تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

____________________________________

الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحى إليك (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم المشتمل* على محاسن الأحكام التى من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما فى تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان به والعمل بما فى مطلوبه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أى منفعة* اهتدائه لها خاصة (وَمَنْ ضَلَّ) بالكفر به والإعراض عنه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أى فوبال الضلال* مقصور عليها والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جلب نفع أو دفع ضر كما يلوح به إسناد المجىء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ موكول* إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير (وَاتَّبِعْ) اعتقادا وعملا وتبليغا (ما يُوحى إِلَيْكَ) على نهج التجدد والاستمرار من الحق المذكور المتأكد يوما فيوما وفى التعبير عن بلوغه إليهم بالمجىء وإليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحى تنبيه على ما بين المرتبتين من التنائى (وَاصْبِرْ) على ما يعتريك من مشاق التبليغ (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالنصرة عليهم أو* بالأمر بالقتال (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ فى حكمه لا طلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر* عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة يونس أعطى له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون والحمد لله وحده.

١٨١

١١ ـ سورة هود عليه‌السلام

(مكية وهى مائة وثلاث وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١)

____________________________________

(سورة هود عليه‌السلام)

(مكية وهى مائة وثلاث وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر) محله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقيل على أنه مبتدأ والأول هو الأظهر كما أشير إليه فى سورة يونس أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ على تقدير كونه اسما للسورة على ما عليه إطباق الأكثر أو لا محل له من الإعراب مسرود على نمط التعديد حسبما فصل* فى أخواته وقوله تعالى (كِتابٌ) خبر له على الوجه الثانى ولمبتدأ محذوف على الوجوه الباقية (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما متقنا لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه أو جعلت حكيمة لانطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها أو منعت من النسخ بمعنى التغيير مطلقا أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله عزوجل أو على ثبوت مدلولاتها فالمراد بالآيات جميعها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعية فالمراد بها بعضها المشتمل عليها كما إذا فسر الإحكام بالمنع من النسخ بمعنى تبديل الحكم الشرعى خاصة وأما تفسيره بالمنع من الفساد أخذا من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ففيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعى إلى الفساد لولا المانع وفى إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى آيات الكتاب دون نفسه لا سيما على الوجوه الشاملة لكل آية آية* منه من حسن الموقع والدلالة على كونه فى أقصى غاية منه ما لا يخفى (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أى جعلت فصولا من الأحكام والدلائل والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد فى المعاش والمعاد على الإسناد المجازى والتفسير بجعلها آية آية لا يساعده المقام لأن ذلك من الأوصاف الأولية فلا يناسب عطفه على إحكامها بكلمة التراخى وأما المعنيان الأولان فهما وإن كانا مع الإحكام زمانا حيث لم تزل الآيات محكمة مفصلة لا أنها أحكمت أو فصلت بعد أن لم تكن كذلك إذ الفعلان من قبيل قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل إلا أنهما حيث كانا من صفات الآيات باعتبار نسبة بعضها إلى بعض على وجه يستتبع أحكاما مخصوصة وآثارا معتدا بها وبملاحظة مصالح العباد ناسب أن يشار إلى تراخى رتبتهما عن رتبة الإحكام وإن حمل جعلها آية آية على معنى تفريق بعضها عن بعض يكون من هذا القبيل إلا أنه ليس فى مثابته فى استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثار أو فرقت فى التنزيل منجمة بحسب المصالح فإن أريد تنزيلها المنجم بالفعل فالتراخى زمانى وإن أريد جعلها فى نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو رتبى لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف إحكامها وقرىء أحكمت

١٨٢

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣)

____________________________________

آياته ثم فصلت على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أى فرقت بين الحق والباطل (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة للكتاب وصف بها بعد ما وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو رتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر بعد خبر للمبتدأ المذكور أو المحذوف أو صلة للفعلين وفى بنائهما للمفعول ثم إيراد الفاعل بعنوان الحكمة البالغة والإحاطة بجلائلها ودقائقها منكرا بالتنكير التفخيمى وربطهما به لا على النهج المعهود فى إسناد الأفاعيل إلى فواعلها مع رعاية حسن الطباق من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونهما على أكمل ما يكون ما لا يكتنه كنهه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ٢ مفعول له حذف عنه اللام مع فقدان الشرط أعنى كونه فعلا لفاعل الفعل المعلل جريا على سنن القياس المطرد فى حذف حرف الجر مع أن المصدرية كأنه قيل كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أى لتتركوا عبادة غير الله عزوجل وتتمحضوا فى عبادته فإن الإحكام والتفصيل على ما فصل من المعانى مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة وقيل أن مفسرة لما فى التفصيل من معنى القول أى قيل لا تعبدوا إلا الله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) من جهة الله تعالى (نَذِيرٌ) أنذركم عذابه إن لم* تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادة غير الله تعالى (وَبَشِيرٌ) أبشركم بثوا به إن آمنتم به وتمحضتم فى عبادته* ولما ذكر شئون الكتاب من إحكام آياته وتفصيلها وكون ذلك من قبل الله تعالى وأورد معظم ما نظم فى سلك الغاية والأمر من التوحيد وترك الإشراك وسط بينه وبين قرينيه أعنى الاستغفار والتوبة ذكر أن من نزل عليه ذلك الكتاب مرسل من عند الله تعالى لتبليغ أحكامه وتشريحها بالمؤيدات من الوعد والوعيد للإيذان بأن التوحيد فى أقصى مراتب الأهمية حتى أفرد بالذكر وأيد إيجابه بالخطاب غب الكتاب مع تلويح بأنه كمالا يتحقق فى نفسه إلا مقارنا للحكم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك فى الذكر لا ينفك أحدهما عن الآخر وقد روعى فى سوق الخطاب بتقديم الإنذار على التبشير ما روعى فى الكتاب من تقديم النفى على الإثبات والتخلية على التحلية ليتجاوب أطراف الكلام ويجوز أن يكون قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) كلاما منقطعا عما قبله وارادا على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغراء لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ترك عبادة غير الله أى الزموه على معنى اتركوا عبادة غير الله تركا مستمرا إننى لكم من جهة الله تعالى نذير وبشير أى نذير أنذركم من عقابه على تقدير استمراركم على الكفر وبشير أبشركم بثوابه على تقدير ترككم له وتوحيدكم ولما سيق إليهم حديث التوحيد وأكد ذلك بخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الإنذار والتبشير شرع فى ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمن تفصيل ما أجمل فى وصف البشير والنذير فقيل (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) وهو معطوف على (أَلَّا تَعْبُدُوا) على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أن

١٨٣

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

____________________________________

مصدرية لجواز كون صلتها أمرا أو نهيا كما فى قوله تعالى (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهو موجود فيهما ووجوب كونها خبرية فى صلة الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهى لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية وأما الموصول الحرفى فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسبما ساغ وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى* والاستقبال (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عطف على (اسْتَغْفِرُوا) والكلام فيه كالكلام فيه والمعنى فعل ما فعل من الإحكام والتفصيل لتخصوا الله تعالى بالعبادة وتطلبوا منه ستر ما فرط منكم من الشرك ثم ترجعوا إليه بالطاعة أو تستمروا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفار أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصى وعلى الثانى أن مفسرة أى قيل فى أثناء تفصيل الآيات لا تعبدوا إلا الله واستغفروه ثم توبوا إليه والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال فى السؤال وترشيح لما يعقبه من التمتيع* وإيتاء الفضل بقوله تعالى (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أى تمتيعا وانتصابه على أنه مصدر حذف منه الزوائد كقوله تعالى (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أو على أنه مفعول به وهو اسم لما يتمتع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك والمعنى يعشكم عيشا مرضيا لا يفوتكم فيه شىء مما تشتهون ولا ينقصه شىء* من المكدرات (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مقدر عند الله عزوجل وهو آخر أعماركم ولما كان ذلك غاية لا يطمح* وراءها طامح جرى التمتيع إليها مجرى التأييد عادة أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) فى الطاعة والعمل (فَضْلَهُ) جزاء فضله إما فى الدنيا أو فى الآخرة وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق فى الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع فى الدنيا أكثر مما متع آخر دونه فى الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل ويعط كل فاضل جزاء فضله إما فى الدنيا كما يتفق فى بعض الموارد وإما فى الآخرة وذلك مما* لا مرد له وهذا ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ثم شرع فى الإنذار فقيل (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أى تتولوا عما ألقى إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة وإنما أخر عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولى عما ذكر من التوحيد والاستغفار والتوبة وذلك يستدعى* سابقة ذكره وقرىء تولوا من ولى (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) بموجب الشفقة والرأفة أو أتوقع (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم فى قوله تعالى (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) إما لكونه كذلك فى نفسه أو وصف بوصف ما يكون فيه كما وصف بالثقل فى قوله تعالى (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بقحط أكلوا فيه الجيف وأيا ما كان ففى إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء فى مثل ذلك اليوم لا إلى غيره* (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيندرج فى تلك الكلية قدرته على أماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين

١٨٤

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥)

____________________________________

العذاب وهو تقرير لما سلف من كبر اليوم وتعليل للخوف ولما ألقى إليهم فحوى الكتاب على لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيق إليهم ما ينبغى أن يساق من الترغيب والترهيب وقع فى ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذى تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما يعقبها من هناتهم أمر يجب أن يفهم ويتعجب منه (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يزورون عن الحق وينحرفون عنه أى يستمرون على ما كانوا عليه من التولى والإعراض لأن من أعرض عن شىء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه وهذا معنى جزل مناسب لما سبق وقد بحا نحوه العلامة الزمخشرى ولكن حيث لم يصلح التولى سببا للاستخفاء فى قوله عزوجل (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) التجأ* إلى إضمار الإرادة حيث قال ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله والمؤمنين على إعراضهم وجعله فى قود المعنى إليه من قبيل الإضمار فى قوله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أى فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثنى الصدور وبين الاستخفاء ليس كانسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر به وبين الانفلاق ولعل الأظهر أن معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يكون ذلك مخفيا مستورا فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة وإنما لم يذكر ذلك استهجانا بذكره أو إيماء إلى أن ظهوره مغن عن ذكره أو ليذهب ذهن السامع إلى كل ما لا خير فيه من الأمور المذكورة فيدخل فيه ما ذكر من توليهم عن الحق الذى ألقى إليهم دخولا أوليا فحينئذ يظهر وجه كون ذلك سببا للاستخفاء ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت فى الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبة ويضمر فى قلبه ما يضادها وقال ابن شداد إنها نزلت فى بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لورآه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمكنه التخلف عن حضور مجلسه والمصاحبة معه وربما يؤدى ذلك إلى ظهور ما فى قلبه من الكفر والنفاق وقرىء يثنونى صدورهم بالياء والتاء من اثنونى افعوعل من الثنى كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة وعن ابن عباس رضى الله عنهما لتثنونى وقرىء تثنون وأصله تثنونن من تفعوعل من النن وهو ماهش من الكلأ وضعف يريد مطاوعة صدورهم للشى كما يثنى الهش من النبات أو أراد ضعف إيمانهم ورخاوة قلوبهم وقرىء تثنئن من اثنان افعال منه ثم همز كما قيل ابيأضت وادهأمت وقرىء تثنوى بوزن ترعوى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) * أى يتغطون بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذ حديث النفس عادة وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحيى ظهره

١٨٥

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

____________________________________

* ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما فى قلبى (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) أى يضمرون فى قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) أى يستوى بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه وإنما قدم السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ونظيره قوله تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء على عكس ما وقع فى قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبة بما يخفونه أولى منها بما يبدونه غرض بل الأمر بالعكس وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كون تعلق علمه تعالى بما يسرونه أولى منه بما يعلنونه غرض مهم مع كونهما على السوية كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول الصورة بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وأما قوله تعالى (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فحيث كان واردا بصدد الخطاب مع الملائكة عليهم‌السلام المنزه مقامهم عن اقتضاء التأكيد والمبالغة فى الإخبار بإحاطة علمه تعالى بالظاهر والباطن لم يسلك فيه ذلك المسلك مع أنه وقع الغنية عنه بما قبله من قوله عزوجل (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل* ذلك مضمر فى القلب فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما سبق وتقرير له واقع موقع الكبرى من القياس وفى صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق والتعبير عن الضمائر بعنوان صاحبيتها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل إنه مبالغ فى الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة فى صدورهم بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب من قوله تعالى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) والمعنى أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) غذاؤها اللائق بها من حيث الخلق ومن حيث الإيصال إليها بطريق طبيعى أو إرادى لتكفله إياه تفضلا ورحمة وإنما جىء به على طريق الوجوب اعتبارا لسبق الوعد وتحقيقا* لوصوله إليها البتة وحملا للمكلفين على الثقة به تعالى والإعراض عن إتعاب النفس فى طلبه (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) محل قرارها فى الأصلاب (وَمُسْتَوْدَعَها) موضعها فى الأرحام وما يجرى مجراها من البيض ونحوها وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحلين لأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب فى حيزها الطبيعى ومنشئها الخلقى وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجرى مجراها فهى مودعة فيها إلى وقت معين أو مسكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة ولعل تقديم محلها

١٨٦

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

____________________________________

باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة فى الأرض والمعنى وما من دابة فى الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المتخالفة المندرجة فى مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة فى الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة ويفيض عليها فى كل مرتبة ما يليق بها من مبادى وجودها وكمالاتها المتفرعة عليه وقد فسر المستودع بأماكنها فى الممات ولا يلائمه مقام التكفل بأرزاقها (كُلٌّ) من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أى* مثبت فى اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم‌السلام أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين ولما انتهى الأمر إلى أنه سبحانه محيط بجميع أحوال ما فى الأرض من المخلوقات التى لا تكاد تحصى من مبدأ فطرتها إلى منتهاها اقتضى الحال التعرض لمبدأ خلق السموات والأرض والحكمة الداعية إلى ذلك فقيل (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) السموات فى يومين والأرض فى يومين وما ٧ عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك فى يومين حسبما فصل فى سورة حم السجدة ولم يذكر خلق ما فى الأرض لكونه من تتمات خلقها وهو السر فى جعل الزمان خلقه تتمة لزمان خلقها فى قوله تعالى فى أربعة أيام فى تتمة أربعة أيام والمراد بالأيام الأوقات كما فى قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أى فى ستة أوقات أو مقدار ستة أيام فإن اليوم فى المتعارف زمان كون الشمس فوق الأرض ولا يتصور ذلك حين لا أرض ولا سماء وفى خلقها مدرجا مع القدرة التامة على خلقها دفعة دليل على أنه قادر مختار واعتبار؟؟؟ النظار وحث على التأنى فى الأمور وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فأمر استأثر بعلم ما يقتضيه علام الغيوب جلت حكمته وإيثار صيغة الجمع فى السموات لما هو المشهور من الإشارة إلى كونها أجراما مختلفة الطبائع ومتفاوتة الآثار والأحكام (وَكانَ عَرْشُهُ) قبل خلقهما (عَلَى الْماءِ) * ليس تحته شىء غيره سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعا على متنه كما ورد فى الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث فى العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بخلق أى خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التى من جملتها أنتم ورتب* فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادى وجودكم وأسباب معايشكم وأودع فى تضاعيفهما من تعاجيب الصائع والعبر ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يبتليكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيجازيكم* بالثواب والعقاب غب ما تبين المحسن من المسىء وامتازت درجات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب من الحجج والدلائل والإمارات والمخايل ومراتب أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله أيكم

١٨٧

احسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع فى طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به فكمال الأول أشرف من الثانى فكذا الحال فى عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفة الله عزوجل الواجبة على العباد آثر ذى أثير وإنما طريقها النظرى التفكر فى بدائع صنائع الملك الخلاق والتدبر فى آياته البينات المنصوبة فى الأنفس والآفاق ولا طاعة بدون فهم ما فى مطاوى الكتاب الحكيم من الأوامر والنواهى وغير ذلك مما له مدخل فى الباب وقد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تفضلونى على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر فى أمر الله عزوجل الذى هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل فى اليوم بجوارحه مثل عمل أهل الأرض وتعليق فعل البلوى أى تعقيبه بحرف الاستفهام لا التعليق المشهور الذى يقتضى عدم إيراد المفعول أصلا مع اختصاصه بأفعال القلوب لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالنظر ونظائره ولذلك أجرى مجراه بطريق التمثيل أو الاستعارة التبعية وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصود الأصلى مما ذكر من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوه اللائقة وأكمل الأساليب الرائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدى كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم فى مراتبهما بحسب القوة والضعف والكثرة والقلة وأما الإعراض عن ذلك والوقوع فى مهاوى الضلال فبمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلا عن أن ينظم ظهوره فى سلك العلة الغائية لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب ولا يخفى ما فيه من الترغيب* فى الترقى إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائضها والله تعالى أعلم (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) على ما يوجبه قضية الابتلاء ليترتب عليه الجزاء المتفرع على ظهور مراتب* الأعمال (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن وجه الخطاب فى قوله تعالى (إِنَّكُمْ) إلى جميع المكلفين فالموصول مع صلته* للتخصيص أى ليقولن الكافرون منهم وإن وجه إلى الكافرين منهم فهو وارد على طريقة الذم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أى مثله فى الخديعة أو البطلان وهذا إشارة إلى القول المذكور أو إلى القرآن فإن الإخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونه بطريق الوحى المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لانبائه عنه فى كل موضع وكونه علما عندهم فى ذلك فعمدوا إلى تكذيبه وتسميته سحرا تماديا منهم فى العناد وتفاديا عن سنن الرشاد وقيل هو إشارة إلى نفس البعث ولا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شىء موجود ظاهرا لا أصل له فى الحقيقة ونفس البعث عندهم معدوم بحت وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث كما أشير إليه من تتمات الابتلاء المذكور فكأنه قيل الأمر كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته لا يتلعثمون فى الرد ويعدون ذلك من قبيل ما لا صحة له أصلا فضلا عن تصديق ما هذه من تتماته وأما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل وهو الذى خلق جميع المخلوقات ابتداء لهذه الحكمة البالغة ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارة أخرى وهو

١٨٨

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) (٩)

____________________________________

أهون عليه يقولون ما يقولون فسبحان الله عما يصفون وقرأ حمزة والكسائى إلا ساحر على أن الإشارة إلى القائل أو إلى القرآن على أسلوب شعر شاعر وقرىء بالفتح على تضمين قلت معنى ذكرت أو على أن أنك بمعنى عنك فى علك أى ولئن قلت لعلكم مبعوثون على أن الرجاء والتوقع باعتبار حال المخاطبين أى توقعوا ذلك ولا تبتوا القول بإنكاره أو على أنه مجاراة معهم فى الكلام على نهج المساعدة لئلا يسارعوا إلى اللجاج والعناد ريثما قرع أسماعهم بت القول بخلاف ما ألفوا وألفوا عليه آباءهم من إنكار البعث ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبر وما فعلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) المترتب على بعثهم أو العذاب الموعود فى قوله تعالى (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وقيل عذاب يوم بدر وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قتل جبريل عليه‌السلام للمستهزئين والظاهر أن المراد به العذاب الشامل للكفرة دون ما يخص ببعض منهم على أنه لم يكن موعودا يستعجل منه المجرمون (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أى أى شىء* يمنعه من المجىء فكأنه يريده فيمنعه مانع وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجال استهزاء لقوله تعالى (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ومرادهم إنكار المجىء والحبس رأسا لا الاعتراف به والاستفسار عن حابسه (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ذلك (لَيْسَ مَصْرُوفاً) محبوسا (عَنْهُمُ) على معنى أنه لا يرفعه رافع أبدا إن أريد به عذاب* الآخرة أولا يدفعه عنكم دافع بل هو واقع بكم إن أريد به عذاب الدنيا ويوم منصوب بخبر ليس مقدما عليه واستدل به البصريون على جواز تقديمه على ليس إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز فى غيره توسعا وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما فى قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها. قال أبو حيان وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة وقول الشاعر[فيأبى فما يزداد إلا لجاجة * وكنت أبيا فى الخنا لست أقدم] (وَحاقَ بِهِمْ) أى أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أى العذاب الذى كانوا يستعجلون به استهزاء وفى التعبير* عنه بالموصول تهويل لمكانه وإشعار بعلية ما ورد فى حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته والتعبير عنها بالماضى وارد على عادة الله تعالى فى أخباره لأنها فى تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة وفى ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وتقرير وقوع المخبر به ما لا يخفى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أى أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أى*

١٨٩

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١)

____________________________________

سلبناه إياها وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) شديد القنوط من روح الله قطوع رجاءه من عود أمثالها عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لقلة صبره وعدم توكله عليه وثقته به* (كَفُورٌ) عظيم الكفران لما سلف من النعم وفيه إشارة إلى أن النزع إنما كان بسبب كفرانهم بما كانوا يتقلبون فيه من نعم الله عزوجل وتأخيره عن وصف يأسهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصل على أن اليأس من فضل الله سبحانه وقطع الرجاء عن إضافة أمثاله فى العاجل ويصال أجره فى الآجل من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كصحة بعد سقم وجدة بعد عدم وفرج بعد شدة وفى التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق لمؤذن بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها فى أدنى ما ينطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها وإسناد الأول إلى الله عزوجل دون الثانى ما لا يخفى من الجزالة والدلالة على أن مراده تعالى إنما هو إيصال الخير المرغوب فيه على أحسن ما يكون وأنه إنما يريد بعباده اليسر دون العسر وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارهم نيلا يسيرا كأنما يلاصق البشرة من غير تأثير وأما نزع الرحمة فإنما صدر عنه بقضية الحكمة* الداعية إلى ذلك وهى كفرانهم بها كما سبق وتنكير الرحمة باعتبار لحوق النزع بها (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أى المصائب التى تسوؤنى ولن يعترينى بعد أمثالها كما هو شأن أولئك الأشرار فإن الترقب لورود* أمثالها مما يكدر السرور وينغص العيش (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بطر وأشر بالنعم مغتر بها (فَخُورٌ) على الناس بما أوتى من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها واللام فى لئن فى الآيات الأربع موطئة للقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله* واستسلاما لقضائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) شكرا على آلائه السالفة والآنفة واللام فى الإنسان إما* لاستغراق الجنس فالاستثناء متصل أو للعهد فمنقطع (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل أى أولئك الموصوفون* بتلك الصفات الحميدة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة لذنوبهم وإن جمت (وَأَجْرٌ) ثواب لأعمالهم الحسنة (كَبِيرٌ) ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال الواقع فى قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدى إلى سنن الصواب بل يحيد فى كلتا الحالتين عنه إلى مهاوى الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث إن إنكارهم بالبعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك.

١٩٠

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣)

____________________________________

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) من البينات الدالة على حقية نبوتك المنادية بكونها من عند الله عز وجل لمن له أذن واعية (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أى عارض لك ضيق صدر بتلاوته عليهم وتبليغه إليهم فى* أثناء الدعوة والمحاجة (أَنْ يَقُولُوا) لأن يقولوا تعاميا عن تلك البراهين التى لا تكاد تخفى صحتها على أحد* ممن له أدنى بصيرة وتماديا فى العناد على وجه الاقتراح (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) مال خطير مخزون يدل على* صدقه (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه قيل قاله عبد الله بن أمية المخزومى. وروى عن ابن عباس رضى الله* عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاين اجتراءهم على اقتراح مثل هذه العظائم غير قانعين بالبينات الباهرة التى كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أرباب العقول وشاهد ركوبهم من المكابرة متن كل صعب وذلول مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاء وتسميتها سحرا مثل حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من يتوقع منه أن يضيق صدره بتلاوة تلك الآيات الساطعة عليهم وتبليغها إليهم فحمل على الحذر منه بما فى لعل من الإشفاق فقيل (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك غير* مبال بما صدر عنهم من الرد والقبول (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه* فى جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم والاقتصار على النذير فى أقصى غاية من إصابة المحز (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وتهاونهم به وعدم اقتناعهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على كونه من عند الله عزوجل وعلى حقية نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشروع فى ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم وما فيها من معنى الهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجيب والضمير المستكن فى افتراه للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبارز لما يوحى أى بل أيقولون افتراه وليس من عند الله (قُلْ) إن كان الأمر كما* تقولون (فَأْتُوا) أنتم أيضا (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) فى البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور أى أمثاله* وتوحيده إما باعتبار مماثلة كل واحدة منها أو لأن المطابقة ليست بشرط حتى يوصف المثنى بالمفرد كما فى قوله تعالى (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أو للإيماء إلى أن وجه الشبه ومدار المماثلة فى الجميع شىء واحد هو البلاغة المؤدية إلى مرتبة الإعجاز فكأن الجميع واحد (مُفْتَرَياتٍ) صفة أخرى لسور أخرت عن وصفها بالمماثلة* لما يوحى لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم وقعودهم عن المعارضة وأما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شىء فى مقام التحدى وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه

١٩١

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

____________________________________

لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة فى الافتراء والمعنى فأتوا بعشر سور مماثلة له فى البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أنى اختلقته من عندى فإنكم أقدر على ذلك منى لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد ما رستم مبادى ذلك من الخطب والأشعار وحفظتم الوقائع والأيام وزاولتم أساليب النظم والنثر* (وَادْعُوا) للاستظهار فى المعارضة (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التى تزعمون أنها ممدة لكم فى كل ما تأتون وما تذرون والكهنة ومدارهكم الذين تلجئون إلى آرائهم فى الملمات ليسعدوكم* فيها (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا أى متجاوزين الله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى إنى افتريته فإن ذلك يستلزم إمكان الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه والجواب محذوف يدل عليه المذكور (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أى فإن لم يفعلوا ما كلفوه من الإتيان بمثله كقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) وإنما عبر عنه بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كمال أمن من أمره كأن أمره لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه والضمير فى لكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمع للتعظيم كما فى قول من قال [وإن شئت حرمت النساء سواكم] أوله وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الأمر بالتحدى وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين كما كانوا يفعلونه فى الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك* مما يفيد الرسوخ فى الإيمان والطمأنينة فى الإيقان ولذلك رتب عليه قوله عزوجل (فَاعْلَمُوا) أى اعلموا حين ظهر لكم عجزهم عن المعارضة مع تهالكهم عليها علما يقينا متاخما لعين اليقين بحيث لا مجال معه لشائبة ريب بوجه من الوجوه كأن ما عداه من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة وبه يتضح سرا يراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك فيه أو اثبتوا واستمروا على ما كنتم عليه* من العلم (أَنَّما أُنْزِلَ) ملتبسا (بِعِلْمِ اللهِ) المخصوص به بحيث لا تحوم حوله العقول والأفهام مستبدا* بخصائص الإعجاز من جهتى النظم الرائق والإخبار بالغيب (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أى واعلموا أيضا أن* لا شريك له فى الألوهية وأحكامها ولا يقدر على ما يقدر عليه أحد (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أى مخلصون فى الإسلام أو ثابتون عليه وهذا من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين ويجوز أن يكون الخطاب فى الكل للمشركين من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلا تحت الأمر بالتحدى والضمير فى لم يستجيبوا لمن استعطتم أى فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون فى مهماتكم وملماتكم إلى المعاونة والمظاهرة فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر فإيراد كلمة الشك حينئذ مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة آلهتهم تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بعجزهم واضطرارهم فكأنه قيل فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيل وعيت بكم العلل أو من حيث إن من يستمدون بهم أقوى منهم فى اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور

١٩٢

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦)

____________________________________

عجز أنفسهم يكون عجزهم أظهر وأوضح واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة فى الألوهية وأحكامها فهل أنتم داخلون فى الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة فى حقيته وفى بطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخل فيه الإذعان لكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا أو منقادون للحق الذى هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعناد وفى هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر وإقناط من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه هذا والأول أنسب لما سلف من قوله تعالى (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ولما سيأتى من قوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) وأشد ارتباطا بما يعقبه كما ستحيط به خبرا (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أى ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة فى الرزق وكثرة الأولاد والرياسة وغير ذلك والمراد بالإرادة ما يحصل عند مباشرة الأعمال لا مجرد الإرادة القلبية لقوله تعالى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) وإدخال كان* عليها للدلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخرة أصلا وليس المراد بأعمالهم أعمال كلهم فإنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ولا كل أحد ينال كل ما يهواه فإن ذلك منوط بالمشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ولا كل أعمالهم بل بعضها الذى يترتب عليه الأمور المذكورة بطريق الأجر والجزاء من أعمال البر وقد أطلقت وأريد بها ثمراتها فالمعنى نوصل إليهم ثمرات أعمالهم فى الحياة الدنيا كاملة وقرىء يوف على الإسناد إلى الله عزوجل وتوف بالفوقانية على البناء للمفعول ورفع أعمالهم وقرىء نوفى بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضيا كقوله[وإن أتاه خليل يوم مسغبة * يقول لا غائب مالى ولا حرم] (وَهُمْ فِيها) أى فى الحياة الدنيا (لا يُبْخَسُونَ) * أى لا ينقصون وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذى هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التى هى إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة فى نفى النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا والمعنى إنهم فيها خاصة لا ينقصون ثمرات أعمالهم وأجورها نقصا كليا مطردا ولا يحرمونها حرمانا كليا وأما فى الآخرة فهم فى الحرمان المطلق واليأس المحقق كما ينطق به قوله تعالى (أُولئِكَ) الخ فإنه إشارة إلى المذكورين باعتبار إرادتهم الحياة الدنيا أو باعتبار توفيتهم أجورهم من غير بخس أو باعتبارهما معا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى سوء الحال أى أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس (الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا وأعمالهم مقصورة على تحصيلها وقد

١٩٣

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧)

____________________________________

اجتنوا ثمرتها ولم يكونوا يريدون بها شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم فى الآخرة إلا النار وعذابها المخلد* (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أى ظهر فى الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التى كانت تؤدى إلى الثواب لو كانت معمولة للآخرة أو حبط ما صنعوه فى الدنيا من أعمال البر إذ شرط الاعتداد بها الإخلاص* (وَباطِلٌ) أى فى نفسه (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فى أثناء تحصيل المطالب الدنيوية ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة وأن الثانى ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبىء عن الحدوث وبالثانى البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه وفى زيادة كان فى الثانى دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس فى الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التى هى من مقدمات مطالبهم الدنية وقرىء وبطل على الفعل أى ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتعبه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوى فبطل مطلقا وقرىء وباطلا ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو فى معنى المصدر كقوله ولا خارجا من فى زور كلام وعن أنس رضى الله عنه أن المراد بقوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ) الخ اليهود والنصارى إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحما عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة فى الرزق وصحة فى البدن وقيل هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسهم لهم فى الغنائم وأنت خبير بأن ذلك إنما كان بعد الهجرة والسورة مكية وقيل هم أهل الرياء يقال للقراء منهم أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ذلك وهكذا لغيره ممن يعمل أعمال البر لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى (لَهُمْ إِلَّا النَّارُ) بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك والذى تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون فى القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وعلا لما أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله وبأن لا قدرة لغيره على شىء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شىء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شئونهم الموهمة لكونهم على شىء فى الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستيلائهم على المطالب الدنيوية وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بين ذلك أى بيان ثم أعيد الترغيب فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام فقيل (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أى برهان نير عظيم الشأن يدل على حقية ما رغب فى الثبات عليه من الإسلام وهو القرآن وباعتباره أو بتأويل البرهان ذكر الضمير* الراجع إليها فى قوله تعالى (وَيَتْلُوهُ) أى يتبعه (شاهِدٌ) يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجاز فى

١٩٤

____________________________________

نظمه المطرد فى كل مقدار سورة منه أو ما وقع فى بعض آياته من الإخبار بالغيب وكلاهما وصف تابع له شاهد بكونه من عند الله عزوجل غير أنه على التقدير الأول يكون فى الكلام إشارة إلى حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فى تمسكهم بالقرآن عند تبين كونه منزلا بعلم الله بشهادة الإعجاز (مِنْهُ) أى من القرآن* غير خارج عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلا منهما وارد من جهته تعالى للشهادة ويجوز على هذا التقدير أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك أيضا من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من جهته تعالى فالمراد بمن فى قوله تعالى (أَفَمَنْ) كل من اتصف بهذه الصفة الحميدة فيدخل فيه المخاطبون بقوله تعالى (فَاعْلَمُوا) فهل أنتم دخولا أوليا وقيل هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه وقيل المراد بالبينة دليل العقل وبالشاهد القرآن فالضمير فى منه لله تعالى أو البينة القرآن ويتلوه من التلاوة والشاهد جبريل أو لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظ والأولى هو الأول ولما كان المراد بتلو الشاهد للبرهان إقامة الشهادة بصحته وكونه من عند الله تابعا له بحيث لا يفارقه فى مشهد من المشاهد فإن القرآن بينة باقية على وجه الدهر مع شاهدها الذى يشهد بأمرها إلى يوم القيامة عند كل مؤمن وجاحد عطف كتاب موسى فى قوله عز قائلا (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) على فاعله مع كونه مقدما عليه فى النزول فكأنه قيل أفمن كان على بينة من ربه ويشهد به شاهد منه وشاهد آخر من قبله هو كتاب موسى وإنما قدم فى الذكر المؤخر فى النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته فى وصف التلو والتنكير فى بينة وشاهد للتفخيم (إِماماً) أى مؤتما* به فى الدين ومقتدى وفى التعرض لهذا الوصف بصدد بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو (وَرَحْمَةً) أى نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة* بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهو الكون على* بينة من الله ولما أن ذلك عبارة عن مطلق التمسك بها وقد يكون ذلك بطريق التقليد لمن سلف من عظماء الدين من غير عثور على دقائق الحقائق وصفهم بأنهم (يُؤْمِنُونَ) أى يصدقونه حق التصديق حسبما تشهد* به الشواهد الحقة المعربة عن حقيته (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أى بالقرآن ولم يصدق بتلك الشواهد الحقة (مِنَ الْأَحْزابِ) من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يردها لا محالة حسبما* نطق به قوله تعالى (لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) وفى جعلها موعدا إشعار بأن له فيها مالا يوصف من أفانين العذاب (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أى فى شك من أمر القرآن وكونه من عند الله عزوجل غبما شهدت به* الشواهد المذكورة وظهر فضل من تمسك به (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الذى يربيك فى دينك ودنياك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لعنادهم واستكبارهم فمن فى قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره وتقديره أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم يعنى أن بينهما تفاوتا عظيما بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما وإيراد الفاء بعد الهمزة لإنكار ترتب توهم المماثلة على ما ذكر من صفاتهم وعدد من هناتهم كأنه قيل أبعد ظهور حالهم فى الدنيا والآخرة كما وصف يتوهم المماثلة بينهم وبين من كان على أحسن ما يكون

١٩٥

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠)

____________________________________

فى العاجل والآجل كما فى قوله تعالى (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء وقوله تعالى (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن نسب إليه مالا يليق به كقولهم للملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقولهم لآلهتهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله يعنى أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذبا وهذا التركيب وإن كان سبكه على إنكار أن يكون أحد أظلم منهم من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها ولكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها وإفادة أنهم أظلم من كل ظالم كما ينبىء عنه ما سيتلى من قوله عزوجل لا جرم أنهم فى الآخرة هم الأخسرون فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد منه* حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل (أُولئِكَ) الموصوفون بالظلم البالغ الذى هو الافتراء على الله تعالى وبهذه الإشارة حصلت الغنية عن إسناد العرض إلى أعمالهم واكتفى بإسناده إليهم حيث قيل* (يُعْرَضُونَ) لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل* بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته (عَلى رَبِّهِمْ) الحق وفيه إيماء إلى بطلان رأيهم فى اتخاذهم أربابا من* دون الله عزوجل (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) عند العرض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمع شاهد* أو شهيد كأصحاب وأشراف (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) بالافتراء عليه كأن ذلك أمر واضح غنى عن الشهادة بوقوعه وإنما المحتاج إلى الشهادة تعيين من صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المراد بالأشهاد الحضار وهم جميع أهل الموقف على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولهم هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذمالهم بذلك لإشهاده عليهم كما يشعر به قوله تعالى (وَيَقُولُ) دون ويشهد الخ وتوطئة لما يعقبه* من قوله تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بالافتراء المذكور ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأول من كلام الله تعالى وفيه تهويل عظيم لما يحيق بهم من عاقبة ظلمهم اللهم إنا نعوذ بك من الخزى على رءوس الأشهاد (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) أى كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه القويم (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) انحرافا أى يصفونها بذلك وهى أبعد شىء منه أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها يقال بغيتك خيرا* أو شرا أى طلبت لك وهذا شامل لتكذيبهم بالقرآن وقولهم إنه ليس من عند الله (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أى يصفونها بالعوج والحال أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعمون أن لها سبيلا سويا يهدون الناس إليه وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به كأن كفر غيرهم ليس بشىء عند كفرهم (أُولئِكَ)

١٩٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣)

____________________________________

مع ما وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) الله تعالى مفلتين بأنفسهم من أخذه* لو أراد ذلك (فِي الْأَرْضِ) مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) * ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه والجمع إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من ولى أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) استئناف يتضمن حكمة تأخير المؤاخذة وقرأ* ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لفرط تصامهم عن الحق وبغضهم* له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبح حالهم فى عدم إذعانهم للقرآن الذى طريق تلقيه السمع أشد منه فى عدم قبولهم لسائر الآيات المنوطة بالأبصار بالغ فى نفى الأول عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعة واكتفى فى الثانى بنفى الإبصار فقال تعالى (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله المبسوطة فى* الأنفس والآفاق وهو استئناف وقع تعليلا لمضاعفة العذاب وقيل هو بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن مالا يسمع ولا يبصر بمعزل من الولاية وقوله تعالى (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر سوء العاقبة (أُولئِكَ) المنعوتون بما ذكر من القبائح (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله عز سلطانه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها أو خسروا* ما بذلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة (لا جَرَمَ) فيه ثلاثة أوجه الأول أن لا نافية لما سبق وجرم فعل بمعنى حق وأن مع ما فى حيزه فاعله والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعل حق (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) وهذا مذهب سيبويه والثانى جرم بمعنى كسب وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أى كسب ذلك خسرانهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور خسرانهم والثالث أن لا جرم بمعنى لا بد أى لا بد أنهم فى الآخرة هم الأخسرون وأيا ما كان فمعناه أنهم أخسر من كل خاسر فتبين أنهم أظلم من كل ظالم وهذه الآيات الكريمة كما ترى مقررة لما سبق من إنكار المماثلة بين من كان على بينة من ربه وبين من كان يريد الحياة الدنيا أبلغ تقرير فإنهم حيث كانوا أظلم من كل ظالم وأخسر من كل خاسر لم يتصور مماثلة بينهم وبين أحد من الظلمة الأخسرين فما ظنك بالمماثلة بينهم وبين من هو فى أعلى مدارج الكمال ولما ذكر فريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم شرع فى بيان حال أضدادهم أعنى فريق المؤمنين وما يئول إليه أمرهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسنهم المذكورة فى قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقيل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بكل ما يجب أن يؤمن

١٩٧

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤)

____________________________________

به فيندرج تحته ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذى عبر عنه بالكون على بينة من الله وإنما يحصل ذلك باستماع الوحى والتدبر فيه ومشاهدة ما يؤدى إلى ذلك فى الأنفس والآفاق أو فعلوا الإيمان كما فى* يعطى ويمنع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أى اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع* والتواضع من الخبت وهى الأرض المطمئنة ومعنى اخبت دخل فى الخبت كأنهم وأنجد دخل فى تهامة* ونجد (أُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الجميلة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون وبعد بيان تباين حاليهما عقلا أريد بيان تباينهما حسا فقيل (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) المذكورين أى حالهما العجيب لأن المثل* لا يطلق إلا على ما فيه غرابة من الأحوال والصفات (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أى كحال هؤلاء فيكون ذواتهم كذواتهم والكلام وإن أمكن أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بالأعمى وبالأصم وتشبيه الفريق الثانى بالبصير وبالسميع لكن الأدخل فى المبالغة والأقرب إلى ما يشير إليه لفظ المثل والأنسب بما سبق من وصف الكفرة بعدم استطاعة السمع وبعدم الإبصار أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بمن جمع بين العمى والصمم وتشبيه الفريق الثانى بمن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواو فى قوله تعالى (وَالْأَصَمِ) وفى قوله (وَالسَّمِيعِ) لعطف الصفة على الصفة كما فى قول من قال[إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة فى المزدحم] وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالحال المدلول عليها بلفظ المثل وهى التى يدور عليها أمر التشبيه ما يلائم الأحوال المذكورة المعتبرة فى جانب المشبه به من تعامى الفريق الأول عن مشاهدة آيات الله المنصوبة فى العالم والنظر إليها بعين الاعتبار وتصامهم عن استماع آيات القرآن الكريم وتلقيها بالقبول حسبما ذكر فى قوله تعالى (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) وإنما لم يراع هذا الترتيب ههنا لكون الأعمى أظهر وأشهر فى سوء الحال من الأصم ومن استعمال الفريق الثانى لكل من أبصارهم وأسماعهم فيما ذكر كما ينبغى المدلول عليه بما سبق من الإيمان والعمل الصالح والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيه تمثيليا لا جميع الأحوال المعدودة لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدى إليه من العذاب المضاعف والخسران البالغ فى أحدهما ومن النعيم المقيم فى الآخر فإن اعتبار ذلك ينزع إلى كون التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول فى تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك فى العذاب المضاعف والخسران الذى لا خسران فوقه هيئة فتشبه بهيئة منتزعة ممن فقد مشعرى البصر والسمع فتخبط فى مسلكه فوقع فى مهاوى الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا وينتزع من حال الفريق الثانى فى استعمال مشاعرهم فى آيات الله تعالى حسبما ينبغى وفوزهم بدار الخلود هيئة فتشبيه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما فى مهماته فيهتدى إلى سبيله وينال مرامه* (هَلْ يَسْتَوِيانِ) يعنى الفريقين المذكورين والاستفهام إنكارى مذكر لما سبق من إنكار المماثلة فى قوله* عزوجل (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) الآية (مَثَلاً) أى حالا وصفة وهو تمييز من فاعل يستويان (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى أتشكون فى عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو أتغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضرب

١٩٨

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٥)

____________________________________

لكم من المثل فيكون الإنكار واردا على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعا إلى عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب كما فى قوله تعالى (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) فإن الفاء هناك لإنكار الانقلاب بعد تحقق ما يوجب عدمه من علمهم بخلو الرسل قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أفلا تفعلون التذكر أو أفلا تعقلون ومعنى الهمزة إنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين وأنه ليس مما يصلح أن يقع لا من قبيل الإنكار فى قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِيانِ) فإن ذلك لنفى المماثلة ونفى الاستواء. ولما بين من فاتحة السورة الكريمة إلى هذا المقام أيها كتاب محكم الآيات مفصلها نازل فى شأن التوحيد وترك عبادة غير الله سبحانه وأن الذى أنزل عليه نذير وبشير من جهته تعالى وقرر فى تضاعيف ذلك ماله مدخل فى تحقيق هذا المرام من الترغيب والترهيب وإلزام المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقة الدالة على كونه من عند الله تعالى وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما عراه من ضيق الصدر العارض له من اقتراحاتهم الشنيعة وتكذيبهم له وتسميتهم للقرآن تارة سحر وأخرى مفترى وتثبيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على التمسك به والعمل بموجبه على أبلغ وجه وأبدع أسلوب شرع فى تحقيق ما ذكر وتقريره بذكر قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين المشتملة على ما اشتمل عليه فاتحة السورة الكريمة ليتأكد ذلك بطريقين أحدهما أن ما أمر به من التوحيد وفروعه مما أطبق عليه الأنبياء قاطبة والثانى أن ذلك إنما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحى فلا يبقى فى حقيته كلام أصلا وليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم ومقاساتهم الشدائد من جهتهم فقيل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وحرفه الباء لا الواو كما فى سورة الأعراف لئلا يجتمع واوان ولا يكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع وأن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليهما‌السلام وهو أول نبى بعث بعده. قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) * بالكسر على إرادة القول أى فقال أو قائلا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى بالفتح على إضمار حرف الجر أى أرسلناه ملتبسا بذلك الكلام وهو إنى لكم نذير بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح فى كأن والمعنى على الكسر وهو قولك إن زيدا كالأسد واقتصر على ذكر كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذيرا لا لأن دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بطريق الإنذار فقط ألا يرى إلى قوله تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الخ بل لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُبِينٌ) أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص* منه لأن الإنذار إعلام المحذور لا لمجرد التخويف والازعاج بل للحذر منه فيتعلق بكلا وصفيه

١٩٩

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (٢٧)

____________________________________

 (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أى بأن لا تعبدوا على أن أن مصدرية والباء متعلقة بأرسلنا ولا ناهية أى أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الشرك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه وأحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كونه نذيرا مبينا ليكون أدخل فى القبول ولم يفعل ذلك فى صدر السورة لئلا يفرق بين الكتاب ومضمونه بما ليس من أوصافه وأحواله أو مفسرة متعلقة به أو بنذير أو مفعول لمبين وعلى قراءة الفتح بدل من أنى لكم نذير مبين وتعيين لما يوجب وقوع المحذور وتبيين لوجه الخلاص وهو عبادة الله تعالى وقوله تعالى (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) تعليل لموجب النهى وتصريح بالمحذور وتحقيق للإنذار والمراد به يوم القيامة أو يوم الطوفان ووصفه بالأليم على الإسناد المجازى للمبالغة كما فى نهاره صائم وهذه المقالة وما فى معناها مما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أثناء الدعوة على ما عزى إليه فى سائر السور لما لم تصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة واحدة بل كان يكررها عليهم فى تلك المدة المتطاولة على ما نطق به قوله تعالى (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد اللتيا والتى بالفاء التعقيبية فقيل (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أى الأشراف منهم من قولهم فلان ملىء بكذا أى مطيق له لأنهم ملئوا بكفايات الأمور أو لأنهم ملئوا القلوب هيبة والمجالس أبهة أر لأنهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من* أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) مرادهم ما أنت إلا بشرا مثلنا ليس فيك مزية تخصك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل ولكن لا نراه* وكذا الحال فى قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) فالفعلان من رؤية العين وقوله تعالى (إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) حال من المفعول وكذا قوله (اتَّبَعَكَ) فى موضع الحال منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ويجوز أن يكون من رؤية القلب وهو الظاهر فهما المفعول الثانى وتعلق الرأى فى الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط وإنما لم يبتوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارهم عليه إراءة بأن ذلك لم يصدر عنهم جزافا بل بعد التأمل فى الأمر والتدبر فيه ولذلك اقتصروا على ذكر الظن فيما سيأتى وتعريضا من أول الأمر برأى المتبين فكأن قولهم وما نراك جواب عما يرد عليهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مثلهم حيث عاين دلائل نبوته واغتنم اتباعه من له عين تبصر وقلب يدرك فزعموا أن هؤلاء أراذلنا أى أخساؤنا وأدانينا جمع أرذل فإنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم كالأكبر والأكابر أو جمع أرذل جمع رذل كأكالب وأكلب وكلب يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانة عقل ولا إصالة رأى وقد كان ذلك منهم فى بادى الرأى أى ظاهره من غير تعمق من البدو أو فى أوله من البدء والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد

٢٠٠