تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

الآيات

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٣٥)

* * *

٤١

معاني المفردات

(نادِيكُمُ) : النادي والنديّ : المجلس إذا اجتمعوا فيه ، وتنادي القوم : اجتمعوا في النادي.

(الْغابِرِينَ) : الهالكين.

* * *

لوط في خط الرسالة من البداية إلى النهاية

ويعيد إلينا القرآن قصة لوط ليثير أمامنا بلاءه في قومه ، وفتنة قومه ، في حركة غرائزهم نحو الشذوذ الجنسي المذكّر ، وسقوطهم في الامتحان ، بامتناعهم عن الانفتاح عليه في رسالته ، وعن التجارب معه في الابتعاد عن الفاحشة في مجتمعهم ليكونوا قوما مؤمنين أطهارا في الحياة.

* * *

فحش قوم لوط

(وَلُوطاً) أي اذكر لوطا ، أو أرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) في ما تأتونه من اللواط (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فقد ابتدعتم هذا النوع من الشذوذ باستغراقكم في غرائزكم الحيوانية ، واهتمامكم بها في محاولة لتطويرها بطريقة لا تخدم الحياة ، ولا تنسجم مع طبيعتها الروحية والعملية ، وابتعادكم عن الانطلاق مع الآفاق الواسعة للحياة التي يستكشف فيها الإنسان عظمة الله في الكون ، فيزداد معرفة به وإيمانا بعظمته ، فيقترب بذلك من مواقع طاعته ، كما يبتدع فيها ، بإلهام من

٤٢

ربه وهداية منه ، كل الوسائل التي تخدم الإنسان في الحياة في ما ييسره من شؤونها وأدواتها ، (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) من دون النساء (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي الطريق.

* * *

تفسير قطع السبيل

وقد فسر قطع السبيل ، بأن المراد به قطع طريق التناسل أو إهماله ، وهو الطريق الذي جعله الله سببا للتناسل من خلال إتيان النساء ، وذلك على سبيل الكناية عن الإعراض عن النساء وترك نكاحهن ، وقيل : إن المراد به قطع سبيل المارّة بديارهم ، وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف ، فأيّهم أصابه كان أولى به ، فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم ، وكان لهم قاض يقضي بذلك.

ولعل الوجه الثاني أقرب لظهور اللفظ في ذلك ، ولعدم تعارف التعبير عن ترك نكاح النساء بذلك ، وعدم تبادره إلى الفهم العرفي ـ حتى على نحو الكناية ، مع ملاحظة أنهم لم يكونوا تاركين لنكاح النساء بحيث تحوّلت المسألة عندهم إلى شذوذ جنسيّ معقّد رافض للوضع الطبيعي بشكل مطلق ، بل كل ما هناك أنهم يشتهون الوضع المذكر ويمارسونه ، مما لا يؤدي إلى قطع التناسل. ويؤيد هذا القول ما رواه العديد من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب ، ولفظ الحديث : «قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل ويسخرون منهم» (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٣٢.

٤٣

ولعل الحديث وارد لتفسير الفقرة الأولى (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) ، لأن لفظه يتناسب معها ولا يتناسب مع الفقرة الثانية ؛ والله العالم.

* * *

إيتاء المنكر في النادي

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقد كانوا ـ على ما يبدو ـ يجتمعون في مجلسهم الذي يلتقون فيه ، بصفتهم الاجتماعية ، فيمارسون الفحشاء ، أو يقومون ببعض مقدماتها بطريقة علنيّة ، وبذلك تكون الفقرة تأكيدا لما تقدّم ، من جهة الحديث عن إتيانهم المنكر ، وبيانا لحدوث ذلك في النادي العام.

وقيل : المراد بإتيان المنكر في النادي ، أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مرّ بهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط ونحو ذلك.

والظاهر أن لوطا كان يريد إثارة الإنكار عليهم في ذلك كله ، ليقودهم إلى الحوار ، ليؤدي ذلك إلى تحليل الأمور بطريقة عقلانية من جهة ، وإلى تخويفهم من المصير الذي ينتظرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة من جهة أخرى ، على ما هي الطريقة المألوفة في خط الأنبياء ، من تحريك العقل نحو التفكير ، وتحريك الشعور نحو الخوف ، ليتوازن في شخصية الإنسان ، الجانب العقلي مع الجانب الشعوري ، لأن ذلك هو سبيل التكامل في حركة الإنسان.

* * *

٤٤

رفض قوم لوط الدعوة

ولكن قومه كانوا مستغرقين في غرائزهم ، بحيث استطاعت أن تغلق نوافذ الفكر وتثير في عقولهم دخانا من الشهوة المحترقة التي لا يطيقون الابتعاد عن نارها. ولذلك فقد رفضوا الحوار ، وسخروا من دعوته ، وتحدّوه بأن يفعل ما يريد ، وهم يعتقدون أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا ، فضلا عمّا يريد ، لما يرونه من ضعفه ، لأنه لا يملك قوّة فيما بينهم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) إذا كنت تهددنا به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك الرسالة ، وفي ارتباطك بالله بالمستوى الذي يستجيب فيه لطلباتك في عذابنا.

* * *

دعاء لوط بالنصر

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ، وهكذا التجأ إلى الله عند ما واجهوه بكلمة التحدي التي يريدون من خلالها تحطيم موقعه بإظهار ضعفه وعدم قدرته على تنفيذ ما هدّد به ، وهو يعرف أنه لا يملك القدرة الذاتية على ذلك ، فليس له إلا الرجوع إلى الله ، والاستنصار به. وهذا هو ما ينبغي للمؤمنين العاملين في سبيل الله أن يعيشوه في مجالات الصراع العنيف بينهم وبين الكافرين والظالمين ، فلا يستسلموا للضعف الذاتي ، بل يعملوا على استنزال القوة والنصر من الله ـ سبحانه ـ ليكون لهم ذلك ، منطلقا للأمل ، وحشدا للقوّة النفسية.

واستجاب الله دعاءه ، ولكن كان من المفروض إعلام إبراهيم ، لأن لوطا

٤٥

ـ على ما يبدو ـ كان مرسلا ، من خلاله.

* * *

إعلام إبراهيم بإهلاك قوم لوط

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بأن الله سيرزقه ولدا ـ بعد وقت طويل ـ (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) التي يسكنها لوط ، وربما كانت الإشارة إليها بكلمة «هذه» التي تدل على الإشارة إلى القريب ، دلالة على قربها من مكان إبراهيم في الأرض المقدسة ، (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) وتحول ظلمهم الى خطر عليهم وعلى الناس ، فاستحقوا العذاب بذلك.

(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) فإذا كانوا ظالمين ، فإن لوطا ليس منهم ، فكيف ينزل العذاب عليها وهو فيها ، فإن عذاب الله إذا نزل على أهل بلد شمل الجميع ، فلا ينجو منه أحد (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) فقد عرفنا وجود لوط ، وقد خطّطنا لإخراجه منها مع أهله ـ ما عدا امرأته ـ قبل إنزال العذاب ، فإن الله قد أنزل العذاب عليهم لاستحقاقهم ذلك ولتمرّدهم على لوط واستخفافهم به ، ولاستجابة دعائه بالنصرة عليهم ، فكيف يناله العذاب ، (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الهالكين الذين يضمّهم غبار الموت لأنها كانت مؤيدة لقومها ضد لوط.

* * *

٤٦

هل كان إبراهيم يعلم أن لوطا لن يعذب؟

وهناك لفتة جيدة ، ذكرها صاحب تفسير الميزان في تفسير كلام إبراهيم للملائكة (إِنَّ فِيها لُوطاً) قال : إن إبراهيم عليه‌السلام ، لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا وهو نبيّ مرسل ، وإن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته ، ولا أنه يخوّفه ويذعره ويفزعه بقهره عليهم ، بل كان ـ عليه‌السلام ـ يريد بقوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط ، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه وإخراجه من بين أهل القرية ومعه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود : ٧٤ ـ ٧٦](١).

وقد نلاحظ على ذلك ، أن الآية لا يظهر فيها ما ذكره ، ولهذا كان جواب الملائكة بيانا لمصير لوط ، لا لمناقشة مصير قومه ، كما ذكر في سورة هود ، ولا مانع من أن يكون إبراهيم عليه‌السلام قد أثار مصير قوم لوط معهم ، كما أثار مصير لوط ، انطلاقا من النظرة السريعة للموقف على أساس الإعلان المفاجئ عن تعذيبهم ، تماما كما كان رد فعله السريع على البشارة ، باستغراب ذلك واستبعاده ، وليس من الضروري أن يكون النبي مستحضرا في نفسه لكل الأمور المتصلة بالأحداث ، بحيث يفقد عنصر المفاجأة في كل شيء ، فقد تكون فكرة هلاك لوط مع قومه واردة على أساس أن الأمور التكوينية لا تفرّق في بلاء الدنيا بين الصالحين وغيرهم ، والله العالم.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٢٨.

٤٧

وقد جاء في الكافي ما ربما يؤيد التفسير السابق الذي ناقشناه ، بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله «جعفر الصادق عليه‌السلام» في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال : فقال لهم إبراهيم : لما ذا جئتم؟ قالوا : في إهلاك قوم لوط فقال لهم : إن كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل لا ، قال : فإن كان فيها خمسون؟ قال : لا. قال : فإن كان فيها ثلاثون؟ قال : لا ، قال : فإن كان فيها عشرون؟ قال : لا. قال : فإن كان فيها عشرة؟ قال : لا. قال : فإن كان فيها خمسة؟ قال : لا. قال : فإن كان فيها واحد؟ قال : لا. قال : فإن فيها لوطا؟ قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. قال الحسن بن علي عليه‌السلام : لا أعلم هذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول الله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ)(١).

* * *

نزول العذاب على قوم لوط

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) فقد كانت زيارتهم له في مستوى المشكلة الكبيرة الصعبة التي تواجهه ، في موقف لا يملك فيه القوّة ، لخوفه من الاعتداء عليهم من قبل قومه ، لأنهم جاؤوا في صورة شبان حسان الوجوه ، كما يقولون ، وهو لا يستطيع الدفاع عنهم ، مما أوجب ضيق صدره وطاقته عن الاحتمال ، ومساءته في نفسه ولم يتركوا له المجال الطويل ليعيش هواجسه الخائفة القلقة الحزينة.

(وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٣٢.

٤٨

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا من السماء (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ليكون ذلك جزاء لهم على فسقهم وفسادهم الذي تجاوزوا به الحدّ. وهكذا كان ، وأغلق الستار على هذه الحادثة وهؤلاء القوم ، ليعودوا مجرد ذكرى تثير العبرة وتدعو إلى التفكير.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويقودهم العقل إلى الفكرة التي تحذّر الناس من بلاء الله وعذابه إذا امتدوا في طريق الكفر والفساد ، لأن الله لا يريد للمفسدين أن يعيثوا في الأرض فسادا على امتداد الزمن ، فقد يأتيهم العذاب من حيث لا يحتسبون ولا يشعرون.

* * *

٤٩

الآيات

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤٠)

* * *

معاني المفردات

(الرَّجْفَةُ) : الرّجف : الاضطراب الشديد.

(جاثِمِينَ) : الجثم والجثوم في المكان : القعود فيه ، وهنا كناية عن الموت.

٥٠

(حاصِباً) : الحاصب : الريح العاصفة التي فيها الحصباء ، وهي الحصى الصغار.

* * *

وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

ويتابع الله الحديث عن الأمم التي عاشت البلاء ووقعت في الفتنة وعن بعض الشخصيات القلقة التي سقطت في الامتحان ، فأنزل الله عليها العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة.

* * *

نبيّ الله شعيب عليه‌السلام

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده ، ولا تشركوا به شيئا (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) في أقوالكم وأعمالكم وأوضاعكم وعلاقاتكم ، ولا تستغرقوا في الدنيا في ما ترجونه من شهواتها ولذاتها وأرباحها ، لأن رجاء الدنيا سوف ينقلب إلى يأس وخيبة أمل ، أمّا رجاء الآخرة ، فهو الرجاء الباقي الذي تتصل نتائجه بالله القادر على كل شيء ، المهيمن على الدنيا والآخرة.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) في ما تقومون به من إفساد البلاد والعباد في قضاياهم العامة والخاصة ، ولا سيّما في إفساد التوازن الاقتصادي في نقص المكيال والميزان. وهكذا نجد أنّ الأنبياء يركزون في دعوتهم على التوحيد والإيمان باليوم الآخر ، والامتناع عن إفساد الأرض ، بإخلال توازنها الاجتماعي والفكري والاقتصادي والأمني. فهم يتحدثون عن الخط العريض

٥١

للمبدأ ، حتى في مواقع التفاصيل الصغيرة للفساد ، ليبقى المبدأ متحركا مع التفاصيل ، حتى لا يفقد روحه ، ويبتعد عن هدفه.

(فَكَذَّبُوهُ) لأنهم لا يريدون للرسالة أن تغير واقعهم القائم على الامتيازات الطبقية والاستغلال الاقتصادي والانحراف الروحي عن خط الله ، ولهذا فإن المسألة عندهم لا ترتكز على أساس القناعات الفكرية للرسالة من حيث قبولهم بها أو رفضهم لها ، بل ترتكز على أساس المصالح الذاتية التي يخضع لها الموقف وتنطلق بها الحركة. ولذلك فقد كان تكذيبهم لشعيب تكذيبا طبقيا لا فكريا ، فكان جزاؤهم من الله العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، لأنهم لم يرتبطوا به وبرسله من قريب أو من بعيد. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) في ما أوقعه الله بهم من الزلزال الذي لا يسمح لهم بالتقاط الأنفاس ، حتى أصابهم الانهيار والاختناق من جرّاء ذلك ، (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي قاعدين من دون حراك ، وهو كناية عن الموت. وربما كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية ناشئة من الصيحة التي زلزلت كيانهم فأسكنت قلوبهم عن الحركة ، وذلك من خلال الآية الكريمة (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود : ٩٤] لأن الصيحة المدوّية قد تكون سببا في الرجفة التي تؤدي إلى الموت.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) كيف أوقعنا الهلاك بهم فبادوا.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) في ما أثاره في عقولهم من تحسين القبيح وتقبيح الحسن ، فلم يملكوا توازن النظرة إلى الأشياء ، وخيّل إليهم أن القوّة تعني الحق ، وأن الضعف يعني الباطل ، وأن مواقع القوّة البدنية والاقتصادية تمنح الأقوياء الحق في السيطرة على الضعفاء ، والاستكبار على الرسالة وأصحابها. وهكذا ابتعد بهم الشيطان في وسوسته وتثبيطه وكيده ومكره وحبائله ، عن الله وعن رسله ، في ما دعوا إليه ، وفي ما جاهدوا من

٥٢

أجله ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) المستقيم الذي ينطلق من الله في عمق الفطرة وصفاء الروح (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قبل ذلك ، في ما كانوا يعيشونه من وحدانية الله وعبادته.

* * *

مصير المستكبرين

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) الذين كانوا يمثلون مراكز القوى المالية والسياسية التي أفسحت لهم المجال في السيطرة الواسعة على الناس ، (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ليهديهم إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) ودفعهم استكبارهم إلى إنكار الحق ، والتعالي على الناس ، والتمرد على الرسل ، وحاولوا أن يدافعوا بقوتهم ، ليبطلوا الرسالة ، ويهزموا الرسول ، ويطفئوا نور الله ، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ، فقد أخذهم الله بعذابه (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي غالبين في ما يمثله السبق من الغلبة على سبيل الكناية.

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهي الحجارة ، التي أنزلها الله على قوم لوط ، أو الريح التي تقذف بالحصى ، التي أرسلها الله على عاد (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم ثمود وقوم شعيب (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) وهم قوم نوح ، وفرعون وهامان وقومهما.

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) لأن الله لا يظلم أحدا ، فإن الضعيف هو الذي يحتاج إلى الظلم ، ليأخذ ما ليس له بحق ، أو ليدفع عن نفسه ضرر الآخرين ، أمّا القويّ ، فإنه يستطيع أن يصل إلى ما يريد دون أن يخاف من أحد

٥٣

لأن وجود الآخرين لا يضايق وجوده في قليل أو في كثير. وقد حذّرهم الله وأنذرهم بعقابه ، في ما أنزله على رسوله ، فلم يظلمهم بعد إقامة الحجة عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنهم ابتعدوا عن الحق وأهله ، فاستحقوا العقاب.

* * *

٥٤

الآيات

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٤٤)

* * *

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ)

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يبتغون عندهم النصرة ، ويطلبون منهم الرعاية والحماية ، ويريدون منهم جلب النفع ودفع الضرر ، ليكونوا لهم قوّة يركنون إليها ، وقاعدة يرتكزون عليها ، وملجأ يلجأون إليه ، (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لتأوي إليه ، وتحمي نفسها مما حولها من الأخطار ، ولكنه لا يحمل من البيت إلا اسمه ، (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ

٥٥

الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ويفكرون بعقولهم ، لأنه لا يملك أساسا ، ولا يدفع حرّا ولا بردا ، ولا يمنع من شيء ، فالشوكة تمزقه ، والريح تنسفه. وهكذا هو موقع هؤلاء الأولياء من دون الله ، فهم لا يرتكزون على أيّة قوّة ذاتية من أيّة جهة من الجهات ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا وحياة ولا نشورا ، فكيف يملكونه لغيرهم. وإذا كان الأمر على هذا المستوى ، فقد تأخذ القضية طبيعة القاعدة العامة التي تشمل كل جوانب الحياة ، في كل مواطن الولاية التي يركن الناس فيها إلى بعض الأشخاص الذين لا تلتقي ولايتهم بولاية الله والرسول ، بل تلتقي بمواطن الكفر والضلال ، في ما تتخذه لسيطرتها من مواقع ووسائل وأهداف.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ويعلم طبيعته ، ولا يجهل أمره ، لأنه هو الذي خلقه ، وهو الذي يدبّره ، ويمنحه ما يحتاج إليه في ما هو شرط امتداد وجوده ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يغلبه شيء ويتقن تدبير خلقه بأفضل طريقة ، وأحسن تدبير.

* * *

الغاية من ضرب الأمثال

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) ليتفهموا حقائق الأمور من خلالها ، لأنهم يعرفون الأشياء ـ غالبا ـ بنظائرها ، فلا يرتبطون بها ارتباطا مباشرا في آفاق المعرفة ، ولكن الأمثال تحتاج إلى فكر يتعرف طبيعتها ، وإلى عقل يكتشف آفاقها ، لتتسع الفكرة في وعي الإنسان ، ليرتفع إلى مواطن السموّ في رحاب العقيدة الصافية.

٥٦

(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الذين يبتعدون عن الفهم السطحي الساذج للقضايا ، وينفذون إلى عمقها ، فيفهمون منها ما لا يفهمه العامة من الناس ، الذين يأخذون منها شيئا ويأخذ أهل العلم منها أشياء كثيرة.

وهذه حقيقة بلاغيّة من أساليب التعبير الفني في اللغة العربية ، فإن كل شخص يأخذ من المعنى الخصائص التي تتصل بدائرة ثقافته ، ولهذا فإن الناس يختلفون في فهم النص الأدبي عند ما يحلّلونه ويدرسونه ، وفي إدراك أبعاده الحقيقية التي قد تأخذ في بعض الحالات بعدا أكثر مما يقصده صاحبه في إدراكه الشعوري ، باعتبار أن طبيعة اللفظ تتسع لذلك ، وأنّ الحسّ الداخلي اللّاشعوري ، قد يوحي إليه عند ما يتكلم بإيحاءات يختزنها اللفظ ، ولا يلتفت إليها الشعور الطبيعيّ.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلكل واحدة منها قانون يحكم وجوده وحركته ، فليس هناك مظهر كونيّ إلا وفي طبيعته قانون طبيعي يرتبط بقوانين الله الأخرى في الظواهر الأخرى ، بحيث يتكامل الوجود في حركته من خلالها ، في ما يسمى بالسنن الإلهية الكونية في الوجود ، وإذا كان الحق هو أساس الوجود التكويني للسماوات والأرض ، وإذا كان الله هو خالق ذلك كله ، فلا بد للإنسان من أن يتخذه وليا دون غيره لأن كل من عداه فهو مخلوق له ، خاضع لتدبيره ، ليس له من الأمر إلا ما قضاه الله ، وليس له من الخير إلا ما أعطاه. ولا بد من أن تتحرك الحياة على هذا الأساس في دائرة الحق ، لينسجم الكون في نظامه القائم على الحق مع الإنسان في خطه المستقيم المتحرك بالحق ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يدركون معانيها ، ويلتفتون إلى إيحاءاتها ، فينتفعون بها ، ويتخذونها برنامجا لحركتهم في العقيدة والحياة.

* * *

٥٧

الآية

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥)

* * *

الأمر بتلاوة الوحي وإقامة الصلاة

للنبي دوره في الحياة ، ولأتباعه الخط الذي يمثله هذا الدور ، فهناك دعوة وتلاوة ، وهناك عبادة وصلاة ، هناك مهمّة تربوية للصلاة وهناك رقابة إلهية دائمة ، وهذا ما تعالجه هذه الآية.

* * *

اتل ما أوحي إليك

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) فقد أوحى به الله إليك لتقرأه على الناس ليستمعوا إليه ، ويتفهموه ، ويعملوا بتعاليمه ، ولتعرّفهم طريقة فهمه وخطة العمل به. فليست التلاوة النبوية للكتاب مجرد قراءة تطرق حروفها وكلماتها

٥٨

الأسماع ، ثم ينتهي كل شيء ، بل هي قراءة تركز الفكرة ، وتبلور العقيدة ، وتتحرك في اتجاه العمل. ولهذا فإن القضية تحتاج إلى ملاحقة للناس في ما قرأه عليهم ، وتدقيق في ما أخذوا به منه.

وإذا كان النبي مسئولا عن تلاوة وحي الكتاب على الناس ، فإن الدعاة من بعده مسئولون عن ذلك ، لأن قضية الدعوة مسئولية النبي والمسلمين معه ، ومن بعده ، لأن الإسلام لا يمتد إلا بهذه الروح ، ولا ينمو إلا بهذه الطريقة.

* * *

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ)

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) التي تعيش في داخلها الحضور الإلهيّ في نفسك وفي حياتك ، فتزداد ارتباطا به ، وإحساسا بوجوده ، وخشوعا له ، وإطاعة لأوامره ونواهيه ، لأن مشكلة الكثيرين من الناس الذين يؤمنون بالله ، أنهم لا يحسون بحضوره في حياتهم ، بل يفكرون به ، كأيّة معادلة عقلية تعيش في أفكارهم ، كحالة ذهنية مجردة ، لا كإحساس شعوري نابض بالحياة ، ولهذا يغيبون عن ذكره ، ويغيب في وجدانهم عن عمق الوعي في شخصيتهم ، فلا يترك الإيمان في داخلهم أيّ أثر ، ولا يثير فيهم أيّ شعور حيّ. وهنا يأتي دور الصلاة ، في وقفة الإنسان المتكررة اليومية بين يدي الله ، وذكره له وحديثه معه ، وركوعه وسجوده بين يديه ، وخشوعه في سبحات الدعاء أمامه ، مما يجعله يشعر به كما لو كان معه ، في ما يشبه إحساس النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة الهجرة بأن الله معه ، (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] مما جعله يشعر بالأمن والسكينة والاطمئنان ، كما لو كان الله وجودا قوّيا حسيا معه.

وإذا كان للصلاة هذا الدور الكبير في الشعور بحضور الله في وعي الإنسان ، فإن من الطبيعي أن يكون لها الدور العظيم في صنع الشخصية

٥٩

الرافضة للفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، في ما يثيره حضور الله في نفس المؤمن من الشعور برقابته القوية عليه وعلى كل خفاياه ، لتتولد في داخله القوّة الخفية الروحية الناهية عن كل ما يتجاوز حدود الله ، وعن كل ما ينكره الله ولا يرضاه. وبذلك كانت الصلاة ، في عمقها التشريعي ، عملا تربويا عباديا يعمل على صنع الشخصية الرافضة لكل معاصي الله ، بحيث يكون الحدّ الفاصل بين الصلاة المقبولة والصلاة غير المقبولة ، النتائج العملية التي تترتب عليها من حيث تحقيق النهي عن الفحشاء والمنكر في شخصية الإنسان ، وعدم تحقيق ذلك لديه. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (١).

وليس معنى نهي الصلاة للمصلي عن الفحشاء والمنكر ، أنها تحدث ذلك الأثر بشكل فعليّ حاسم ، ليتساءل متسائل ، كيف يصدق هذا في الوقت الذي نرى فيه الكثيرين من المصلين الذين يمارسون الفحشاء ويرتكبون المنكر ، بل إن المعنى الصحيح لذلك هو اقتضاء الصلاة لذلك بحسب طبيعتها العبادية ، وإيحاءاتها الروحية ، ومفاهيمها العملية ، بحيث لو عاش المصلي ذلك كله بوعي وتوجّه قلبيّ ، وخشوع روحيّ وجسديّ ، لحصل على ذلك.

* * *

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) من ذلك ، فإن ما يترتب على الصلاة من تعميق ذكر الله في نفس المؤمن المصلّي أكبر من النهي عن الفحشاء والمنكر الذي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ١٤٧.

٦٠