تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

____________________________________

(نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود فيها (هِيَ حَسْبُهُمْ) عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عقابها* وعذابها (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أى أبعدهم من رحمته وأهانهم وفى إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط* ما لا يخفى (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أى نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا أو لهم عذاب* مقيم معهم فى الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاق الذى هم منه فى بلية دائمة لا يأمنون ساعة من خوف الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع عن أسرارهم (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد والكاف فى محل الرفع على الخبرية أى أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو فى حيز النصب بفعل مقدر أى فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) تفسير وبيان لشبههم بهم وتمثيل لحالهم بحالهم (فَاسْتَمْتَعُوا) تمتعوا وفى صيغة الاستفعال* ما ليس فى صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامة فى التمتع (بِخَلاقِهِمْ) بنصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقه* من الخلق بمعنى التقدير وهو ما قدر لصاحبه (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ) الكاف فى محل النصب على* أنه نعت لمصدر محذوف أى استمتاعا كاستمتاع (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذم الأولين باستمتاعهم* بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر فى العواقب الحقة واللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائهم أثرهم (وَخُضْتُمْ) أى دخلتم فى الباطل (كَالَّذِي خاضُوا) * أى كالذين بإسقاط النون أو كالفوج الذى أو كالخوض الذى خاضوه (أُولئِكَ) إشارة إلى المتصفين* بالأوصاف المعدودة من المشبهين والمشبه بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضى أن يكون حبوط أعمال المشبهين وخسرانهم مفهومين ضمنا لا صريحا ويؤدى إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب أى أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ليس المراد بها أعمالهم المعدودة كما يشعر به التعبير* عنهم باسم الإشارة فإن غائلتها غنية عن البيان بل أعمالهم التى كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان أى ضاعت وبطلت بالكلية ولم يترتب عليها أثر (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بطريق المثوبة والكرامة* أما فى الآخرة فظاهر وأما فى الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحة والسعة وغير ذلك حسبما ينبىء عنه قوله عزوجل (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) ليس ترتبه عليها على طريقة المثوبة والكرامة بل بطريق الاستدراج (وَأُولئِكَ) أى الموصوفون بحبوط* الأعمال فى الدارين (هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون فى الخسران فى الدارين الجامعون لمباديه وأسبابه طرا* فإنه قد ذهبت رءوس أموالهم التى هى أعمالهم فيما ضرهم ولم ينفعهم قط ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا

٨١

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١)

____________________________________

ينفعهم لكفى به خسرانا وإيراد اسم الإشارة فى الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبوط والخسران (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) أى المنافقين (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى خبرهم الذى له شأن وهو ما فعلوا وما فعل* بهم والاستفهام للتقرير والتحذير (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وهم قوم شعيب* (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قريات قوم لوط ائتفكت بهم أى انقلبت بهم فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من* سجيل وقيل قريات المكذبين وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) * استئناف لبيان نبئهم (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) الفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام أى فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك وإيثار ما عليه النظم الكريم للمبالغة فى تنزيه ساحة السبحان عن الظلم أى ما صح وما استقام له أن يظلمهم ولكنهم ظلموا أنفسهم والجمع بين صيغتى الماضى* والمستقيل فى قوله عزوجل (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) للدلالة على استمرار ظلمهم حيث لم يزالوا يعرضونها للعقاب بالكفر والتكذيب وتقديم المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأى من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما فى قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجىء لهذا مزيد بيان فى قوله سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا إثر بيان قبح حال أضدادهم عاجلا وآجلا والتعبير عن نسبة هؤلاء بعضهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبة هؤلاء بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك ونسبة* أولئك بمقتضى الطبيعة والعادة (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى جنس المعروف والمنكر* المنتظمين لكل خير وشر (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو فى مقابلة ما سبق من قوله* تعالى نسوا الله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بمقابلة قوله تعالى (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى فى كل أمر* ونهى وهو بمقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة (أُولئِكَ) إشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم فى الفضل أى* أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أى يفيض عليهم آثار رحمته من التأييد والنصرة

٨٢

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

____________________________________

البتة فإن السين مؤكدة للوقوع كما فى قولك سأنتقم منك (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) تعليل للوعد أى قوى قادر على* إعزاز أوليائه وقهر أعدائه (حَكِيمٌ) يبنى أحكامه على أساس الحكمة الداعية إلى إيصال الحقوق من* النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهل المعصية وهذا وعد للمؤمنين متضمن لوعيد المنافقين كما أن ما سبق فى شأن المنافقين من قوله تعالى (فَنَسِيَهُمْ) وعيد لهم متضمن لوعد المؤمنين فإن منع لطفه تعالى عنهم لطف فى حق المؤمنين (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تفصيل لآثار رحمته الأخروية إثر ذكر رحمته الدنيوية والإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان لحصول ما تعلق به الوعد وعدم التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغير ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته أى وعدهم وعدا شاملا لكل أحد منهم على اختلاف طبقاتهم فى مراتب الفضل كيفا وكما (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) فإن كل أحد منهم فائز بها لا محالة (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أى وعد بعض الخواص* الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش. فى الخبر أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) هى أبهى أماكن الجنات وأسناها. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدن دار الله لم ترها* عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن فى الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبى أو صديق أو شهيد وعن ابن مسعود رضى الله عنه هى بطنان الجنة وسرتها فعدن على هذا علم وقيل هو بمعناه اللغوى أعنى الإقامة والخلود فمرجع العطف إلى اختلاف الوصف وتغايره فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية ليميل إليها طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التى لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات فى جوار العليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) أى وشىء يسير من رضوانه تعالى (أَكْبَرُ) إذ عليه يدور* فوز كل خير وسعادة وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ولعل عدم نظمه فى سلك الوعد مع عزته فى نفسه لأنه متحقق فى ضمن كل موعود ولأنه مستمر فى الدارين. روى أنه تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأى شىء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق* ذكره وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته فى العظم والفخامة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) دون ما يعده* الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها وتكدرها ليست

٨٣

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ()٧٤)

____________________________________

بالنسبة إلى أدنى شىء من نعيم الآخرة بمثابة جناح البعوض قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ونعما قال من قال[تالله لو كانت الدنيا بأجمعها * تبقى علينا ويأتى رزقها رغدا] * [ما كان من حق حر أن يدل بها * فكيف وهى متاع يضمحل غدا] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أى المجاهرين منهم بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فى ذلك ولا تأخذك بهم رأفة. قال عطاء نسخت هذه الآية كل شىء من العفو والصفح (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) * جملة مستأنفة لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله وقيل حالية (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) استئناف لبيان ما صدر عنهم من الجرائم الموجبة لما مر من الأمر بالجهاد والغلظة عليهم ودخول جهنم روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام فى غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمعه من كان منهم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الجلاس بن سويد منهم لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس أجل والله إن محمدا لصادق وأنت شر من الحمار فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامر يده فقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزل وإيثار صيغة الاستقبال فى يحلفون لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الحلف وصيغة الجمع* فى قالوا مع أن القائل هو الجلاس للإيذان بأن بقيتهم برضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) هى ما حكى آنفا والجملة مع ما عطف عليها اعتراض (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أى وأظهروا* ما فى قلوبهم من الكفر بعد إظهارهم الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) هو الفنك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنه توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن راحلته إذا تسنم العقبة بالليل وكان عمار بن ياسر آخذا بخطام راحلته يقودها وحذيفة بن اليمان خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا وقيل هم المنافقون هموا بقتل عامر لرده على الجلاس وقيل أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبى بن سلول وإن لم يرض به رسول* الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما نَقَمُوا) أى وما أنكروا وما عابوا أو وما وجدوا ما يورث نقمتهم (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فى غاية ما يكون من ضنك العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديته اثنى عشر ألف درهم فاستغنى والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو من أعم العلل أى وما

٨٤

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧)

____________________________________

أنكروا شيئا من الأشياء إلا إغناء الله تعالى إياهم أو وما أنكروا ما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم (فَإِنْ يَتُوبُوا) عما هم عليه من الكفر والنفاق (يَكُ خَيْراً لَهُمْ) فى الدارين. قيل لما تلاها رسول* الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الجلاس يا رسول الله لقد عرض الله على التوبة والله لقد قلت وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أى استمروا على ما كانوا عليه من التولى والإعراض عن الدين أو أعرضوا* عن التوبة بعد هذا العرض (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من فنون* العقوبات (وَالْآخِرَةِ) بالنار وغيرها من أفانين العقاب (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) مع سعتها وتباعد أقطارها* وكثرة أهلها المصححة لوجدان ما نفى بقوله عزوجل (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ينقذهم من العذاب بالشفاعة* أو المدافعة (وَمِنْهُمْ) بيان لقبائح بعض آخر منهم (مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) لنؤتين ٧٥ الزكاة وغيرها من الصدقات (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يريد الحج* وقرىء بالنون الخفيفة فيهما. قيل نزلت فى ثعلبة بن حاطب أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقنى ما لا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ثعلبة قليل تؤدى حقه خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذى بعثك بالحق لئن رزقنى الله ما لا لأعطين كل ذى حق حقه فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال يا ويح ثعلبة فبعث مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية وقال ارجعا حتى أرى رأيى وذلك قوله عزوجل (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أى منعوا حق الله منه (وَتَوَلَّوْا) أى أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يكلماه يا ويح ثعلبة مرتين فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله منعنى أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا عملك قد أمرتك فلم تطعنى فقبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء بها إلى أبى بكر رضى الله عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمر رضى الله عنه فى خلافته فلم يقبلها وهلك فى خلافة عثمان رضى الله عنه وقيل نزلت فيه وفى سهل بن الحرث وجد بن قيس ومعتب بن قشير والأول هو الأشهر (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) جملة معترضة أى وهم* قوم عادتهم الإعراض أو حالية أى تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم (فَأَعْقَبَهُمْ) أى جعل الله ٧٧ عاقبة فعلهم ذلك (نِفاقاً) راسخا (فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) إلى يوم موتهم الذى يلقون الله تعالى عنده* أو يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة وقيل فأورثهم البخل نفاقا متمكنا فى قلوبهم ولا يلائمه

٨٥

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩)

____________________________________

* قوله عزوجل (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) أى بسبب إخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح* (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أى وبكونهم مستمرين على الكذب فى جميع المقالات التى من جملتها وعدهم المذكور وتخصيص الكذب به يؤدى إلى تخلية الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل عن المزية فإن تسبب الأعقاب المذكور بالإخلاف والكذب يقضى بإسناده إلى الله عزوجل إذ لا معنى لكونهما سببين لأعقاب البخل النفاق والتحقيق أنه لما كانت الفاء الدالة على الترتيب والتفريع منبئة عن ترتب أعقاب النفاق المخلد على أفعالهم المحكية عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولى والإعراض وفيها ما لا دخل له فى الترتب المذكور كالمعاهدة أزيح ما فى ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدار فى ذلك والله تعالى أعلم وقرىء بتشديد الذال (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أى المنافقون أو من عاهد الله وقرىء بالتاء الفوقانية خطابا* للمؤمنين فالهمزة على الأول للإنكار والتوبيخ والتهديد أى ألم يعلموا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أى ما أسروا به فى أنفسهم وما تناجوا به فيما بينهم من المطاعن وتسمية الصدقة جزية وغير ذلك مما لا خير فيه* وسر تقديم السر على النجوى سيظهر فى قوله سبحانه (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فلا يخفى عليه شىء من الأشياء حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم وإظهار اسم الجلالة فى الموقعين لإلقاء الروعة وتربية المهابة وفى إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الكثيرة الدائمة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى وعلى الثانى لتقرير علم المؤمنين بذلك وتنبيههم على أنه تعالى مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) نصب أو رفع على الذم ويجوز جره على البدلية من الضمير فى سرهم ونجواهم* وقرىء بضم الميم وهى لغة أى يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) أى المتطوعين المتبرعين (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حال من* المطوعين وقوله تعالى (فِي الصَّدَقاتِ) متعلق بيلمزون. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حث الناس على الصدقة فأتى عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب وقيل بأربعة آلاف درهم وقال كان لى ثمانية آلاف فأقرضت ربى أربعة وأمسكت لعيالى أربعة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك له حتى صولحت تماضر رابعة نسائه عن ربع الثمن على ثمانين ألفا وتصدق عاصم بن عدى بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصارى بصاع من تمر فقال بت ليلتى أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالى وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل ولكنه أحب أن يذكر* بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) عطف على (الْمُطَّوِّعِينَ) أى ويلمزون

٨٦

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠)

____________________________________

الذين لا يجدون إلا طاقتهم وقرىء بفتح الجيم وهو مصدر جهد فى الأمر إذا بالغ فيه وقيل هو بالضم الطاقة وبالفتح المشقة (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) عطف على يلمزون أى يهزءون بهم والمراد بهم الفريق الأخير* (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) إخبار بمجازاته تعالى إياهم على ما فعلوا من السخرية والتعبير عنها بذلك للمشاكلة (وَلَهُمْ) * أى ثابت لهم (عَذابٌ أَلِيمٌ) التنوين للنهويل والتفخيم وإيراد الجملة اسمية للدلالة على الاستمرار (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) إخبار باستواء الأمرين الاستغفار لهم وتركه فى استحالة المغفرة وتصويره بصورة الأمر للمبالغة فى بيان استوائهما كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بامتحان الحال بأن يستغفر تارة ويترك أخرى ليظهر له جلية الأمر كما مر فى قوله عزوجل (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة فى الاستغفار إثر بيان الاستواء بينه وبين عدمه. روى أن عبد الله بن عبد الله بن أبى وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مرض أبيه أن يستغفر له ففعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم محافظة على ما هو الأصل من أن مراتب الأعداد حدود معينة يخالف حكم كل منها حكم ما فوقها إن الله قد رخص لى فسأزيد على السبعين فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة فى مطلق التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره وقيل هى أكمل الأعداد لجمعها معانيها ولأن الستة أول عدد تام لتعادل أجزائها الصحيحة إذ نصفها ثلاثة وثلثها اثنان وسدسها واحد وجملتها ستة وهى مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ثم السبعون غاية الكمال إذا لآحاد غايتها العشرات والسبعمائة غاية الغايات (ذلِكَ) إشارة إلى امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة فى الاستغفار أى* ذلك الامتناع ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل (بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) * كفرا متجاوزا عن الحد كما يلوح به وصفهم بالفسق فى قوله عزوجل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) * فإن الفسق فى كل شىء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده أى لا يهديهم هداية موصلة إلى المقصد البتة لمخالفة ذلك للحكمة التى عليها يدور فلك التكوين والتشريع وأما الهداية بمعنى الدلالة على ما يوصل إليه فهى متحققة لا محالة ولكنهم بسوء اختيارهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا وهو تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكافر إنما هى بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك وفيه تنبيه على عذر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى استغفاره لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغى والضلال إذ الممنوع هو الاستغفار لهم بعد تبين حالهم كما سيتلى من قوله عزوجل (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية.

٨٧

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

____________________________________

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) أى الذين خلفهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإذن لهم فى القعود عند استئذانهم أو خلفهم الله* بتثبيطه إياهم لما علم فى ذلك من الحكمة الخفية أو خلفهم كسلهم أو نفاقهم (بِمَقْعَدِهِمْ) متعلق بفرح* أى بقعودهم وتخلفهم عن الغزو (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) أى خلفه وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا يقال أقام خلاف الحى أى بعدهم ظعنوا ولم يظعن ويؤيده قراءة من قرأ خلف رسول الله فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم إذ لا فائدة فى تقييد فرحهم بذلك وقيل هو بمعنى المخالفة ويعضده قراءة من قرأ خلف رسول الله بضم الخاء فانتصابه على أنه مفعول له والعامل إما فرح أى فرحوا لأجل مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقعود وإما مقعدهم أى فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على أنه حال والعامل أحد المذكورين أى فرحوا* مخالفين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو فرحوا بالقعود مخالفين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لا إيثار للدعة والخفض على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما فى قلوبهم من الكفر والنفاق فإن إيثار أحد الأمرين قد يتحقق بأدنى رجحان منه من غير أن يبلغ الآخر مرتبة الكراهية وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو إيذانا بأن الجهاد فى سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب وأشرف المطالب التى يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح الذى* هو القعود خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا) أى لإخوانهم تثبيتا لهم على التخلف والقعود وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود فقد جمعوا ثلاث خلال من خصال الكفر والضلال الفرح* بالقعود وكراهية الجهاد ونهى الغير عن ذلك (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) فإنه لا يستطاع شدته (قُلْ) ردا* عليهم وتجهيلا لهم (نارُ جَهَنَّمَ) التى ستدخلونها بما فعلتم (أَشَدُّ حَرًّا) مما تحذرون من الحر المعهود وتحذرون* الناس منه فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود على النفير (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه وجواب لو إما مقدر أى لو كانوا يفقهون أنها كذلك أو كيف هى أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا أو لتأثروا بهذا الإلزام وإما غير منوى على أن لو لمجرد التمنى المنبىء عن امتناع تحقق مدخولها أى لو كانوا من أهل الفطانة والفقه كما فى قوله عزوجل (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) إخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدى إليه أعمالهم السيئة التى من جملتها ما ذكر من الفرح والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور السببية فى الأول أصلا وقليلا وكثيرا منصوبان على المصدرية

٨٨

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤)

____________________________________

أو الظرفية أى ضحكا قليلا وبكاء كثيرا أو زمانا قليلا وزمانا كثيرا وإخراجه فى صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به خلا أن المقصود إفادته فى الأول هو وصف القلة فقط وفى الثانى وصف الكثرة مع الموصوف. يروى أن أهل النفاق يبكون فى النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم ويجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء عن الغم وأن تكون القلة عبارة عن العدم والكثرة عن الدوام (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من فنون* المعاصى والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددى ما داموا فى الدنيا وجزاء مفعول له للفعل الثانى أى ليبكوا جزاء أو مصدر حذف ناصبه أى يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء بما كسبوا من المعاصى المذكورة (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) الفاء لتفريع الأمر الآتى على ما بين من أمرهم والفعل من الرجع المتعدى دون الرجوع اللازم أى فإن ردك الله تعالى (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أى إلى المنافقين* من المتخلفين فى المدينة فإن تخلف بعضهم إنما كان لعذر عائق مع الإسلام أو إلى من بقى من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذن البعض. عن قتادة أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه (فَقُلْ) * إخراجا لهم عن ديوان الغزاة وإبعاد المحلهم عن محفل صحبتك (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) من الأعداء وهو إخبار فى معنى النهى للمبالغة وقد وقع كذلك (إِنَّكُمْ) تعليل لما سلف أى لأنكم* (رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ) أى عن الغزو وفرحتم بذلك (أَوَّلَ مَرَّةٍ) هى غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا) الفاء لتفريع* الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر عنهم من الرضا بالقعود أى إذ رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد (مَعَ الْخالِفِينَ) أى المتخلفين الذين ديدنهم القعود والتخلف دائما وقرىء الخلفين على القصر* فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين ولزهم فى قرن الخالفين عقوبة لهم أى عقوبة وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول هى كبرى امرأة أو أولى مرة (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ) صفة لأحد وإنما جىء بصيغة الماضى تنبيها على تحقق الوقوع لا محالة (أَبَداً) متعلق بالنهى أى لا تدع ولا تستغفر لهم أبدا (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أى لا تقف عليه المدفن* أو للزيارة والدعاء. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبى بن سلول بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأتيه فلما دخل عليه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلكك حب اليهود فقال

٨٩

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦)

____________________________________

يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لى لا لتؤنبنى وسأله أن يكفنه فى شعاره الذى بلى جلده ويصلى عليه فلما مات دعاه ابنه وكان مؤمنا صالحا فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له ومراعاة لجانبه وأرسل إليه قميصه فكفن فيه فلما هم بالصلاة أو صلى نزلت. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال لما هلك عبد الله بن أبى ووضعناه ليصلى عليه قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت أتصلى على عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا والقائل يوم كذا كذا وكذا وعددت أيامه الخبيثة فتبسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى عليه ثم مشى معه وقام على حفرته حتى دفن فو الله ما لبث إلا يسيرا حتى نزل ولا تصل الخ فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره وإنما لم ينه عن التكفين بقميصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه* الذى كان ألبسه العباس رضى الله تعالى عنه حين أسر ببدر والخبر مشهور (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تعليل للنهى على معنى أن الاستغفار للميت والوقوف على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيل فى* حقهم لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله مدة حياتهم (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أى متمردون فى الكفر خارجون عن حدوده كما بين من معنى الفسق (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) تكرير لما سبق وتقرير لمضمونه بالإخبار بوقوعه ويجوز أن يكون هذا فى حق فريق غير الفريق الأول وتقديم الأموال فى أمثال هذه المواقع على الأولاد مع كونهم أعز منها إما لعموم مساس الحاجة إليها بحسب الذات وبحسب الأفراد والأوقات فإنها مما لا بد منه لكل أحد من الآباء والأمهات والأولاد فى كل وقت وحين حتى أن من له أولاد ولا مال له فهو وأولاده فى ضيق ونكال وأما الأولاد فإنما يرغب فيهم من بلغ مبلغ الأبوة وإما لأن المال مناط لبقاء النفس والأولاد لبقاء النوع وإما لأنها أقدم فى الوجود من الأولاد* لأن الأجزاء المنوية إنما تحصل من الأغذية كما سيأتى فى سورة الكهف (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) بما متعهم به من* الأموال والأولاد (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) بسبب معاناتهم المشاق ومكابدتهم الشدائد فى شأنها* (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أى فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها والالتهاء عن النظر والتدبر فى العواقب (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) أن مفسرة لما فى الإنزال* من معنى القول والوحى أو مصدرية حذف عنها الجار أى بأن آمنوا (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) لإعزاز دينه* وإعلاء كلمته (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أى ذو والفضل والسعة والقدرة على الجهاد بدنا ومالا* (وَقالُوا) عطف تفسيرى لاستأذنك مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه يعنى القعود (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ)

٩٠

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

____________________________________

أى الذين قعدوا عن الغزو لما بهم من عذر (رَضُوا) استئناف لبيان سوء صنيعهم وعدم امتثالهم لكلا الأمرين وإن لم يردوا الأول صريحا (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مع النساء اللاتى شأنهن القعود* ولزوم البيوت جمع خالفة وقيل الخالفة من لا خير فيه (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يَفْقَهُونَ) * ما فى الإيمان بالله وطاعته فى أوامره ونواهيه واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجهاد من السعادة وما فى أضداد ذلك من الشقاوة (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) بالله وبما جاء من عنده تعالى وفيه إيذان بأنهم ليسوا ٨٨ من الإيمان بالله فى شىء وإن لم يعرضوا عنه صريحا إعراضهم عن الجهاد باستئذانهم فى القعود (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أى إن تخلف هؤلاء عن الغزو فقد نهد إليه ونهض له من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقدا وأقاموا أمر الجهاد بكلا نوعيه كقوله تعالى (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (وَأُولئِكَ) المنعوتون بالنعوت الجليلة (بِأَمْوالِهِمْ) بواسطة نعوتهم المزبورة (الْخَيْراتُ) أى* منافع الدارين النصر والغنيمة فى الدنيا والجنة والكرامة فى العقبى وقيل الحور كقوله عز قائلا (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) وهى جمع خيرة تخفيف خيرة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى الفائزون بالمطلوب لا من حاز* بعضا من الحظوظ الفانية عما قليل وتكرير اسم الإشارة تنويه لشأنهم وربء لمكانهم (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) استئناف لبيان كونهم مفحلين أى هيأ لهم فى الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال* مقدرة من الضمير المجرور والعامل أعد (ذلِكَ) إشارة إلى ما فهم من إعداد الله سبحانه لهم الجنات* المذكورة من نيل الكرامة العظمى (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز وراءه (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) شروع فى بيان أحوال منافقى الأعراب إثر بيان منافقى أهل المدينة والمعذرون من عذر فى الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدو حقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له أو المعتذرون بإدغام التاء فى الذال ونقل حركتها إلى العين وهم المعتذرون بالباطل وقرىء المعذرون من الإعذار وهو الاجتهاد فى العذر والاحتشاد فيه قيل هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالا وإن بنا لجهدا فائذن لنا فى التخلف وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طيىء على أهالينا ومواشينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٩١

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩٢)

____________________________________

سيغنينى الله تعالى عنكم وعن مجاهد نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله سبحانه وعن قتادة اعتذروا بالكذب وقرىء المعذرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم فى العين إدغامها فى الطاء والزاء والصاد فى المطوعين وازكى واصدق وقيل أريد بهم المعتذرون بالصحة وبه فسر المعذرون* والمعذرون أى الذين لم يفرطوا فى العذر (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وهم منافقو الأعراب الذين* لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله فى ادعاء الإيمان والطاعة (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أى من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره (عَذابٌ أَلِيمٌ) بالقتل والأسر فى الدنيا والنار فى الآخرة (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) كالهرمى والزمنى (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) لفقرهم كمزينة وجهينة وبنى عذرة (حَرَجٌ) إثم فى التخلف (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وهو عبارة عن الإيمان بهما والطاعة لهما فى السر والعلن وتوليهما فى السراء والضراء والحب فيهما والبغض* فيهما كما يفعل المولى الناصح بصاحبه (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) استئناف مقرر لمضمون ما سبق أى ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل ومن مزيدة للتأكيد ووضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انتظامهم بنصحهم لله ورسوله فى سلك المحسنين أو تعليل لنفى الحرج عنهم أى ما على جنس المحسنين من* سبيل وهم من جملتهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة وإن كان تخلفهم بعذر (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) عطف على (الْمُحْسِنِينَ) كما يؤذن به قوله عزوجل فيما سيأتى (إِنَّمَا السَّبِيلُ) الآية وقيل عطف على (الضُّعَفاءِ) وهم البكاءون سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر ابن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل وعلبة بن زيد أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أجد فتولوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقر معقل وسويد ونعمان وقيل أبو موسى الأشعرى وأصحابه رضى* الله تعالى عنهم (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) حال من الكاف فى أتوك بإضمار قد وما عامة لما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره مما يحمل عليه عادة وفى إيثار لا أجد على ليس عندى من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين* ما لا يخفى كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده (تَوَلَّوْا) جواب إذا (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) أى* تسيل بشدة (مِنَ الدَّمْعِ) أى دمعا فإن من البيانية مع مجرورها فى حيز النصب على التمييز وهو أبلغ من* يفيض دمعها لإفادتها أن العين بعينها صارت دمعا فياضا والجملة حالية وقوله عز اسمه (حَزَناً) نصب على العلية أو الحالية أو المصدرية لفعل دل عليه ما قبله أى تفيض للحزن فإن الحزن يسند إلى العين مجازا

٩٢

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٤)

____________________________________

كالفيض أو تولوا له أو حزنين أو يحزنون حزنا فتكون هذه الجملة حالا من الضمير فى تفيض (أَلَّا يَجِدُوا) * على حذف لام متعلقة بحزنا أو تفيض أى لئلا يجدوا (ما يُنْفِقُونَ) فى شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه* عندك (إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) فى التخلف (وَهُمْ أَغْنِياءُ) واجدون لأهبة الغزو ٩٣ مع سلامتهم (رَضُوا) استئناف تعليلى لما سبق كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) الذين شأنهم الضعة والدناءة (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أى خذلهم فغفلوا عن وخامة* العاقبة (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يَعْلَمُونَ) أبدا غائلة ما رضوا به وما يستتبعه آجلا كما لم يعلموا بخساسة شأنه* عاجلا (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) استئناف لبيان ما يتصدون له عند القفول إليهم. روى أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلا فلما رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم جاءوا يعتذرون إليه بالباطل والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضا لا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط أى يعتذرون إليكم فى التخلف (إِذا رَجَعْتُمْ) من الغزو* منتهين (إِلَيْهِمْ) وإنما لم يقل إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى* المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها (قُلْ) تخصيص هذا الخطاب برسول الله* صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تعميمه فيما سبق لأصحابه أيضا لما أن الجواب وظيفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما اعتذارهم فكان شاملا للمسلمين شمول الرجوع لهم (لا تَعْتَذِرُوا) أى لا تفعلوا الاعتذار كقوله تعالى (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أولا* تعتذروا بما عندكم من المعاذير وأما التعرض لعنوان كذبها فلا يساعده قوله تعالى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أى* لن نصدقكم فى ذلك أبدا فإنه استئناف تعليلى للنهى مبنى على سؤال نشأ من قبلهم متفرع على ادعاء الصدق فى الاعتذار كأنهم قالوا لم لا نعتذر فقيل لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون عبثا إذ لا يترتب عليه غرض المعتذر وقوله عزوجل (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) تعليل لانتفاء التصديق أى أعلمنا بالوحى بعض* أخباركم المنافية للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه فى ضمائركم وهيأتموه للإبراز فى معرض الاعتذار من الأكاذيب وجمع ضمير المتكلم فى الموضعين للمبالغة فى حسم أطماعهم من التصديق رأسا ببيان عدم رواج اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم فى تصديق الرسول أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة المصدقين وللإيذان بأن افتضاحهم بين المؤمنين كافة (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) * فيما سيأتى أتنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون وكأنه استتابة وإمهال للتوبة وتقديم مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى (وَرَسُولُهُ) للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما* وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عزوجل بأعمالهم (ثُمَّ تُرَدُّونَ) يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) *

٩٣

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩٦)

____________________________________

للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضع المظهر موضع المضمر لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه وتعالى* بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم (فَيُنَبِّئُكُمْ) * عند ردكم إليه ووقوفكم بين يديه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى بما كنتم تعملونه فى الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن ما موصولة والعائد إليها محذوف أو بعملكم المستمر على أنها مصدرية والمراد بالتنبئة بذلك المجازاة به وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) الخ فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين فى الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة وتقريرا لها والسين للتأكيد والمحلوف عليه* محذوف يدل عليه الكلام وهو ما اعتذروا به من الأكاذيب والجملة بدل من يعتذرون أو بيان له (إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أى انصرفتم من الغزو (إِلَيْهِمْ) ومعنى الانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء وفائدة تقييد حلفهم به الإيذان بأنه ليس لدفع ما خاطبهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من قوله تعالى* (لا تَعْتَذِرُوا) الخ بل هو أمر مبتدأ (لِتُعْرِضُوا) وتصفحوا (عَنْهُمْ) صفح رضا فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم* كما يفصح عنه قوله تعالى (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) لكن لا إعراض رضا كما هو طلبتهم بل إعراض اجتناب ومقت كما يعرب عنه قوله عزوجل (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) فإنه صريح فى أن المراد بالإعراض عنهم إما الاجتناب عنهم لما فيهم من الرجس الروحانى وإما ترك استصلاحهم بترك المعاتبة لأن المقصود بها* التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فلا يتعرض لهم بها وقوله عز وعلا (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعى الاجتناب عنهم وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أى وكفتهم النار عتابا وتوبيخا فلا تتكلفوا أنتم فى ذلك* (جَزاءً) نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أى يجزون جزاء أو لمضمون الجملة* السابقة فإنها مفيدة لمعنى المجازاة قطعا كأنه قيل مجزيون جزاء (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فى الدنيا من فنون السيئات أو على أنه مفعول له (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) بدل مما سبق وعدم ذكر المحلوف به لظهوره أى يحلفون* به تعالى (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) حسبما راموا* وساعدتموهم فى ذلك (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أى فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم عند سخطه سبحانه ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم فى ذلك والمراد به نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى

٩٤

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩٨)

____________________________________

عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين من دواعى رضا الله تعالى. قيل هم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين منافقا فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين حين قدم المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقيل جاء عبد الله بن أبى يحلف أن لا يتخلف عنه أبدا (الْأَعْرابُ) هى صيغة جمع وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد فإن العرب هو هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادى أم القرى وأما الأعراب فلا يطلق إلا على من يسكن البوادى ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابى وقال أهل اللغة رجل عربى وجمعه العرب كما يقال مجوسى ويهودى ثم يحذف ياء النسب فى الجمع فيقال المجوس واليهود ورجل أعرابى ويجمع على الأعراب والأعاريب أى أصحاب البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر لجفائهم وقسوة قلوبهم* وتوحشهم ونشئهم فى معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما فى قوله تعالى (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) إذ ليس كلهم كما ذكر على ما ستحيط به خبرا (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا) أى أحق وأخلق بأن لا يعلموا (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) لبعدهم عن مجلسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم* وحرمانهم من مشاهدة معجزاته ومعاينة ما ينزل عليه من الشرائع فى تضاعيف الكتاب والسنة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال كل من أهل الوبر والمدر (حَكِيمٌ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب* (وَمِنَ الْأَعْرابِ) شروع فى بيان تشعب جنس الأعراب إلى فريقين وعدم انحصارهم فى الفريق المذكور كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم وشرح لبعض مثالب هؤلاء المتفرعة على الكفر والنفاق بعد بيان تماديهم فيهما وحمل الأعراب على الفريق المذكور خاصة وإن ساعده كون من يحكى حاله بعضا منهم وهم الذين بصدد الإنفاق من أهل النفاق دون فقرائهم أو أعراب أسد وغطفان وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتى من قوله تعالى (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ) الخ فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعا وإنما هم من الجنس أى ومن جنس الأعراب الذى نعت بنعت بعض أفراده (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) من المال* أى يعد ما يصرفه فى سبيل الله ويتصدق به صورة (مَغْرَماً) أى غرامة وخسرانا لازما إذ لا ينفقه* احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون له مغنما وإنما ينفقه رياء وتقية فهى غرامة محضة وما فى صيغة الاتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعنى كونها غرامة (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أصل الدائرة ما يحيط بالشىء والمراد بها ما لا*

٩٥

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

____________________________________

محيص عنه من مصائب الدهر أى ينتظر بكم دوائر الدهر ونوبه ودوله ليذهب غلبتكم عليه فليتخلص مما* ابتلى به (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) بعد قول اليهود ما قالوا والسوء مصدر ثم أطلق على كل ضر وشر وأضيفت إليه الدائرة ذما كما يقال رجل سوء لأن من دارت عليه يذمها وهى من باب إضافة الموصوف إلى صفته فوصفت فى الأصل بالمصدر مبالغة ثم أضيفت إلى صفتها كقوله عزوجل (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) وقيل معنى الدائرة يقتضى معنى السوء فإنما هى إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه وقرىء بالضم وهو* العذاب كما قيل له سيئة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه (عَلِيمٌ) بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التى من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَمِنَ الْأَعْرابِ) * أى من جنسهم على الإطلاق (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ) أى يأخذ لنفسه على وجه الإصطفاء* والادخار (ما يُنْفِقُ) أى ينفقه فى سبيل الله تعالى (قُرُباتٍ) أى ذرائع إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاص جعل كأنه نفس القربات والجمع باعتبار أنواع القربات أو أفرادها وهى ثانى مفعولى يتخذ* وقوله تعالى (عِنْدَ اللهِ) صفتها أو ظرف ليتخذ (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أى وسائل إليها فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ولذلك سن للمصدق أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلى عليه كما فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال اللهم صل على آل أبى أو فى فإن ذلك منصبه فله أن يتفضل به على من يشاء والتعرض لوصف الإيمان بالله واليوم الآخر فى الفريق الأخير مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين فى شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه ذريعة إلى القربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقيق الفرق بين الفريقين من أول الأمر وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق* النظم الكريم صريحا (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم والضمير لما ينفق والتأنيث باعتبار الخبر مع ما مر من تعدده بأحد الوجهين والتنكير للتفخيم المغنى عن الجمع أى قربة عظيمة لا يكتنه كنهها وفى إيراد الجملة اسمية وتصديرها بحرفى التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول من* ذرائعها وقوله تعالى (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة بهم وتفسير للقربة كما أن قوله عز وعلا (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد للأولين عقيب الدعاء عليهم والسين للدلالة على تحقق ذلك وتقرره* البتة وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لتحقق الوعد على نهج الاستئناف التحقيقى قيل هذا فى عبد الله ذى البجادين وقومه وقيل فى بنى مقرن من مزينة وقيل فى أسلم وغفار وجهينة وروى أبو هريرة

٩٦

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

____________________________________

رضى الله عنه أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم وغفار وشىء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان فضيلة طائفة منهم والمراد بهم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين أسلموا قبل الهجرة (وَالْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا* سبعين رجلا والذى آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وقرىء بالرفع عطفا على والسابقون (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أى ملتبسين به والمراد به كل خصلة حسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين* على أن من تبعيضية أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار ومن بيانية (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) خبر للمبتدأ أى رضى الله عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم* (وَرَضُوا عَنْهُ) بما نالوه من رضاه المستتبع لجميع المطالب طرا (وَأَعَدَّ لَهُمْ) فى الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وقرىء من تحتها كما فى سائر المواقع (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) من غير انتهاء (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى* لا فوز وراءه وما فى اسم الإشارة من معنى البعد لبيان بعد منزلتهم فى مراتب الفضل وعظم الدرجة من مؤمنى الأعراب (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) شروع فى بيان أحوال منافقى أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أى ممن حول بلدتكم (مُنافِقُونَ) وهم جهينة ومزينة وأسلم* وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على ممن حولكم عطف مفرد على مفرد* وقوله تعالى (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم فى النفاق* إثر بيان اتصافهم به وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه بما عطف على خبره وإن صفة لمحذوف أقيمت هى مقامه وهو مبتدأ خبره من أهل المدينة كما فى قوله [أنا ابن جلا وطلاع الثنايا] والجملة عطف على الجملة السابقة أى ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق أى تمهروا فيه من مرن فلان على عمله ومرد عليه إذا درب به وضرى حتى لان عليه ومهر فيه غير أن مرد لا يكاد يستعمل إلا فى الشر فالتمرد على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقى أهل المدينة وهو الأظهر والأنسب بذكر منافقى أهل البادية أولا ثم ذكر منافقى الأعراب المجاورين للمدينة ثم ذكر منافقى أهلها والله تعالى أعلم وقوله عز شأنه (لا تَعْلَمُهُمْ) بيان لتمردهم أى لا تعرفهم أنت لكن لا بأعيانهم* وأسمائهم وأنسابهم بل بعنوان نفاقهم يعنى أنهم بلغوا من المهارة فى النفاق والتنوق فى مراعاة التقية

٩٧

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢)

____________________________________

والتحامى عن مواقع التهم إلى مبلغ يخفى عليك حالهم مع ما أنت عليه من علو الكعب وسمو الطبقة فى كمال الفطنة وصدق الفراسة وفى تعليق نفى العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة فى ذلك وإيماء إلى أن ما هم فيه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم وحمل عدم علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعيانهم على عدم علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مجىء هذا البيان على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن فيهم منافقين لكن لا يعلمهم بأعيانهم مع كونه خلاف الظاهر عار عما ذكر من المبالغة وقوله عزوجل (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) تقرير لما سبق من مهارتهم فى فن النفاق أى لا يقف على سرائرهم المركوزة فى ضمائرهم إلا من لا تخفى عليه خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص وفى تعليق العلم* بهم مع أن المقصود بيان تعلقه بحالهم ما مر فى تعليق نفيه بهم وقوله عز شأنه (سَنُعَذِّبُهُمْ) وعيد لهم وتحقيق* لعذابهم حسبما علم الله فيهم من موجباته والسين للتأكيد (مَرَّتَيْنِ) عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا يوم الجمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج ناسا وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثانى إما القتل وإما عذاب القبر أو الأول هو القتل والثانى عذاب القبر أو الأول أخذ الزكاة لما أنهم يعدونها مغرما بحتا والثانى نهك الأبدان وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه ويجوز* أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير كما فى قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرة بعد أخرى (ثُمَّ يُرَدُّونَ) يوم القيامة (إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو عذاب النار وفى تغيير السبك بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب إسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالا وأن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه سبحانه وتعالى والثانى شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم (وَآخَرُونَ) بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم فى أمور الدين* وهو عطف على (مُنافِقُونَ) أى ومنهم يعنى وممن حولكم ومن أهل المدينة قوم آخرون (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) التى هى تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين وندموا على ذلك ولم يعتدروا بالمعاذير الكاذبة ولم يخفوا ما صدر عنهم من الأعمال السيئة كما فعله من اعتاد إخفاء ما فيه وإبراز ما ينافيه من المنافقين الذين اعتذروا بما لا خير فيه من المعاذير المؤكدة بالأيمان الفاجرة حسب ديدنهم المألوف وهم رهط من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد عند ما بلغهم ما نزل فى المتخلفين فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين حسب عادته الكريمة ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقيل إنهم أقسموا* أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحة والخروج إلى المغازى السابقة وغيرها وما لحق من

٩٨

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

____________________________________

الاعتراف بذنوبهم فى التخلف عن هذه المرة وتذممهم وندامتهم على ذلك وتخصيصه بالاعتراف لا يناسب الخلط لا سيما على وجه يؤذن بتوارد المختلطين وكون كل منهما مخلوطا ومخلوطا به كما يؤذن به تبديل الواو بالباء فى قوله تعالى (وَآخَرَ سَيِّئاً) فإن قولك خلطت الماء باللبن يقتضى إيراد الماء على اللبن دون* العكس وقولك خلطت الماء واللبن معناه إيقاع الخلط بينهما من غير دلالة على اختصاص أحدهما بكونه مخلوطا به وترك تلك الدلالة للدلالة على جعل كل منهما متصفا بالوصفين جميعا وذلك فيما نحن فيه بورود كل من العملين على الآخر مرة بعد أخرى والمراد بالعمل السيىء ما صدر عنهم من الأعمال السيئة أولا وآخرا وعن الكلبى التوبة والإثم وقيل الواو بمعنى الباء كما فى قولهم بعت الشاء شاة ودهما بمعنى شاة بدرهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أى يقبل توبتهم المفهومة من اعترافهم بذنوبهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز* عن سيئات التائب ويتفضل عليه وهو تعليل لما تفيده كلمة عسى من وجوب القبول فإنها للأطماع الذى هو من أكرم الأكرمين إيجاب وأى إيجاب (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) روى أنهم لما أطلقوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التى خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت فليست هى الصدقة المفروضة لكونها مأمورا بها ولما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ منهم الثلث وترك لهم الثلثين فوقع ذلك بيانا لما فى صدقة من الإجمال وإنما هى كفارة لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قوله عزوجل (تُطَهِّرُهُمْ) * أى عما تلطخوا به من أوضار التخلف والتاء للخطاب والفعل مجزرم على أنه جواب للأمر وقرىء بالرفع على أنه حال من ضمير المخاطب فى خذ أو صفة لصدقة والتاء للخطاب أو للصدقة والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده وقرىء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) بإثبات الياء وهو خبر لمبتدأ* محذوف والجملة حال من الضمير فى الأمر أو فى جوابه أى وأنت تزكيهم بها أى تنمى بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين أو أموالهم أو تبالغ فى تطهيرهم هذا على قراءة الجزم فى تطهرهم وأما على قراءة الرفع فسواء جعلت التاء للخطاب أو للصدقة وكذا إذا جعلت الجملة الأولى حالا من ضمير المخاطب أو صفة للصدقة على الوجهين فالثانية عطف على الأولى حالا وصفة من غير حاجة إلى تقدير المبتدأ لتوجيه دخول الواو فى الجملة الحالية (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أى واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم (إِنَّ صَلاتَكَ) وقرىء صلواتك مراعاة لتعدد المدعو لهم (سَكَنٌ لَهُمْ) تسكن نفوسهم إليها وتطمئن قلوبهم* بها ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتهم والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع ما صدر* عنهم من الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء (عَلِيمٌ) بما فى ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم ومن الإخلاص فى التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين محقق لما فيهما.

٩٩

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

____________________________________

 (أَلَمْ يَعْلَمُوا) وقرىء بالتاء والضمير إما للتائبين فهو تحقيق لما سبق من قبول توبتهم وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم وتقرير لذلك وتوطين لقلوبهم ببيان أن المتولى لقبول توبتهم وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه وإن أسند* الأخذ والتطهير والتزكية إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى ألم يعلم أولئك التائبون (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) الصحيحة الخالصة* (عَنْ عِبادِهِ) المخلصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يفصح عنه كلمة عن والمراد بهم إما أولئك التائبون ووضع المظهر فى موضع المضمر للإشعار بعلية العبادة لقبولها وإما كافة العباد وهم داخلون فى ذلك دخولا أوليا* (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أى يقبل صدقاتهم على أن اللام عوض عن المضاف إليه أو جنس الصدقات المندرج تحته صدقاتهم اندراجا أوليا أى هو الذى يتولى قبول التوبة وأخذ الصدقات وما يتعلق بها من التطهير والتزكية وإن كنت أنت المباشر لها ظاهرا وفيه من تقرير ما ذكر ورفع شأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نهج قوله تعالى* (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ما لا يخفى (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أى ألم يعلموا أنه المختص المستأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وأن ذلك سنة مستمرة له وشأن دائم والجملتان فى حيز النصب بيعلموا بسد كل واحدة منهما مسد مفعوليه وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روى أنهم قالوا لما تيب على الأولين هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت أى ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعية إلى التكرمة والتقريب والانتظام فى سلك المؤمنين والتلقى بحسن القبول والمجالسة فهو ترغيب لهم فى التوبة والصدقة وقوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا) زيادة ترغيب لهم فى العمل الصالح الذى من جملته التوبة وللأولين فى الثبات على ما هم عليه أى قل لهم بعد ما بان لهم شأن التوبة اعملوا ما تشاؤن من الأعمال فظاهره* ترخيص وتخيير وباطنه ترغيب وترهيب وقوله عزوجل (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) أى خيرا كان أو شرا* تعليل لما قبله وتأكيد للترغيب والترهيب والسين للتأكيد (وَرَسُولُهُ) عطف على الاسم الجليل وتأخيره* عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت (وَالْمُؤْمِنُونَ) فى الخبر لو أن رجلا عمل فى صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان والمعنى إن أعمالكم غير خافية عليهم كما رأيتم وتبين لكم ثم إن كان المراد بالرؤية معناها الحقيقى فالأمر ظاهر وإن أريد بها مآلها من الجزاء خيرا أو شرا فهو خاص بالدنيوى من إظهار المدح والثناء والذكر الجميل والإعزاز ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها* (وَسَتُرَدُّونَ) أى بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فى وضع الظاهر موضع المضمر من تهويل

١٠٠