تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

أشد تأييدا لهذا الوجه من سابقه (١).

وقد يكون هذان الوجهان أقرب مما ذكره المفسرون ، ولكن الآية لا تزال غامضة من هذه الجهة ، في وجه ارتباط أوّل الآية بآخرها في نطاق هذه الجملة المعترضة ، لا سيما بلحاظ اختلاف أسلوب التكلم عن أسلوب الغيبة في الحديث عن الله ، مما لا يتضح لنا أمره ، فليردّ علمها إلى الله سبحانه.

* * *

نعم الله على بني إسرائيل

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يفتح لهم الطريق على رسالات الله التي تؤكد لهم إنسانيتهم المنفتحة على إنسانية الآخرين ، ويدلهم على آفاق الحرية الواسعة التي يتحررون ـ من خلالها ـ من سيطرة الأقوياء المستكبرين ، في داخل نفوسهم وخارجها ، ويوجههم إلى الالتزام بوحدانية الله في مواقع العبادة والعقيدة وحركة المسؤولية ، ويرفع مستواهم الفكري ، في ما يربّي عليه نفوسهم وعقولهم من الأخذ بأسباب العلم ، والتأكيد على تحريك العقل في اكتشاف حقائق الحياة ، (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) من موقع القيادة الإيمانية على خط الرسالة المتحركة بالدعوة الهادية إلى الإيمان بالله والسير على منهاجه (لَمَّا صَبَرُوا) على التحديات الكبيرة التي كانت تتحداهم في وجودهم ، وفي تفاصيل حياتهم وعمق قناعاتهم ، بما كان يثيره الآخرون من الكافرين من شبهات وأضاليل أمامهم ، فكان ردّ فعلهم ، أنهم تحملوا الآلام كلها ، والمعاناة الصعبة القاسية التي أخذت الكثير من أوضاعهم المختلفة في نطاق الذات ، وهكذا صبروا صبر الرساليين المؤمنين ، وأثبتوا بهذا المصير

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ٢٧١.

٢٤١

أنهم في مستوى حمل الرسالة ، وموقع الإمامة ، (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) من قاعدة الحقيقة البارزة لهم في هذه الآيات ، وبذلك كانوا الدعاة المصدّقين بدعوتهم ، المؤمنين بخطوطها العامة والخاصة ، لا كمثل الدعاة الذين يتاجرون بالدين وبالرسالة ، من دون أن يؤمنوا بهما ، ليحققوا مصالحهم الذاتية من خلالهما.

* * *

يوم القيامة يوم الفصل

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فقد اختلف الكثيرون في الدين ، وتنوّعت مذاهبهم في فهمه وفي تفاصيل موارده ومصادره ، وتداخلت النوازع الذاتية ، والمصالح المادية ، والتعقيدات الشعورية والفكرية في هذه الساحة ، فلم تصل إلى وحدة في التصور ، أو في الموقف ، أو في الحركة ، لاختلاط هذه الأمور كلها في أجواء الاختلاف. ولكن المسألة ستظهر جليّة يوم القيامة ، عند ما يتدخل الله ـ سبحانه ـ بينهم ، فيفصل بين المحق والمبطل ، فيعرف المحق مواقع الحق في دعوته ، كما يعرف المبطل مواقع الباطل في دعواه (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أو لم يتبين لهم كيف تموت الأمم وتزول من الدنيا ، وتترك خلفها الدور والقصور والأموال ، التي يراها اللاحقون من بعدهم ، ويمشون في ساحاتها الصامتة صمت القبور ، ألا يكون ذلك رادا لهم عن الاستسلام إلى الدنيا والركون إليها والاستغراق في شهواتها والتنازع في سبيل الحصول على امتيازاتها وثرواتها ، كما لو كانوا خالدين فيها؟

٢٤٢

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) المواعظ التي جاءت بها الرسل مما يفتح قلوبهم على عمق المصير ونهاية الموقف.

* * *

الله يسوق الماء إلى الأرض الجرز

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) عند ما يمنحها الماء الحياة التي تهتز في البذور بقدرة الله (أَفَلا يُبْصِرُونَ) كل ما حولهم من ظواهر الحياة المتحركة ، ليفهموا من ذلك كيف تتحرك قدرة الله في الكون ، وكيف تنزل رحمته على عباده؟

* * *

متى يوم الفتح؟

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) ، قيل بأن المراد به يوم بدر ، وقيل بأن المراد به فتح مكة ، وقيل إن المراد به يوم القيامة ، حيث يفصل الله بين الناس يوم القيامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ما يوجهونه من خطاب التحدي للمؤمنين الذين كانوا يحدثونهم عن يوم للنصر تظهر فيه الغلبة للمؤمنين على المشركين ، فكان المشركون يستعجلونهم في ذلك على سبيل التحدي.

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فإذا كنتم

٢٤٣

تنتظرونه من أجل أن تؤمنوا بعده ، ليكون هو الأساس للإيمان عندكم ، فإن الله لا يتقبّل الإيمان من الكافرين بعد ذلك ، لأنهم لم يستمروا على الكفر من موقع حجة على الكفر ، بل من موقع عناد فيه ، ولذلك فإن العقاب سيحل بهم من دون إنظار ولا إمهال. والظاهر من سياق هذه الآية انسجامها مع سياق الآيات المتكررة التي تتحدث عن عدم انتفاع الكافر بإيمانه يوم القيامة ، مما يوحي بأن المراد بيوم الفتح يوم القيامة ، ولا تنسجم مع فكرة أنه يوم بدر ، إذ لا معنى للحديث عن الإيمان بعد القتل ، كما لا معنى لأن يكون المراد فتح مكة ، لأن الإيمان مقبول بعد ذلك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تضعف أمام تحدياتهم ، لأن الله بالغ أمره في ما يخططه وما ينفذه ، فلكل شيء وقته ، ولكل أجل كتاب ، وما على المؤمنين إلا أن يثقوا بوعد الله ، وينتظروه بكل ثقة وصدق وإخلاص ، لأن الله لا يخلف وعده. فتوكل على الله وتابع مسيرتك في الدعوة إليه والجهاد في سبيله (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) عند ما يحين الوقت المحتوم ، فسيكون اللقاء الأكبر بالله ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

* * *

٢٤٤

سورة الأحزاب

مدنيّة

وآياتها ثلاث وسبعون

٢٤٥
٢٤٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣)

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ، أن هذه الآيات «نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي ، قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله ابن أبيّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكلّموه ، فقاموا وقام معهم عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللّات والعزّى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشقّ ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٤٧

فقال عمر بن الخطاب : ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم ، فقال : إني أعطيتهم الأمان ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخرجوا من المدينة ، ونزلت الآية (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة ، أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة ، (وَالْمُنافِقِينَ) ابن أبيّ وابن سعد وطعمة» (١).

وإذا كنا نتحفظ في أسانيد أسباب النزول ، فإننا لا ننطلق في تفسيرنا للآيات منها ، بل نحاول استيحاء المعنى من ظاهرها. وعلى كل حال ، فإن هذه الأسباب ـ لو صحت ـ فإنها لا تعني تجميد الآية في دائرتها ، بل تمثل نقطة الانطلاق للمعنى الشامل الذي يشمل كل المفردات المماثلة في الحياة كلها.

* * *

تحديد الخطوط العامة للدعاة في خط السير

ما هي الخطوط العامة التي يحدّدها الله لنبيّه وللمسلمين من خلاله ليسيروا عليها في التزامهم الإسلامي ، ليحتفظوا لأنفسهم بالصفاء الروحي في العقيدة ، وبالثبات العملي في الشريعة ، وبالاستقامة على الطريقة الواضحة ، والاستسلام الكامل لله والانفتاح عليه في كل شيء ، والثقة برعايته وتدبيره وعنايته في كل الأمور؟

إنها الخطوط العامة التي قد يحتاج المسلم إلى أن يلتزمها في رحلته في الحياة إلى الله ، في ساحة التحديات التي تحاول أن تهزّ قناعاته ، وتزلزل مواقعه ، وتبعده عن خطه ، وتنحرف به عن أهدافه ، لأن النفس قد تميل عن الحق بفعل الضغوط النفسية ، التي تضغط بها الجماعات المنحرفة أو الظروف القاسية ، مما يفرض على المسلم الملتزم ، أن يبحث عن العناصر التي تثبّته

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٤ ، ص : ٤٣٤.

٢٤٨

على الخط ، وتستقيم به على الطريق.

هذا ما يمكن أن نستوحيه من هذه الآيات.

* * *

اتّباع خط التقوى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) فهذا هو الخط الأوّل الذي يشمل كل تطلعات المسلم في الحياة ، وكل مشاريعه وخطواته وعلاقاته مع الآخرين ، كما يحدّد له طبيعة مشاعره وعواطفه وأفكاره وموقفه من ربه ومن نفسه.

إنه خط التقوى الذي ينطلق من الإحساس العميق الشامل الممتد في النفس بالحضور الإلهي الذي يستولي على الوجود كله ، فلا تحسّ بغيره ، لأن حضور كل مخلوق مستمدّ من حضوره ودليل عليه ، لأنه السرّ الأساس لوجوده.

وهذا هو الذي يوحي للإنسان بالرهبة الروحية والرقابة الذاتية الدائمة ، عند ما يلتفت إلى موقعه من الله ومسئوليته أمامه ، فيستسلم إليه استسلاما كليا يمتد إلى كل موقع من مواقع حياته ، ليكون صورة لما يرضى الله له.

وهكذا نجد أن كلمة التقوى تختصر الإسلام كله في جانبه العملي ، كما تختصر كلمتا الإيمان والإسلام المعنى في صورته العقيدية والتصورية ، فقد لا يكفي في الإنسان المسلم أن تكون تصوراته الذهنية أو الشعورية إسلامية ، بل لا بد له من أن يملك الحركة الإرادية التي تحقق له الإسلام العملي في صورته الواقعية.

ومن هنا كانت التقوى تمثل الخط الأول في حركة الرسالة في شخصية

٢٤٩

المسلم ، لأنها تختزن الإسلام الحياتي الذي يتحرك من قاعدته في الداخل إلى ساحته الواسعة في الخارج.

* * *

الهدف من الخطاب بالتقوى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وإذا كان الخطاب بالتقوى للنبي ، وهو في قمّة الممارسة العملية للتقوى في تلك المرحلة من نزول الآية ، فإن الهدف من ذلك يتحقق في خطين :

الخط الأول : تقديم النموذج الأعلى للتقوى ، من خلال شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي وصلت في هذا الموقع إلى الدرجة العليا التي لا يقترب منها أحد ، ليتطلع الناس إليها في دائرة الواقع ، فيهتدوا بها ويقتدوها في حركتهم نحو الله.

الخط الثاني : الإيحاء للأمة بأن الخطوط العامة في الإسلام ، في ما شرّعه الله وأراده ، ليست مقصورة على الناس المسلمين في مخاطبتهم بالسير عليها ، بل هي شاملة للنبي قبل أن تشملهم ، لأنه المسلم الأوّل في حركة الإيمان وخط العمل ، ولهذا كان الأسلوب القرآني ينطلق في مخاطبة الأمة من خلال توجيه الخطاب للنبي للإيحاء بأن القمة والقاعدة سواء في الالتزام بخط المسؤولية العامة في الإسلام ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) وهذا هو الخط الثاني الذي يعالج الواقع الذي يحيط بالنبي ، أو بالداعية ، أو بالمسلم بشكل عام. فقد يعيش مشكلة ضغط القوى الكافرة في ساحته ، أو فيما حوله من الساحات الضاغطة على ساحته ، وقد يواجه مشاكل القوى المنافقة التي تعيش في داخل المجتمع فتربك الواقع من حوله.

٢٥٠

وقد يطرح عليه هؤلاء أو هؤلاء بعض المشاريع التوفيقية التي قد تدعوه إلى تقديم بعض التنازلات لحساب خطهم العقيدي أو العملي ، في مقابل أن يحصل على بعض الامتيازات لديهم ، في ما يمنحونه من حرية الحركة في بعض المواقع ، أو في ما يتنازلون له عن بعض المواقف ، تماما كما نلاحظه في بعض الأساليب التي يتخذها الكافرون والمنافقون في دعوتهم المسلمين إلى الاكتفاء بالجانب العقيدي والعبادي من إسلامهم ، والانتماء إلى العقائد الأخرى في الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي ، أو تأييد شخصية كافرة أو منحرفة أو ظالمة ، تحت تأثير بعض الخطوط السياسية التي قد تفرضها الظروف المحيطة بالواقع ، أو غير ذلك من الأمور التي تدفع بالإسلام في حياة المسلم ، إلى زاوية ضيّقة تحدّد فيها كل مواقعه وتطلعاته ، لتكون الساحات الكبرى في حياته لغير الإسلام ، لينسحب المسلم تدريجيا من الإسلام عند ما يعيش داخل أجواء الآخرين الذين يخططون لذلك من خلال وسائل الترغيب والترهيب.

ولهذا كان الرفض الإسلامي حاسما في هذا المجال ، في الامتناع عن طاعة الكافرين والمنافقين في كل مخططاتهم ، لتأكيد الفواصل الفكرية والعملية فيما بين المسلمين وبينهم ، وتوجيه المسلمين إلى السير في الخط المستقيم الذي لا مجال فيه إلا لطاعة الله وحده.

* * *

التحرك في الشعار من موقع الإسلام

وإذا كان البعض يتحدث عن موافقة الإسلام لبعض الاتجاهات الأخرى في هذا الموقع أو ذاك ، فإن هذا لا يعني إطاعة الكافرين والمنافقين الذين

٢٥١

يمثلونها ، لأن معنى ذلك ، هو أن الموقف إسلاميّ يتفق الآخرون فيه مع الإسلام ، فتكون الطاعة فيه لله ، والالتزام به من موقع الإسلام ، لا من موقع الآخرين. وهذه النقطة جديرة بالوعي والاهتمام ، وهي أننا إذا اتفقنا ـ كمسلمين ـ في أيّ شعار أو خطّ سياسيّ أو فكري مع الآخرين ، فإن علينا أن نتحرك في الشعار أو الخط ، من مواقعنا الإسلامية لا من مواقع الآخرين ، وذلك بتأكيد الصفة الإسلامية في الحركة ، والإيحاء بالملامح التي تميز العنوان الإسلامي عن عناوينهم اللاإسلامية ، لئلا تضيع المسألة في أجواء الوفاق.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فقد خطط لك الطريق من موقع علمه وحكمته في ما يصلح جمهور الناس كلهم والحياة كلها.

* * *

اتباع وحي الله والتوكل عليه

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وهذا هو الخط الثالث الذي يمثل خط السير المستقيم الذي يؤكد البداية والنهاية وما بينهما ، فللمسلم فكره الذي أوحى به الله ، وشريعته التي جاء بها الرسول ، ومنهجه الذي تحدث به القرآن ، مما يتضمنه عنوان الإسلام في مضمونه العقيدي والحركي ، فليس للمسلم أن ينحرف أو يبتعد عنه ، بل لا بد له من أن يلتزمه بكل دقائقه وتفاصيله ، لأن ذلك هو المعنى الدقيق للشخصية الإسلامية في ملامحها الواقعية.

وذلك هو الذي ينبغي له أن يستشعره في داخل وعيه الإسلامي من خلال الإيمان بما أكدته الآية من اطلاع الله على كل ما يعمله الإنسان المسلم في كل حياته السرية والعلنية.

٢٥٢

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في كل أمورك ، وتابع سيرك ، بعد أن تحكم كل أمرك ، في ما تحتاجه من عوامل وعناصر وشروط وظروف ، ولا تخف من تهاويل الأشباح المخيفة التي يثيرها الكافرون والمنافقون في طريقك ، ولا تعش القلق من المستقبل عند ما تواجهك احتمالات الخوف في آفاقه ، فإن الله هو الذي يضمن لك الرعاية والحماية ، في ما لا تملك معرفته أو السيطرة عليه ، أو ما يمكن أن يفاجئك به الزمن ، أو ما يمكن أن يختفي خلف الواقع المنظور. وتلك هي قصة الإيمان في المؤمن ، أن تكون ثقته بالله هي القاعدة التي يرتكز عليها في ثقته بنفسه وبالحركة التي يتحركها ، على أساس مواجهته لكل الاحتمالات من خلال جهده ، ومن خلال التوكل على الله الذي يملك الأمر كله في السماوات والأرض ، ويملك حركة عباده ، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فلا يحتاج الإنسان المؤمن إلى وكيل آخر يرعى أموره ويدبر حياته إذا اعتمد على الله ، لأنه وحده القادر على كل شيء.

* * *

٢٥٣

الآيتان

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

* * *

معاني المفردات

(تُظاهِرُونَ) : يقال : ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهّر : أن يقول لها أنت عليّ كظهر أمّي ، وكان يعد طلاقا في الجاهلية.

(أَدْعِياءَكُمْ) : جمع دعيّ : وهو المتخذ ولدا ، أي الذي يتبناه الإنسان.

* * *

٢٥٤

إلغاء القرآن لبعض التشريعات الجاهلية

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) فلكل رجل قلب واحد ، يتوحد فيه التصور والشعور والانتماء والالتزام ، فلا مجال لأن يجتمع فيه في محل واحد وزمان واحد ومن جهة واحدة ، تصوران أو شعوران متقابلان كالتوحيد والشرك ، أو كحب الله وحب الشيطان ، وحب أوليائه وحب أعدائه ، ولا لالتزامين متباينين ، كالالتزام بشريعة الله والالتزام بشريعة غير الله. ولهذا كانت مسألة طاعة الله. في ما يلتزم به المسلم في خط الإيمان ، لا تتناسب مع طاعة الكافرين والمنافقين ، في ما يرفضه المسلم من خط الكفر والنفاق ، فلا يجتمعان في التزاماته القلبية ، كما لا يلتقيان في ممارساته العملية.

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الفقرة من الآية «توطئه وتمهيدا كالتعليل لما يتلوها من إلغاء أمر الظهار والتبني ، فإن في الظهار جعل الزوجة بمنزلة الأم ، وفي التبني والادّعاء جعل ولد الغير ولدا لنفسه ، والجمع بين الزوجية والأمومة ، وكذا الجمع بين بنوّة الغير وبنوّة نفسه ، جمع بين المتنافيين ولا يجتمعان إلا في قلبين ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» (١). والظاهر أن التفسير الأول أقرب إلى الجوّ من هذا التفسير ، والله العالم.

* * *

ما جعل أزواجكم أمهاتكم

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) وهذا هو الخط التشريعي الذي واجه به الإسلام العادة الجاهلية السائدة قبل الإسلام في مسألة الظهار ، فقد كان الرجل في الجاهلية يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، أو ظهرك

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ٢٨٠.

٢٥٥

عليّ كظهر أمي ، فتحرم عليه ، أو تجمّد وضعها معه ، بحيث تبقى معلّقة ، فلا هي متزوّجة منه لامتناعه عن مواقعتها ، ولا هي مطلقة لبقاء العلاقة التي تمنعها من إنشاء علاقة مع إنسان آخر ، حسب اختلاف النقل عن خصوصية هذه العادة.

وقد انطلق التشريع الإسلامي من طبيعة الرفض للمنطق الذي عبّر به الجاهلون عن فسخ العلاقة الزوجية أو تجميدها ، وهو اعتبار الزوجة بمنزلة الأم ، مما يجعل حكمها حكم الأم في التحريم ، بطريقة ملزمة لا مجال للرخصة فيها ، تماما كما لا مجال للرخصة في موضوع الأم ، ولكن الكلمة لا تغير حقائق الأشياء ، فللأم معناها في ما هي العلاقة النسبية ، وللتحريم عمقه في ما هي الأسرة في العلاقات الإنسانية وطبيعة الأنظمة التحريمية أو التحليلية فيها من حيث ارتباطها بخصوصيات الأشخاص الذين يتحركون في داخلها ، ومن حيث الفكرة العامة التي تحكمها في تنظيم الخطوط العامة والخاصة التي تحكم كل مجالاتها.

ولهذا فإن للزوج أن يجمّد علاقته بزوجته أو يلغيها ، ولكن لا بد له من أن يعبّر عن ذلك بطريقة مباشرة ، مثل كلمة الطلاق ونحوها ، مما ينسجم مع طبيعة الأشياء ، تماما كأيّة علاقة إنسانية أخرى ، ذات خصائص معينة ، في ما يراد لها من اتصال وانفصال ، وليس له أن يعبّر عنها بهذه الطريقة التي تسيء لسلامة التصور في تمييز العلاقات عن بعضها البعض ، مما لا يملك الإنسان أمر تحريك الالتزام التشريعي في حياته على أساسه ، فلا حق له أن يمتنع عن العلاقة بزوجته بعنوان أنها كأمّه ، ليعاملها ـ في دائرة الممارسة ـ بما يعامل به أمّه ، لأن مسألة الأم شيء ، ومسألة الزوجة شيء آخر ، فالتحريم في الأم متصل بالجانب الذاتي الثابت الذي لا يمكن تحريكه في اتجاه آخر من خلال عمق الخصوصية التي يستند إليها التشريع في جانبه الشعوري وفي جانبه الاجتماعي ، بينما التحريم في الزوجة ـ في حال الانفصال ـ أمر متحرك في

٢٥٦

دائرة الالتزام بالعلاقة أو الالتزام بإلغائها ، مما يجعل من الخلط بينهما خلطا في التصور وخللا في إدارة العلاقات ، وسيجيء الحديث عن التشريع الإسلامي بتفاصيله في سورة المجادلة إن شاء الله.

* * *

ما جعل أدعياءكم أبناءكم

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والدّعي هو ولد الغير الذي يتخذه الإنسان ابنا له ، فينسبه إلى نفسه ويتبناه ، وقد كان هذا من العادات الجاهلية التي تدخل في النظام العام للعلاقات النسبية ، الذي يجعل للولد المتبنّى حقا على أبيه المدّعي ، تماما كما هي حقوق الابن الذي هو من صلبه ، في عملية التوارث ، وحمل المسؤولية العامة والخاصة ، في ما يخضع الناس له من نظام المسؤوليات في علاقاتهم ببعضهم البعض.

وقد نقلت كتب السيرة النبوية الشريفة في أجواء نزول هذه الآية ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تبنى زيد بن حارثة ، قبل الإسلام ، وذلك في ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله «جعفر الصادقعليه‌السلام» قال : كان سبب ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة ، ورأى زيدا يباع ورآه كان غلاما كيّسا حصينا ، فاشتراه ، فلما نبّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وكان يدعى زيدا مولى محمد.

فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلا جليلا ، فأتى أبا طالب فقال : يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك ، تسأله إمّا أن يبيعه ، وإمّا أن يفاديه ، وإما أن يعتقه ، فكلّم

٢٥٧

أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله : هو حرّ فليذهب حيث شاء ، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له : يا بني الحق بشرفك ونسبك ، فقال زيد : لست أفارق رسول الله ، فقال له أبوه : فتدع حسبك ونسبك وتكون عبدا لقريش؟ فقال زيد : لست أفارق رسول الله ما دمت حيا ، فغضب أبوه ، فقال : يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبه ، وسماه زيد الحب (١).

ولم يقتصر الأمر على الجاهليين ، بل امتد هذا النظام إلى كثير من الشعوب المتمدنة القديمة والحديثة ، بإعطاء الولد المتبنّى كل حقوق الولد الصلبي.

وقد عالج الإسلام هذه المسألة بالطريقة نفسها التي عالج بها مسألة الظهار ، فإن الادّعاء لا يغيّر شيئا من حقائق الواقع ، لأن النبوّة تعني انتماء الشخص إلى شخص آخر ، من خلال خروجه من صلبه بالطريقة التناسلية كحقيقة وجودية تدخل في نظام الأسرة في دائرة الحقوق والواجبات.

وإذا كان هناك بعض الأوضاع الاجتماعية المتصلة بحاجة المحرومين من الأبوة ، أو المحرومات من الأمومة ، إلى أن يعيشوا هذه المشاعر الحميمة ، بفعل الفراغ الهائل الذي يأكل سعادتهم ، ويثير فيهم أحاسيس الحزن والضياع ، فإن هناك فرصة كبيرة لتحقيق الرغبة الداخلية بالتبني التربوي الذي يتكفلون فيه ببعض الأيتام ، أو اللقطاء ، أو أبناء بعض الناس من ذوي الدخل المحدود ، بالإشراف على رعايتهم وتربيتهم وتقديم كل الفرص والإمكانيات التي تخلصهم من الفقر والمرض والحرمان ، وإغداق كل مشاعر العطف والحنان عليهم ، مما يحقق للمحرومين من الود ما يريدونه من ملء الفراغ العاطفي ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٦ ، ص : ٢٨٧.

٢٥٨

وللمحرومين من الإمكانات المالية ونحوها ، ما يكفل لهم السعادة من هذا الجانب ، من دون الإساءة إلى حقيقة الواقع أو تبديل طبيعة المواقع في مسألة النسب ، أو اللعب على قضية النظام التشريعي في هذا المجال.

وربّما تحدث بعض السلبيات العاطفية لدى الولد المتبنّى عند ما يكتشف في نهاية المطاف الزيف الذي كان يعيش فيه في اعتقاده بأن هذا الرجل أبوه ، وبأن هذه المرأة أمّه ، عند ما يوحي إليه بعض الناس بالحقيقة ، أو يكتشفها بنفسه ، فتنشأ عنده أزمة نفسية عنيفة حائرة بين الأب والأم الأصليين وبين الأب والأم الادّعائيين ، مما يخلق مشكلة صعبة على أكثر من صعيد.

* * *

ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) في ما تدّعونه من الأبوّة لهؤلاء الأولاد ، إنها مجرد كلمة لا تعبّر عن الحقيقة الأصلية ولا تحقق أيّة نتيجة على مستوى التشريع ، لأن الله هو الأساس في المسألة التشريعية.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) الذي يطابق الواقع في ما يختزن من المصلحة الثابتة في داخله (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) في ما يشرّعه من نظام لخدمة الإنسان ، كنظام الأسرة الذي يكفل للناس سعادتهم ، فالتزموا قوله وهداه ، واتركوا كل أقاويل الكذب والضلال التي تربك الحياة من حولكم.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) وأقرب للعدل ، لأن ذلك يمثل التوازن بين معنى الكلمة وحقيقة الأشياء ، (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي إذا جهلتم آباءهم ولم تعرفوهم بأعيانهم وأسمائهم ، سواء

٢٥٩

كانوا من اللقطاء أو من غيرهم ، فادعوهم باسم الأخوة الدينية والولاية الإسلامية ، ليكون الدين عنوان العلاقة في مواقع الجهل بالنسب.

وقد تشير هذه الفقرة من الآية إلى أن الجهل بالنسب في بعض الأولاد لا يوحي للمجتمع بالعقدة منهم في إقامة العلاقات الحميمة أو الاجتماعية في المستوى الإنساني الذي يحترم فيه الإنسان الإنسان من موقع إنسانيته ، بل يوحي بالارتباط العميق القائم على الرابطة الدينية ، باعتبارها الروحي الذي يؤكد العلاقة الوثيقة التي تشد هذا الإنسان المجهول النسب بالمجتمع الإسلامي من موقع الاحترام.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) من الكلمات الصادرة عن السهو أو النسيان ، أو الخطأ في تقييم الأمور عن غير قصد (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) في ما تتخذونه في عقولكم من القيم الخاطئة ، والأحكام الباطلة. فالقضية التي يريد الله أن يثيرها لدى الإنسان كقيمة من القيم الدينية ، هي أن لا يعقد قلبه على خطأ في الفكرة أو في المنهج أو في التشريع ، لأن الخطأ في الكلمة قد يغتفر إذا صدر عن غير قصد ، ولكن الخطأ في الفكرة أو في الخط عن قصد أو تقصير ، قد يخلق أكثر من مشكلة للإنسان وللحياة ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) في ما أخطأ به الناس عن غير قصد.

* * *

٢٦٠