تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (٦٣)

____________________________________

أقدركم على عمارتها أو أمركم بها وقيل هو من العمرى بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لمثلكم (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) * فإن ما فصل من فنون الإحسان داع إلى الاستغفار عما وقع منهم من التفريط والتوبة عما كانوا يباشرونه من القبائح وقد زيد فى بيان ما يوجب ذلك فقيل (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) أى قريب الرحمة كقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (مُجِيبٌ) لمن دعاه وسأله وقد روعى فى النظم الكريم نكتة حيث قدم ذكر العلة* الباعثة المتقدمة على الأمر بالاستغفار والتوبة وأخر عنه ذكر الغائية المتأخرة عنهما فى الوجود أعنى الإجابة (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) أى كنا نرجو منك لما كنا نرى منك من دلائل السداد ومخايل الرشاد أن تكون لنا سيدا ومستشارا فى الأمور وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا وقيل كنا نرجو أن تدخل فى ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه (قَبْلَ هذا) الذى باشرته من الدعوة* إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة أو قبل هذا الوقت فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوة إلى الحق فالآن قد انصرم عنك رجاؤنا وقرأ طلحة مرجوءا بالمد والهمزة (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أى عبدوه والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) * من التوحيد وترك عبادة الأوثان وغير ذلك من الاستغفار والتوبة (مُرِيبٍ) أى موقع فى الريبة من* أرابه أى أوقعه فى الريبة أى قلق النفس وانتفاء الطمأنينة أو من أراب إذا كان ذاريبة وأيهما كان فالإسناد مجازى والتنوين فيه وفى شك للتفخيم (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أى أخبرونى (إِنْ كُنْتُ) فى الحقيقة (عَلى بَيِّنَةٍ) أى حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة (مِنْ رَبِّي) مالكى ومتولى أمرى (وَآتانِي مِنْهُ) من جهته (رَحْمَةً) نبوة* وهذه الأمور وإن كانت محققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتبارا لحال المخاطبين ورعاية لحسن المحاورة لاستنزالهم عن المكابرة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) أى ينجينى من عذابه والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصرة على ما سبق من إيتاء النبوة وكونه على بينة من ربه على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله تعالى (إِنْ عَصَيْتُهُ) أى بالمساهلة فى تبليغ الرسالة والمجاراة معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل (فَما تَزِيدُونَنِي) إذن* باستتباعكم إياى كما ينبىء عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أى لا تفيدوننى إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أى غير أن تجعلونى خاسرا بإبطال أعمالى وتعريضى لسخط الله تعالى أو فما*

٢٢١

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٦٥)

____________________________________

تزيدوننى بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم لخاسرون فالزيادة على معناه والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصلاة والسلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) الإضافة للتشريف والتنبيه* على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها من حيث الخلقة ومن حيث الخلق (لَكُمْ آيَةً) معجزة دالة على صدق نبوتى وهى حال من (ناقَةُ اللهِ) والعامل ما فى هذه من معنى الفعل ولكم حال من آية متقدمة عليها لكونها نكرة ولو تأخرت لكانت صفة لها ويجوز أن يكون (ناقَةُ اللهِ) بدلا من (هذِهِ) أو عطف بيان و (لَكُمْ) خبرا* وعاملا فى آية (فَذَرُوها) خلوها وشأنها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ترع نباتها وتشرب ماءها وإضافة الأرض إلى الله تعالى لتربية استحقاقها لذلك وتعليل الأمر بتركها وشأنها (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) بولغ فى النهى عن التعرض لها بما يضرها حيث نهى عن المس الذى هو من مبادى الإصابة ونكر السوء أى لا تضربوها* ولا تطردوها ولا تقربوها بشىء من السوء فضلا عن عقرها وقتلها (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أى قريب النزول. روى أنهم طلبوا منه أن يخرج من صخرة تسمى الكاثبة ناقة عشراء مخترجة جوفاء وبراء وقالوا إن فعلت ذلك صدقناك فأخذ صالح عليه الصلاة والسلام عليهم مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها فى العظم فآمن به جندع بن عمرو فى جماعة ومنع الباقين من الإيمان دواب ابن عمرو والحباب صاحب أو ثانهم ورباب كاهنهم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادى فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك (فَعَقَرُوها) قيل زينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقى سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب* فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها (فَقالَ) لهم صالح (تَمَتَّعُوا) أى عيشوا (فِي دارِكُمْ) * أى فى منازلكم أو فى الدنيا (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) قيل قال لهم تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم* الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب (ذلِكَ) إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب* عقيبها والمراد بما فيه من معنى البعد تفخيمه (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أى غير مكذوب فيه فحذف الجار للاتساع المشهور كقوله [ويوم شهدناه سليما وعامرا] أو غير مكذوب كأن الواعد قال له أفى بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول.

٢٢٢

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨)

____________________________________

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أى عذابنا أو أمرنا بنزوله وفيه مالا يخفى من التهويل (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) متعلق بنجينا أو بآمنوا (بِرَحْمَةٍ) بسبب رحمة عظيمة (مِنَّا) وهى بالنسبة إلى صالح النبوة وإلى المؤمنين* الإيمان كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفة منا (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أى ونجيناهم من خزى يومئذ وهو هلاكهم* بالصيحة كقوله تعالى (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) على معنى أنه كانت تلك التنجية تنجية من خزى يومئذ أى من ذلته ومهانته أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة كما فسر به العذاب الغليظ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم من عذاب يوم القيامة بعد تنجيتنا إياهم من عذاب الدنيا وعن نافع بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفى المعارج فى قوله تعالى (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) وقرىء بالتنوين ونصب يومئذ (إِنَّ رَبَّكَ) * الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر على كل شىء وللغالب عليه لا غيره ولكون الإخبار* بتنجية الأولياء لا سيما عند الأنباء بحلول العذاب أهم ذكرها أولا ثم أخبر بهلاك الأعداء فقال (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عدل عن المضمر إلى المظهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم (الصَّيْحَةُ) * أى صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء فى الأرض فتقطعت قلوبهم فى صدورهم وفى سورة الأعراف (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء (فَأَصْبَحُوا) أى صاروا (فِي دِيارِهِمْ) أى بلادهم أو مساكنهم (جاثِمِينَ) * هامدين موتى لا يتحركون والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب وحركة كما يكون ذلك عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبك. قيل لما رأوا العلامات التى بينها صالح من اصفرار وجوههم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه الصلاة والسلام فنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة فتقطعت قلوبهم فهلكوا (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) أى كأنهم فى بلادهم أو فى مساكنهم وهو فى موقع الحال أى أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم فى مقام قط (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) وضع موضع الضمير لزيادة البيان ونونه أبو بكر هنا وفى النجم وقرأ حفص هنا وفى* الفرقان والعنكبوت بغير تنوين (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم* تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاك فى قوله تعالى (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) وقرأ* الكسائى بالتنوين.

٢٢٣

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (٧٠)

____________________________________

 (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) وهم الملائكة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم جبريل وملكان وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن محمد بن كعب جبريل ومعه سبعة وعن السدى أحد عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا وإنما أسند إليهم مطلق المجىء بالبشرى دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه‌السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) وإنما جاءوه لداعية البشرى ولما كان المقصود فى السورة الكريمة ذكر سوء صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم بسبب ذلك ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ممن لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) * ثم رجع إليه حيث قيل وإلى مدين أخاهم شعيبا (بِالْبُشْرى) أى ملتبسين بها قيل هى مطلق البشرى المنتظمة للبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) الآية وقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وقوله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) لظهور تفرع المجادلة على مجيئها كما سيأتى وقيل هى البشارة بهلاك قوم لوط ويأباه مجادلته عليه الصلاة والسلام فى شأنهم والأظهر أنها البشارة بالولد وستعرف سر تفرع المجادلة على* ذلك ولما كان الإخبار بمجيئهم بالبشرى مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم (قالُوا سَلاماً) أى سلمنا أو نسلم عليك سلاما ويجوز أن يكون نصبه بقالوا أى قالوا قولا ذا سلام أو ذكروا سلاما* (قالَ سَلامٌ) أى عليكم سلام أو سلام عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرىء سلم كحرم فى حرام وقرأ* ابن أبى عبلة قال سلاما وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما (فَما لَبِثَ) أى إبراهيم (أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ) أى فى المجىء* به أو ما لبث مجيئه بعجل (حِينَئِذٍ) أى مشوى بالرضف فى الأخدود وقيل سمين يقطر ودكه لقوله بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدون إليه أيديهم للأكل* (نَكِرَهُمْ) أى أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره بمعنى وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير وقد روى أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت فى أيديهم فى اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكار منه عليه الصلاة والسلام راجع إلى فعلهم المذكور وأما إنكاره المتعلق بأنفسهم فلا تعلق له برؤية عدم أكلهم وإنما وقع ذلك عند رؤيته لهم لعدم كونهم من جنس ما كان يعهده* من الناس ألا يرى إلى قوله تعالى فى سورة الذاريات (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ) أى أحس* أو أضمر من جهتهم (خِيفَةً) لما ظن أن نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه أو لتعذيب قومه وإنما أخر

٢٢٤

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (٧٢)

____________________________________

المفعول الصريح عن الظرف لأن المراد الإخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أوجس من جهتهم شيئا هو الخيفة لا أنه أوجس الخيفة من جهتهم لا من جهة غيرهم وتحقيقه أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن (قالُوا لا تَخَفْ) ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايل الخوف إزالة له منه بل* بعد إظهاره عليه الصلاة والسلام له قال تعالى فى سورة الحجر (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بذلك (إِنَّا أُرْسِلْنا) ظاهره أنه استئناف فى معنى التعليل للنهى المذكور كما أن قوله تعالى (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) تعليل لذلك* فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنهم من الخوف أى أرسلنا بالعذاب (إِلى قَوْمِ لُوطٍ) خاصة إلا أنه* ليس كذلك فإن قوله تعالى (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) صريح فى أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه الصلاة والسلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وراء الستر بحيث تسمع محاورتهم أو على رءوسهم للخدمة حسبما هو المعتاد والجملة حال من ضمير قالوا أى قالوه وهى قائمة تسمع مقالتهم (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخوف أو بهلاك أهل الفساد أو بهما جميعا وقيل بوقوع الأمر حسبما* كانت تقول فيما سلف فإنها كانت تقول لإبراهيم اضمم إليك لوطا فإنى أرى أن العذاب نازلا بهؤلاء القوم وقيل ضحكت حاضت ومنه ضحكت الشجرة إذا سال صمغها وهو بعيد وقرىء بفتح الحاء (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) أى عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) بالنصب على أنه مفعول لما* دل عليه قوله (فَبَشَّرْناها) أى ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب وقرىء بالرفع على الابتداء خبره الظرف أى من بعد إسحق يعقوب مولود أو موجود وكلا الاسمين داخل فى البشارة كيحيى أو واقع فى الحكاية بعد أن ولدا فسميا بذلك وتوجيه البشارة ههنا إليها مع أن الأصل فى ذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد وجهت إليه حيث قيل وبشرناه بغلام حليم وبشرناه بغلام عليم للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد (قالَتْ) استئناف ورد جوابا عن سؤال من سأل وقال فما فعلت إذ بشرت بذلك فقيل قالت (يا وَيْلَتى) أصل الويل الخزى ثم شاع فى كل أمر فظيع والألف مبدلة من ياء الإضافة كما فى يا لهفا* ويا عجبا وقرأ الحسن على الأصل وأمالها أبو عمرو وعاصم فى رواية ومعناه يا ويلتى احضرى فهذا أوان حضورك وقيل هى ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) بنت تسعين أو تسع وتسعين سنة (وَهذا) الذى تشاهدونه (بَعْلِي) أى زوجى وأصل البعل القائم بالأمر (شَيْخاً) وكان ابن مائة* وعشرين سنة ونصبه على الحال والعامل معنى الإشارة وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وبعلى بدل من اسم الإشارة أو بيان له وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير فى أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أى أألد وكلانا على حالة منافية لذلك وإنما قدمت بيان

٢٢٥

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (٧٤)

____________________________________

حالها على بيان حاله عليه الصلاة والسلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس فى البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع من الولادة إلى جانب إبراهيم عليه الصلاة والسلام وفيه مالا يخفى من المحذور واقتصارها الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعد وأما ولادة ولدها* فلا يتعلق بها استبعاد (إِنَّ هذا) أى ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده وهذه الجملة لتعليل الاستبعاد بطريق الاستئناف التحقيقى ومقصدها استعظام نعمة الله تعالى عليها فى ضمن الاستعجاب العادى لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أى قدرته وحكمته أو تكوينه أو شأنه أنكروا عليها تعجبها من ذلك لأنها كانت ناشئة فى بيت النبوة ومهبط الوحى والآيات ومظهر المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهى سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله تعالى الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد مما يتعلق بذلك مشيئته الأزلية لا سيما على أهل بيت النبوة الذين ليست مرتبتهم عند الله سبحانه كمراتب سائر الناس وأن تسبح الله تعالى وتحمده وتمجده وإلى ذلك* أشاروا بقوله تعالى (رَحْمَةِ اللهِ) التى وسعت كل شىء واستتبعت كل خير وإنما وضع المظهر موضع المضمر* لزيادة تشريفها (وَبَرَكاتُهُ) أى خيراته النامية المتكاثرة فى كل باب التى من جملتها هبة الأولاد وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بنى إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام* (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على المدح أو الاختصاص لأنهم أهل بيت خليل الرحمن وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمه لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضا ليكون جوابهم لها جوابا له أيضا إن خطر بباله مثل ما خطر ببالها والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها كأنه قيل ليس المقام مقام التعجب فإن الله تعالى على كل شىء قدير ولستم يأهل بيت النبوة والكرامة والزلفى كسائر الطوائف بل رحمته المستتبعة لكل خير الواسعة لكل شىء وبركاته أى خيراته النامية الفائضة منه بواسطة* تلك الرحمة الواسعة لازمة لكم لا تفارقكم (إِنَّهُ حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب الحمد (مَجِيدٌ) كثير الخير والإحسان إلى عباده والجملة لتعليل ما سبق من قوله رحمة الله وبركاته عليكم (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أى ما أوجس منهم من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم وعرفان سبب مجيئهم والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبى من كل وجه بل له مدخل تام فى السباق والسياق وتأخير الفاعل عن الظرف لأنه مصب الفائدة فإن بتأخير ما حقه التقديم تبقى النفس منتظرة إلى وروده فيتمكن* فيها عند وروده إليها فضل تمكن (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) إن فسرت البشرى بقولهم لا تخف فسببية ذهاب

٢٢٦

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧)

____________________________________

الخوف ومجىء السرور للمجادلة المدلول عليها بقوله تعالى (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أى جادل رسلنا فى* شأنهم وعدل إلى صيغة الاستقبال لاستحضار صورتها أو طفق يجادلنا ظاهرة وأما إن فسرت ببشارة الولد أو بما يعمها فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلب بسلامته وسلامة أهله كافة ومجادلته إياهم أنه قال لهم حين قالوا له (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) إن قيل المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه‌السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم فى شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله تعالى (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) قلنا كان لوط عليه‌السلام على شريعة إبراهيم عليه‌السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التى من جملتهم قوم لوط ولا ريب فى تقدم هذا الخوف على قولهم (لا تَخَفْ) وأما الذى علمه عليه‌السلام بعد النهى عن الخوف فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخولهم تحت العموم فتأمل والله الموفق (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام ممن أساء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوه على الذنوب والتأسف على الناس (مُنِيبٌ) راجع إلى الله تعالى والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة* بيان ما حمله عليه‌السلام على ما صدر عنه من المجادلة (يا إِبْراهِيمُ) أى قالت الملائكة يا إبراهيم (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ) أى الشأن (قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أى قدره الجارى على وفق قضائه الأزلى الذى* هو عبارة عن الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص حسب تعلقها بالأشياء فى أوقاتها وهو المعبر عنه بالقدر (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما* (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) قال ابن عباس رضى الله عنهما انطلقوا من عند إبراهيم عليه‌السلام إلى لوط عليه‌السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه فى صور غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك (سِيءَ بِهِمْ) أى ساءه مجيئهم لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم وقرأ نافع وابن عامر والكسائى وأبو عمر وسىء وسيئت بإشمام السين الضم. روى أن الله تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرها قال أشهد بالله إنها لشر قرية فى الأرض عملا يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت به قومها وقالت فى بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم

٢٢٧

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠)

____________________________________

* قط (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أى ضاق بمكانهم صدره أو قلبه أو وسعه وطاقته وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه وقيل ضاقت نفسه عن هذا الحادث وذكر الذرع مثل وهو المساحة وكأنه قدر البدن مجازا أى إن بدنه ضاق قدره من احتمال ما وقع وقيل الذراع اسم للجارحة من المرفق إلى الأنامل والذرع مدها ومعنى ضيق الذرع فى قوله تعالى (ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) قصرها كما أن معنى سعتها وبسطتها طولها ووجه التمثيل بذلك أن القصير الذراع إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويل الذراع تقاصر عنه* وعجز عن تعاطيه فضرب مثلا للذى قصرت طاقته دون بلوغ الأمر (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد من عصبه إذا شده (وَجاءَهُ) أى لوطا وهو فى بيته مع أضيافه (قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أى يسرعون كأنما يدفعون* دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه والجملة حال من قومه وكذا قوله تعالى (وَمِنْ قَبْلُ) أى من قبل هذا الوقت* (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أى جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين فى عمل السيئات فضروا بها* وتمرنوا فيها حتى لم يبق عندهم قبحتها ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرعين مجاهرين (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعيته فإن تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا وقد زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنتيه من عتبة بن أبى لهب وأبى العاص بن الربيع قبل الوحى وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقاية ضيفه وذلك غاية الكرم وقيل ما كان ذلك القول منه مجرى على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة فى التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا فى أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم* جميعا بأن لا مناكحة بينهم وهو الأنسب بقولهم لقد علمت مالنا فى بناتك من حق كما ستقف عليه (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أى لا تفضحونى فى شأنهم فإن إخزاء* ضيف الرجل وجاره إخزاءله أولا تخجلونى من الخزاية وهى الحياء (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدى إلى الحق الصريح ويرعوى عن الباطل القبيح (قالُوا) معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهى* عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك* قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرضك إلا عرض سابرى ولا مطمع لنا فى ذلك (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الذكران ولما يئس عليه‌السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغى (قالَ لَوْ أَنَّ لِي

٢٢٨

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

____________________________________

بِكُمْ قُوَّةً) أى لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت كقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) عطف على (أَنَّ لِي بِكُمْ) إلى آخره لما فيه من معنى الفعل* أى لوقويت على دفعكم بنفسى أو أويت إلى ناصر عزيز قوى أتمنع به عنكم شبهه بركن الجبل فى الشدة والمنعة وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحم الله أخى لوطا كان يأوى إلى ركن شديد. روى أنه عليه‌السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسور والجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب (قالُوا) أى الرسل لما شاهدوا عجزه عن مدافعة قومه (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه‌السلام ربه رب العزة جل جلاله فى عقوبتهم فأذن له فقام فى الصورة التى يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال عز وعلا (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن فى بيت لوط قوما سحرة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء فى القرآن من السرى والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهى من جنابه عزوجل إليه عليه‌السلام (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بطائفة منه (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) أى لا يتخلف أولا ينظر إلى ورائه (أَحَدٌ) منك ومن* أهلك وإنما نهوا عن ذلك ليجدوا فى السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يفلو عن أدنى وقفة أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من قوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ويؤيده أنه* قرىء فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وقرىء بالرفع على البدل من أحد فالالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف كيلا يلزم التناقض بين القراءتين المتواترتين فإن النصب يقتضى كونه عليه‌السلام غير مأمور بالإسراء بها والرفع كونه مأمورا بذلك والاعتذار بأن مقتضى الرفع إنما هو مجرد كونها معهم وذلك لا يستدعى الأمر بالإسراء بها حتى يلزم المناقضة لجواز أن تسرى هى بنفسها كما يروى أنه عليه‌السلام لما أسرى بأهله تبعتهم فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها وأن يسرى بها عليه‌السلام من غير أمر بذلك إذ موجب النصب إنما هو عدم الأمر بالإسراء بها لا النهى عن الإسراء بها حتى يكون عليه‌السلام بالإسراء بها مخالفا للنهى لا يجدى نفعا لأن انصراف الاستثناء إلى الالتفات يستدعى بقاء الأهل على العموم فيكون الإسراء بها مأمورا به قطعا وفى حمل الأهلية فى إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفى الأخرى على النسبية مع أن فيه مالا يخفى من التحكم والاعتساف كر على مافر منه من المناقضة فالأولى حينئذ جعل الاستثناء على القراءتين من قوله لا يلتفت مثل الذى فى قوله تعالى (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) فإن ابن عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصح الرفع على البدل ولا بعد فى كون أكثر القراء

٢٢٩

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

____________________________________

على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه بطريق الاستصلاح ولذلك علله* على طريقة الاستئناف بقوله (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) من العذاب وهو أمطار الأحجار وإن لم يصيبها الخسف والضمير فى إنه للشأن وقوله تعالى (مُصِيبُها) خبر وقوله (ما أَصابَهُمْ) مبتدأ والجملة خبر لإن الذى اسمه ضمير الشأن وفيه مالا يخفى من تفخيم شأن ما أصابهم ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة* الرفع (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أى موعد عذابهم وهلاكهم تعليل للأمر بالإسراء والنهى عن الالتفات* المشعر بالحث على الإسراع (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع فى الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب وروى أنه قال للملائكة متى موعد هلاكهم قالوا الصبح قال أريد أسرع من ذلك فقالوا ذلك وإنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أى وقت عذابنا وموعده* وهو الصبح (جَعَلْنا عالِيَها) أى عالى قرى قوم لوط وهى التى عبر عنها بالمؤتفكات وهى خمس مدائن فيها* أربعمائة ألف ألف (سافِلَها) أى قلبناها على تلك الهيئة وجعل عاليها مفعولا أول للجعل وسافلها مفعولا ثانيا له وإن تحقق القلب بالعكس أيضا لتهويل الأمر وتفظيع الخطب لأن جعل عاليها الذى هو مقارهم ومساكنهم سافلها أشد عليهم وأشق من جعل سافلها عاليها وإن كان مستلزما له. روى أنه جعل جبريل عليه‌السلام جناحه فى أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم وإسناد الجعل والأمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبب لتفخيم الأمر وتهويل الخطب* (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) على أهل المدائن أو شذاذهم (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر كقوله (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) وأصله سنك كل فعرب وقيل هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته والمعنى من مثل الشىء المرسل أو مثل العطية فى الإدرار أو من السجل أى مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أى* من جهنم فأبدلت نونه لاما (مَنْضُودٍ) نضد فى السماء نضدا معدا للعذاب وقيل يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار (مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب وقيل معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض* أو باسم من ترمى به (عِنْدَ رَبِّكَ) فى خزائنه التى لا يتصرف فيها غيره عزوجل (وَما هِيَ) أى الحجارة* الموصوفة (مِنَ الظَّالِمِينَ) من كل ظالم (بِبَعِيدٍ) فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها وملابسون بها وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل عليه‌السلام فقال يعنى ظالمى أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة وقيل الضمير للقرى أى هى قريبة من ظالمى مكة يمرون بها فى مسايرهم وأسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوف مذكر أى بشىء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت فى السماء وهى فى غاية البعد من الأرض

٢٣٠

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٨٥)

____________________________________

إلا أنها حين هوت منها فهى أسرع شىء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم أو لأنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل والمصادر يستوى فى الوصف بها المذكر والمؤنث (وَإِلى مَدْيَنَ) أى أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام أو جعل اسما للقبيلة بالغلبة أو أهل مدين وهو بلد بناه مدين فسمى باسمه (أَخاهُمْ) أى نسيبهم* (شُعَيْباً) وهو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه والجملة* معطوفة على قوله تعالى (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أى وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا (قالَ) استئناف وقع* جوابا عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال كما قال من قبله من الرسل عليهم‌السلام (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه ولا تشركوا به شيئا (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تحقيق للتوحيد وتعليل* للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو ملاك أمر الدين وأول ما يجب على المكلفين نهاهم عن ترتيب مبادى ما اعتادوه من البخس والتطفيف عادة مستمرة فقال (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) كى تتوسلوا بذلك إلى بخس* حقوق الناس (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أى ملتبسين بثروة وسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن* تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكرا عليها أو أراكم بخير فلا تزيلوه بما أنتم عليه من الشر وهو على كل حال علة للنهى عقبت بعلة أخرى أعنى قوله عزوجل (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تنتهوا* عن ذلك (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) لا يشذ منه شاذ منكم وقيل عذاب يوم مهلك من قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) * وأصله من إحاطة العدو والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ووصف اليوم بالإحاطة وهى حال العذاب على الإسناد المجازى وفيه من المبالغة مالا يخفى فإن اليوم زمان يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأمر والنهى جميعا (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أى بالعدل من غير زيادة ولا نقصان فإن الزيادة فى الكيل والوزن وإن كان تفضلا مندوبا إليه لكنها فى الآلة محظورة كالنقص فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال وقت الكيل وإنما أمر بتسويتهما وتعديلهما صريحا بعد النهى عن نقصهما مبالغة فى الحمل على الإيفاء والمنع من البخس وتنبيها على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) بسبب نقصهما وعدم اعتدالهما (أَشْياءَهُمْ) التى يشترونها بهما* وقد صرح بالنهى عن البخس بعد ما علم ذلك فى ضمن النهى عن نقص المعيار والأمر بإيفائه اهتماما بشأنه وترغيبا فى إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها ويجوز أن يكون المراد بالأمر بإيفاء المكيال

٢٣١

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧)

____________________________________

والميزان الأمر بإيفاء المكيلات والموزونات ويكون النهى عن البخس عاما للنقص فى المقدار وغيره* تعميما بعد التخصيص كما فى قوله تعالى (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن العثى يعم نقص الحقوق وغيره من أنواع الفساد وقيل البخس المكس كأخذ العشور فى المعاملات قال زهير بن أبى سلمى[أفى كل أسواق العراق أتاوة * وفى كل ما باع امرؤ مكس درهم] والعثى فى الأرض السرقة وقطع الطريق والغارة وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه‌السلام من خرق السفينة وقتل الغلام وقيل معناه ولا تعثوا فى الأرض مفسدين أمر آخرتكم ومصالح دينكم (بَقِيَّتُ اللهِ) أى ما أبقاه* لكم من الحلال بعد التنزه عن تعاطى المحرمات (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تجمعون بالبخس والتطفيف فإن ذلك هباء* منثورا بل شر محض وإن زعمتم أن فيه خيرا كقوله تعالى (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لى فى مقالتى لكم وقيل البقية الطاعات كقوله عزوجل (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) * وقرىء تقية الله بالفوقانية وهى تقواه عن المعاصى (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل فى ذلك جهدا أو ما أنا بحافظ ومستبق عليكم نعم الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان أجابوا بذلك أمره عليه‌السلام إياهم بعبادة الله وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام ولقد بالغوا فى ذلك وبلغوا أقصى مراتب الخلاعة والمجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحى الآمر بذلك حتى ادعوا أن لا آمر به من العقل واللب أصلا وأنه من أحكام الوسوسة والجنون وعلى ذلك بنوا استفهامهم وقالوا بطريق الاستهزاء أصلاتك التى هى من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان التى توارثناها أبا عن جد وإنما جعلوه عليه‌السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه‌السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحى وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم وتخصيصهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كثير الصلاة معروفا بذلك وكانوا إذا رأوه يصلى يتغامزون ويتضاحكون فكانت هى من بين سائر شعائر الدين ضحكة لهم وقرىء أصلواتك* (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) جواب عن أمره عليه‌السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص معطوف على ما أى أو أن نترك أن نفعل فى أموالنا ما نشاء من الأخذوا لإعطاء والزيادة والنقص وقرىء بالتاء فى الفعلين عطفا على مفعول تأمرك أى أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت فى أموالنا ما تشاء وتجويز

٢٣٢

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

____________________________________

العطف على ما قيل يستدعى أن يراد بالترك معنيان متخالفان والمراد بفعله عليه‌السلام إيجاب الإيفاء والعدل فى معاملاتهم لا نفس الإيفاء فإن ذلك ليس من أفعاله عليه‌السلام بل من أفعالهم وإنما لم نقل عطفا على أن نترك لأن الترك ليس مأمورا به على الحقيقة بل المأمور به تكليفه عليه‌السلام إياهم وأمره بذلك والمعنى أصلاتك تأمرك أن تكلفنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وحمله على معنى أصلاتك تأمرك بما ليس فى وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك ليكون ذلك تعريضا منهم بركاكة رأيه عليه‌السلام واستهزاء به من تلك الجهة يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر ويستدعى أن يصدر عنه عليه‌السلام فى أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه وأنى ذلك فتأمل وقرىء بالنون فى الأول والتاء فى الثانى عطفا على أن نترك أى أو أن نفعل نحن فى أموالنا عند المعاملة ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وصفوه* عليه‌السلام بالوصفين على طريقة التهكم وإنما أرادوا بذلك وصفه بضديهما كقول الخزنة (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ويجوز أن يكون تعليلا لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) على زعمك وأما وصفه بهما على الحقيقة فيأباه مقام الاستهزاء اللهم إلا أن يراد بالصلاة الدين كما قيل (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أى حجة واضحة وبرهان نير عبر بها عما آتاه الله تعالى من النبوة ٨٨ والحكمة ردا على مقالتهم الشنعاء فى جعلهم أمره ونهيه غير مستند إلى سند (مِنْ رَبِّي) ومالك أمورى* وإيراد حرف الشرط مع جزمه عليه‌السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحجج لاعتبار حال المخاطبين ومراعاة حسن المحاورة معهم كما ذكرناه فى نظائره (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) أى من لدنه (رِزْقاً حَسَناً) * هو النبوة والحكمة أيضا عبر عنهما بذلك تنبيها على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له ولأمته وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أى أتقولون فى شأنى ما تقولون والمعنى إنكم نظمتمونى فى سلك السفهاء والغواة وعددتم ما صدر عنى من الأوامر والنواهى من قبيل مالا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بى وبأفعالى حتى قلتم إن ما أمرتكم به من التوحيد وترك عبادة الأصنام والاجتناب عن البخس والتطفيف ليس مما يأمر به آمر العقل ويقضى به قاضى الفطنة وإنما يأمر به صلاتك التى هى من أحكام الوسوسة والجنون فأخبرونى إن كنت من جهة ربى ومالك أمورى ثابتا على النبوة والحكمة التى ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقنى بذلك رزقا حسنا أتقولون فى شأنى وشأن أفعالى ما تقولون مما لا خير فيه ولا شروراءه هذا هو الجواب الذى يستدعيه السباق والسياق ويساعده النظم الكريم وأما ما قيل من أن المحذوف أيصح لى أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصى أو هل يسع لى مع هذا الإنعام الجامع

٢٣٣

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩)

____________________________________

للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون فى وحيه وأخالفه فى أمره ونهيه فبمعزل من ذلك وإنما يناسب تقديره إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين على معنى أدينك يأمرك أن تكلفنا بترك عبادة آلهتنا القديمة وترك التصرف المطلق فى أموالنا وتخالفنا فى ذلك وتشق عصانا وهذا مما لا ينبغى أن يصدر عنك فإنك أنت المشهور بالحلم الفاضل والرشد الكامل فيما بيننا كما كان قول قوم صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا مسرودا على ذلك النمط فأجيبوا بما أجيبوا به وعلى هذا الوجه يكون المراد بالرزق الحسن الحلال الذى آتاه الله تعالى والمعنى حينئذ أخبرونى إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقنى مالا* حلالا أستغنى به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره وأوافقكم فيما تأتون وما تذرون (وَما أُرِيدُ) بنهيى* إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف (أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أى أقصده بعد ما وليتم عنه وأستبد به دونكم يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول؟؟؟ عنه وخالفته عن كذا إذا كان الأمر* على العكس (إِنْ أُرِيدُ) أى ما أريد بما أباشره من الأمر والنهى (إِلَّا الْإِصْلاحَ) إلا أن أصلحكم بالنصيحة* والموعظة (مَا اسْتَطَعْتُ) أى مقدار ما استطعته من الإصلاح والتقييد به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح* فى الجملة لا عن إرادة ما ليس فى وسعه منه (وَما تَوْفِيقِي) أى كونى موفقا لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم* (إِلَّا بِاللهِ) أى بتأييده ومعونته بل الإصلاح من حيث الخلق مستند إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرة قاله عليه‌السلام تحقيقا للحق وإزاحة لما عسى يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده* بذلك (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فى ذلك معرضا عما عداه فإنه القادر على كل مقدور وما عداه عاجز محض فى حد* ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمداد به والاستظهار (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أى أرجع فيما أنا بصدده ويجوز أن يكون المراد وما كونى موفقا لإصابة الحق والصواب فى كل ما آتى وأذر إلا بهدايته ومعونته عليه توكلت وهو إشارة إلى محض التوحيد الذاتى والفعلى وإليه أنيب أى عليه أقبل بشراشر نفسى فى مجامع أمورى وإيثار صيغة الاستقبال على الماضى الأنسب للتقرر والتحقق كما فى التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ولا يخفى ما فى جوابه عليه‌السلام من مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على قواعد حسن المجاراة والمحاورة وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جناب الله تعالى والاستعانة به فى أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وأما تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابة إنما هى الرجوع الاختيارى بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوع الاضطرارى للجزاء أو ما يعمه (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أى لا يكسبنكم* من جرمته ذنبا مثل كسبته مالا (شِقاقِي) معاداتى وأصلهما أن أحد المتعاديين يكون فى عدوة وشق* والآخر فى آخر (أَنْ يُصِيبَكُمْ) مفعول ثان ليجرمنكم أى لا يكسبنكم معاداتكم لى أن يصيبكم

٢٣٤

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) (٩١)

____________________________________

(مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الصيحة والرجفة* وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أى كاسبا وهو منقول من جرم المعتدى إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المال من كسب المال فكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه لا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه فى المعنى إلا أن الأول أصح وأدور على ألسنة الفصحاء وقرأ أبو حيوة مثل ما أصاب بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله[لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة فى غصبون ذات أو قال] وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشقاق عن كسب إصابة العذاب لكنه فى الحقيقة نهى للكفرة عن مشاقته عليه‌السلام على ألطف أسلوب وأبدعه كما مر فى سورة المائدة عند قوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الآية (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم من الأمم* المعدودة فاعتبروا بهم فكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم ولم يصرح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكره لشهرة كونه منظوما فى سمط ما ذكر من دواهى الأمم المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم فى الكفر والمعاصى فلا يبعد أن يصيبكم مثل ما أصابهم وإفراد البعيد مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكهم على نية المضاف أو وما هم بشىء بعيد لأن المقصود إفادة عدم بعدهم على الإطلاق لا من حيث خصوصية كونهم قوما أو ما هم فى زمان بعيد أو مكان بعيد ولا يبعد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ولما أنذرهم عليه‌السلام بسوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا فى ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) مر تفسير مثله فى أول السورة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرحمة للتائبين (وَدُودٌ) مبالغ فى فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من* اللطف والإحسان وهذا تعليل للأمر بالاستغفار والتوبة وحث عليهما (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) الفقه معرفة غرض المت كلم من كلامه أى ما نفهم مرادك وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق المبين على أحسن وجه وأبلغه وضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى الصدود عن منهاج الحق والسلوك إلى سبيل الشقاء كما هو ديدن المفحم المحجوج يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف من قبيل مالا يفهم معناه ولا يدرك فحواه وأدمجوا فى ضمن ذلك أن فى تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة ولذلك قالوا (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا) فيما بيننا (ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا قدرة على شىء من الضر والنفع والإيقاع والدفع (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) * لولا مراعاة جانبهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا (لَرَجَمْناكَ) فإن ممانعة الرهط وهو اسم للثلاثة إلى*

٢٣٥

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣)

____________________________________

* السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم وقد أيد ذلك بقوله عزوجل (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) مكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنه للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاء الضمير حرف النفى وإن لم يكن الخبر فعليا غير خال عن الدلالة على رجوع النفى إلى الفاعل دون الفعل لا سيما مع قرينة قوله (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا وحيث كان غرضهم من عظيمتهم هذه عائدا إلى نفى ما فيه عليه‌السلام من القوة والعزة الربانيتين حسبما يوجبه كونه على بينة من ربه مؤيدا من عنده ويقتضيه قضية طلب التوفيق منه والتوكل عليه والإنابة إليه وإلى إسقاط ذلك كله عن درجة الاعتداد به والاعتبار (قالَ) عليه‌السلام فى جوابهم (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فإن الاستهانة بمن لا يتعزز إلا به عزوجل استهانة بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزبتهم منه عزوجل مع الاشتراك فى أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى وثانيا بنفى العزة بالمرة والمعنى (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) بسبب* عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أى شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا لا يبالى* به منسوب إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالأمسى فى النسبة إلى الأمس (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ) من* الأعمال السيئة التى من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه (مُحِيطٌ) لا يخفى عليه منها خافية وإن جعلتموه منسيا فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكار للرد والتكذيب فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه‌السلام لقوته وعزته بل لمراعاة جانب رهطه رد عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله حق قدره العزيز ولم تراعوا جنابه القوى فكيف تراعون جانب رهطى الأذلة (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا) لما رأى عليه‌السلام إصرارهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عماهم عليه من المعاصى حتى اجترءوا على العظيمة التى هى الاستهانة به* والعزيمة على رجمه لولا حرمة رهطه قال لهم على طريقة التهديد اعملوا (عَلى مَكانَتِكُمْ) أى على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانه إذا تمكن أبلغ التمكن وإنما قاله عليه‌السلام ردا لما ادعوا أنهم أقوياء قادرون على رجمه وأنه ضعيف فيما بينهم لا عزة له أو على ناحيتكم وجهتكم التى أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لى وسائر ما أنتم عليه مما لا خير

٢٣٦

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

____________________________________

فيه وابذلوا جهدكم فى مضارتى وإيقاع ما فى نيتكم وإخراج ما فى أمنيتكم من القوة إلى الفعل (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتى حسبما يؤيدنى الله ويوفقنى بأنواع التأييد والتوفيق (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) لما هددهم عليه* السلام بقوله اعملوا على مكانتكم إنى عامل كان مظنة أن يسأل منهم سائل فيقول فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تعلمون (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) وصف العذاب بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه‌السلام* به من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزى ظاهر حيث لا يكون إلا بجناية عظيمة توجبه (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) * عطف على (مَنْ يَأْتِيهِ) لا على أنه قسيمه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون من المعذب ومن الكاذب وفيه تعريض بكذبهم فى ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه‌السلام وفى نسبته إلى الضعف والهوان وفى ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط والاختلاف بين المعطوفين بالفعلية والاسمية لأن كذب الكاذب ليس بمرتقب كإتيان العذاب بل إنما المرتقب ظهور الكذب السابق المستمر ومن إما استفهامية معلقة للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا كاذب وإما موصولة أى سوف تعرفون الذى يأتيه عذاب والذى هو كاذب (وَارْتَقِبُوا) وانتظروا مآل ما أقول* (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفى زيادة* معكم إظهار منه عليه‌السلام لكمال الوثوق بأمره (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أى عذابنا كما ينبىء عنه قوله تعالى (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أو وقته فإن الارتقاب مؤذن بذلك (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وهى الإيمان الذى وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما ذكر بالواو كما فى قصة عاد لما أنه لم يسبقه فيها ذكر وعد يجرى مجرى السبب المقتضى لدخول الفاء فى معلوله كما فى قصتى صالح ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقة الوعد بقوله (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) وقوله (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عدل إليه* عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمهم الذى فصل فيما سبق فنونه (الصَّيْحَةُ) قيل صاح بهم جبريل عليه‌السلام فهلكوا وفى سورة الأعراف (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفى سورة* العنكبوت (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضى إليها كما مر فيما قبل (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين لازمين لأماكنهم لا براح لهم منها ولما لم يجعل متعلق* العلم فى قوله تعالى (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) الخ نفس مجىء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد ذلك أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا وجعل تنجية شعيب عليه‌السلام وإهلاك الكفرة جوابا له ومقصود الإفادة وإنما قدم تنجيته اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة التى هى مقتضى الربوبية على الغضب الذى يظهر أثره بموجب جرائرهم وجرائمهم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) أى لم يقيموا

٢٣٧

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٩٧)

____________________________________

* (فِيها) متصرفين فى أطرافها متقلبين فى أكنافها (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) العدول عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدل على طغيانهم الذى أداهم إلى هذه المرتبة وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم أعنى ثمود وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأنهما أهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاء صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعدت بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون سبب الهلاك والبعد مصدر لهما والبعد مصدر للمكسور (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهى الآيات التسع المفصلات التى هى العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والأنفس ومنهم من جعلهما آية واحدة وعد منها إظلال الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكام التوراة حين أباه بنو إسرائيل والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أرسلنا أو نعتا لمصدره المؤكد أى* أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو المعجزات الباهرة منها أو هو العصا والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها أو المراد بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شىء واحد أى أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وبين كونه سلطانا له على نبوته واضحا فى نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما ومتعديا أو هو الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) ويجوز أن يكون المراد ما بينه عليه‌السلام فى تضاعيف دعوته حين قال له فرعون من ربكما فما بال القرون الأولى من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة وجعله عبارة عن التوراة أو إدراجها فى جملة الآيات يرده قوله عزوجل(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون وما يذرون وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين عز سلطانه وترك العظيمة الشنعاء التى كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بنى إسرائيل من الأسر والقسر وتخصيص ملئه بالذكر مع عموم رسالته عليه‌السلام لقومه كافة لأصالتهم فى الرأى وتدبير الأمور واتباع غيرهم لهم فى الورود والصدور وإنما لم يصرح بكفر فرعون بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان* عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أى أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه‌السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر محقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق وداع إلى الضلال فنعى عليهم سوء اختيارهم وإيراد الفاء فى اتباعهم المترتب على أمر فرعون المبنى على كفره المسبوق بتبليغ الرسالة للإشعار بمفاجأتهم فى الإتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر وأمرهم به فكأن ذلك كله لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ بل وقع جميع ذلك فى وقت واحد فوقع أثر ذلك اتباعهم ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه المشهور وطريقته الزائغة فيكون معنى فاتبعوا فاستمروا على الاتباع والفاء

٢٣٨

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠)

____________________________________

مثل ما فى قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشىء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فتأمل وترك الإضمار لدفع توهم الرجوع إلى موسى عليه‌السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم فى الفساد والإفساد والضلال والإضلال فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار وكذا الحال فى قوله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) الرشد ضد الغى وقد يراد به محمودية العاقبة فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذى الرشد حقيقة لغوية والإسناد مجازى وعلى الثانى مجاز والإسناد حقيقى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) جميعا من الأشراف وغيرهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى يتقدمهم من قدمه بمعنى تقدمه وهو استئناف لبيان حاله فى الآخرة أى كما كان* قدوة لهم فى الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدم صلاح مآل أمره وسوء عاقبته (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أى يوردهم وإيثار صيغة الماضى للدلالة على تحقيق الوقوع لا محالة شبه فرعون بالفارط* الذى يتقدم الواردة إلى الماء وأتباعه بالواردة والنار بالماء الذى يردونه ثم قيل (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) * أى بئس الورد الذى يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك (أُتْبِعُوا) أى الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون (فِي هذِهِ) أى فى الدنيا (لَعْنَةً) عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهى تابعة* لهم حينما ساروا دائرة معهم أينما داروا فى الموقف فكما اتبعوا فرعون اتبعتهم اللعنة فى الدارين جزاء وفاقا واكتفى ببيان حالهم الفظيع وشأنهم الشنيع عن بيان حال فرعون إذ حين كان حالهم هكذا فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم فى هذا الضلال البعيد وحيث كان شأن الأتباع أن يكونوا أعوانا للمتبوع جعلت اللعنة رفدا لهم على طريقة التهكم فقيل (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أى بئس العون المعان وقد فسر الرفد بالعطاء* ولا يلائمه المقام وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده والمخصوص بالذم محذوف أى رفدهم وهى اللعنة فى الدارين وكونه مرفودا من حيث أن كل لعنة منها معينة وممدة لصاحبتها ومؤيدة لها (ذلِكَ) إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه فى الذكر والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة بما جنته أيدى أهلها (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر أى ذلك النبأ* بعض أنباء القرى مقصوص عليك (مِنْها) أى من تلك القرى (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أى ومنها حصيد حذف* لدلالة الأول عليه شبه ما بقى منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

٢٣٩

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤)

____________________________________

 (وَما ظَلَمْناهُمْ) بأن أهلكناهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن جعلوها عرضة للهلاك بافتراف ما يوجبه* (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) فما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) أى يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) أوثر صيغة المضارع حكاية للحال الماضية أو دلالة على استمرار عبادتهم لها (مِنْ شَيْءٍ) فى* موضع المصدر أى شيئا من الإغناء (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أى حين مجىء عذابه وهو منصوب بأغنت وقرىء* آلهتهم اللاتى ويدعون على البناء للمجهول (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) أى إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسروا بسبب عبادتهم لها (وَكَذلِكَ) أى ومثل ذلك الأخذ الذى مر بيانه وهو رفع على الابتداء* وخبره قوله (أَخْذُ رَبِّكَ) وقرىء أخذ ربك فمحل الكاف النصب على أنه مصدر مؤكد (إِذا أَخَذَ الْقُرى) * أى أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره إليها حسبما ذكر وقرىء إذ أخذ (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من القرى وهى فى الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامهم فى الأخذ أجريت الحال عليها وفائدتها الإشعار* بأنهم إنما أخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرة لكل ظالم (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجميع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه مالا يخفى من التهديد والتحذير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى أخذه تعالى للأمم المهلكة* أو فى قصصهم (لَآيَةً) لعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فإنه المعتبر به حيث يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة وأما من أنكر الآخرة وأحال فناء العالم وزعم أن ليس هو ولا شىء من أحواله مستندا إلى الفاعل المختار وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكية تتفق فى بعض الأوقات لا لما ذكر من المعاصى التى يقترفها* الأمم الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبار تبا لهم ولما لهم من الأفكار (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة* المدلول عليه بذكر الآخرة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أى يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى (يَوْمَ* يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ (وَذلِكَ) أى يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أى مشهود فيه حيث يشهد فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كما فى قوله [فى محفل من نواصى الناس مشهود] أى كثير شاهدوه ولو جعل نفس اليوم مشهودا لفات ما هو الغرض من تعظيم اليوم وتهويله وتمييزه عن غيره فإن سائر الأيام أيضا كذلك (وَما

٢٤٠