والصواب في ذلك كله ، بل يظلون في استغراقهم الغافل الذاهل الذي يفرح بما لديهم كاستغراق الطفل في فرحه الطفولي بما يملكه من ألعاب العبث الذي يشغله عن كل شيء.

* * *

بين الحزبية للناس والحزبية لله

ولعلّ هذا التعبير القرآني في هذه الفقرة من الآية ، هو أبلغ تعبير عما تمثله العقلية الحزبية المتعصبة عند ما يستغرق أصحابها في ذواتهم وأصنامهم

١٣١

وأطماعهم وحدودهم الضيقة في خط الأنانية الفردية والجماعية المحدودة ، مما يجعل الناس منغلقين عن بعضهم البعض ، مشغولين بالفرح الأناني بما عندهم ، وهذا هو الذي يوحي به حزبية الأشخاص والأطماع والمصالح الخاصة. أمّا الانتماء إلى الله وإلى دينه الذي يمثل الانفتاح على المسؤولية في الحياة وعلى الناس ، فإنه لا يغلق حياة الإنسان عن الآخرين ، بل يفسح له المجال للانفتاح على كل المواقع الإنسانية. وبذلك يعيش الفرح الروحي بالله وبرسله وبكتبه ، وبالمسؤولية المتحركة في مواقع الحياة كلها. ولكن ، لا بد من الحذر من النوازع الذاتية التي قد تطغى وتسيطر على الأفكار الرسالية ، فتنحرف بها عن شمول الحياة وامتدادها.

إن المسألة المطروحة في المنهج القرآني ، هي أن يرجع الإنسان إلى صفاء الفطرة ونقائها ، ولا يستغرق في وحول الأطماع ونوازع الذات ، حتى يعيش مع إنسانيته ، ولا يسقط أمام بهيميته ، ليفكر بالرسالة قبل أن يفكر بالشهوة والذات.

* * *

المراد من لفظ الدين

وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في هذه الآية حول بعض مفرداتها. ونريد الإشارة إلى ما ذكره البعض من تفسير الدين بأنه : «الأصول العلمية والسنن والقوانين العملية التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الإنسان الحقيقية» باعتبار أن ذلك هو «من اقتضاءات الخلقة الإنسانية» «وينطبق على التشريع والتكوين».

والظاهر أن المراد بالدين هو التوحيد الذي يمثل القاعدة التي انطلقت فيها الرسالات لتؤكدها كحقيقة إيمانية ، تتفرع منها كل التفاصيل التي تربط

١٣٢

الحياة كلها بالله ، في مواجهة الشرك الذي يجعل الإنسان موزعا بين الأهواء المختلفة ، والخطوط المتباينة ، والانتماءات المتنوعة ، مما يوقعه في الحيرة ، ويسلمه للضياع. وهذا هو ما توحي به الآية وما بعدها ، وما تدل عليه الآيات المتعددة المتفرقة في أكثر من سورة في الحديث عن ملّة إبراهيم حنيفا ، التي تلتقي مع هذه الآية في الجوّ وفي بعض مفردات التعبير ، وما تؤكد عليه الآيات المتحدثة عن دعوة الأنبياء التي تلتقي عند نداء واحد حول عبادة الله الواحد الذي لا إله غيره.

وقد وردت الأحاديث عن أئمة أهل البيت لتؤكد ذلك ، كما جاء في حديث هشام بن سالم عن أبي عبد الله «جعفر الصادق» عليه‌السلام قال : قلت : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال : التوحيد (١).

وفي الدر المنثور روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال : دين الله (٢).

والظاهر أن هذه الرواية لا تنافي ما قلناه ، لأن دين الله الذي أراد لكل رسله أن يبلغوه هو التوحيد في العقيدة وفي العبادة ، الذي تتفرع منه كل التفاصيل في دائرة المبدأ.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٩١.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٦ ، ص : ٤٩٣.

١٣٣

الآيات

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٣٧)

* * *

معاني المفردات

(أَنْزَلْنا) : المراد بالإنزال هنا : الاعلام أو التّعليم مجازا.

(سُلْطاناً) : السلطان : البرهان.

(يَتَكَلَّمُ) : المراد بالتكلم هنا : الدلالة مجازا.

(يَقْنَطُونَ) : ييأسون.

* * *

١٣٤

كيفية تصرف الناس أمام الشدة والرخاء

تتكرر في القرآن الآيات التي تثير الظاهرة القلقة المتكررة في حياة الناس في الابتهال إلى الله في حالة البلاء ، والإعلان الإيماني بأنهم يخلصون له في العبادة والطاعة إذا رفع عنهم البلاء ، فإذا جاءت العافية ، برحمة من الله ، نسوا كل ما قالوه ، وعادوا إلى ما كانوا عليه.

وتستهدف هذه الإثارة التنبيه على ضرورة امتداد علاقة الإنسان بربه إلى جميع حالاته ، ليكون الله هو الأمل في حالة الشدّة ، والرحيم في وقت الرخاء ، وليشعر الإنسان بحاجته إليه في كل شيء ، لأن كل ما لديه من النعم التي تحكم حياته هي من الله ، فلا يستغني عنه في أيّ وقت.

* * *

الإنابة عند الضر والشرك عند الرحمة

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) في ما يمثله الدعاء الحارّ النابض بالألم ، الممزوج باللهفة ، المتحرك بالأمل ، من عودة محكومة بظروفها الحادّة الخانقة التي ترى في الدعاء المتنفس الذي يخرجها من الاختناق ، والساحة الواسعة التي تبتعد بها عن أجواء الحصار ، فإذا جاء الفرج ، وتباعدت الشدّة ، وهطلت الرحمة ، وتنفست الحياة ، وعاشت في حرية العافية ، كان لهؤلاء الناس وضع آخر يختلف عن روحية العودة إلى الله.

(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) فأحسّوا ببرد العافية في حياتهم ، وبطمأنينة الأمن في ساحتهم ، رجعوا إلى أصنامهم البشرية ، واستسلموا لعلاقاتهم الصنمية ، ليلجأوا إليها ، ويتعبّدوا لها ، ويستغرقوا في أوضاعها الكافرة والمنحرفة ، وليبتعدوا عن الله من جديد ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فهم

١٣٥

ليسوا كل الناس ، لأن هناك من يعيش عمق الإيمان بالله وشمول الإحساس بحاجته إليه ، فيبقى مع الله في إخلاص التوحيد ، وتوحيد العبادة له. ولكن الفريق الآخر الذي يعيش الإيمان في دائرة اللحظة ، لا في امتداد الحياة ، هو الذي ينحرف ويبتعد عن خط الإيمان ويستسلم لأهواء الشيطان ، (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعم ، وليتمردوا ما شاءت لهم الأهواء والأطماع ، فلن يضروا الله شيئا ، لأنه الرب الغني عن عباده ، لا ينفعه شكر الشاكرين ولا يضرّه كفر الكافرين.

(فَتَمَتَّعُوا) أيها الكافرون بنعم الله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما هي نتائج أعمالكم وما هو المصير الذي ينتظركم عند الله ، وهذا هو الخطاب الذي يوجهه الله إليهم عند ما يقفون في غفلة الزهو والخيلاء ، ويعيشون سكرة النعمة والرخاء.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) في ما يتمثل بالحجة العقلية والعلمية من سلطان على العقل الذي يتطلب القناعة بالبرهان (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ليتحدث عن شرعيته في موقع الألوهة ، أو ربوبيته في موقع العبادة ، في ما يمكن أن يؤكد صفة الشريك لله من خلال ما يملك من علم وقدرة وحكمة في ساحة الوجود كله.

وهذا الاستفهام إنكاريّ يستهدف النفي والرفض لذلك ، لأن وحدانية الله هي الحقيقة التي تهزم كل فكرة الصنمية لأي شخص ، أو لأيّ شيء ، لأن كل ما هو غير الله ، فهو مخلوق ومربوب له ، فكيف يمكن أن يساويه ليكون شريكا له؟!

وهذه هي الظاهرة التي تنتهي بالشرك عند ما يتحرك البلاء ، وتأتي الرحمة من بعده.

وهناك ظاهرة أخرى معكوسة يجسدها قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ

١٣٦

رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) وهي الظاهرة التي يعيش الناس فيها الرحمة في أجواء العافية والرخاء ، حتى يستسلموا للأمل الكبير في استمرارها ودوامها ، ويعيشوا النشوة اللذيذة في الأحاسيس الحلوة التي تثيرها في حياتهم حيث لم يدرسوا واقع الحياة المتغير الذي لا تثبت فيه الأمور على حال من الأحوال ، ليعرفوا أن العافية قد تختزن في مستقبلها البلاء ، وأن الرخاء قد يتحوّل إلى الشدّة ، فيدهمهم عندها البلاء في هزة عاصفة تفاجئهم من حيث لا يدرون أو يتوقعون.

* * *

القنوط عند الضيق والبلاء

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) في ما يمكن أن تتحول إليه أعمالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم المنحرفة السيّئة ، إلى مشاكل ومصائب وأحزان وآلام ، على أساس أن الله ربط النتائج السلبية التي تعرض للإنسان في الدنيا بالخصوصيات الكامنة في ممارساته العامة والخاصة ، تماما كما ربط النتائج السلبية في الآخرة بالواقع السلبي في الدنيا ، مع فارق بارز بينهما ، وهو أن الارتباط بين المقدمات والنتائج في الدنيا عضويّ تكوينيّ ، بينما هو في الآخرة حكم إلهيّ جزائيّ.

وهكذا يندفع الإنسان ليواجه نتائج أعماله المنحرفة في الدنيا ، فلا يصبر ولا يفكر ، ليواجه الموقف من موقع إرادة التغيير وحركة التصحيح ، بل يعمل على أن يسقط تحت تأثير انفعالاته السلبية اليائسة ، لأنه لا يملك القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكز عليها في موقفه ، ليتحرك شعوره من خلالها في عملية تماسك وتوازن وثبات.

وفي ضوء هذه الحالة الإنسانية المهتزة ، كان هؤلاء الناس الذين إذا

١٣٧

أصابتهم سيئة من سيّئات أعمالهم ، فأسقطت كل فرح الحياة في قلوبهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ويتساقطون في مواقع اليأس الذي تنهار معه الإرادة ، وتهتز فيه الروح.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فيوسّعه على من يشاء ، ويضيّقه على من يشاء ، تبعا للحكمة التي أقام عليها النظام الكوني الذي فيه صلاح الإنسان والحياة ، ممّا يوحي إليهم بأن القضايا ليست خاضعة في طبيعتها لأمور ثابتة في تمنيات الإنسان ، في ما يحب لنفسه من أوضاع ، أو في طبيعة الأمور الموجودة في الواقع ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله ويفكرون بالظواهر المتحركة المتقلبة في الحياة ، بين العافية والبلاء ، والفقر والغنى ، والشدة والرخاء ، والأمن والخوف ، ونحو ذلك ، فيرون فيها حركة النظام الكوني الذي أودع الله في داخله سننه وقوانينه ، التي تنتج الحزن كما تنتج السرور ، وتحرّك الخوف كما تصنع الأمن ، وتبدع الحياة كما تهز بهجتها بالموت ، تماما كما هي الطبيعة التي تلتقي بالليل ، كما تلتقي بالنهار ، وبالخريف كما تحتضن الربيع ، وبالصقيع في الشتاء كما تعيش مع الدفء والحرارة في الصيف ، ويدركون أن ذلك كله ينطلق من طبيعة التوازن الكوني الذي يعطي للحياة حيوية وحركة وتنوّعا واستمرارا ويجدد لها نشاطها ، ويحقق للإنسان من خلال التجربة المتنوعة في تأثيراتها المختلفة ، خبرة في عقله ، ووعيا في كيانه ، وانفتاحا في حركة شعوره ، مما يجعل لها أكثر من تأثيرات إيجابية إلى جانب التأثيرات السلبية السريعة ، وبذلك يتعرفون على سرّ الحكمة الإلهية ، وسرّ القدرة التي تحفظ الحياة من الاهتزاز أمام ذلك ، ويعيشون ـ على أساس ذلك ـ الثبات في مواقع الحركة والامتداد في أوضاع الانكماش ، والصبر العميق الطويل على كل الآلام والأحزان.

* * *

١٣٨

الآيتان

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(٣٩)

* * *

معاني المفردات

(رِباً) : الربا : نماء المال.

(الْمُضْعِفُونَ) : جمع المضعف ، أي ذو الضّعف.

* * *

طلب الزيادة بالصدقة لا بالربا

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ). هل المراد به القريب من الأرحام ، في ما فرض الله له ، أم أن المراد به صاحب القربى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أن الخطاب له ، وذلك في ما فرض الله له من الخمس. وربما فسّر الحق بغير ذلك كما روى في

١٣٩

مجمع البيان في قوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) عن أبي سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أعطى فاطمة عليها‌السلام فدكا وسلّمه إليها ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام. (١)

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان أن الآية إذا كانت مدنيّة ، فمن الممكن أو المتعين ، أن يكون المراد به قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا إذا كانت مكية ، فإن المراد به قرابة الأرحام (٢).

ولا بد للمفسّر في مثل هذه الكلمات من أن يواجه الكلمة بالمعنى المطلق الشامل الذي يمتد في حياة كل مكلف ، انسجاما مع كلمة المسكين وابن السبيل الممتدة في الحياة العامة ، هذا من ناحية طبيعة الكلمة ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن العموم إلى الخصوص إذا قام هناك دليل معتبر على تخصيصه بقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يحتاج الحديث فيه إلى مجال آخر في الأبحاث الفقهية.

* * *

التصدق على المسكين

(وَالْمِسْكِينَ) وهو الفقير الذي لا يملك مؤونة سنته قوّة وفعلا ، وقد يراد به الإنسان المسحوق الذي قد يكون أسوأ حالا من ذلك ، (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع في سفره فاحتاج إلى المعونة العامة لفقدانه للوسائل الخاصة التي يستطيع بها تدبير حاله بشكل طبيعيّ ، (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) لأن الإنفاق على أمثال هؤلاء يحمل في داخله رضا الله الذي يحب

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٣٩٥.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٩٠. [بتصرف]

١٤٠