تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧)

____________________________________

الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى ووجه تقديم الغيب فى الذكر لسعة عالمه وزيادة خطره على الشهادة غنى عن البيان وقيل إن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة والعلم بالعلل علة للعلم بالمعلولات فوجب سبق العلم بالغيب على العلم بالشهادة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما الغيب ما يسرونه من الأعمال والشهادة ما يظهرونه كقوله تعالى (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فالتقديم حينئذ لتحقيق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده لا لإيهام أن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شىء وتحققه فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة وإما للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه القريبة أو البعيدة مضمر قبل ذلك فى القلب فتعلق علمه تعالى به فى حالته الأولى متقدم على تعلقه به فى حالته الثانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) عقيب الرد الذى هو عبارة عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قبل* ذلك فى الدنيا والمراد بالتنبئة بذلك الجزاء بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فهو وعد ووعيد (وَآخَرُونَ) عطف على (آخَرُونَ) قبله أى ومن المتخلفين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قوم آخرون غير المعترفين المذكورين (مُرْجَوْنَ) وقرىء مرجئون من أرجيته وأرجأته أى أخرته ومنه المرجئة الذين* لا يقطعون بقبول التوبة (لِأَمْرِ اللهِ) فى شأنهم. قال ابن عباس رضى الله عنهما هم كعب بن مالك ومرارة* ابن الربيع وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السوارى وإظهار الغم والجزع والندم على ما فعلوا فوقفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهى أصحابه عن أن يسلموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم والناس فى شأنهم على اختلاف فمن قائل هلكوا وقائل عسى الله أن يغفر لهم فصاروا عندهم مرجئين لأمره تعالى (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على ما هم عليه* من الحال وقيل إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن خلصت نيتهم وصحت توبتهم والجملة فى محل النصب على الحالية أى منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم وقيل آخرون مبتدأ ومرجون صفته وهذه الجملة خبره (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) * فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقرىء والله غفور رحيم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على ما سبق أى ومنهم الذين أو نصب على الذم وقرىء بغيروا ولأنها قصة على حيالها (ضِراراً) أى مضارة للمؤمنين* وانتصابه على أنه مفعول له أو مفعول ثان لا تخذوا أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر منصوب على الحالية أى يضارون بذلك ضرارا أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل وقع حالا من ضمير اتخذوا أى مضارين

١٠١

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

____________________________________

للمؤمنين. روى أن بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم فيصلى بهم فى مسجدهم فلما فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدتهم إخواتهم بنو اغنم بن عوف وقالوا نبنى مسجدا ونرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى فيه ويصلى فيه أبو عامر الراهب أيضا إذا قدم من الشام وهو الذى سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاسق وقد كان قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإنى ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه فلما قفل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدى وعامر بن السكن ووحشى فقال لهم انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا* وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة وهلك أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين (وَكُفْراً) * تقوية للكفر الذى يضمرونه (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين كانوا يصلون فى مسجد قباء مجتمعين فيغص بهم* فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم (وَإِرْصاداً) إعدادا وانتظارا وترقبا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) * وهو الراهب الفاسق أى لأجله حتى يجىء فيصلى فيه ويظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ قَبْلُ) متعلق باتخذوا أى اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك أو يحارب أى حاربهما* قبل اتخاذ هذا المسجد (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) أى ما أردنا ببناء هذا المسجد (إِلَّا الْحُسْنى) إلا الخصلة الحسنى* وهى الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين أو إلا الإرادة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فى حلفهم ذلك (لا تَقُمْ) للصلاة (فِيهِ) فى ذلك المسجد حسبما دعوك إليه (أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ) أى بنى أصله* (عَلَى التَّقْوى) يعنى مسجد قباء أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهى يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة وقيل هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وعن أبى سعيد رضى الله عنه سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الذى أسس على التقوى فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال مسجدكم هذا مسجد المدينة واللام إما للابتداء أو للقسم المحذوف أى والله لمسجد وعلى التقديرين* فمسجد مبتدأ وما بعده صفته وقوله تعالى (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أى من أيام تأسيسه متعلق بأسس وقوله تعالى* (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أى للصلاة وذكر الله تعالى خبره وقوله تعالى (فِيهِ رِجالٌ) جملة مستأنفة مبينة لأحقيته لقيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه من جهة الحال بعد بيان أحقيته له من حيث المحل أو صفة أخرى للمبتدأ أو حال من الضمير فى فيه وعلى كل حال ففيه تحقيق وتقرير لاستحقاقه القيام فيه والمراد بكونه أحق نفس

١٠٢

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩)

____________________________________

كونه حقيقا به إذ لا استحقاق فى مسجد الضرار رأسا وإنما عبر عنه بصيغة التفضيل لفضله وكماله فى نفسه أو الأفضلية فى الاستحقاق المتناول لما يكون باعتبار زعم البانى ومن يشايعه فى الاعتقاد وهو الأنسب بما سيأتى (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من المعاصى والخصال الذميمة لمرضاة الله سبحانه وقيل من الجنابة* فلا ينامون عليها (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أى يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه. قيل لما* نزلت مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أَمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر رضى الله تعالى عنه يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأما معهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أترضون بالقضاء قالوا نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون فى الرخاء قالوا نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنون ورب الكعبة فجلس ثم قال يا معشر الأنصار إن الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الذى تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه رجال يحبون أن يتطهروا وقرىء أن يطهروا بالإدغام وقيل هو عام فى التطهر عن النجاسات كلها وكانوا يتبعون الماء أثر البول وعن الحسن رضى الله عنه هو التطهر عن الذنوب بالتوبة وقيل يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) على بناء الفعل للفاعل والنصب وقرىء على البناء للمفعول والرفع وقرىء أسس بنيانه على الإضافة جمع أساس وأساس بالفتح والكسر جمع أس وقرىء أساس بنيانه جمع أس أيضا وأس بنيانه وهى جملة مستأنفة مبينة لخيرية الرجال المذكورين من أهل مسجد الضرار والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر أى أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) أى على قاعدة محكمة هى التقوى من الله وابتغاء* مرضاته بالطاعة والمراد بالتقوى درجتها الثانية التى هى التوقى عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وقرىء تقوى بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) ترك الإضمار للإيذان* باختلاف البنيانين ذاتا مع اختلافهما وصفا وإضافة (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) الشفا الحرف والشفير* والجرف ما جرفه السيل أى استأصله واحتفر ما تحته فبقى واهيا يريد الإنهدام والهار الهائر المتصدع المشرف إلى السقوط من هار يهور ويهار أو هار يهير قدمت لامه على عينه فصار كغاز ورام وقيل حذفت عينه اعتباطا أى بغير موجب فجرى وجوه الإعراب على لامه (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) مثل* ما بنوا عليه أمر دينهم فى البطلان وسرعة الانطماس بما ذكر ثم رشح بانهياره فى النار ووضع بمقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياته التى أدناها الجنة وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع فى النار ساعة فساعة ثم مصيرهم إليها لا محالة وقرىء جرف بسكون الراء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى لأنفسهم أو الواضعين للأشياء فى غير مواضعها*

١٠٣

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

____________________________________

أى لا يرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم إرشادا موجبا له لا محالة وأما الدلالة على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحقق بلا اشتباه (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) البنيان مصدر أريد به المفعول ووصفه بالموصول الذى صلته فعله للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على أوهن قاعدة وأوهى أساس وللإشعار* بعلة الحكم أى لا يزال مسجدهم ذلك مبنيا ومهدوما (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أى سبب ريبة وشك فى الدين كأنه نفس الريبة أما حال بنيانه فظاهر لما أن اعتزالهم من المؤمنين واجتماعهم فى مجمع على حياله يظهرون فيه ما فى قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون فيه أمورهم ويتشاورن فى ذلك ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا فى الدين وأما حال هدمه فلما أنه رسخ به ما كان فى قلوبهم من الشر وتضاعفت آثاره وأحكامه أو سبب ريبة فى أمرهم حيث ضعفت قلوبهم ووهى اعتقادهم بخفاء أمرهم على المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناء أكثر مما كانوا يظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطهم بالمؤمنين وساءت ظنونهم بأنفسهم فلما هدم بنيانهم تضاعف ذلك الضعف وتقوى وصاروا مرتابين فى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم وقال الكلبى معنى ريبة حسرة وندامة وقال السدى وحبيب والمبرد لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا فى قلوبهم* (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ) من التفعل بحذف إحدى التاءين أى إلا أن تتقطع (قُلُوبِهِمْ) قطعا وتتفرق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابلية إداك وإضمار قطعا وهو استثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال ومحله النصب على الظرفية أى لا يزال بنيانهم ريبة فى كل الأوقات أو كل الأحوال إلا وقت تقطع قلوبهم أو حال تقطع قلوبهم فحينئذ يسلون عنها وأما ما دامت سالمة فالريبة باقية فيها فهو تصوير لامتناع زوال الريبة عن قلوبهم ويجوز أن يكون المراد حقيقة تقطعها عند قتلهم أو فى القبور أو فى النار وقرىء تقطع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل وقرىء على البناء للمجهول من الثلاثى مذكرا ومؤنثا وقرىء إلى أن تقطع قلوبهم وإلى أن تقطع قلوبهم على الخطاب وقرىء ولو قطعت قلوبهم على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم ولو قطعت قلوبهم على الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب وقيل إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم* (وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء التى من جملتها ما ذكر من أحوالهم (حَكِيمٌ) فى جميع أفعاله التى من زمرتها أمره الوارد فى حقهم (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) ترغيب المؤمنين فى الجهاد ببيان

١٠٤

فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه ولقد بولغ فى ذلك على وجه لا مزيد عليه حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التى بذلوها فى سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل المبيع الذى هو العمدة والمقصد فى العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذى هو الوسيلة فى الصفقة الجنة ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد فى العقد هو الجنة وما بذله المؤمنون فى مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) مبالغة فى* تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم وبذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى وأن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء حقيقة لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها فليس بشىء لأن مناط دلالة ما عليه النظم الكريم على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التى يستحيل وجودها فى الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوض الجنة الموعود بها لا الوعد بها (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) استئناف لكن لا لبيان ما لأجله الشراء ولا لبيان* نفس الاشتراء لأن قتالهم فى سبيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بل هو بذل لهما فى ذلك بل لبيان البيع الذى يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة فقيل يقاتلون فى سبيل الله وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريض لهما للهلاك وقوله تعالى (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بيان لكون القتال فى سبيل الله بذلا للنفس وأن المقاتل فى* سبيله باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد فى الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجدت المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين أو لم توجد المضاربة أيضا فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما فى كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس وقرىء بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة فى الباب وإيذانا بعدم مبالاتهم بالموت فى سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قيل فى حقهم[لا يفرحون إذا نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا] * [لا يقطع الطعن إلا فى نحورهم * وما لهم عن حياض الموت تهليل] وقيل فى يقاتلون الخ معنى الأمر كما فى قوله تعالى (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (وَعْداً عَلَيْهِ) مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا (حَقًّا) نعت لوعدا* والظرف حال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له وقوله تعالى (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) متعلق بمحذوف* وقع صفة لوعدا أى وعدا مثبتا فى التوراة والإنجيل كما هو مثبت فى القرآن (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) * اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد على نهج المبالغة فى كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل واف

١٠٥

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

____________________________________

فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره عنهم فكيف بجناب الخلاق الغنى عن العالمين جل جلاله وسبك التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحد أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها لكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها قطعا فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل* (فَاسْتَبْشِرُوا) التفات إلى الخطاب تشريفا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور والاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله أى* فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة وإنما قيل (بِبَيْعِكُمُ) مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم فى الجهاد الذى عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم* وقوله تعالى (الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات فإنه بيع للفانى بالباقى ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى. عن الحسن رضى الله عنه أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. روى أن الأنصار لما بايعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العقبة قال عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه اشترط لربك ولنفسك ماشئت قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم قال فإذا فعلنا ذلك فمالنا قال لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيله ومر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابى وهو يقرؤها قال كلام من قال كلام الله عزوجل قال بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله* فخرج إلى الغزو واستشهد (وَذلِكَ) أى الجنة التى جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز أعظم منه وما فى ذلك من معنى البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته فى الكمال ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذى أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزا فى نفسه فالجملة على الأول تذييل للآية الكريمة وعلى الثانى لقوله تعالى (فَاسْتَبْشِرُوا) مقرر لمضمونه (التَّائِبُونَ) رفع على المدح أى هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءة بالياء نصبا على المدح ويجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمؤمنين وقد جوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف أى التائبون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ويجوز* أن يكون خبره قوله تعالى (الْعابِدُونَ) وما بعده خبر بعد خبر أى التائبون من الكفر على الحقيقة هم* الجامعون لهذه النعوت الفاضلة أى المخلصون فى عبادة الله تعالى (الْحامِدُونَ) لنعمائه أو لما نابهم من السراء* والضراء (السَّائِحُونَ) الصائمون لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة أمتى الصوم شبه بها لأنه عائق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت وقيل هم السائحون فى الجهاد وطلب

١٠٦

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

____________________________________

العلم (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فى الصلاة (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالطاعة والإيمان (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصى والعطف فيه للدلالة على أن المتعاطفين بمنزلة خصلة واحدة وأما قوله تعالى (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أى فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع عملا وحملا للناس عليه فلئلا يتوهم* اختصاصه بأحد الوجهين (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أى الموصوفين بالنعوت المذكورة ووضع المؤمنين موضع* ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للإيذان بخروجه عن حد البيان وفى تخصيص الخطاب بالأولين إظهار زيادة اعتناء بأمرهم من الترغيب والتسلية (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله وحده أى ما صح لهم فى حكم الله عزوجل وحكمته وما استقام (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) به سبحانه (وَلَوْ كانُوا) أى المشركون (أُولِي قُرْبى) أى ذوى قرابة لهم* وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا كما بين فى قوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ونظائره. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمه أبى طالب لما حضرته الوفاة يا عم قل كلمة أحاج لك بها عند الله فأبى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال إنى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى واستأذنته فى الاستغفار لها فلم يأذن لى وأنزل على الآيتين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ) أى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَنَّهُمْ) * أى المشركين (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحى بأنهم يموتون على ذلك (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) أى بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) والجملة استئناف مسوق لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة وقرىء وما استغفر إبراهيم لأبيه وقرىء وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال الماضية وقوله تعالى (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) استثناء مفرغ من أعم العلل أى لم يكن استغفاره عليه‌السلام لأبيه آزر ناشئا عن شىء من الأشياء إلا عن موعدة (وَعَدَها) إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إِيَّاهُ) أى أباه وقد قرىء كذلك بقوله* (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) وقوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) بناء على رجاء إيمانه لعدم تبين حقيقة أمره وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة مبينة على عدم تبين أمره كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أى لإبراهيم بأن أوحى إليه أنه مصر على الكفر غير مؤمن أبدا وقيل بأن مات على* الكفر والأول هو الأنسب بقوله تعالى (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) فإن وصفه بالعداوة مما يأباه حالة الموت (تَبَرَّأَ

١٠٧

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

____________________________________

مِنْهُ) أى تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب وفيه من المبالغة ما ليس فى تركه ونظائره (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) لكثير التأوه وهو كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب (حَلِيمٌ) صبور على الأذية والمحنة وهو استئناف لبيان ما كان يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار وفيه إيذان بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أواها حليما فلذلك صدر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبين فليس لغيره أن يأتسى به فى ذلك وتأكيد لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو فى كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا وأما أن الاستغفار قبل التبين لو كان غير محظور لما استثنى من الائتساء به فى قوله تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فقد حقق فى سورة مريم بإذن الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أى ليس من عادته أن يصفهم بالضلال* عن طريق الحق ويجرى عليهم أحكامه (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) بالوحى صريحا أو* دلالة (ما يَتَّقُونَ) أى ما يجب اتقاؤه من محظورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدر عنهم ضلالا ولا يؤاخذون به فكأنه تسلية الذين استغفروا للمشركين قبل ذلك* وفيه دليل على أن الغافل غير مكلف بما لا يستبد بمعرفته العقل (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما سبق أى إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التى من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل فى معرفته فيبين لهم ذلك كما فعل ههنا (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من غير شريك له فيه (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لما منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولى قربى وضمن ذلك التبرؤ منهم رأسا بين لهم أن الله تعالى مالك كل موجود ومتولى أموره والغالب عليه ولا يتأتى لهم نصر ولا ولاية إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشرا شرهم متبرئين عما سواه غير قاصدين إلا إياه (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) قال ابن عباس رضى الله عنهما هو العفو عن إذنه للمنافقين فى التخلف عنه (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) قيل هو فى حق زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين وقيل المراد بيان فضل التوبة وأنه ما من مؤمن* إلا وهو محتاج إليها حتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صدر عنه فى بعض الأحوال من ترك الأولى (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ولم* يتخلفوا عنه ولم يخلوا بأمر من أوامره (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أى فى وقتها والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وهى حالهم فى غزوة تبوك كانوا فى عسرة من الظهر يعتقب عشرة على بعير واحد ومن الزاد تزودوا

١٠٨

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨)

____________________________________

التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء المتغير وفى عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفى شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة ووصف المهاجرين والأنصار بما ذكر من اتباعهم له عليه الصلاة والسلام فى مثل هاتيك المراتب من الشدة للمبالغة فى بيان الحاجة إلى التوبة فإن ذلك حيث لم يغنهم عنها فلأن لا يستغنى عنها غيرهم أولى وأحرى (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) بيان لتناهى* الشدة وبلوغها إلى ما لا غاية وراءها وهو إشراف بعضهم على أن يميلوا إلى التخلف عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى كاد ضمير الشأن أو ضمير القوم الراجع إليه الضمير فى منهم وقرىء بتأنيث الفعل وقرىء من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم يعنى المتخلفين من المؤمنين كأبى لبابة وأضرابه (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد وتنبيه* على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) * استئناف تعليلى فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعى التوبة والعفو ويجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثانى عن إيصال المنفعة وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أى وتاب الله على الثلاثة الذين أخر أمرهم عن أمر أبى لبابة وأصحابه حيث لم يقبل معذرتهم مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع فى شأنهم بشىء إلى أن نزل فيهم الوحى وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وقرىء خلفوا أى خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرىء على المخلفين والأول هو الأنسب لأن قوله تعالى (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) غاية للتخليف ولا يناسبه إلا المعنى* الأول أى خلفوا وأخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض (بِما رَحُبَتْ) أى برحبها وسعتها لإعراض* الناس عنهم وانقطاعهم عن مفاوضتهم وهو مثل لشدة الحيرة كأنه لا يستقر به قرار ولا تطمئن له دار (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أى إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشىء لعدم الأنس والسرور واستيلاء* الوحشة والحيرة (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أى علموا أنه لا ملجأ من سخطه تعالى إلا إلى* استغفاره (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أى وفقهم للتوبة (لِيَتُوبُوا) أو أنزل قبول توبتهم ليصيروا من جملة التوابين* ورجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) المبالغ فى* قبول التوبة كما وكيفا وإن كثرت الجنايات وعظمت (الرَّحِيمُ) المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم* لأفانين العقاب. روى أن ناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. عن الحسن رضى الله عنه أنه قال بلغنى أنه كان لأحدهم حائط كان خيرا من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خالفنى إلا ظلك وانتظار ثمارك اذهب فأنت فى سبيل الله ولم يكن لآخر إلا أهله فقال يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفنى إلا الفتن بك فلا جرم والله لأكابدن الشدائد حتى ألحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأبط زاده ولحق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الحسن رضى الله عنه كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها

١٠٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

____________________________________

وعن أبى ذر الغفارى أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماشيا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى سواده كن أبا ذر فقال الناس هو ذاك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده وعن أبى خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له فى الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الضح والريح ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفر له ومنهم من بقى لم يلحق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم الثلاثة. قال كعب رضى الله عنه لما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمت عليه فرد على كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال يا ليت شعرى ما خلف كعبا فقيل له ما خلفه إلا حسن برديه والنظر فى عطفيه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع أبشر يا كعب بن مالك فخررت لله ساجدا وكنت كما وصفنى ربى وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وتتابعت البشارة فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون فقام طلحة بن عبيد الله يهرول إلى حتى صافحنى وقال لتهنك توبة الله عليك فلن أنساها لطلحة رضى الله عنه وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يستنير استنارة القمر أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية وعن أبى بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب عام يندرج فيه التائبون اندراجا أوليا وقيل لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوك* خاصة (اتَّقُوا اللهَ) فى كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمر المغازى دخولا أوليا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فى أيمانهم وعهودهم أو فى دين الله نية وقولا وعملا أو فى كل شأن من الشئون فيدخل ما ذكر أو فى توبتهم وإنابتهم فيكون المراد بهم حينئذ هؤلاء الثلاثة وأضرابهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه خطاب لمن آمن من أهل الكتاب أى كونوا مع المهاجرين والأنصار وانتظموا فى سلكهم فى الصدق وسائر المحاسن وقرىء من الصادقين (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) ما صح وما

١١٠

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

____________________________________

استقام لهم (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأضرابهم (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) عند توجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو (وَلا يَرْغَبُوا) نصب وقد جوز الجزم (بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) * أى لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصن عنه نفسه بل يكابده معه ما يكابده من الأهوال والخطوب والكلام فى معنى النهى وإن كان على صورة الخبر (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه الكلام* من وجوب المشايعة (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أى عطش يسير (وَلا نَصَبٌ) ولا تعب ما* (وَلا مَخْمَصَةٌ) أى مجاعة ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها فإن الظمأ والنصب اليسيرين حين لم يخلوا* من الثواب فلأن لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفى بتكرير كلمة لا ويجوز أن يراد بها تلك المرتبة ويكون الترتيب بناء على كثرة الوقوع وقلته فإن الظمأ أكثر وقوعا من النصب الذى هو أكثر وقوعا من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيط كلمة لا حينئذ ليس لتأكيد النفى بل للدلالة على استقلال كل واحد منها بالفضيلة والاعتداد به (فِي سَبِيلِ اللهِ) وإعلاء كلمته (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أى* لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم دوسا أو مكانا يداس (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) مصدر كالقتل والأسر والنهب أو مفعول أى شيئا ينال من قبلهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ) أى بكل واحد* من الأمور المعدودة (عَمَلٌ صالِحٌ) وحسنة مقبولة مستوجبة بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل ونيل* الزلفى والتنوين للتفخيم وكون المكتوب عين ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخول الباء فإن اختلاف العنوان كاف فى ذلك (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم تعليل لما سلف من الكتب والمراد* بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة عليهم بالانتظام فى سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما جنس المحسنين وهم داخلون فيه دخولا أوليا (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة أو علاقة سوط (وَلا كَبِيرَةً) كما أنفق عثمان رضى الله عنه والترتيب باعتبار ما ذكر من كثرة الوقوع وقلته وتوسيط لا للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتأكيد النفى كما فى قوله عزوجل (وَلا يَقْطَعُونَ) أى لا يجتازون فى مسيرهم (وادِياً) * وهو فى الأصل كل منفرج من الجبال والآكام يكون منفذا للسيل اسم فاعل من ودى إذا سال ثم شاع فى الأرض على الإطلاق (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أى أثبت لهم ذلك الذى فعلوه من الإنفاق والقطع (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بذلك (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أحسن جزاء أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ

١١١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤)

____________________________________

لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أى ما صح وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن* يتثبطوا جميعا فإن ذلك مخل بأمر المعاش (فَلَوْ لا نَفَرَ) فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) أى طائفة كثيرة (مِنْهُمْ) * كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة (طائِفَةٌ) أى جماعة قليلة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أى يتكلفوا الفقاهة فيه* ويتجشموا مشاق تحصيلها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) أى وليجعلوا غاية سعيهم ومرمى غرضهم من ذلك إرشاد* القوم وإنذارهم (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه فى الدين من فروض الكفاية وأن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة لا الترفع على العباد والتبسط فى البلاد كما* هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا عما ينذرون واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضى أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى النفقه لتنذر فرقتها كى يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك وقد قيل للآية وجه آخر وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل فى المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبة ورهبة وانقطعوا عن التفقه فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقه الذى هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فالضمير فى ليتفقهوا ولينذروا لبواقى الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفى رجعوا للطوائف أى ولينذر البواقى قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا فى أيام غيبتهم من العلوم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا بإنذار عشيرته فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح قيل هم اليهود حوالى المدينة كبنى قريظة والنضير وخيبر وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشام وهو قريب من المدينة* بالنسبة إلى العراق وغيره (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أى شدة وصبرا على القتال وقرىء بفتح الغين كسخطة* وبضمها وهما لغتان فيها (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعصمة والنصرة والمراد بهم إما المخاطبون ووضع الظاهر موضع الضمير للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والمراد بالمعية الولاية الدائمة وقد ذكر وجه دخول مع على المتبوع فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ مَعَنا) (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من سور* القرآن (فَمِنْهُمْ) أى من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لعوام المؤمنين وضعفتهم* ليصدهم عن الإيمان (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) وقرىء بنصب أيكم على تقدير فعل يفسره المذكور

١١٢

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

____________________________________

أى زادت أيكم زادته هذه الخ وإيراد الزيادة مع أنه لا إيمان فيهم أصلا باعتبار اعتقاد المؤمنين حسبما نطق به قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) جواب من جهته سبحانه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا أى فأما الذين* آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) بزيادة العلم اليقينى الحاصل من التدبر فيها والوقوف* على ما فيها من الحقائق وانضمام إيمانهم بما فيها بإيمانهم السابق (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها وبما فيه من المنافع* الدينية والدنيوية (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أى كفر وسوء عقيدة (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أى كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها وعقائد باطلة وأخلاقا ذميمة كذلك (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) * واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه (أَوَلا يَرَوْنَ) الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر أى ألا ينظرون ولا يرون (أَنَّهُمْ) أى المنافقين (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ) من الأعوام (مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) والمراد* مجرد التكثير لا بيان الوقوع حسب العدد المزبور أى يبتلون بأفانين البليات من المرض والشدة وغير ذلك مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدى رب العزة فيؤدى إلى الإيمان به تعالى أو الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعانون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما القوارع الزائدة للإيمان الناعية عليه ما فيهم من القبائح المخزية لهم (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عطف على لا يرون داخل تحت الإنكار والتوبيخ وكذا قوله تعالى (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) والمعنى أولا يرون افتتانهم الموجب لإيمانهم ثم لا يتوبون عما هم عليه من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفتن الموجبة للتذكر والتوبة وقرىء بالتاء والخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أى ألا تنظرون ولا ترون أحوالهم العجيبة التى هى افتتانهم على وجه التتابع وعدم التنبه لذلك فقوله تعالى (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) وما عطف عليه معطوف على (يُفْتَنُونَ) (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) بيان لأحوالهم عند نزولها وهم فى محفل تبليغ الوحى كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا* بالعيون إنكارا لها أو سخرية بها أو غيظا لما فيها من مخازيهم (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أى قائلين هل يراكم* أحد من المسلمين لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون أو ترامقوا يتشاورون فى تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس وإيراد ضمير الخطاب لبعث المخاطبين على الجد فى انتهاز الفرصة فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه بشأن أصحابه كما فى قوله تعالى (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) وقيل المعنى وإذا ما أنزلت سورة فى عيوب

١١٣

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ(١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

____________________________________

* المنافقين (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عطف على (نَظَرَ بَعْضُهُمْ) والنراخى باعتبار وجدان الفرصة والوقوف على عدم* رؤية أحد من المؤمنين أى انصرفوا جميعا عن محفل الوحى خوفا من الافتضاح أو غير ذلك (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أى عن الإيمان حسب انصرافهم عن المجلس والجملة إخبارية أو دعائية (بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لسوء الفهم أو لعدم التدبر (لَقَدْ جاءَكُمْ) الخطاب للعرب (رَسُولٌ) أى رسول* رسول عظيم الشأن (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم عربى قرشى مثلكم وقرىء بفتح الفاء أى أشرفكم وأفضلكم* (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أى شاق شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع* فى العذاب وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فى إيمانكم وصلاح حالكم (بِالْمُؤْمِنِينَ) * منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قدم الأبلغ منهما وهى الرأفة التى هى عبارة عن شدة الرحمة محافظة على الفواصل (فَإِنْ تَوَلَّوْا) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له أى إن أعرضوا عن الإيمان* بك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فإنه يكفيك ويعينك عليهم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله* (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجو ولا أخاف إلا منه (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أى الملك العظيم أو الجسم الأعظم المحيط الذى تنزل منه الأحكام والمقادير وقرىء العظيم بالرفع وعن أبى أن آخر ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نزل القرآن على إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وسورة قل هو الله أحد فإنهما أنزلتا على ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة.

١١٤

١٠ ـ سورة يونس عليه‌السلام

مكية وهى مائة وتسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١)

____________________________________

(سورة يونس عليه‌السلام مكية وهى مائة وتسع آيات)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر) بتفخيم الراء المفتوحة وقرىء بالإمالة إجراء للأصلية مجرى المنقلبة عن الياء وقرىء بين بين وهو إما مسرود على نمط التعديد بطريق التحدى على أحد الوجهين المذكورين فى فاتحة سورة البقرة فلا محل له من الإعراب وإما اسم للسورة كما عليه إطباق الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هذه السورة مسماة بالر وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر. والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده صارت فى حكم الحاضر كما يقال هذا ما اشترى فلان أو النصب بتقدير فعل لائق بالمقام نحو اذكر أو اقرأ وكلمة (تِلْكَ) * إشارة إليها أما على تقدير كون الر مسرودة على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها التى هى الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة الخ وأما على تقدير كونه اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها فى الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى (آياتُ الْكِتابِ) وعلى تقدير كون الر مبتدأ فهو مبتدأ ثان أو بدل من الأول والمعنى* هى آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفها بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل الكل حينئذ إما باعتبار تعينه وتحققه فى علم الله عز وعلا أو فى اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا كما هو المشهور فإن فاتحة الكتاب كانت مسماة بهذا الاسم وبأم القرآن فى عهد النبوة ولما يحصل المجموع الشخصى إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كل من الكتاب والقرآن بأحد الاعتبارات المذكورة وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصى يطلق على مجموع ما نزل فى كل عصر ألا يرى إلى ما روى عن جابر رضى الله عنه أنه قال كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد فى ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه فى اللحد فإن ما يفهمه الناس من القرآن فى ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت فى أخذه إنما هو المجموع النازل حينئذ من غير

١١٥

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

____________________________________

* ملاحظة لتحقق المجموع الشخصى فى علم الله سبحانه أو فى اللوح ولا لنزوله جملة إلى السماء الدنيا (الْحَكِيمِ) ذى الحكمة وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة هذا وقد جعل الكتاب عبارة عن نفس السورة وكلمة تلك إشارة إلى ما فى ضمنها من الآى فإنها فى حكم الحاضر لا سيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وينبغى أن يكون المشار إليه حينئذ كل واحدة منها لا جميعها من حيث هو جميع لأنه عين السورة فلا يكون للإضافة وجه ولا لتخصيص الوصف بالمضاف إليه حكمة فلا يتأتى ما قصد من مدح المضاف بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن فى بيان اتصاف كل منها بالكمال من المبالغة ما ليس فى بيان اتصاف الكل بذلك والمتبادر من الكتاب عند الإطلاق وإن كان كله بأحد الوجهين المذكورين لكن صحة إطلاقه على بعضه أيضا مما لا ريب فيها والمعهود المشهور وإن كان اتصاف الكل بأحد الاعتبارين بما ذكر من نعوت الكمال إلا أن شهرة اتصاف كل سورة منه بما اتصف به الكل مما لا ينكر وعليه يدور تحقق مدح السورة بكونها بعضا من القرآن الكريم إذ لو لا أن بعضه منعوت بنعت كله داخل تحت حكمه لما تسنى ذلك وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجب السامعين منه لكونه فى غير محله والمراد بالناس كفار مكة وإنما عبر عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم مع أنه المدار لتعجبهم كما تعرض له فى قوله عزوجل (قالَ الْكافِرُونَ) الخ لتحقيق ما فيه الشركة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعيين مدار التعجب فى زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار والتعجيب واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عجبا وقيل بعجبا على التوسع المشهور فى الظروف وقيل المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول جاز تقديم معموله عليه وقيل متعلقة بكان وهو مبنى على دلالة كان الناقصة* على الحدث (أَنْ أَوْحَيْنا) اسم كان قدم عليه خبرها اهتماما بشأنه لكونه مدار الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن فى الاسم ضرب تفصيل ففى مراعاة الأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف الكلام وقرىء برفع عجب على أنه الاسم وهو نكرة والخبر أن أوحينا وهو معرفة لأن أن مع الفعل فى تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة البتة والمختار حينئذ أن تجعل كان تامة وأن أوحينا متعلقا بعجب على حذف حرف التعليل أى أحدث للناس عجب لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو بدلا من عجب لكن لا على توجيه الإنكار والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجبا فإن كون الإبدال فى حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة وإنما قيل للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح* حالهم ما لا يخفى (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أى إلى بشر من جنسهم كقولهم أبعث الله بشرا رسولا أو من أفنائهم

١١٦

من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وكلا الوجهين من ظهور البطلان بحيث لا مزيد عليه. أما الأول فلأن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال سبحانه (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية كيف لا وهى منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التى عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذى تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحانى والجسمانى ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب. وأما الثانى فلما أن مناط الاصطفاء للنبوة والرسالة هو التقدم فى الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلة والصفات الجليلة والسبق فى إحراز الفضائل العلية وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ولا ريب لأحد منهم فى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك الشأن فى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية وأما التقدم فى الرياسات الدنيوية والسبق فى نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له فى ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ماسقى الكافر منها شربة ماء (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن مصدرية لجواز كون صلتها أمرا كما فى قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) وذلك لأن الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سيان فساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فليجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال ووجوب كون الصلة فى الموصول الاسمى خبرية إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارف بالجمل لا لقصور فى دلالة الإنشاء على المصدر أو مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول وقد جوز كونها مخففة من المثقلة على حذف ضمير الشأن والقول من الخبر والمعنى أن الشأن قولنا أنذر الناس والمراد به جميع الناس كافة لا ما أريد بالأول وهو النكتة فى إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثانى عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بما أوحيناه وصدقوه (أَنَّ لَهُمْ) أى بأن لهم (قَدَمَ صِدْقٍ) أى سابقة* ومنزلة رفيعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصل السبق والوصول إلى المنازل الرفيعة كما يعبر* عن النعمة باليد لأنها تعطى بها وقيل مقام صدق والوجه أن الوصول إلى المقام إنما يحصل بالقدم وإضافتها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتها وللتنبيه على أن مدار نيل ما نالوه من المراتب العلية هو صدقهم فإن التصديق لا ينفك عن الصدق (قالَ الْكافِرُونَ) هم المتعجبون وإيرادهم ههنا بعنوان الكفر* مما لا حاجة إلى ذكر سببه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التى دخلت عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشىء فقيل قال الكافرون على طريقة التأكيد (إِنَّ هذا) يعنون به ما أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم* من القرآن الحكيم المنطوى على الإنذار والتبشير (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أى ظاهر وقرىء لساحر على أن الإشارة* إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء ما هذا إلا سحر مبين وهذا اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من جناب خلاق القوى والقدر ولكنهم سموه بما قالوا تماديا فى العناد كما هو ديدن

١١٧

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

____________________________________

المكابر اللجوج ودأب المفحم المحجوج (إِنَّ رَبَّكُمُ) كلام مستأنف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما بنوا عليه من المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمالى على بعض ما يدل عليها من شئون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير لقوله تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) وقوله تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله تعالى (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أى إن ربكم ومالك أمركم الذى تتعجبون من أن يرسل* إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحى إليه من الكتاب الحكيم سحرا هو (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما فيهما من أصول الكائنات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أى فى ستة أوقات أو فى مقدار ستة أيام معهودة فإن نفس اليوم الذى هو عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء وفى خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث لهم على التأنى فى الأحوال والأطوار وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فأمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته وإيثار صيغة الجمع فى السموات لما هو* المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) العرش هو الجسم المحيط بسائر الأجسام سمى به لارتفاعه أو للتشببه بسرير الملك فإن الأوامر والتدابير منه تنزل وقيل هو الملك ومعنى استوائه سبحانه عليه استيلاؤه عليه أو استواء أمره وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذى عناه منزها عن التمكن والاستقرار وهذا بيان لجلالة ملكه وسلطانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما* مر من خلق هاتيك الأجرام العظام (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) التدبير النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد ههنا التقدير على الوجه الأتم الأكمل والمراد بالأمر أمر ملكوت السموات والأرض والعرش وغير ذلك من الجزئيات الحادثة شيئا فشيئا على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمباينات فى الذوات والصفات والأزمنة والأوقات أى يقدر ما ذكر من أمر الكائنات الذى ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحى فرد من جملته وشعبة من دوحته ويهيىء أسباب كل منها حدوثا وبقاء فى أوقاتها المعينة ويرتب مصالحها على الوجه الفائق والنمط اللائق حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة والجملة فى محل النصب على أنها حال من ضمير استوى وقد جوز كونها خبرا ثانيا لأن أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبنية على سؤال نشأ من ذكر الاستواء على العرش المنبىء عن إجراء أحكام الملك* وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره وقوله عزوجل (ما مِنْ شَفِيعٍ)

١١٨

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

____________________________________

بيان لاستبداده سبحانه فى التقدير والتدبير ونفى للشفاعة على أبلغ الوجوه فإن نفى جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفى الشفاعة على أتم الوجوه كما فى قوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وهذا بعد قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) جار مجرى قوله تعالى (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) عقيب قوله تعالى (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) استثناء مفرغ من أعم الأوقات أى ما من شفيع يشفع* لأحد فى وقت من الأوقات إلا بعد إذنه المبنى على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) وفيه من الدلالة على عظمة جلاله سبحانه ما لا يخفى (ذلِكُمُ) إشارة إلى* المعلوم بتلك العظمة أى ذلكم العظيم الشأن المنعوت بما ذكر من نعوت الكمال التى عليها يدور استحقاق الألوهية (اللهُ) وقوله تعالى (رَبَّكُمُ) بيان له أو بدل منه أو خبر ثان لاسم الإشارة وهذا بعد بيان أن* ربهم الله الذى خلق السموات والأرض الخ لزيادة التقرير والمبالغة فى التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة عليه بقوله تعالى (فَاعْبُدُوهُ) أى وحدوه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبى فضلا عن جماد لا يبصر* ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وآمنوا بما أنزله إليكم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى أتعلمون أن الأمر كما فصل* فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه (إِلَيْهِ) لا إلى أحد سواه استقلالا أو ٤ اشتراكا (مَرْجِعُكُمْ) أى بالبعث كما ينبىء عنه قوله تعالى (جَمِيعاً) فإنه حال من الضمير المجرور لكونه* فاعلا فى المعنى أى إليه رجوعكم مجتمعين والجملة كالتعليل لوجوب العبادة (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد* لنفسه لأن قوله عزوجل (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أى وعد الله وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجع هو الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرىء بصيغة الفعل (حَقًّا) مصدر آخر مؤكد لما دل عليه الأول (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) وقرىء* يبدىء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهو استئناف علل به وجوب المرجع إليه سبحانه وتعالى فإن غاية البدء والإعادة* هو جزاء المكلفين بأعمالهم حسنة أو سيئة وقرىء بالفتح أى لأنه ويجوز كونه منصوبا بما نصب وعد الله أى وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ومرفوعا بما نصب حقا أى حق حقا بدء الخلق الخ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أى بالعدل وهو حال من فاعل يجزى أى ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزى أى ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفى به الحصر أو بقسطهم وعدلهم عند إيمانهم ومباشرتهم للأعمال الصالحة وهو الأنسب بقوله عزوجل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فإن معناه ويجزى الذين كفروا بسبب كفرهم وتكرير الإسناد بجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة

١١٩

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥)

____________________________________

على مواظبتهم على الكفر وتغيير النظم الكريم للإيذان بكمال استحقاقهم للعقاب وأن التعذيب بمعزل عن الانتظام فى سلك العلة الغائية للخلق بدءا وإعادة وإنما يحيق ذلك بالكفرة على موجب سوء اختيارهم وأما المقصود الأصلى من ذلك فهو الإثابة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنعه فى النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر من إبداع السموات والأرض والاستواء على العرش وغير ذلك وبيان لبعض أفراد التدبير الذى أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه حيث دبرت أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بالمعاد بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوى الردى أولى وأحرى والجعل إن جعل بمعنى الإنشاء والإبداع فضياء حال من مفعوله أى خلقها حال كونها ذات ضياء على حذف المضاف أو ضياء محضا للمبالغة وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعوله الثانى أى جعلها ضياء على أحد الوجهين المذكورين لكن لا بعد أن كانت خالية عن تلك الحالة بل أبدعها كذلك كما فى قولهم ضيق فم الركية ووسع أسفلها والضياء مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط وياؤه منقلبة* من الواو لانكسار ما قبلها وقرىء ضئاء بهمزتين بينهما ألف بتقديم اللام على العين (وَالْقَمَرَ نُوراً) الكلام فيه كالكلام فى الشمس والضياء أقوى من النور وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ففيه إشعار* بأن نوره مستفاد من الشمس (وَقَدَّرَهُ) أى قدر له وهيأ (مَنازِلَ) أو قدر مسيره فى منازل أو قدره ذا منازل على تضمين التقدير معنى التصيير وتخصيص القمر بهذا التقدير لسرعة سيره ومعاينة منازله وتعلق أحكام الشريعة به وكونه عمدة فى تواريخ العرب وقد جعل الضمير لكل منهما وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة فى واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا يتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان فى آخر منازله دق واستقوس ثم يستسر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس فى كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما وهذه المنازل هى مواقع النجوم التى نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهى الشرطان والبطين والثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الغفر الزبانى الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد* بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت (لِتَعْلَمُوا) إما بتعاقب الليل والنهار المنوطين بطلوع الشمس وغروبها أو باعتبار نزول كل منهما فى تلك المنازل* (عَدَدَ السِّنِينَ) التى يتعلق بها غرض علمى لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية (وَالْحِسابَ) أى حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالى وغير ذلك مما نيط به شىء من المصالح المذكورة وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر فى السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر فى

١٢٠