تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

حدود طاعة الوالدين

(وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي إذا حاولا ممارسة كل صنوف الضغوط النفسية والمادية عليك لحملك على الخروج من الإيمان إلى الكفر (فَلا تُطِعْهُما) لأن الطاعة في أيّ موقع من مواقعها ، لا بد من إخضاعها للقناعة بطبيعة الفعل أو الموقف من حيث الإدراك الواعي للمعاني الحقيقية في ذاتهما ، التي تفرض على الإنسان القيام بهما ، أو الإيمان بالجهة الآمرة في ما تملكه من حق الطاعة عليه في معنى الإيمان ، كما في طاعة الله التي تنطلق من موقع عبودية الإنسان له ، وهذا مما لا يتوفر في مسألة الوالدين اللذين لا يملكان هذا الحق ، لأن الولد ليس عبدا لوالديه.

وقد يكون التنصيص على الشرك ، مجرد نموذج لكل المواقف التي تتعارض مع أمر الله ونهيه ، في ما يريدان منه الانحراف عنه ، أو التي تتعارض مع ما يحبه الله ويرضاه ، حتى في الأمور المستحبة عند ما يرفضان منه القيام بها ، انطلاقا من بعض العقد النفسية التي يحملانها ضد ذلك كله.

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في خط الشرك ، وفي خط التوحيد ، في ما يفرضه الخط الأول من عذاب النار وغضب الله ، وفي ما يفرضه الخط الثاني من نعيم الجنة ورضوان الله ، ولذلك فلا بد لكم من التفكير في الموضوع من وحي الشعور بالمسؤولية ، بعيدا عن التأثر بالانفعالات الذاتية. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) لأن ذلك هو مجتمعهم الذي عاشوا في داخله في الدنيا عند ما كانوا جزءا من المجتمع المؤمن الصالح الذي يطيع الله ورسوله ويجاهد في سبيله ، وسيكونون في الآخرة جزءا منه عند ما يدخل الله الصالحين في جنته ، ويفيض عليهم من رحمته.

* * *

٢١

الآيتان

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)(١١)

* * *

الإيمان على قياس المصالح الخاصة

للإيمان نتائجه الصعبة في حياة المؤمنين ، الذين يواجهون الكفر والكافرين ، فيتعرضون لضغوط قاسية من التعذيب والتنكيل والتشريد ، ليرجعوا عن إيمانهم أو ليتراجعوا عن مواقفهم ، مما يفرض عليهم أن يستعدوا لذلك في روحية القوّة المنفحة على الله التي تستعلي على الآلام ، ولا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار أمام التحدي.

ولكن بعض الناس قد لا يتحملون ذلك ، لأنهم لا يعيشون مسئولية

٢٢

الإيمان ولا يدركون خطورته ، بل يعتبرونه مجرّد موقف من المواقف التي يصلون من خلالها إلى غاياتهم الذاتية في ما يحققونه لأنفسهم من مصالح ومطامع ، ولهذا فإنهم يقيسون القضية بحجم النتائج الإيجابية أو السلبية في الدائرة الخاصة ، لأنهم ليسوا أصحاب مبادئ ، بل أصحاب مصالح ، فإذا تأثرت مصالحهم ، ثاروا على الإيمان والمؤمنين ، وابتعدوا عنهم ، واعتبروا القضية ضريبة فادحة بالنسبة إليهم .. وإذا كانت هناك فرصة طيبة للربح ، اقتربوا ـ من خلالها ـ من المؤمنين ، وأعلنوا انتماءهم للإيمان وللإسلام.

* * *

المنافق لا يصبر على الأذى

إنهم المنافقون الذين يعلم الله خفاياهم ، فلا يغيب عن علمه شيء من ذلك كله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي كان الإيذاء متوجها إليه بسبب إيمانه بالله وعلاقته به ، من خلال تعرّض مصالحه للخطر وعلاقاته بمواقع القوّة في الحياة للتعقيد ، أو تعرّض جسده للتعذيب والتنكيل. وقد فسّر البعض الكلمة على أساس الحذف ، أي أوذي في سبيل الله ، في ما يفرضه ذلك من ضريبة المواجهة في خط الجهاد. ولكن الظاهر أن الكلمة ليست واردة في هذا السياق ، لأن هؤلاء الجماعة لم يتحركوا في خط الجهاد ليلحقهم أذاه ، لا سيّما أن السورة مكية ، في ما تقول بعض الروايات ، مما يعني أنها دائرة في سياق الأذى المترتب على الالتزام العقائدي ـ الإيماني ، ولكنها يمكن أن تختزن بعض المعاني التي تشمل ذلك ، على أساس أن الإيذاء المترتب على الالتزام العقائدي للشخص إنما يناله من جهة كونه موقفا في مواجهة موقف الكفر ، وموقعا من مواقع القوّة لله ، فإذا حدث ذلك للإنسان منهم (جَعَلَ فِتْنَةَ

٢٣

النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) ، فكما يهرب الإنسان من عذاب الله فيترك كل شيء يؤدي إليه لأنه لا يستطيع تحمّله لخطورته وقسوته ، فإنه يهرب من فتنة الناس في ما تحتويه من ضغوط وتهاويل ، وفي ما تثيره من مشاكل في داخل حياته.

* * *

ادعاء الإيمان عند النصر

(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) وذلك في ما يحصل عليه المؤمنون من انتصارات على مستوى قوّة الدعوة ، عند ما يرتاح الموقف ، ويبتعد عن أجواء الاضطهاد والتنكيل. وقد فسّرها البعض بالنصر الذي حصل للمسلمين فيما بعد الهجرة ، لأنهم لم يحصلوا على أيّ موقع للقوّة قبل ذلك ، مما يمكن أن يعبّر عنه بالنصر ، بل كانوا في موقع الضعف ، حيث اضطر البعض منهم للهجرة إلى الحبشة. وعلى ضوء ذلك ، فإن الآية تكون مدنية لا مكية ، على خلاف المعروف المشهور من ذلك وهو قريب ، مع إمكان إثارة ملاحظة معينة ، وهي أن الآية كانت تعالج النماذج في نطاق الجوّ العام لحركة الدعوة في حياة الناس المنافقين بين واقع الضعف وواقع القوّة ، لا في نطاق الحالات الخاصة ، لنبحث عن النموذج في داخل مرحلة معينة من خلال أفرادها ، والله أعلم.

* * *

الله أعلم بما في الصدور

(أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) فلا يخفى عليه منهم شيء. فكيف يتحدثون مع المؤمنين بأنهم كانوا معهم ، وأنهم المخلصون لعقيدة

٢٤

الإيمان وللمجتمع المؤمن ، والله يعلم بما في صدورهم من عقيدة النفاق التي تظهر الإيمان وتبطن الكفر؟!

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) في ما يظهره من إخلاصهم له وللرسول ، وللإسلام والمسلمين ، في الصبر على الأذى في جنب الله ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) في ما يظهر من تناقض مواقفهم ، وابتعادهم عن الإخلاص في العقيدة والعمل.

* * *

٢٥

الآيتان

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

* * *

معاني المفردات

(أَثْقالَهُمْ) : الأثقال : جمع ثقل ، والمراد بها هنا الأوزار ، والثقل في الأصل : متاع البيت ، يقال : ارتحل الناس بثقلهم وثقلتهم ، أي بأمتعتهم.

* * *

من أساليب الكفار الخادعة في إضلال المؤمنين

وهذا أسلوب خبيث من أساليب الكفار في إضلال المؤمنين في محاولة خداعهم وفتنتهم عن الخط الإسلامي الأصيل ، فقد كانوا يعملون على مواجهة حسّ المسؤولية الذي يعيش في مشاعر المسلمين ، فيدفعهم إلى الإيمان خوفا

٢٦

من عقاب الله في الآخرة ، في ما يستتبعه الكفر ، الذي هو من أعلى أنواع الخطيئة ، من ذلك. فيقولون لهم : إذا كان هناك من مسئولية في الآخرة فإننا نتحملها عنكم ، فلا تحملوا همّا من هذه الجهة ، إذا سرتم معنا ، وعملتم عملنا ، فإن النتيجة ستتساوى بالنسبة إليكم لو كان الحق معكم أو كان معنا.

وهذا الأسلوب لا يقتصر في تحريكه على هذا الجانب ، بل قد يمارسه الكثيرون ممن يريدون أن يقودوا الناس إلى ارتكاب بعض الأعمال التي قد تكون محرّمة ، أو السير في بعض الأوضاع أو العلاقات التي قد لا يرضاها الله ، فيقولون لهم : اعملوا هذا العمل على ذمتنا وتصرّفوا في هذا الوضع أو ذاك على مسئوليتنا ، وذلك من أجل مقاومتهم في الامتناع خوفا من عقاب الله ، أو من المسؤولية أمام بعض الجهات المسؤولة. فما هو موقف الإسلام من ذلك؟

هل للإنسان الاعتماد على هذا؟ وما هي طبيعة الموقف منه؟

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) في الكفر أو الشرك واتركوا سبيل الإيمان والتوحيد (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إذا كان هناك في الأمر خطيئة ، في ما تزعمونه أو تخافونه من ذلك في أنفسكم ، تبعا لتخويف الآخرين ممن يدّعون النبوّة ، فلا مشكلة عندكم في ذلك ، لأن الحق إذا كان لنا ، فلا مسئولية ولا من يسألون ، وإذا كان الحق لكم فإننا سوف نحمل ذلك عنكم ، مهما كانت الأوضاع والنتائج.

* * *

كل يحمل خطاياه

(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنهم لا يملكون الأمر في الآخرة عند ما يكون الحق في جانب المؤمنين ، بل الله هو المالك لذلك كله ،

٢٧

فهو الذي يعذب الكافرين بناره ، وهو الذي يؤمّنهم من ذلك ، إذا كان للأمان موقع في أمرهم. أمّا هؤلاء الكافرون ، فليس لهم من الأمر شيء في أنفسهم ، في ما يملكونه من مواقع القدرة ، ولم يأذن لهم الله في ذلك ، ليعتمدوا في تحمّل مسئولية الآخرين على إذن الله. وهذا هو الجواب نفسه لكل الأشخاص الذين يخاطبون الناس بتحمّلهم للأعمال أو الأوضاع التي يطلبونها منهم ، في ذمتهم ، أو مسئوليتهم ، فهم لا يملكون من الأمر شيئا ليدخل ذلك في عهدتهم ، ولم يعطهم الله الإذن فيه.

(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ما يدّعونه من هذا الموقع لأنفسهم ولكلماتهم ، وفي وعدهم لهؤلاء ، لأنهم يعلمون من أنفسهم أن ذلك امر لا حقيقة له.

* * *

حمل أثقالهم وأثقال من أضلوهم

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) في ما يحملهم الله من مسئولية هذا الكلام ، ومن التسبّب في إضلال هؤلاء البسطاء الذين قد يتبعونهم في ما يخدعونهم به (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) في ما يقومون به من ذنوب وجرائم في حياتهم الخاصة والعامة ، فلا يجدون أيّة قوّة لأنفسهم ، ولا يجدون لغيرهم مثل ذلك (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) مما يتصل بعملهم في ما يكفرون ويشركون ويعصون ، ومما يتصل بعمل الآخرين في ما يضللونهم بالإغراء أو بالترهيب.

* * *

٢٨

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا

٢٩

اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

* * *

معاني المفردات

(إِفْكاً) : الإفك : الكذب.

(يُنْشِئُ) : الإنشاء : الإيجاد.

(تُقْلَبُونَ) : ترجعون وتردون.

* * *

من نوح إلى إبراهيم في رحلة الرسالة

وهذا فصل جديد من السورة يفصّل الله فيه ما أجمله في صدرها من أنه قد فتن الذين من قبلنا ، في ما واجهوه من التحديات الكافرة التي تحدى بها الكفار رسل الله عند ما دعوهم إلى الإسلام ، في عقيدته ومنهجه.

* * *

٣٠

إرسال نوح إلى قومه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ليدعوهم إلى عبادة الله الواحد ، (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) بحيث استنفد كل تجاربه في وسائل الدعوة إلى الله ، فلم يترك كلمة من كلمات الهدى إلا وقالها ، ولم يدع أسلوبا من أساليب الإقناع بالإيمان إلا واستخدمه بكل حكمة ولباقة وعقل ، فلم يستجيبوا له ، بل أصرّوا على الاستمرار في عبادة الأوثان ، وسخروا منه ومن دعوته ، (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) الذي غمر الأرض بالماء حتى ارتفع إلى الجبال ، فلم يبق هناك ما يعصم من أمر الله (وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بالكفر ، وللحياة وللإنسان بالتمرّد والطغيان .. فكان الطوفان عقابا دنيويا على ذلك.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) الذين ركبوا معه فيها (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) في ما تمثله السفينة أو ترمز له أحداث الطوفان من نصرة الله لأوليائه ، وهو درس وعبرة للأجيال القادمة من الناس أن الله يرعى رسله ، ويعاقب المتمردين عليه.

* * *

دعوة إبراهيم لقومه

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) ووحّدوه في العبادة ، (وَاتَّقُوهُ) وراقبوه في أعمالكم لتحملوا مسئوليتها في جميع مفرداتها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن توحيد الله في العبادة ، وتقواه في حركة الحياة ، هما اللذان ينظّمان للإنسان حياته ويحرّكانها في الخط المستقيم ، ويوحّدان له منهجه وغايته عند ما ترتبط كل القضايا بالله ، وتتجه كل الدروب إليه.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) في ما تصنعونه من الأصنام الحجرية والخشبية مما لا يحمل أيّة قداسة ، ولا يمثّل أيّ معنى ، في ما هو الإله في

٣١

خصائصه وصفاته ، (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) في ما تدّعونه لها من الألوهية ، وفي ما تثيرونه حولها من أوهام وقداسات وتهاويل ، من فنون الكذب والخيال ، ولكن هل فكرتم في هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، وهل دخلتم في مقارنة بينها وبين الله في قدرته وفي حاجتكم إليه؟

* * *

الحاجة لا تطلب إلا من الله

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لأنهم لا يملكون في ذاتهم أيّ شيء ، ولا يستطيعون تحقيق أيّ أمر من الضرّ والنفع لأنفسهم ، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ فما معنى كل هذا التوجه إليهم ، والتوسل بهم ، والخضوع لهم ، في ما تطلبونه من قضاء حاجاتكم ، وتوسعة أرزاقكم ، مما هو بيد الله وبأمره ، لأنه الخالق للكون كله ، وهو المنعم علينا بكل ما جعل فيه من النعم الصغيرة والكبيرة.

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) فهو المالك له والقادر على إنزاله إليكم (وَاعْبُدُوهُ) لأنه المستحق للعبادة في ألوهيته المطلقة التي لا يقترب منها شيء ، في ما هي العظمة والقدرة (وَاشْكُرُوا لَهُ) لأنه الرب المنعم الذي ترجع كل النعم إليه ، فما بكم من نعمة فمن الله.

(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في يوم القيامة لتواجهوا الحساب أمامه على أعمالكم في قضية المصير ممّا يفرض عليكم الارتباط به في حاجاتكم وفي عبادتكم وفي شكركم لنعمه ، لأن المسألة في غاية الخطورة ، على مستوى الوجود والمصير.

* * *

٣٢

تكذيب الأمم السابقة للرسل

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) فلستم أوّل من كذب الرسل ، ولن تكونوا آخرهم ، ولن تغيّروا من سنة الله ، في استمرار رسالته وتتابع رسله ، شيئا ، ولن تستطيعوا إسقاط روحية الرسول الذي يعرف دوره جيّدا ، فينطلق إلى تأديته بكل إخلاص ، بعيدا عن طبيعة النتائج السلبية والإيجابية على مستوى استجابة الناس لدعوته.

* * *

وظيفة الرسول : البلاغ المبين

(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ليعرف الناس من خلاله رسالة الله ليحددوا موقفهم منها على حسب تأثرهم بها ، أو تمرّدهم عليها. وإذا كان الرسول يحب لرسالته أن تتأكد في عقول الناس وضمائرهم وتتحرك في حياتهم ، فيتألم لابتعادهم عنها وتكذيبهم له ، فإن ذلك لا ينطلق من شعوره بالتقصير في مهمته ، لأن مسألة الهداية الواقعية لا تتصل بالرسول وحده ، بل تتصل ـ إلى جانب ذلك ـ بالناس وبالظروف الموضوعية المحيطة بهم ، وإنما ينطلق من إحساسه الذاتي الرسالي بإشفاقه على الناس الذين يمثل انحرافهم عن الرسالة انحرافا عن مصلحتهم في الدنيا والآخرة.

وهكذا يتابع إبراهيم رسالته في خطابه لقومه ، الذي يحدثنا الله عنه ، في ما كان يقوله أو يفكر به.

* * *

٣٣

بدء الخلق والإعادة من سنخ واحد

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ذكر بعض المفسرين أن المراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصريّة ... والمعنى : أولم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة ، أي أنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن ، وقوله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ... فيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء. وإذا كانت القدرة المطلقة وإذا تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء ، وهي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار وإنزال للسائرين إليه في دار القرار (١).

وربما أمكن إرادة الرؤية البصرية على أساس مشاهدة عملية الخلق والإعادة في ما يراه الإنسان من مظاهر الحياة في الأرض في ما تهتز به من زروع تنبت ثم تموت ثم تهتز من جديد بالخضرة والحياة.

* * *

الاعتبار ببداية الخلق

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) في ما تشاهدونه من تنوّع الخلائق واختلافهم في ألوانهم وأشكالهم وطبائعهم ، من غير مثال سابق ، مما يوحي بعظمة القدرة واتساعها وشمولها لما يماثل ذلك في طبيعته ، الأمر الذي تكون فيه عملية الإعادة نتيجة طبيعية لذلك ، باعتبار أنها أقل صعوبة من عملية الإيجاد.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٢٠.

٣٤

(ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته على النشأة الأولى تفرض قدرته على النشأة الآخرة.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي تردون إليه فيحاسبكم على أعمالكم فيعذب من يستحق العذاب ، ويرحم من يستحق الرحمة .. لئلا تكون الحياة عبثا من دون نتيجة أو غاية.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فإنكم خاضعون لحكمه في ما يقدّره ويقضيه في الأرض أو في السماء ، فلا تستطيعون دفعا لعذابه ، ولا ردّا لقضائه في الدنيا والآخرة ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ولن يستطيع أحد أن يتولى أمركم من دون الله بحيث تستغنون به عنه ، أو يدافع عنكم فينصركم مما يريد الله أن يوقعه بكم من عذابه.

* * *

الكافر يائس من رحمة الله

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) ولم يؤمنوا بها ولا بالرجوع إليه في يوم القيامة ، ولذلك تصرّفوا بعقلية الغريزة ، لا بروحية المسؤولية ، فعاثوا في الأرض فسادا ، وابتعدوا عن الخط المستقيم ، (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لأن رحمة الله لا تنال الجاحدين له ، المعاندين لرسله (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جزاء على كفرهم وعنادهم.

والظاهر أن الخطاب في هذه الآية موجّه إلى النبيّ ، وليس من كلام النبي ، وإلّا لكان من المناسب أن يقول : من رحمة الله.

٣٥

والمراد بآيات الله ، هي الدلائل الدالة على أصول العقيدة من التوحيد والنبوّة ، أمّا يأسهم من رحمة الله ، وهي الجنة أو المغفرة والرضوان ، فينطلق من جحودهم لها ، أو من طبيعة قضاء الله بأن رحمته لا تنال الكافرين.

* * *

محاولة قتل إبراهيم

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) على هذه الدعوة الواعية التي تفتح القلب على الله من خلال التأمل العميق ، والنظرة الشاملة ، (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) لأنهم لا يملكون الرّد المتوازن الذي يناقش القضايا المطروحة بدقة وعمق ، وذلك من خلال فقدانهم للحجة على ما ينكرون ، وما يعتقدون ، مما يجعل موقفهم موقف الضعيف الذي لا يمكنه الدفاع بالأسلوب العقلي ، فيدافع عن موقفه بالطريقة الغوغائية العدوانية بالتهديد بالقوّة ، (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) التي أضرموها ثم ألقوه فيها فجعلها بردا وسلاما عليه ، وكان ذلك معجزة إلهيّة لإبراهيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

* * *

اتخاذ الأوثان للمصالح الخاصة

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلم يكن اتخاذكم لها منطلقا من قناعة فكريّة مبنيّة على حجّة عقلية ، بل كان منطلقا من علاقات المودّة القائمة بينكم في الحياة الدنيا ، من خلال القرابة أو الصداقة أو المصلحة ، مما يجعل للألفة دورها الكبير ، وللعاطفة أهميتها العليا في تكوين العقائد والعادات والتقاليد ، ثم تتسع المسألة ، فتتحول إلى عقيدة عامّة للأمة. وهذا ما عبرت عنه الآيات القرآنية التي ناقشت تقديس عقائد الآباء والأجداد ،

٣٦

وذلك في ما حدثنا الله به عن إبراهيم في قوله تعالى : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) [الأنبياء : ٥٣] ، وفي قوله تعالى : (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٧٣ ، ٧٤].

ولعلّ هذا هو الذي جعل الكثير من الأمم تعتز بتراثها القومي على أساس طبيعة الارتباط العاطفي بالأرض واللغة المشتركة التي ينتمي إليها هؤلاء ، بحيث يكون لذلك أثر كبير في تقديس المضمون التراثي بعيدا عما إذا كان حقا أو باطلا.

وهكذا أراد إبراهيم أن يؤكد لهم الأساس اللّاعقلاني الذي لا يملك أيّ ثبات في حركة الحقيقة ، في ما يركزون عليه عقيدتهم وعبادتهم ، ليدعوهم إلى تحكيم العقل في ذلك ، لأن العقيدة القائمة على المودّة سوف تتبدّل نتائجها إذا تبدلت المودّة وتحوّلت إلى عداوة ، مما يجعل كل فريق يلقي المسؤولية على الفريق الآخر.

* * *

الكفار يكفر بعضهم ببعض

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) عند ما يكفر بكم هؤلاء الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله ، ويتبرءون منكم ، كما قال الله سبحانه : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢] ، وقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤] ، (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فتتراشقون باللعن في النار كما قال سبحانه : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) لأن ذلك هو الجزاء الإلهي

٣٧

للناس الذين لا يملكون حجة على العقيدة وعلى العمل ، بل كانت الحجة لله عليهم.

ويبقى للدار الآخرة في جحيمها ونعيمها دورها الكبير في إثارة الإحساس الإنساني بالخوف من المصير الذي يدفعه إلى الخروج من أجواء اللّامبالاة التي تجمّد إحساسه بالمسؤولية ، فتمنعه من الانفتاح على الرسالة والرسول (* فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) ليكون داعية إلى الله ، ومرسلا من قبله إلى قومه كما سيجيء في الآيات التالية.

* * *

هجرة إبراهيم إلى الله

(وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) الظاهر من سياق الحديث أن القائل إبراهيم عليه‌السلام ويؤيده موافقة ذلك مع الآية الكريمة في حكاية الله عن إبراهيم عليه‌السلام في سورة الصافات : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، [الصافات : ٩٩] ، وقيل : إن الضمير راجع إلى لوط.

والهجرة إلى الله ، هي الخروج إلى الأرض الواسعة التي يملك فيها حرية الحركة في عبادة الله والدعوة إليه والعمل في سبيله ، بعيدا عن كل الضغوط التي تمنعه من ذلك ، وعن الحلقة المفرغة التي كان يدور فيها من غير جدوى في دائرة قومه. وربما كان في الإشارة إلى إيمان لوط به ، نوع من الإيحاء بأنه لم يؤمن معه من قومه إلّا لوط.

والهجرة إلى الله ، شعار إيمانيّ يحمله المسلم في قلبه ، ويحرّكه في حياته ، ليكون نقطة الانطلاق إلى الانفتاح على المواقع الجديدة التي يأمل فيها الحصول على القوّة عند ما تحاصره القوى المضادة في نقاط ضعفه لتجمّده عن

٣٨

كل حركة ، ليستطيع من خلال ذلك ، العودة إلى الساحة من مركز قوّة ليحوّلها إلى ساحة إيمان ، أو العمل على توسعة آفاقه التي تقربه إلى الله وتقرّب الناس من الله ، لأن رسالته لا تقتصر على قومه بل تشمل كل الناس.

وهكذا رأينا أن هجرة إبراهيم إلى الله كانت السبب في بنائه للبيت ليكون مثابة للناس وأمنا ومسجدا للطائفين والقائمين والركع السجود ، وانطلاق الحنيفية إلى تلك المنطقة ، مما قد لا يحصل في بقاء إبراهيم في دائرة قومه. وقد نجد في إعلان ذلك لقومه إيحاء لهم ، بأنه لن يضيع عند ما يتركونه ولن يذلّ عند ما يخذلونه ، بل سيجد عند ربه الهدى في حكمته ووحيه ، وسيحصل على العزّة في قوّته وجبروته ، وأنّ ربه ليس مجرد فكرة تجريدية يخلقها في داخل نفسه ، كما يخلقون أصنامهم من خلال أوهامهم ، بل هو حقيقة تهيمن على الكون كله ، وتدبّره وترعاه ، وترعى كل موجود فيه ، وتؤمّن كل خائف في حياته. ولن يستطيع أحد أن يرعاه كما يرعاه ربه ، أو يحميه كما يحميه الله. ولذلك فإنه مهاجر إليه ، بعد خذلان قومه له واضطهادهم له (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا يذل من نصره ولا يضيع من حفظه.

* * *

النبوّة في ذرية إبراهيم

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي كرمنا إبراهيمعليه‌السلام ، بأن جعلنا النبوة تمتد في أبنائه إسحاق ويعقوب ، وذلك لما كان عليه ـ عليه‌السلام ـ من تسليم قلبه لله تعالى ، ومن صبر على تحمل أعباء الرسالة .. ولما حمله أولاده في قلوبهم من إيمان ، وفي سلوكهم من التزام بأوامر الله ونواهيه ، بحيث استحقوا أن يكونوا موضعا لكرامة الله

٣٩

بالنبوّة ، وإنزال الكتاب على أيديهم في ما أنزله الله على موسى وعيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بعد.

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) في ما كرّمه الله به من كتبه المنزلة ، وفي تخليد السلام عليه وعلى آله في كل رسالاته ، ليكون ذلك ذكرا خالدا له في الناس ، ليذكروا روعة الإسلام لله في حياته ، وعظمة الجهاد في رسالته ، وصفاء التأمل في حركة فكره ، ووداعة المحبة في نقاء روحه ، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين ينالون كرامة الله في رضوانه وجنته ، في المجتمع المتوازن الذي يعيشون في داخله روحية صلاحهم بعيدا عن الاختلاط بالمجتمع غير الصالح ، في ما كانوا يعانون فيه من ضغط وخوف واضطهاد. فها هم في الجنة ، مسرورون برضوان الله ، منفتحون على بعضهم البعض في خير ولطف ومحبّة وأخوّة ، لم يعرفوا طعمها الحلو في الدنيا ، كما يعرفونه الآن.

ثم إننا نلاحظ أن الله يوحي إلينا بالحديث عن الأنبياء في اعتبارهم في الآخرة من الصالحين ، أنّ مجتمع الصالحين في الجنة لا ينفصل فيه الأنبياء عن المؤمنين الصالحين ، لأنه يتحدث أيضا في آية أخرى ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٩] ، كما يوحي بأن الصلاح في الفكر والخط والعمل هو العنوان الذي يفتح للإنسان أبواب الجنة ، من خلال الرسالة التي يحملها ويبلغها ، أو يؤمن بها ويؤيدها ويجاهد في سبيلها ، (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ).

* * *

٤٠