تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

حياتهم صورة عن ذلك في البداية والنهاية ، فهو الموضوع القرآني المتكرر المتحرك في أكثر من أسلوب ، وفي أكثر من مضمون.

* * *

تسخير ما في السموات والأرض

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فقد جعل الكون مرتبطا في نظامه بكل ظواهره ، فلكل واحد منها موقع معين ودور خاص ، في تنظيم الأوضاع المتعلقة بكل الموجودات فيه من إنسان وحيوان ونبات ، من خلال اتصالها باستمرار الحياة ، وحركيتها وتنوّع خصائصها ، مما يجعل ذلك كله مسخرا للناس تسخير الأشياء لمن ينتفع بها من خلال نتائجها ، كما نلاحظه من إنزال الماء ليكون منه كل شيء حيّ وليستمر به الوجود الحيّ في شروطه الطبيعية ، ومن إشراق الشمس لتعطي الدفء والحرارة والنور مما هو شرط للحياة في طبيعتها ونموّها ، ومن إنبات النبات وتفجير الينابيع والأنهار ، والقوانين المودعة في أنحاء الكون ، والتي تحكم الوجود كله ، فقد جعل الله لكل شيء قدرا ، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) مما ترونه وتحسونه ويتصل بحياتكم المادية الجسدية ، في ما خلق لكم من الأعضاء والأجهزة الداخلية المرتبطة بالنظام العام للوجود الإنساني المتصل بالنظام الكوني كله ، وفي ما أخرجه لكم من طيبات الرزق فتأكلونه وتشربونه وتستمتعون به وتلبسونه ، وفي ما مهّد لكم من الأرض التي تستقرون عليها وترتاحون فيها ، وفي ما أحاطكم به وسلطكم عليه ، من وسائل الأمن والراحة ، وفي ما خلقه لكم من العقل والشعور والإرادة ، وما تعهدكم به من خفايا الأمور التي تستفيدون منها بشكل طبيعيّ من دون التفات وشعور ، وفي ما أنزله عليكم من الوحي الإلهي في خط

٢٠١

دينه الذي تنتظم به أمور معاشكم ومعادكم ، مما لا يحصيه أحد إلا الله ، فقد أتم ذلك لكم بأكمل وجه حتى استقامت حياتكم واستمرت في خطها المستقيم.

* * *

المجادلون بغير علم

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) مما يتحرك في العقل من حجج وأدلّة (وَلا هُدىً) مما يمكن أن يؤكد الفكرة المضادة على أساس الوضوح الذي يزيل الغموض ، ويمنع من الالتباس ، ويحمي من الضياع ، (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) يشتمل على الحقائق المشرقة التي تضيء للناس سبيل الحق ، فتدلهم عليه في الفكر وفي الحياة. وتلك هي مشكلة هؤلاء الناس ، أنهم لا ينطلقون في جدالهم من قاعدة عقلية أو وجدانية أو حسية في حركة الأفكار التي يثيرونها ، والكلمات التي يديرونها ، والخطاب الذي يطلقونه ، بل ينطلقون من تقليد الآباء والأجداد ، ومن الأهواء الجامحة ، والانفعالات الهائجة ، مما لا يستقيم به الفكر ، ولا ترتكز عليه الحياة ، الأمر الذي يحوّل الجدال إلى أساليب السباب والتهاتر والبعد عن الحقيقة ، لأنه يفقد القاعدة التي يدور حولها الحوار ، وتنطلق منها التفاصيل ، فيقفزون من موضوع إلى موضوع ، ويهربون من موقع إلى موقع ، ويستغرقون في الجزئيات ، بعيدا عن القاعدة العامة التي تحكم الجميع. وهذا هو الفرق بين الذين يملكون العلم فيجادلون على أساسه ، وبين الذين يملكهم الجهل ، فيضيعون في متاهاته ويتخبطون خبط عشواء.

وفي ضوء ذلك ، فإن القرآن يريد أن يؤكد الحوار من أجل العقيدة والجدال في إثبات حقائقها من ناحية المبدأ ، ولكنه يشترط فيه العلم والوعي

٢٠٢

والوضوح في الوسائل والأهداف.

* * *

اتّباع الاباء في العقيدة

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من وحي يختزن الفكر والمنهج والشريعة فإنّ فيه الهدى ، كل الهدى ، والنجاة كل النجاة في الدنيا والآخرة ، (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لأننا لا نريد الانفصال عن خط العشيرة في أفكارها وأوضاعها ومنهجها في الحياة ، لأن ذلك هو الذي يحقق وحدة الماضي والحاضر ، ويجمع العواطف والعصبيات في دائرة واحدة ، ويصون العلاقات من التفكك والانفصام ، ويحقق الوفاء. ولكنّ هذا المنطق الذي يقدمونه ، ليس هو المنطق العاقل المنطلق من أساس متين ، بل هو منطق الشيطان الذي يختبئ في داخل العواطف والمشاعر والعلاقات ليبعد الإنسان عن خط العقل المنفتح على الله ، وليدفع به إلى الهلاك والدمار والعذاب ، لأن الشيطان لا يدعوهم إلى ثواب الله في جنته ، بل يدعوهم إلى عذابه في ناره.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ) المتمثل في هذه الدائرة التاريخية التي كانت مسرحا لكل نزعاته وحيله ومكائده وأضاليله ، في ما كان يطلّ به على حياة هؤلاء الذين عاشوا فيها على أساس الجهل والتخلف ، (يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) في ما يؤدي إليه هذا الاتجاه في نهاية المطاف؟!

* * *

٢٠٣

الآيات

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٣٠)

* * *

٢٠٤

معاني المفردات

(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : المستمسك الذي لا انفصام له.

* * *

تسليم الوجه لله استمساك بالعروة الوثقى

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بالاستسلام الكلي له في كل أموره ، والإقبال الكامل عليه بكل أقواله وأفعاله ، بحيث تكون ذاته خاضعة له بكل عمق الفكر والشعور ، ويكون الله هو ما تتطلع إليه بكل أحاسيسها وأفكارها ومشاريعها العملية ، في ما يوحي به تسليم الوجه لله ، من معنى يجعل التوجّه في كل اتجاه بيد الله ، فهو الذي يحدد له وجهته في كل مواقع رضاه ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله وسلوكه الذي يتحرك معه في اتجاه إسلامه لربّه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التي لا انفصام لها ، لأنها تمثل الصلابة القوية التي لا مجال فيها للخلل من كل جهة ، لأنها ترتبط بالله ، وكل ما يرتبط به فهو ثابت ثبات الكون كله.

* * *

(إِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) حيث يجد هؤلاء المسلمون أمرهم إلى الله ، المحسنون في أعمالهم ، كل خير وثواب ورحمة وفوز عظيم في جنة الله ورضوانه ، (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) لأنك أدّيت ما عليك من إبلاغ

٢٠٥

الرسالة بكل الأساليب المقنعة ، والحجج القويّة ، فلم تدع مجالا لشبهة ، ولم تترك موقعا لتساؤل ، وفتحت لهم كل أبواب الوضوح في الرؤية ، ورغّبتهم بكل وسائل الترغيب ، وخوّفتهم بكل مواقع التخويف ، فلم يستجيبوا لك وأصرّوا على التمرّد ، مما يوحي بأنهم لا يتحركون من موقع شبهة بل من موقع عقدة ، فهم يعرفون الحقّ وينكرونه ، ويتحركون في الضلال ، وهم يتطلعون إلى مواقع الهدى في رسالتك ، فلا يستحقون هذه المشاعر الطاهرة التي تنبض بالرحمة لهم ، وإذا كنت تتألم وتحزن للكفر أن يقوى بهم ، وينتشر من خلالهم ، فإن الله هو الذي يملك القوّة ، ويملك مقاليد الأمور ، فسيرجع الجميع إلى الله ، (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) ليكون الحساب من موقع الحجة الدامغة التي تعرفهم بكل ما أظهروه وما أضمروه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في الأفكار العميقة الخفية ، والمشاعر الدقيقة الغامضة.

وهكذا ينالون جزاء أعمالهم بكل عدالة واستقامة ، بعد أن أفسح لهم المجال الواسع للتجربة الحية في إرادة الإنسان بين الهدى والضلال (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) في الدنيا (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) فنقودهم إلى المصير الأسود الذي ينتظرهم في النار جزاء لكفرهم في العذاب الشديد ، وفي كلمة «نضطرهم» معنى القهر والقوّة.

* * *

معرفة الله فطرية

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) من منطق الفطرة التي تكتشف الله في كل مظهر من مظاهر الوجود بشكل عفويّ طبيعي ، مما يفرض عليهم أن يلتزموا بنتائج الاعتراف بهذا المنطق ، في الجانب التفصيلي من

٢٠٦

علاقة الوجود بالله ، وحركة الإنسان في الخضوع لإرادته ، (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) في ما ينبغي له من الحمد في عمق صفاته الحسنى وفي ما يظهره من حقائق الأمور في العقيدة والحياة ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لاستغراقهم في الغفلة الضائعة في أجواء الأحلام والشهوات ، فلا يملكون معها ما ينفتحون به على الحقيقة التوحيدية في آفاق الله ، ولا يطيقون الدخول في مناقشات جدّية حول ما هو الحق والباطل في هذه العقيدة أو تلك ، بل يرتبطون بالجانب السهل من القضايا والأساليب ، مما يجعلهم فريسة سهلة لكل المضلّلين والمنحرفين على الفكر والموقف.

وتبقى القلّة من الناس ، التي تملك العقل والإرادة والعمق في الأمور ، فتواجه العقيدة من موقع الفكر الجدّي ، والمتابعة الدائبة ، والحوار العلمي الرصين ، والنفس الطويل الذي يرصد الفكرة البعيدة ليقترب منها بالبحث والتأمّل ، ليصل إليها ولو بعد حين ، فيؤمنون من خلال ذلك بالله ، ويلتزمون نهجه ، ويتحركون في هداه.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذه هي الحقيقة الكونية التي تنطلق من عمق الإيمان بأن الخالق هو المالك ، فإذا كان ما في السماوات والأرض مخلوقا له ، فلا بدّ من أن يكون مملوكا له ، (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فهو الغني عن خلقه بذاته ، من موقع افتقارهم المطلق إليه من طبيعة ذواتهم ، وهو المحمود في صفاته ، وكل حمد لغيره فهو مستمد من حمده ، في خلقه الذي أبدعه ، وفي نعمه التي أعطاها ، التي لا يحدّها شيء ، ولا يحصيها عدد.

* * *

٢٠٧

كلمات الله لا تنفد

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) لتكتب كل ما أبدعه الله ، وما أنعم به ، وما دبّره ونظّمه ورعاه من كل ما مضى ، وما يبقى ، ليتحول ذلك إلى كلمات ، فلن تنتهي إلى نهاية محدودة ، لأن كلمات الله لا تنتهي عند حدّ معيّن ، فهي تنطلق من قدرته اللامتناهية ، فلو كانت الفرضية كما ذكر ، بل أكثر مما ذكر (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فهو القاهر بعزته فلا يقهره أحد ، وهو الحكيم بتدبيره في إتقان كل خلقه وإبداعه.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) فلا فرق بين خلق الواحد وخلق الجميع في قدرته ، كما لا فرق بين الواحد بعد الموت في الإمكان وبعث الجميع ، لأن الحديث عن الكثرة والقلة في حجم القدرة ، إنما هو في نطاق القدرات المحدودة ، التي قد يجهدها رقم كبير ، ويريحها رقم صغير ، ولكن الله سبحانه الذي يملك القدرة المطلقة التي تتحرك من موقع إرادته التي تقول للشيء كن فيكون ، لا يجهده الخلق مهما كان كثيرا مما يجعل القليل والكثير عنده على حدّ سواء (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) في ما يمثله ذلك من معنى الإحاطة التي تحيط بكل شيء يكشفه السمع أو البصر ، فلا يغيب عنه شيء ، كما لا يعجزه شيء. ولعل التعليل بهاتين الصفتين من صفاته ـ سبحانه ـ ينطلق من اختزان الفقرة الأولى في الآية معنى القدرة المطلقة في الوجود وفي الإحاطة ، مما قد يجعل للسمع وللبصر نوعا من تأكيد ذلك ، والله العالم.

* * *

٢٠٨

مظاهر التدبير الكوني

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). في هذه الصورة المتحركة في حركة الكون من حولك ، على أساس التدبير الإلهي في النظام الكوني العام في دائرة الزمن حيث يزيد الليل تارة وينقص أخرى ، كما يحدث ذلك في النهار في نظام ثابت في آفاق هذه الحركة. وهكذا يلاحظ الإنسان كيف سخّر الله الشمس والقمر لتحقيق الغايات التي أرادها فيهما لمصلحة الحياة والإنسان ، وكيف يتحركان في نظامهما الكوني ، في اختلاف طلوعهما وغروبهما ، واختلاف جريانهما ومسيرهما في الحس الظاهر من دون حدوث أيّ خلل في هذا أو ذاك ، مهما امتد الكون وامتدت الحياة ، مما يوحي بالنظام المبدع ، والتدبير الدقيق ، والعلم الواسع المطلق الذي يجعل الأشياء كلها حاضرة أمامه ، قبل وجودها ، وبعد وجودها ، كما يوحي للإنسان ، في عمق شعوره ، باطلاعه على كل دقائق أعماله ، فيدفعه ذلك إلى الانضباط في حركته ، والتوازن في موقفه ، والإحساس بالرقابة الدائمة عليه ، من خلال الحقيقة الإلهية المنطلقة من إحاطة الله وخبرته بالأعمال والأقوال ، في دائرة خبرته بالإنسان كله ، (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فكيف تنكرون ذلك في سلوككم ، في الوقت الذي يفرضه عليكم إحساسكم بوجودكم. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) فهو الحقيقة الثابتة في عمق الوجود كله ، بكل ظواهره ومفرداته وتفاصيله ، لأن كل شيء مستند إليه ، وخاضع لإرادته ، ومفتقر إليه ، وموجود به ، مما يجعل الأشياء بمنزلة الظل والصدى الذي لا قوام له بنفسه ، بينما يقوم الله ـ سبحانه ـ بذاته.

ومن خلال ذلك ، نتعرف الحق في ربوبيته وألوهيته المطلقة ، وعبودية كل الموجودات له ، فلا شريك له ولا نظير ، ولا شبيه ولا وزير ، وهكذا تنطلق

٢٠٩

العقيدة بوحدانيته من موقع اكتشاف عظمته المطلقة في ذاته وصفاته.

(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) لأنه لا يملك من هذه الصفة التي يدّعونها له شيئا ، لأن وجوده في كل شؤونه ، عين الفقر والحاجة إلى كل ما حوله من شروط الوجود المرتبطة بإرادة الله وحده ، فكيف يكون شريكا لله ومعبودا من دونه.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وكل ما عداه حقير وصغير ، لأنه هو الذي يملك العلو والسمو في ذاتية عليائه ، وهو الذي يملك الكبر في طبيعة وجوده. أما غيره ، فإن علوّه محدود طارئ ، وكبره عارض زائل ، وهما مستمدان من العناصر المودعة في وجوده التي أعطته ذلك كله.

* * *

٢١٠

الآيتان

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(٣٢)

* * *

معاني المفردات

(صَبَّارٍ) : كثير الصبر عند الضرّاء.

(شَكُورٍ) : كثير الشكر عند النعماء.

(غَشِيَهُمْ) : أحاط بهم.

(كَالظُّلَلِ) : الظلة : سحابة تظل ، وأكثر ما يقال في ما يستوخم ويستكره.

٢١١

(مُقْتَصِدٌ) : سألك القصد ، أي الطريق المستقيم ، والمراد به التوحيد.

(خَتَّارٍ) : الختّار : مبالغة من الختر ، وهو شدة الغدر.

* * *

من آيات الله للناس

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) في ما أنعم على عباده من تيسير التنقل عبر البحار والأنهار إلى مقاصدهم التي لا يملكون سبيلا إليها من ناحية ثانية ، أو لا يجدون في غيرها ما يحقق لهم مصالحهم كنقل البضائع وتنويع المواقع ، وحماية الطريق ، وترويح النفس وما إلى ذلك. وقد هيّأ الله لهم سبيل ذلك بالسفن التي تمخر الماء بمختلف الوسائل والأشكال من خلال العناصر المباشرة ، في ما خلقه الله من ماء وريح وسماء ، أو غير المباشرة ، في ما تتألّف منه أجزاؤها وما ألهمه الله لعباده وهداهم إليه من طريقة صنعها واستخدامها ، ونحو ذلك ، (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) الخفية والظاهرة في آفاق البحر وفي سطحه وأعماقه ، مما لا تستطيعون معرفته بدون ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لأن الرؤية القلبية للآيات في معناها ودلالتها تحتاج إلى المزيد من التأمّل والتفكير وملاحقة الظواهر في أسرارها ودقائقها وخفاياها مما لا يمكن أن يتحقق إلا للإنسان الذي يملك الصبر على البحث والمعاناة الفكرية للوصول إلى النتائج العقيدية ، ولو بعد وقت طويل. ولعل مشكلة الكثيرين من الذين ينكرون حقائق العقيدة ، أو حقائق القضايا المتصلة بشؤون الناس والحياة في أمورهم السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية ، أنهم يستعجلون الحكم على الأشياء من خلال المعطيات

٢١٢

المتوافرة على السطح ، لأنهم لا يملكون الصبر على انتظار النتائج المنطلقة من العمق الذي يحتاج إلى جهد ووقت ليظهر ما في داخله.

أمّا مدخلية الشكر في الموضع ، فتتصل بأن الإنسان الذي يعيش روح الشكر لله ، يعمل على اكتشاف كل نعمه وكل آياته ، ليبادر إلى الانفعال بها والإقبال عليها وتقديم الشكر إلى الله بكل إخلاص وإيمان.

وقد يجعل الله الفلك وسيلة لاختبار الإنسان في مستوى إيمانه ، لأن حالة الاسترخاء والعافية قد تمنعه من اكتشاف العمق الداخلي للعلاقة بالله ، فقد تثور الأمواج في البحر وتتعاظم حتى تهز السفينة بأهلها ، وتأخذهم ذات اليمين وذات الشمال ، فيسقط من يسقط على وجهه ، ويهتز من يهتز بكل جسده ، ويثور الموج من كل مكان ، وينطلق الخوف من كل جهة ، (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) ـ والظلة سحابة تظل ، وأكثر ما يقال في ما يستوخم ويكره ـ فأطبق عليهم الموج كقطع السحاب الملبد ، فلم يعودوا يرون من الأفق أيّ شيء ولم يجدوا أيّ مجال للنجاة ، ولا أيّ شخص ممن اعتادوا الاستعانة به للخلاص ، ذكروا الله ففزعوا إليه و (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بكل قلوبهم المتجهة إليه ، وكل فطرتهم المؤمنة به واستجاب الله دعاءهم ليضعهم أمام التجربة الإيمانية في صدق التزامهم بالسير على خط الإيمان (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو السالك طريق القصد ، وهو الطريق المستقيم الذي يتجه إلى الله في وحدانيته في حركة العبادة في سلوكه ، وهؤلاء الذين يلتزمون هذا الخط قليلون ، أمّا الباقون ، فهم الذين يبتعدون عن ذكر الله في ما يأخذون به من أسباب اللهو ، وفي ما يستغرقون فيه من عناصر الغفلة ، فيعبدون غير الله ، ويشركون بعبادته غيره. وتلك هي صفة الغادرين الذين يعطون العهد ثم ينقضونه ، ويلتزمون الموقف ثم يخرجون عنه.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) والختار هو الغادر الشديد

٢١٣

الغدر الذي ينحرف عن التزامه الإيماني بالله ، فيكفر به وبنعمه. أمّا المؤمنون الصادقون الذين يعمق في داخلهم معنى الوفاء لله في ما تتحرك به فطرتهم في معرفته والإيمان به ، فإنهم يؤمنون بآياته التي تشرق في قلوبهم ، فتفتح كل حياتهم للسير في خط الاستقامة.

* * *

٢١٤

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

* * *

استحضار أهوال القيامة

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) وراقبوه في أعمالكم في السرّ والعلانية من خلال الإحساس بحضوره في كل شيء ، فإنه الحضور الذي لا حضور مثله ، في ما يتمثل به من كل خلقه الذين يدلّ وجودهم على وجوده (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وهو يوم القيامة الذي يقف

٢١٥

فيه كل إنسان أمام مسئوليته الفردية وجهده الذاتي ، فلكل واحد عمله الذي يجزى به ، وليس لأحد أيّ قدرة على التدخل في تخليص غيره حتى في أشد العلاقات حميميّة وقوّة ، مثل علاقة الوالد بولده وعلاقة الولد بوالده ، فلا يملك أحدهما أن يتدخل لمصلحة الآخر ، ولا يغني عمل أحدهما عن عمل الآخر ، مما يفرض على الناس في الدنيا أن يدرسوا خلاصهم من مواقع أعمالهم ، لا من مواقع علاقاتهم ، لأنهم سيعرضون جميعا على الله ، وسيقفون بين يديه للحساب الدقيق في كل صغيرة وكبيرة.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فلا يخلف الله وعده ، فهو الصدق كله ، والثبات كله ، فالتزموا الخط الذي يرفع درجاتكم فيه ويرفع مواقعكم عنده (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) في ما تشتمل عليه من لذات وشهوات ومال وجاه وسلطان لتوحي إليكم بالخلود فيها ، والركون إليها ، والاستسلام لأوضاع الاسترخاء فيها (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان الذي يخدعكم عن أنفسكم ويجركم إلى مهاوي الهلاك ، ويوحي إليكم بأنها مواقع النجاة ، فيزين لكم القبيح حسنا والحسن قبيحا ، ويمدّ لكم الآمال حتى لا تفكروا بموت ، ولا تنتظروا آخرة.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي تموتون فيها ، وتبعثون فيها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) لأنه هو الذي أودع في الكون قوانين نزول المطر ، (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) لأنه هو الذي خلقه. وإذا كان بعض الناس قادرا على إنزال الغيث في بعض الأحوال ، فإنه لم ينطلق من إرادة ذاتية وقدرة شخصية ، بل كان ذلك ناشئا من الأخذ بالأسباب التي جعلها الله سببا لنزول الغيث ، في ما يمكن أن يكون بأيدي الناس منها ، وإذا كان البعض يستطيع أن يعلم ما في الأرحام ، فإنه ناشئ من الأخذ بأسباب العلم بذلك من خلال ما علّمه الله للإنسان من معرفة الأشياء ، مما لا يتنافى مع استقلال الله بعلمه من خلال ذاته (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) لأنها لا تدري بالظروف والأسباب التي يحملها الغد

٢١٦

للإنسان في سعادته وشقائه وهلاكه وبقائه ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) لأن الإنسان لا يملك القدرة على حماية حياته من الأسباب الخفية أو الظاهرة للموت ، فلا يعرف من خلال ذلك الأرض التي يموت فيها ، ولكن الله هو الذي يعلم أمر ذلك كله ، لأنه المحيط به من كل جوانبه وخصائصه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فإذا كان الله يعلم دقائق الأمور وخفاياها ، وهو الذي يملك حساب كل شيء فيها ، فلا بد من الانسجام مع تقواه.

* * *

٢١٧
٢١٨

سورة السّجدة

مكيّة

وآياتها ثلاثون

٢١٩
٢٢٠