تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

وعلى ضوء ذلك ، فإن الترجيح العلمي لهذه الروايات أمام تلك الرواية. أمّا مسألة السياق الظاهر في اختصاصها بنساء النبي ، فيردها أن هذه الأحاديث الكثيرة لم تتحدث من قريب أو من بعيد عن نزول هذه الآية مع الآيات الأخرى الواردة في خطاب أزواج النبي ، ولم يذكر ذلك أحد من القائلين بالاختصاص ، بل كانت الأحاديث دالة على نزول الآية وحدها ، مما يجعلها منفصلة عن السياق بطبيعتها ، ولكنها وضعت في ضمنه للمناسبة.

وقد يبعّد الرأي الأول ، أن الاختصاص ووحدة السياق يفرضان أن يكون التعبير الخطابي بكلمة «عنكن» لا بكلمة «عنكم».

وقد يذهب البعض إلى قول ثالث ، وهو شمول الآية لأزواج النبي بالإضافة إلى أهل البيت ، ولكن الروايات الواردة عن أم سلمة تنفي ذلك ، كما جاء عنها أنها عند ما تساءلت عن شمولها لها قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك على خير ، ولكن المراد بها هم هؤلاء الأشخاص المميزون بأسمائهم ، كما أن الروايات تؤكد على الاختصاص.

ولعلّ كلمة أهل البيت تحولت إلى مصطلح خاص بهؤلاء الأشخاص على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولسان المسلمين من بعده ، حتى أصبحت تنصرف إليهم بشكل سريع من دون أيّ التباس ، حتى أنها لا تشتمل بقية أقربائه مع شمول الكلمة لهم بحسب العرف العام.

وقد جاء في صحيح مسلم بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله : ألا إني تارك فيكم ثقلين ، أحدهما كتاب الله عزوجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة ، فقلنا : من أهل بيته نساؤه؟ قال : لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم

٣٠١

يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (١).

٢ ـ ما معنى الرجس؟ الرجس في اللغة ـ هو الشيء القذر ، الذي قد يتعلق بالجسد ونحوه من الأشياء المادية ، كما قد يتعلق بالجانب المعنوي من الشخصية ، فقد عبر الله عن لحم الخنزير بأنه رجس كما عبّر عن الشرك والكفر وأثر العمل السيّئ في قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٥]. وفي قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥].

وفي ضوء ذلك ، فإن الظاهر إرادة الملكات الأخلاقية السلبية التي تمثل قذارة الروح ، كما يمكن أن تطل الكلمة على معنى آخر وهو الأخطاء الفكرية في إدراك الأمور ، في ما يمكن أن تحمله الكلمة من إيحاءات تلتقي بالعصمة الذاتية التي هي لطف إلهيّ يثيره الله في داخل النفس ، فيمنعه من باطل الاعتقاد وسيّئ العمل ، من خلال ما توحي به كلمة القذارة من المعنى الموجب للتنفّر والبعد عن الشيء والاجتناب عنه.

٣ ـ دلالة الآية على عصمة أهل البيت : إن الشيعة الإمامية استدلوا بهذه الآية على العصمة ، لأن اللّام في الكلمة للجنس ، مما يجعلها شاملة لكل ما يوجب الخلل في الشخصية مما يوجب النفور منها ، في ما تنحرف به ، وتخطئ فيه ، فتكون دالة على تعلّق إرادة الله بإزالة كل الجذور العميقة التي تقود إلى الانحراف ، أو تدفع إلى الخطأ.

__________________

(١) صحيح مسلم ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ٣ ، ج : ١٥ ، ص : ١٨١

٣٠٢

وربما يذكر البعض بأن المراد هو تعلق الإرادة الإلهية بالاستقامة على خط التقوى ، في ما يريده لكل الناس ، أو التشديد في التكاليف ، مما يجعل المسألة مربوطة بالالتزام ، لا بالعصمة ، فإن الله جعل شريعته وسيلة لتطهير الناس وإذهاب الرجس عنهم ، فلا تكون لها أيّة خصوصية في هذا المجال. ولكن هناك نقطة مهمّة في هذا الموضوع ، وهي أن الآية مختصة بأهل البيت كما أنها شاملة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما يوحي بأن هناك خصوصية في المسألة تختلف عن الوضع العام الذي يتعلق بالناس بشكل عامّ ، لا سيّما في ما يتعلق بمقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي ضوء ذلك ، تكون الإرادة الإلهية ، هي الإرادة التكوينية التي تتدخل في تكوين الخصائص الذاتية في داخل الذات ، مما يحقق للشخصية ملكات روحية ثابتة متحركة في اتجاه إيجاد الجو الفكري والروحي ، الذي يدفع إلى اختيار الحق في القول والفكر والعمل ، لا الإرادة التشريعية التي تقتصر على توجيه التكاليف.

وهناك أبحاث واسعة في مسألة العصمة ، في دليليها العقلي والنقلي ، وفي بعض فروعها الفكرية ، لا يتسع لها المجال التفسيري ، فلتطلب في مظانها من أبحاث علم الكلام.

* * *

رجوع الحديث إلى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) في ما جعله الله من المنهج الفكري والعملي الذي يثير الفكرة السليمة في الخط المستقيم ،

٣٠٣

ويؤكد السلامة للتطبيق العملي في سلوك الإنسان في دائرة الحق. وهذا هو الذي ينبغي لهنّ أن يذكرنه في وعيهنّ الفكري ، وفي إحساسهنّ الروحي ، وفي التزامهنّ العملي ، فلا ينسينه ، أو يهملنه ، على أساس ما قد يعيشه بعض الناس من فقدان الاهتمام بما يكون مألوفا لديه ، باعتبار أنه من الأمور التي تتحرك في أجواء البيت ، فلا تثير الفضول الذاتي ، ولا تحرّك الاهتمامات الروحية الناشئة غالبا من الاستغراق في التطلّع إلى الأشياء الخفية التي تحمل في داخلها بعض الخفايا المثيرة.

ولعلّ هذا هو السبب في التأكيد على مسألة ذكر آيات الله والحكمة ، حتى لا يستغرقن في ذاتياتهن المرتبطة بأجواء البيئة غير الإسلامية وبعمق الرواسب الذاتية في الداخل ، فيبتعدن بذلك عن أجواء النبوّة ومستلزماتها في ما يجب أن يعيشه البيت النبويّ من استقامة والتزام (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ففي لطفه نلتقي بالروح الإلهي الذي يرعى عباده بكل خير ورحمة ، وفي خبرته وإحاطته بالأشياء كلها ، نستشعر الثقة باطلاعه على كل ما يصلحنا ويفسدنا ، في ما يأمرنا به أو ينهانا عنه ، وبرقابته علينا في كل ما نفعله ونتركه من أمورنا السرّية والعلنية.

* * *

٣٠٤

الآية

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

* * *

معاني المفردات

(وَالْقانِتِينَ) : الدائمين على الأعمال الصالحات ، وقيل : الداعين.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان ، قال مقاتل بن حيان : لما رجعت أسماء بنت

٣٠٥

عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب (ع) ، دخلت على نساء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن : لا ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وممّ ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وفي روايات أخر ، أن القائلة هي أم سلمة.

* * *

المرأة تطالب بموقعها

لعلّ هذه الروايات ، إن صحت ، توحي بأن هناك في تلك المرحلة من الدعوة ، تطلّعا نسائيا إلى أن يكون للمرأة نصيب من الوحي الإلهيّ يحدد لها موقعها ودورها الإنساني والرسالي ، بحيث تتشرّف وتتكرم به ، لا سيما على صعيد مشاركتها للرجال في الخير الذي يذكر فيه الله العاملين في طاعته وفي سبيله بخير. وهذا التطلع إنما انطلق من وعيها للدور الذي تقوم به في الساحة الإسلامية ، حيث شاركت في الدعوة ، وفي الهجرة إلى الحبشة ، وفي تحمّل قسوة الاضطهاد من المشركين ، وفي سقوطها شهيدة تحت سياط الكفر وتعذيبه ، جنبا إلى جنب مع الرجل ، وفي الهجرة إلى المدينة ، وفي مفارقة الأهل والأزواج فرارا بدينها ، وفي خروجها إلى الجهاد لتكون في الجبهة المساندة للمعركة ، فتسقي العطشى وتضمّد الجرحى ، وتقوم بشؤون المقاتلين ، وتتحرك في حياتها الخاصة والعائلية والعامة في خط الالتزام الذي تقف فيه عند حدود إطاعة الله والإخلاص له في المواقع المتنوعة ، والمواقف المختلفة ، وفي ذكر الله في كل مجال.

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٤٦٣.

٣٠٦

ولذلك فإنها تتطلب أن تجد في القرآن آية تؤكد لها شخصيتها الإسلامية في مواقع محبة الله ورضاه ، بصراحة ووضوح ، لأن العموميات في مثل هذه الأمور المتصلة بمشاعر الكرامة الإنسانية ، في ما هي القيمة في الموقف والحركة ، لا تملأ الفراغ الشعوري الداخليّ.

وهكذا نزلت هذه الآية تأكيدا للمساواة الإسلامية بين المرأة والرجل في دائرة التقييم الإلهيّ للعمل الملتزم بالخط المستقيم ، وأنهما سواء في حصولهما على ثواب التزامهما ، من الله ، تماما كمساواتهما في عقاب الله لهما على أعمالهما السيئة ، لأن مسألة العمل في قيمته لا تتصل بالشخص في ذكوريته وأنوثيته ، بل بالعناصر الإيمانية في حركة العمل في داخل الذات ، في العقل والقلب ، وبالعناصر الموضوعية في شروط العمل وأجزائه ، وفي النتائج الإيجابية أو السلبية في مواقعه. وفي ضوء ذلك ، قد تعلو درجة المرأة عند الله عند ما ترتفع في إيمانها وعملها عنده.

وتبقى القصة في التفاضل ، في دائرة الحياة الاجتماعية ، على مستوى الدرجة الواحدة ، محكومة في تنظيم الوضع الإداري للحياة العامة للإنسان ، بعيدا عن الجانب الروحي في تنظيم القيمة الإنسانية والروحية له.

* * *

المرأة والرجل سواء في الأجر والفضل

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ممّن تصفونهم بإسلام العقل والقلب والوجه واليد واللسان ، وكل شيء لله ، بحيث لا يجدون لأنفسهم أيّ وجود في

٣٠٧

أيّ موقع أمام الله (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين عاشوا الإيمان فكرا وروحا وشعورا وحركة في مستوى المواقف والعلاقات (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) في ما تعنيه كلمة القنوت من القيام بالطاعة والدوام عليها (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) الذين عاشوا الصدق كعنوان كبير من عناوين شخصيتهم ، مع الله ومع الناس ومع النفس ، في الفكرة والموقف والكلمة ، (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) الذين يبتسمون في مواقع الاهتزاز ، ويصمدون في مواقف التحدي ، ويبتسمون في قلب الألم ، ويتمردون أمام قسوة الطغيان ، ويواجهون مشاكل الحياة ومصاعبها من خلال الثقة بالله والاعتماد عليه في ساعات الشدّة ، (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) الذين عرفوا الله في آفاق عظمته ، وانفتحوا على حاجتهم إليه في مواضع نعمته ، فعاشوا الخشوع في عقولهم ، وامتدّ معهم في قلوبهم ، وتحوّل إلى هزّة روحية خاضعة خاشعة في مشاعرهم وفي حركات أجسادهم ، (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) الذين عاشوا العطاء ، كقيمة روحية إنسانية في حركة الشخصية الإسلامية في داخلهم ، وواجهوا المسألة الماليّة في ما يملكون من مال ، على أساس مسئوليتهم عنه ، باعتبار أنه مال الله الذي جعله أمانة في أيديهم ، ليؤدّوه إلى المحرومين من عباد الله المستضعفين من موقع الواجب والإحسان المسؤول ، لا من موقع الذات والإحسان المتفضل. وبهذا كانت الصدقة عملا من أعمال العبادة والطاعة المالية لله تعالى في سياق الخط الإسلامي العام القائم على التكافل والتآزر والتآخي الإنساني في الله ولله تعالى (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) في حبس الجسد عن لذات الطعام والشراب والجنس ونحوها من الحاجات الطبيعية للإنسان ، امتثالا لأمر الله وتقربا إليه ، وتدريبا على مواجهة الحاجات الضاغطة في دائرة الانحراف ، بالموقف الإيمانيّ المتمرد عليها إذا وقفت الحاجات أمام مبادئ المؤمن ، (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عما حرمه الله من العلاقة الجنسية كالزنى واللواط والسحاق وغيرها كالاستمناء ، على أساس الاكتفاء بالعلاقات المحلّلة كالزواج

٣٠٨

ونحوه انطلاقا من امتثال أوامر الله ونواهيه في ذلك ، في ما أراده للمؤمنين والمؤمنات من العفة عن الحرام (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) في ما يعنيه ذلك من الحضور القلبي واللساني والعملي أمام الله ، في الانفتاح عليه بالنيّة المفتوحة على كل مواقع الخير في الحياة ، وبالكلمة الممجدة له ، المسبحة بحمده في نعمه وآلائه ، والموحدة له في ألوهيته وطاعته ، وبالعمل الذي يقف عند حدود الله في حرامه وحلاله ، في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه ، هؤلاء وأمثالهم من النماذج الإنسانية الملتزمة بالنهج الإلهيّ في كل آفاق الحياة ومواقعها ، ممن يمثلون الشخصية الإسلامية القوية بإيمانها ، الواثقة بربها ، الخاشعة أمامه ، الصابرة على قضائه ، الصادقة في موافقها وكلماتها ، المتصدقة بما رزقها ، والصائمة في مواقع الإرادة عما لا يرضاه ، والمطيعة له في كل شيء ، والذاكرة له في كل مكان (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) في ما أذنبوه ، (وَأَجْراً عَظِيماً) في ما فعلوه من خير تقرّبا إلى الله ، وطلبا لمرضاته.

* * *

٣٠٩

الآية

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(٣٦)

* * *

استسلام المؤمنين المطلق لقضاء الله ورسوله

هذا هو الخط المستقيم في الالتزام الإيماني للإنسان المؤمن ، رجلا كان أو امرأة ، إذا وقف أمام أوامر الله ونواهيه ، فلا بد له من الاستسلام المطلق الذي لا مجال معه لأيّة خصوصية فكرية أو عاطفية أو مزاجية أو أيّة مصلحة شخصية أو أيّ وضع عائليّ أو اجتماعي ، في ما يمكن أن يدفعه إلى التأمّل والتفكير أو التوقف فيما بين خط التقدم والتأخر ، لأن الإنسان المؤمن يحمل الإحساس الداخلي العميق بأن وجوده لا يملك أيّة استقلالية أمام وجود الله ، وأن إرادته لا تملك أيّ تماسك أو أيّة قوّة ، في مواجهة إرادة الله ، بل هي

٣١٠

منسحقة في خط إرادته ، وهذا هو الذي يحفظ للإنسان توازنه ، وللمجتمع نظامه ، وللحياة قوّتها وصلابتها واستقرارها.

* * *

المؤمن والمؤمنة سواء في التكليف

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) في ما يفرضه الإيمان في شخصية الرجل أو في شخصية المرأة من انفتاح على معنى الألوهية في ذات الله ، وسرّ العبودية في ذات الإنسان ، في ما يفرضه ذلك من انسحاق كل خصوصيات الذات أمام الله ، فليس لأيّ منهما (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) من أمور التشريع في نظام الإنسان في حياته الفردية أو الاجتماعية ، في ما يأمر به الله أو ينهى عنه ، مما كان موافقا لمزاجه أو مخالفا له (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فلا مجال هناك لعملية الاختيار الذاتي ، ليوازنوا بين ما يريدونه وبين ما يريده الله ، ليختاروا هذا تارة ، وذاك أخرى ، فإن هذا هو معنى الإسلام في معناه العميق الذي يعني إسلام كل شيء لله ، واختيار ما يريده دائما على طول الخطّ.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ويتمرد على إرادتهما في خط الشريعة التي أنزلها الله على رسوله ، أو شرّعها الرسول بأمر من الله ، (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) لأنه لا يرتكز على قاعدة صلبة ، ولا ينطلق في خط مستقيم ، بل يبقى في قبضة الرياح العاصفة الهوجاء ، يتحرك ذات اليمين وذات الشمال تبعا لاهتزاز الأهواء الحائرة في عمق مزاجه أو المتحركة في أهواء الآخرين ، فقد يحلّل اليوم شيئا ليحرّمه غدا ، وهكذا تسير الأمور في اتجاه الضياع الذي يتجه نحو اللّاهدف.

* * *

٣١١

إشكالية الاختيار الإنساني في لزوم الطاعة المطلقة

وقد يعلّق البعض على هذا بأنه قهر إلهي للإنسان إذ يشعر بالانسحاق الذاتي الإراديّ ، فلا يملك أن يحدد لنفسه موقعا ، في ما يرضاه لنفسه من مواقع ، ولا أن يحدد لها هدفا في ما يحبه من أهداف ، مما يجعله يتطلع إلى حياته في دائرة المأساة لا في دائرة الحرية القائمة على الانفتاح الحرّ من الموقع الإنسانيّ.

ونجيب على ذلك ، بأن هذه المشاعر السوداوية المأساوية تتحرك في ذات الإنسان غير المؤمن الذي يعيش القهر الذاتيّ أمام الواقع الكونيّ الذي يحيط به في ضغطة على حركته في قدراته الذاتية ، بحيث يشعر بنفسه محكوما للقوانين الطبيعية التي تحدد له حرية حركته في ما يحبه أو يشتهيه ، سواء كان هذا الإنسان مؤمنا بالله من ناحية عقلية من دون التزام ، أو كان كافرا به.

أمّا الإنسان المؤمن الذي يرى أنّ وجوده مستمدّ من الله ، كنعمة من نعمه الممتدة في كل حياته ، المستمرة معه ، ويرى أنّ الله الذي جهّز الإنسان بالأجهزة الضرورية التي تحرك حياته في الموقع الصحيح في ما يصلح له وجوده ، هو الذي يخطط لهذه الحياة ويمنحها السلامة الدنيوية والأخروية ، فليست هناك شريعة ما من وحيه ، إلا كان معها سر يحدد الصلاح في ما تأمر به ، والفساد في ما تنهى عنه ، فلا مجال للشعور عنده بالقهر المأساويّ ، في ما لا يتقبله الطبع ، إلا كما يكون القهر ، في ما يتجرعه المريض من الدواء الذي يأمر به الطبيب ، شفاء لمرضه وإنقاذا لحياته.

بل قد يكون الإيمان الواعي المنفتح منطلقا في عمق الفكر والروح

٣١٢

والشعور للإيمان بأن الإرادة الإلهية دائما على حق ، لأنها لا تتحرك إلا في مواقع الحق ، لعدم حاجتها إلى الباطل في تأكيد مصداقيتها في حياة الإنسان ، مما يعني أن الإرادة الإنسانية الملتزمة بخط الله تحمل في داخلها الإيمان بأن إرادة الله في شريعته ، هي التي تمثل حرية الإرادة الإنسانية التي هي المصلحة الحقيقية للإنسان.

* * *

٣١٣

الآيات

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

معاني المفردات

(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) : كناية عن الكف عن تطليقها.

٣١٤

(وَطَراً) : الوطر : الأرب والحاجة ، وهو كناية عن الدخول والتمتع.

* * *

مناسبة النزول

نزلت بعض هذه الآيات أو كلها في قصّة زواج النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب بنت جحش ، وكانت قبلا زوجة لزيد بن حارثة ، الذي كان عبدا له فحرره وتبناه وزوّجه ابنة عمته زينب لمحبته له ، وليبطل بذلك العرف الجاهلي الذي كان يرفض زواج ابنة العائلة الكريمة من غير الكفؤ في النسب ، لا سيما إذا كان عبدا ثم تحرّر ، لأن العبودية تزيده عارا. وقد أبطل الله هذا التبني عند ما أنزل على النبي قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) واستمر الزواج بين زيد وزينب مدة طويلة ، ولم يكن الحال بينهما على ما يرام ، لأنها لم تجده كفؤا لها ، أو لغير ذلك من الأمور.

وجاء زيد إلى النبي ليطلقها ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطلب منه أن لا يفعل ذلك ، وأن يبقى على علاقته الزوجية بها ، وكان يأمره بتقوى الله والابتعاد عن طلاقها ، ولكن زيدا أصرّ على الطلاق ، لأن الأمر لم يعد يحتمل الاستمرار ، فما كان من النبي إلا أن تزوجها تنفيذا لأمر الله بذلك لتأكيد إبطال عادة التبني بالزواج من زوجة الولد المتبنّي ، في الوقت الذي كان لا يجوز فيه للأب الزواج من زوجة ولده المتبنّى ، ليكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تحسم المسألة بشكل صارخ لا مجال فيه لأيّ شكّ أو التباس.

* * *

٣١٥

هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعجب بجمال زينب بنت جحش؟

وقد أثار البعض من المفسرين علامات استفهام حول هذه القصة ، وتحدثت بعض الأقاصيص عن رؤية النبي لزينب بشكل غير مقصود ، وإعجابه بجمالها ، ومعرفة زيد بذلك من خلال إخبارها له بذلك ، وعزمه على الطلاق منها ليتخلى عنها لرسول الله إخلاصا منه له ، ولكن رسول الله لم يوافقه على ذلك ، ومع ذلك لم يتخلّ زيد عن إصراره على الطلاق. وهكذا كان ، واستغل أعداء الإسلام هذه الحادثة ، ليهاجموا شخصية الرسول وروحانيته وليتخذوا ذلك أساسا لإنكار نبوّته ، لأنه كان الإنسان الذي يعيش لشهواته ، حتى أنه يشتهي زوجة ولده بالتبني ويهيّئ الوسائل النفسية الضاغطة عليه ليطلقها وليتزوجها بعد ذلك ، مما يتنافى مع أخلاقية الإنسان العاديّ فكيف يتناسب مع شخصية النبي.

وقد استوحوا ذلك من قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) فقد فسروا ذلك بأنه كان يخفي رغبته بها وتطلّعه إلى الزواج منها ، وكان يخشى من انتقاد الناس له في ذلك وانفضاضهم عنه ، ولكن المفروض فيه ، أن تكون خشيته لله من ذلك ، لأن عقابه أشدّ ، مما كان يفرض عليه الابتعاد عن هذا السلوك.

أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو أن النبي لو كان يرغب في الزواج بها ، لكان باستطاعته ذلك منذ البداية ، لأنها ابنة عمته ولأنها كانت ، في ما تنقله بعض الروايات ، رافضة لزيد ، وذلك في ما رواه في الدر المنثور قال : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب بنت جحش لزيد بن

٣١٦

حارثة ، فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا ، وكانت امرأة فيها حدّة ، فأنزل الله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ)(١) الآية كلها. وفي هذا دلالة على أن زواجها من زيد كان بضغط من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضوخ لإرادته الأمر الذي يؤكد عدم وجود رغبة شخصية من النبي في اختيارها لنفسه ، مع أنه كان يعرفها حق المعرفة من خلال قرابته القريبة لها. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية ، فإن دراستنا لشخصية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدل على السموّ الأخلاقي الروحي الذي يجعله في منأى عن أيّ نوع من السلوك الذي يوحي من بعيد بمثل ذلك ، فكيف يمكن أن يلتقي بالحركة التي تتعمد ذلك ، ولو صح مثل هذا ، لكان موجبا لسقوط مكانة رسول الله عند زيد وزينب معا ، وعند المجتمع الإسلامي كله ، لا سيما في الجوّ القرآني الذي ينسب إليه أنه يخشى الناس أكثر مما يخشى الله ، حسب الفهم المذكور للآية. أمّا استفادة هذا المعنى السيئ من الآية ، فهو غير صحيح لما سنذكره عند التعرض لتفسيرها.

وخلاصة الفكرة ، أن زواج النبي من زينب كان منطلقا من أمر الله لنبيّه ، لتأكيد الفكرة في إبطال علاقة التبنّي من حيث الآثار الشرعية ، فليست هناك أيّة علاقة للولديّة المدّعاة من ناحية شرعية ، فيجوز للأب المتبنّي أن يتزوج مطلقة الولد المتبنّي ، وهو ما لا يجوز في علاقة النسب بين الأب وولده ، فهو زواج داخل في دائرة حركة التشريع في الواقع ، لا في دائرة حركة الشهوة في الذات.

* * *

__________________

(١) الدر المنثور ، م : ٦ ، ص : ٦١٠.

٣١٧

طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زيد أن يبقي زوجته

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالرعاية والتبني والعناية بكل شؤونه الخاصة التي كان من بينها زواجه بابنة عمتك التي كانت في المستوى الكبير من النسب الذي لا يتناسب مع موقعه الاجتماعي العائلي ، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وأبق على العلاقة الزوجية ، واصبر على بعض ما تجده في نفسك من نوازع ومضايقات ، أو ما تجده في حياتك من مشاكل وآلام ، (وَاتَّقِ اللهَ) في ذلك ، فقد تكون الخطوة التي تريد أن تخطوها في الإصرار على الطلاق ، بعيدة عن خط التقوى ، في ما يمكن أن تسيء بها إلى نفسك أو إلى زوجتك ، مما لا بدّ لك من أن تلاحظ فيه الله فتتقيه في ما يرضاه ويحبه ، ولا تقتصر في ذلك على النوازع الذاتية.

(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) مما عرّفك الله إيّاه من النتائج الأخيرة التي ستنتهي إليها علاقة زيد بزوجه من الطلاق ، ثم زواجك الذي أراده الله لك بها ، فلا تصرّح به لزيد ، ولكن الله مظهره في ما تنتهي إليه الأمور.

* * *

هل يخشى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أكثر من خشيته الله؟

(وَتَخْشَى النَّاسَ) في ما قد يثير ذلك من الأقاويل والتأويلات التي لا تتناسب مع مقامك ومقام النبوّة ، ممّا قد يترك تأثيرا سلبيا على موقع الرسالة في القلوب ، وحركتها في الواقع ، لأن البعض قد يفهم المسألة بطريقة أخرى ، كما أن المنافقين قد يحرّكونها بأسلوب سيّئ (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) في ما يخطط لك من سلوكك في حياتك الخاصة وفي علاقاتك بالآخرين في دائرة

٣١٨

الزواج أو في غيرها ، لأن تصرفاتك ليست ملكك ، بل هي ملك الرسالة في ما تحتاجه من حركتك في صعيد الواقع.

وقد نتساءل ، كيف نفسر هذه الحالة النفسية التي يعيشها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القلق الداخليّ الحائر بين خشية الناس وخشية الله ، أو في ترجيح خشية الناس على خشية الله ، وكيف يتفق ذلك مع الروحية العالية في انفتاحه الخاشع على الله من موقع محبته له وخوفه منه ، بقطع النظر عن طبيعة المضمون الذي تتعلق به الخشية؟

والجواب عن ذلك ، أن الخشية من الناس ليست منطلقة من خوف ذاتيّ ناتج عن ضعفه الداخلي أمام ما يقولونه من خلال تأثيره الشخصي على ذاته ، ليكون ذلك منافيا للروحية العالية في مقام النبوّة ، بل كانت منطلقة من خوف على الرسالة ، في ما يمكن أن تتأثر به سلبيا من خلال الأجواء القلقة التي تثيرها كلمات الآخرين من المنافقين في هذا الاتجاه ، فهي خشية على الرسالة لحساب الله ، في المشاعر الطبيعية التي تربط بين الأشياء وبين أسبابها العادية في الواقع ، في غياب تكليف حاسم من الله في ذلك ، في الفترة التي كان زيد يطرح طلاق زوجته منه.

أمّا خطاب الله له بأن عليه أن يلتفت إلى خشية الله ، فهو أسلوب إيحائيّ بالقوّة في الموقف على أساس ما يتصل بذلك من الضمانات الإلهية في إبعاد الرسالة عن التأثر بمثل هذه الأساليب التي يثيرها المنافقون ، في جوّ من العتاب الخفيّ المحبّب الذي يسعى إلى إزالة كل نوازع الذات التي يثيرها الضعف البشري الذي يتحرك في النفس بطريقة لا شعوريّة ، تماما كما هي التقلّصات الجسدية التي تحدث للجسد عند حدوث أيّ حركة تؤثر في ذلك. ولم تكن المسألة مسألة تقويم شعور النبي بتوجيهه أن الله هو الأحقّ بالخشية منه ، لأن هذه الحقيقة هي الحقيقة التي تمثل عمق الإيمان بالله ، وشعار الدعوة إليه ،

٣١٩

فكيف يمكن للنبي أن يغفل عنها في نفسه؟ بل هي مسألة إيحاء له بالنتائج الواقعية للموضوع ، وأنّ الآخرين لن يفعلوا شيئا مهمّا فيه ، فإن الله هو الذي يدبّر الأمور بعيدا عن السلبيات العملية في حركة الرسالة ، ليتحرك النبي من موقع الثقة الرسالية الواثقة بالجانب العملي من الواقع ، في غير خوف ولا وجل ، والله العالم.

* * *

زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب بنت جحش

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) فعاش معها مدّة معينة تماما كما يعيش أيّ زوج مع زوجته في ما يستمتع به في حركة الغريزة أو المعاشرة ، حتى يستنفد حاجته منها ، أو تتبدل رغبته إلى موقع آخر ، أو تحدث هناك بعض المشاكل التي تجعل من الحياة الزوجية شيئا غير مريح ، ثم كانت عملية الانفصال ، فلما حدث ذلك (زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) وهكذا كان الزواج أمرا من الله لتأكيد شرعة إلهيّة في إلغاء مبدأ التبنّي ، من خلال سلوك النبي العملي الذي يفرض المسألة من موقع الصدمة القويّة القاسية المثيرة للجدل ، في ما يوحي به ذلك من ثباته في التشريع.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لا مجال فيه للتردد والتراجع من خلال إرادة الله الحاسمة ، (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) مما شرّعه في شريعته ، فليس عليه غضاضة في ذلك ، وليس لأحد أن يعترض عليه فيه ، لأن الأنبياء لا يخضعون لضغط العادات المتبعة في حياة الناس ، من خلال شرائعهم وتقاليدهم ، في ما يحلّلون ويحرّمون ، بل يخضعون للتشريع الإلهي الذي يعمل على إيجاد عادات وتقاليد جديدة ، منسجمة مع مصلحة الناس في

٣٢٠