تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

____________________________________

تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم ولا يقدح فى ذلك كون ربوبية الأحبار والرهبان بطريق الإطاعة فإن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة أيضا به تعالى وحيث لم يخصوها به تعالى لم يخصوا العبادة به سبحانه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لإلها أو* استئناف مقرر للتوحيد (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الإشراك به فى العبادة والطاعة (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) إطفاء النار عبارة عن إزالة لهبها الموجبة لزوال نورها لا عن إزالة نورها كما قيل لكن لما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور كالمصباح إزالة نورها جعل إطفاؤها عبارة عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إزالة النور وإن كان لغير النار والسر فى ذلك انحصار إمكان الإزالة فى نورها والمراد بنور الله سبحانه إما حجته النيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الناطق بذلك أى يريد أهل الكتابين أن يردوا القرآن ويكذبوه فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد والشرائع التى من جملتها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة (بِأَفْواهِهِمْ) بأقاويلهم الباطلة الخارجة منها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه أو أصل تستند* إليه حسبما حكى عنهم وقيل المراد به نبوة النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وقد قيل مثلت حالهم فيما ذكر بحال من يريد طمسن نور عظيم منبث فى الآفاق بنفخه (وَيَأْبَى اللهُ) أى لا يريد (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز* دين الإسلام وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفى كما أشير إليه لوقوعه فى مقابلة قوله تعالى يريدون وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس فى نفى الإرادة أى لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج فى المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلا عن الإطفاء وفى إظهار النور فى مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عزوجل زيادة اعتناء بشأنه وتشريف له على تشريف وإشعار بعلة الحكم (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) جواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة وكلتاهما فى موقع الحال أى لا يريد الله إلا إتمام نوره لو لم يكره الكافرون ذلك ولو كرهوه أى على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى فى الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة لأن الشىء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذا السر يدور ما فى إن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادة تحقيق لهذا مرار (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) ملتبسا (بِالْهُدى) أى القرآن الذى هو هدى للمتقين (وَدِينِ الْحَقِّ) الثابت وهو دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أى رسوله (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أى على أهل الأديان كلهم أو ليظهر* الدين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة والكلام فى قوله عزوجل (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) كما فيما سبق خلا أن وصفهم بالشرك بعد وصفهم*

٦١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

____________________________________

بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى بيان حال الأحبار والرهبان فى إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الأتباع فى اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم فى* الأوامر والنواهى واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) يأخذونها بطريق الرشوة لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها وإنما عبر* عن ذلك بالأكل كل بناء على أنه معظم الغرض منه وتقبيحا لحالهم وتنفيرا للسامعين عنهم (وَيَصُدُّونَ) الناس* (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دين الإسلام أو عن المسلك المقرر فى التوراة والإنجيل إلى ما افتروه وحرفوه بأخذ* الرشا أو يصدون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموال بالباطل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أى يجمعونهما ويحفظونهما سواء كان ذلك بالدفن أو بوجه آخر والموصول عبارة إما عن الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة فى الوصف بالحرص والضن بهما بعد وصفهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيل فى* الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غير المنفقين وهو الأنسب بقوله عزوجل (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) فيكون نظمهم فى قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم فى استحقاق البشارة بالعذاب الأليم فالمراد بالإنفاق فى سبيل الله الزكاة لما روى أنه لما نزل كبر ذلك على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقى من أموالكم ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أدى زكاته فليس بكنز أى بكنز أوعد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الإنفاق فيما أمر الله بالإنفاق فيه وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها ونحوه فالمراد بها ما لم يؤد حقها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى* بها جنبه وجبينه وظهره (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط ويجوز أن يكون الموصول منصوبا بفعل يفسره فبشرهم (يَوْمَ) منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك* أى يعذبون أو باذكر (يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أى يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها وأصله تحمى النار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول رفعت القصة إلى الأمير فإن طرحت القصة قلت رفع إلى الأمير وإنما قيل عليها والمذكور شيآن لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال على رضى الله عنه أربعة آلاف

٦٢

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦)

____________________________________

وما دونها نفقة وما فوقها كنز وكذا الكلام فى قوله تعالى (وَلا يُنْفِقُونَها) وقيل الضمير للأموال والكنوز فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب كذلك بل أولى (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) لأن جمعهم لها وإمساكهم كان* لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التى هى الدماغ والقلب والكبد أو لأنها أصول الجهات الأربعة التى هى مقاديم البدن ومآخره وجنباه (هذا ما كَنَزْتُمْ) على إرادة القول (لِأَنْفُسِكُمْ) لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أى وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرىء بضم النون (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) أى عددها (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه وهو معمول لها لأنها مصدر (اثْنا عَشَرَ) خبر لأن (شَهْراً) تمييز مؤكد كما فى قولك عندى* من الدنانير عشرون دينارا والمراد الشهور القمرية إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية (فِي كِتابِ اللهِ) فى اللوح المحفوظ أو فيما أثبته وأوجبه وهو صفة اثنا عشر أى اثنا عشر شهرا مثبتا فى كتاب الله وقوله عزوجل (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بما فى الجار والمجرور من معنى الاستقرار* أو بالكتاب على أنه مصدر والمعنى إن هذا أمر ثابت فى نفس الأمر منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة (مِنْها) أى من تلك الشهور الإثنى عشر (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هى ذو القعدة وذو الحجة* والمحرم ورجب ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خطبته فى حجة الوداع ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه من الحل والحرمة وعاد الحج إلى ذى الحجة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسىء الذى أحدثوه فى الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبى بكر رضى الله عنه قبلها فى ذى القعدة (ذلِكَ) أى تحريم الأشهر الأربعة* المعينة المعدودة وما فى ذلك من معنى البعد لتفخيم المشار إليه هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم دين إبراهيم* وإسمعيل عليهما‌السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويكرهون القتال فيها حتى أنه لو لقى رجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه وسموا رجبا الأصم ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسىء فغيروا (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن والجمهور على أن حرمة* القتال فيهن منسوخة وأن الظلم ارتكاب المعاصى فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها فى الحرم وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا فى الحرم ولا فى الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا وما نسخت ويؤيد الأول أنه

٦٣

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

____________________________________

* صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصر طائفا وغزا هوازن بحنين فى شوال وذى القعدة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) * أى جميعا وهو مصدر كف عن الشىء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أى معكم بالنصر والإمداد فيما تباشرونه من القتال وإنما وضع المظهر موضعه مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين عليه وإيذانا بأنه المدار فى النصر وقيل هى بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم (إِنَّمَا النَّسِيءُ) هو مصدر نسأه إذا أخره نسأ ونساء ونسيئا نحو مس مسا ومساسا ومسيسا وقرىء بهن جميعا وقرىء بقلب الهمزة ياء وتشديد الياء الأولى فيها. كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد وربما زادوا فى عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة* حرما ولذلك نص على العدد المعين فى الكتاب والسنة أى إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضمون إلى كفرهم (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ضلالا على ضلالهم القديم وقرىء على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعل لله سبحانه أى يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على القراءة الأولى أيضا وقيل المضلون حينئذ رؤساؤهم* والموصول عبارة عن أتباعهم وقرىء يضل بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ونضل بنون العظمة (يُحِلُّونَهُ) * أى الشهر المؤخر (عاماً) من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام (وَيُحَرِّمُونَهُ) أى يحافظون على حرمته كما كانت والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم له فى العام الماضى أو لإسنادهم له إلى* آلهتهم كما سيجىء (عاماً) آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم قال الكلبى أول من فعل ذلك رجل من كناية يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدر من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرد لما قضيت وأنا الذى لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وقيل هو جنادة بن عوف الكنانى وكان مطاعا فى الجاهلية كان يقوم على جمل فى الموسم فينادى بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم فى العام القابل فيقول إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل هو رجل من كنانة يقال له القلمس قال قائلهم [ومنا ناسىء الشهر القلمس] وعن ابن عباس رضى الله عنهما أول من سن النسىء عمر بن لحى* ابن قمعة بن خندف والجملتان تفسير للضلال أو حال من الموصول والعامل عامله (لِيُواطِؤُا) أى* ليوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر الأربعة واللام متعلقة بالفعل الثانى أو بما يدل عليه مجموع* الفعلين (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) بخصوصه من الأشهر المعينة (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) وقرىء على البناء

٦٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

____________________________________

للفاعل وهو الله سبحانه والمعنى جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس وقيل خذلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا فاستمروا على ذلك (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) هداية موصلة إلى المطلوب البتة وإنما* يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا فى تيه الضلال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) رجوع إلى حث المؤمنين وتجريد عزائمهم على قتال الكفرة إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك (ما لَكُمْ) استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ (إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) * تباطأتم وتقاعستم أصله تثاقلتم وقد قرىء كذلك أى أى شىء حصل أو حاصل لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم انفروا أى اخرجوا إلى الغزو فى سبيل الله متثاقلين على أن الفعل ماض لفظا مضارع معنى كأنه قيل تتثاقلون فالعامل فى الظرف الاستقرار المقدر فى لكم أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك ويجوز أن يعمل فيه الحال أى مالكم متثاقلين حين قيل لكم انفروا وقرىء أثاقلتم على الاستفهام الإنكارى التوبيخى فالعامل فى الظرف حينئذ إنما هو الأول (إِلَى الْأَرْضِ) متعلق باثاقلتم على تضمينه* معنى الميل والإخلاد أى اثاقلتم ماثلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الغزو ومتاعبه المستتبعة للراحلة الخالدة كقوله تعالى (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم وكان ذلك فى غزوة تبوك فى سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف استنفروا فى وقت عسرة وقحط وقيظ وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة غزاها إلا ورى بغيرها إلا فى غزوة تبوك فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين لهم المقصد فيها ليستعدوا لها (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وغرورها (مِنَ الْآخِرَةِ) أى بدل الآخرة ونعيمها الدائم (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) * أظهر فى مقام الإضمار لزيادة التقرير أى فما التمتع بها وبلذائذها (فِي الْآخِرَةِ) أى فى جنب الآخرة (إِلَّا قَلِيلٌ) أى مستحقر لا يؤبه له وفى ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعى الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة فى بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة وعلوها (إِلَّا تَنْفِرُوا) أى إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه (يُعَذِّبْكُمْ) أى الله عزوجل (عَذاباً أَلِيماً) أى يهلككم بسبب* فظيع هائل كقحط ونحوه (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم بعد إهلاككم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد* الوعيد والتشديد فى التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال أى قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم كأهل اليمن وأبناء فارس وفيه من الدلالة على

٦٥

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

____________________________________

* شدة السخط ما لا يخفى (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أى لا يقدح تثاقلكم فى نصرة دينه أصلا فإنه الغنى عن كل شىء فى كل شىء وقيل الضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله عزوجل وعده بالعصمة والنصرة وكان وعده مفعولا لا محالة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إهلاككم والإتيان بقوم آخرين (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أى إن لم تنصروه فسينصره الله الذى قد نصره فى وقت ضرورة أشد من هذه المرة فحذف الجزاء وأقيم* سببه مقامه أو إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حتى نصره فى مثل ذلك الوقت فلن يخذله فى غيره (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى تسببوا لخروجه حيث أذن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك حين هموا بإخراجه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال من ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء بسكون الياء على لغة من يجرى الناقص مجرى المقصور فى الإعراب أى أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثانيا فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة وقد مر فى قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) من سورة المائدة وجعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثانيهما لمشى* الصديق أمامه ودخوله فى الغار أو لا لكنسه وتسوية البساط كما ذكر فى الأخبار تمحل مستغنى عنه (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع والغار ثقب فى أعلى ثور وهو جبل* فى يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان أو ظرف لثانى (لِصاحِبِهِ) أى الصديق* (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بالعون والعصمة والمراد بالمعية الولاية الدائمة التى لا تحوم حول صاحبها شائبة شىء من الحزن وما هو المشهور من اختصاص مع بالمتبوع فالمراد بما فيه من المتبوعية هو المتبوعية فى الأمر المباشر روى أن المشركين طلعوا فوق الغار فاشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن نصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما وقيل لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا فى أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم اعم أبصارهم فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه وفيه من الدلالة على علو طبقة الصديق رضى الله عنه وسابقة صحبته ما لا يخفى ولذلك قالوا من أنكر صحبة أبى بكر رضى الله عنه فقد كفر لإنكاره* كلام الله سبحانه وتعالى (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أمنته التى تسكن عندها القلوب (عَلَيْهِ) على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد بها ما لا يحوم حوله شائبة الخوف أصلا أو على صاحبه إذ هو المنزعج وأما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان على طمأنينة من* أمره (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) عطف على نصره الله والجنودهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وقيل هم الملائكة أنزلهم الله ليحرسوه فى الغار ويأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم وقوله عز* وعلا (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يعنى الشرك أو دعوة الكفر فإن ذلك الجعل لا يتحقق بمجرد

٦٦

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

____________________________________

الإنجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك (وَكَلِمَةُ اللهِ) أى التوحيد أو دعوة الإسلام (هِيَ الْعُلْيا) لا يدانيها شىء.* وتغيير الأسلوب للدلالة على أنها فى نفسها كذلك لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها دون غيرها من الكلم ولذلك وسط ضمير الفعل وقرىء بالنصب عطفا على كلمة الذين (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) فى حكمه وتدبيره* (انْفِرُوا) تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى (خِفافاً وَثِقالاً) حالان من ضمير المخاطبين أى على أى حال كان من يسر وعسر حاصلين بأى سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة فى الجملة وما ذكر فى تفسيرهما من قولهم خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتها أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو مهازيل وسمانا أو صحاحا ومراضا ليس لتخصيص الأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقى وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى أن أنفر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم حتى نزل ليس على الأعمى حرج. وعن ابن عباس رضى الله عنهما نسخت بقوله عزوجل (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) الآية (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إيجاب للجهاد بهما إن أمكن* وبأحدهما عند إمكانه وإعواز الآخر حتى إن من ساعده النفس والمال يجاهد بهما ومن ساعده المال دون النفس يغزى مكانه من حاله على عكس حاله إلى هذا ذهب كثير من العلماء وقيل هو إيجاب للقسم الأول فقط (ذلِكُمْ) أى ما ذكر من النفير والجهاد وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته فى الشرف (خَيْرٌ لَكُمْ) أى خير عظيم فى نفسه أو خير مما يبتغى بتركه من الراحة والدعة وسعة العيش والتمتع بالأموال والأولاد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق* فى أخبار الله تعالى فبادروا إليه (لَوْ كانَ) صرف للخطاب عنهم وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعديدا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا على طريق المباثة وبيانا لدناءة هممهم وسائر رذائلهم أى لو كان ما دعوا إليه (عَرَضاً قَرِيباً) العرض ما عرض لك من منافع الدنيا أى لو كان ذلك غنما سهل المأخذ قريب المنال* (وَسَفَراً قاصِداً) ذا قصد بين القريب والبعيد (لَاتَّبَعُوكَ) فى النفير طمعا فى الفوز بالغنيمة وتعليق* الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أى* المسافة الشاطة الشاقة التى تقطع بمشقة وقرىء بكسر العين والشين (وَسَيَحْلِفُونَ) أى المتخلفون عن الغزو* وقوله تعالى (بِاللهِ) إما متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد على الوجهين أى سيحلفون*

٦٧

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣)

____________________________________

* بالله اعتذارا عند قفولك قائلين (لَوِ اسْتَطَعْنا) أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا الخ أى لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتهما جميعا حسبما عن لهم من الكذب والتعلل وعلى كلا* التقديرين فقوله تعالى (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابى القسم والشرط جميعا أما على الثانى فظاهر وأما على الأول فلأن قولهم لو استطعنا فى قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لقوله تعالى (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) وتصديق له والإخبار بما سيكون منهم بعد القفول وقد وقع حسبما أخبر به من جملة المعجزات الباهرة وقرىء* لو استطعنا بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع كما فى قوله عزوجل (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ* (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع أو حال من فاعله أى مهلكين أنفسهم أو من فاعل خرجنا جىء به على طريقة الإخبار عنهم كأنه قيل نهلك أنفسنا* أى لخرجنا معكم مهلكين أنفسنا كما فى قولك حلف ليفعلن مكان لأفعلن (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أى فى مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا (عَفَا اللهُ عَنْكَ) صريح فى أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما وقع منه عند استئذان المتخلفين فى التخلف معتذرين بعدم الاستطاعة وإذنه اعتمادا على إيمانهم ومواثيقهم لخلوها عن المزاحم من ترك الأولى* والأفضل الذى هو التأنى والتوقف إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال وقوله عزوجل (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) أى لأى سبب أذنت لهم فى التخلف حين اعتلوا بعللهم بيان لما أشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارة إلى أنه ينبغى أن تكون أموره صلى‌الله‌عليه‌وسلم منوطة بأسباب قوية موجبة لها أو مصححة وأن ما أبرزوه فى معرض التعلل والاعتذار مشفوعا بالأيمان كان بمعزل من كونه سببا للإذن قبل ظهور صدقه وكلتا اللامين متعلقة بالإذن لاختلافهما فى المعنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع المستأذنين وتوجه الإنكار إلى الإذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد لتحقق عدم استطاعة بعضهم* كما ينبىء عنه قوله سبحانه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أى فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم* الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن أو من جهتهما معا حسبما عن لهم هناك (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) فى ذلك فتعامل كلا من الفريقين بما يستحقه وهو بيان لذلك الأولى الأفضل وتخصيص له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه فإن كلمة حتى سواء كانت بمعنى اللام أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقها بقوله تعالى (لِمَ أَذِنْتَ) لاستلزامه أن يكون إذنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم معللا أو مغيا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وذلك بين الفساد بل بما يدل عليه ذلك كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم وهلا تأنيت حتى ينجلى الأمر كما هو قضية الحزم. قال قتادة وعمرو بن ميمون اثنان فعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر فيهما بشىء إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون وتغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذى صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثانى باسم الفاعل المفيد الدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث فى أمر خاص غير مصحح لنظمهم فى سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين

٦٨

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤)

____________________________________

وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم فى الكذب والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلى فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه فى الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له بل هو نقيض لمدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا وإسناده إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم ومن لم يتنبه لهذا قال حتى يتبين لك من صدق فى عذره ممن كذب فيه وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما هذا وفى تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعهده بحسن المفاوضة ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولى الألباب. قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت هب أنه كناية أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف فى الخطاب والتخفيف فى العتاب وهب أن العفو مستلزم للخطأ فهل هو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ولا يخفى أنه لم يكن فى خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عزوجل (لَوْ خَرَجُوا) الخ وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) الآية. نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذى أثير ويفتضحوا على رءوس الأشهاد ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تنبيه على أنه كان ينبغى أن يستدل باستئذانهم على حالهم ولا يؤذن لهم أى ليس من عادة المؤمنين أى يستأذنوك فى (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) وأن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن* فضلا عن أن يستأذنوك فى التخلف وحيث استأذنك هؤلاء فى التخلف كان ذلك مئنة للتأنى فى أمرهم بل دليلا على نفاقهم وقيل المستأذن فيه محذوف ومعنى قوله تعالى (أَنْ يُجاهِدُوا) كراهة أن يجاهدوا ثم

٦٩

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦)

____________________________________

قيل المحذوف هو التخلف والمعنى لا يستأذنك المؤمنون فى التخلف كراهة الجهاد فيتوجه النفى إلى القيد وبه يمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان فى نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا وقيل هو الجهاد أى لا يستأذنك المؤمنون فى الجهاد كراهة أن يجاهدوا بناء على أن الاستئذان فى الجهاد ربما يكون لكراهته ولا يخفى أن الاستئذان فى الشىء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة ولو سلم فالذى نفى عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم* لم يستأذنوا فى الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا فى التخلف (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتظام فى سلك المتقين وعدة لهم بأجزل الثواب وتقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) أى فى التخلف مطلقا على الأول أو لكراهة* الجهاد على الثانى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تخصيص الإيمان بهما فى الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد ببذل النفس والمال إنما هو الإيمان بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدال الحياة الأبدية* والنعيم المقيم الخالد بالحياة الفانية والمتاع الكاسد (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) عطف على الصلة وإيثار صيغة* الماضى للدلالة على تحقق الريب وتقرره (فَهُمْ) حال كونهم (فِي رَيْبِهِمْ) وشكهم المستقر فى قلوبهم* (يَتَرَدَّدُونَ) أى يتحيرون فإن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المستبصر والتعبير عنه به مما لا يخفى حسب موقعه (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) يدل على أن بعضهم قالوا عند الاعتذار كما نريد الخروج لكن* لم نتهيأ له وقد قرب الرحيل بحيث لا يمكننا الاستعداد فقيل تكذيبا لهم لو أراده (لَأَعَدُّوا لَهُ) أى* للخروج فى وقته (عُدَّةً) أى أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغير ذلك مما لا بد منه للسفر وقرىء عده بحذف التاء والإضافة إلى ضمير الخروج كما فعل بالعدة من قال [وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا] أى* عدته وقرىء عده بكسر العين وعدة بالإضافة (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أى نهوضهم للخروج. قيل هو استدراك عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادتهم للخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبطوا والاتفاق فى المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفى لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا فى اللفظ كقولك ما أحسن إلى زيد ولكن أساء والأظهر أن يكون استدراكا من نفس المقدم على نهج ما فى الأقيسة الاستثنائية والمعنى

٧٠

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨)

____________________________________

لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم لما فيه من المفاسد التى ستبين (فَثَبَّطَهُمْ) أى حبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) تمثيل* لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج فى قلوبهم أو لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو هو حكاية قول بعضهم لبعض أو هو إذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم فى القعود والمراد بالقاعدين إما المعذورون أو غيرهم وأيا ما كان فغير خال عن الذم (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) بيان لسر كراهته تعالى لانبعاثهم أى لو خرجوا مخالطين لكم (ما زادُوكُمْ) أى ما أورثوكم شيئا من الأشياء (إِلَّا خَبالاً) أى فسادا وشرا فالاستثناء مفرغ متصل وقيل* منقطع وليس بذلك (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أى ولسعوا فيما بينكم بالنمائم والتضريب وإفساد ذات البين* من وضع البعير وضعا إذا أسرع وأوضعته أنا أى حملته على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد به المبالغة فى الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشى وقرىء ولأرقصوا من رقصت الناقة أسرعت وأرقصتها أنا وقرىء ولأوفضوا أى أسرعوا (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع* الخلاف فيما بينكم وإلقاء الرعب فى قلوبكم وإفساد نياتكم والجملة حال من ضمير أوضعوا أو استئناف (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أى نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم أو فيكم قوم ضعفة يسمعون* للمنافقين أى يطيعونهم والجملة حال من مفعول يبغونكم أو من فاعله لاشتمالها على ضميريهما أو مستأنفة ولعلهم لم يكونوا فى كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كلى كره الله انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم ووجه العتاب على الإذن فى قعودهم مع تقرره لا محالة وتضمن خروجهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذن منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعى فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) علما* محيطا بضمائرهم وظواهرهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتى منهم فيما سيأتى ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد فى الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم ولعله شامل للفريقين السماعين والقاعدين (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) تشتيت شملك وتفريق أصحابك منك (مِنْ قَبْلُ) أى يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبى بن* سلول المنافق بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوك أيضا بعد ما خرج مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذى جدة أسفل من ثنية الوداع وعن ابن جريج رضى الله عنه وقفو الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا من المنافقين ليفتكوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فردهم الله تعالى خاسئين (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) تقليب الأمر تصريفه من وجه إلى وجه*

٧١

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (٥٠)

____________________________________

وترديده لأجل التدبير والاجتهاد فى المكر والحيلة يقال للرجل المتصرف فى وجوه الحيل حول وقلب* أى اجتهدوا ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء فى إبطال أمرك وقرىء بالتخفيف (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ) أى النصر والتأييد الإلهى (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) غلب دينه وعلا شرعه (وَهُمْ كارِهُونَ) والحال أنهم كارهون لذلك أى على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهوينا للخطب (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) فى القعود (وَلا تَفْتِنِّي) أى لا توقعنى فى الفتنة وهى المعصية والإثم يريد إنى متخلف لا محالة أذنت أو لم تأذن فائذن لى حتى لا أقع فى المعصية بالمخالفة أو لا تلقنى فى الهلكة فإنى إن خرجت معك هلك مالى وعيالى لعدم من يقوم بمصالحهم وقيل قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أبى مشتهر بالنساء فلا تفتنى ببنات الأصفر يعنى نساء الروم ولكن أعينك بمالى فاتركنى وقرىء ولا تفتنى من أفتنه بمعنى فتنه* (أَلا فِي الْفِتْنَةِ) أى فى عينها ونفسها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم* الجنس به (سَقَطُوا) لا فى شىء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ومن القعود بالإذن المبنى عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة وقرىء بإفراد الفعل محافظة على لفظ من وفى تصدير الجملة بحرف التنبيه مع تقديم الظرف إيذان بأنهم وقعوا فيها وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة زعما منهم أن الفتنة إنما هى التخلف بغير إذن وفى التعبير عن الافتتان بالسقوط فى الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم* فى دركات الردى أسفل سافلين وقوله عزوجل (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وعيد لهم على ما فعلوا معطوف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه أى جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على الثبات والاستمرار أو محيطة بهم الآن تنزيلا لشىء سيقع عن قريب منزلة الواقع أو وضعا لأسباب الشىء موضعه فإن مبادى إحاطة النار بهم من الكفر والمعاصى محيطة بهم الآن من جميع الجوانب ومن جملتها ما فروا منه وما سقطوا فيه من الفتنة وقيل تلك المبادى المتشكلة بصور الأعمال والأخلاق هى النار بعينها ولكن لا يظهر ذلك فى هذه النشأة وإنما يظهر عند تشكلها بصورها الحقيقية فى النشأة الآخرة والمراد بالكافرين إما المنافقون وإيثار وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين الشاملين للمنافقين شمولا أوليا (إِنْ تُصِبْكَ) فى بعض مغازيك (حَسَنَةٌ) من الظفر والغنيمة (تَسُؤْهُمْ) تلك الحسنة

٧٢

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢)

____________________________________

أى تورثهم مساءة لفرط حسدهم وعداوتهم لك (وَإِنْ تُصِبْكَ) فى بعضها (مُصِيبَةٌ) من نوع شدة* (يَقُولُوا) متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أى تلافينا ما يهمنا من الأمر يعنون* به الاعتزال عن المسلمين والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمور الكفر والنفاق قولا وفعلا (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل إصابة المصيبة فى وقت تداركه يشيرون بذلك إلى أن المعاملة المذكورة* إنما تروج عند الكفرة بوقوعها حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة (وَيَتَوَلَّوْا) عن مجلس الاجتماع* والتحدث إلى أهاليهم أو يعرضوا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُمْ فَرِحُونَ) بما صنعوا من أخذ الأمر وبما أصابه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجملة حال من الضمير فى يقولوا ويتولوا لا فى الأخير فقط لمقارنة الفرح لهما معا وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور وإسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال وإن تصبك مصيبة تسررهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتى عروض المساءة والمسرة بأنهم فى الأولى مضطرون وفى الثانية مختارون (قُلْ) بيانا لبطلان ما بنوا عليه مسرتهم من الاعتقاد (لَنْ يُصِيبَنا) أبدا وقرىء هل يصيبنا وهل يصيبنا من فيعل لا من فعل لأنه واوى يقال صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب (إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أى أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية من النصرة عليكم أو الشهادة المؤدية إلى* النعيم الدائم (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولى أمورنا (وَعَلَى اللهِ) وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التوكل تفويض* الأمر إلى الله والرضا بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادى العادية والفاء للدلالة على السببية والأصل ليتوكل المؤمنون على الله قدم الظرف على الفعل لإفادة القصر ثم أدخل الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل عليه كما فى قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) والجملة إن كانت من تمام الكلام المأمور به فإظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار لإظهار التبرك والتلذذ به وإن كانت مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤمنين بالتوكل إثر أمرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكر فالأمر ظاهر وكذا إعادة الأمر فى قوله عزوجل (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) لانقطاع حكم الأمر الأول بالثانى وإن كان أمر الغائب وأما على الوجه الأول فهى لإبراز كمال العناية بشأن المأمور به والإشعار بما بينه وبين ما أمر به أو لا من الفرق فى السياق والتربص التمكث مع انتظار مجىء شىء خيرا كان أو شرا والباء للتعدية وإحدى الناءين محذوفة أى ما تنتظرون بنا (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أى العاقبتين* اللتين كل واحدة منهما هى حسنى العواقب وهما النصر والشهادة وهذا نوع بيان لما أبهم فى الجواب الأول وكشف لحقيقة الحال بإعلام أن ما يزعمونه مضرة للمسلمين من الشهادة أنفع مما يعدونه منفعة من النصر والغنيمة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى السوأيين من العواقب إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) *

٧٣

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٥٦)

____________________________________

* كما أصاب من قبلكم من الأمم المهلكة والظرف صفة عذاب ولذلك حذف عامله وجوبا (أَوْ) بعذاب* (بِأَيْدِينا) وهو القتل على الكفر (فَتَرَبَّصُوا) الفاء فصيحة أى إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو* عاقبتنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم (قُلْ أَنْفِقُوا) أموالكم فى سبيل الله (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدران وقعا موقع الفاعل أى طائعين أو كارهين وهو أمر فى معنى الخبر كقوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) والمعنى أنفقتم* طوعا أو كرها (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ونظم الكلام فى سلك الأمر للمبالغة فى بيان تساوى الأمرين فى عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا الحال فينفقوا على الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول وهو جواب قول جد بن قيس ولكن أعينك بمالى ونفى التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم* وأن يكون بمعنى عدم الإثابة عليه وقوله عزوجل (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أى عاتين متمردين تعليل لرد إنفاقهم (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ) وقرىء بالتحتانية (نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) استثناء من أعم الأشياء أى ما منعهم قبول نفقاتهم منهم شىء من الأشياء إلا كفرهم وقرىء يقبل على البناء للفاعل* وهو الله تعالى (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أى لا يأتونها فى حال من الأحوال إلا حال كونهم* متثاقلين (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا فقوله تعالى طوعا أى من غير إلزام من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا رغبة أو هو فرضى لتوسيع الدائرة (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فإن ذلك استدراج لهم ووبال عليهم حسبما ينبىء عنه قوله عزوجل (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يقاسون فيها من الشدائد والمصائب* (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر فى العاقبة فيكون ذلك لهم نقمة لا نعمة وأصل الزهوق الخروج بصعوبة (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) فى الدين والإسلام (وَما هُمْ مِنْكُمْ) * فى ذلك (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافون أن يفعل بهم ما يفعل بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه

٧٤

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩)

____________________________________

بالأيمان الفاجرة (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطرارا حتى أنهم لو وجدوا غير ذلك ملجأ أى مكانا حصينا يلجأون إليه من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة وإيثار صيغة الاستقبال فى الشرط وإن كان المعنى على المضى لإفادة استمرار عدم الوجدان فإن المضارع المنفى الواقع موقع الماضى ليس نصا فى إفادة انتفاء استمرار الفعل كما هو الظاهر بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا حسبما يقتضيه المقام فإن معنى قولك لو تحسن إلى لشكرتك أن انتفاء الشكر بسبب استمرار انتفاء الإحسان لا أنه بسبب انتفاء استمرار الإحسان فإن الشكر يتوقف على وجود الإحسان لا على استمراره كما حقق فى موضعه (أَوْ مَغاراتٍ) أى غيرانا* وكهوفا يخفون فيها أنفسهم وقرىء بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور وقيل هو معتد من غار إذا دخل الغور أى أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم وأهليهم ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومفار (أَوْ مُدَّخَلاً) أى نفقا يندسون فيه وينجحرون وهو مفتعل من الدخول وقرىء مدخلا* من الدخول ومدخلا من الإدخال أى مكانا يدخلون فيه أنفسهم وقرىء متدخلا ومندخلا من التدخل والاندخال (لَوَلَّوْا) أى لصرفوا وجوههم وأقبلوا وقرىء لوالوا أى لالتجأوا (إِلَيْهِ) أى إلى أحد ما ذكر* (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أى يسرعون بحيث لا يردهم شىء من الفرس الجموح وهو الذى لا يثنيه اللجام وفيه إشعار* بكمال عتوهم وطغيانهم وقرىء يجمزون بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) بكسر الميم وقرىء بضمها أى يعيبك سرا وقرىء يلمزك ويلامزك مبالغة (فِي الصَّدَقاتِ) أى فى شأنها وقسمتها* (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا أى إن أعطوا منها قدر* ما يريدون (رَضُوا) بما وقع من القسمة واستحسنوها (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) ذلك المقدار (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) * أى يفاجئون السخط وإذا نائب مناب فاء الجزاء. قيل نزلت الآية فى أبى الجواظ المنافق حيث قال ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم فى رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل وقيل فى ابن ذى الخويصرة واسمه حرقوص ابن زهير التميمى رأس الخوارج كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال اعدل يا رسول الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلك إن لم أعدل فمن يعدل وقيل هم المؤلفة قلوبهم والأول هو الأظهر (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أى ما أعطاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدقات طيبى النفوس به وإن قل وذكر الله عزوجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بأمره سبحانه

٧٥

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)

____________________________________

* (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أى كفانا فضله وصنعه بنا وما قسمه لنا (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) بعد هذا* حسبما نرجو ونؤمل (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) فى أن يخولنا فضله والآية بأسرها فى حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أى لكان خيرا لهم (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) شروع فى تحقيق حقية ما صنعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القسمة ببيان المصارف ورد لمقالة القالة فى ذلك وحسم لأطماعهم الفارغة المبنية على زعمهم الفاسد* ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق أى جنس الصدقات المشتملة على الأنواع المختلفة (لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) أى مخصوصة بهؤلاء الأصناف الثمانية الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم كأنه قيل إنما هى لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقة بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوغهم أن يتكلموا فيها وفى قاسمها والفقير من له أدنى شىء والمسكين من لا شىء له هو المروى عن أبى حنيفة رضى الله عنه وقد قيل على العكس ولكل* منهما وجه يدل عليه (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الساعين فى جمعها وتحصيلها (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) هم أصناف فمنهم أشراف من العرب كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستألفهم ليسلموا فيرضخ لهم ومنهم قوم أسلموا ونياتهم ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ومنهم من يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم ولعل الصنف الأول كان يعطيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خمس الخمس الذى هو خالص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشىء منها على قتال الكفار ومانعى الزكاة وقد سقط سهم هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله عز وعلا وأعلى كلمته استغنى عن ذلك* (وَفِي الرِّقابِ) أى وللصرف فى فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشىء منها على أداء نجومهم وقيل بأن يفدى الأسارى وقيل بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق وأيا ما كان فالعدول عن اللام لعدم ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أعطوا كما فى الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما فى الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم فى استحقاق الصدقة لما أن* فى للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها (وَالْغارِمِينَ) أى الذين تداينوا لأنفسهم فى غير معصية إذا لم يكن لهم نصاب فاضل عن ديونهم وكذلك عند الشافعى رضى الله عنه من غرم لإصلاح ذات* البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) أى فقراء الغزاة والحجيج والمنقطع* بهم (وَابْنِ السَّبِيلِ) أى المسافر المنقطع عن ماله وتكرير الظرف فى الأخيرين للإيذان بزيادة فضلهما فى الاستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان غير مصحح للمالكية والاختصاص فهذه مصارف الصدقات فللمتصدق أن يدفع صدقته إلى كل واحد منهم وأن يقتصر على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارف لا تخرج عنهم لا لإثبات الاستحقاق وقد روى ذلك عن عمر وابن عباس وحذيفة رضى الله* عنهم وعند الشافعى لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من تلك الأصناف (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد

٧٦

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١)

____________________________________

لما دل عليه صدر الآية أى فرض لهم الصدقات فريضة ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أى فرض الله ذلك فريضة أو حال من الضمير المستكن فى قوله للفقراء أى إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أى مفروضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم (حَكِيمٌ) لا يفعل إلا ما تقتضيه* الحكمة من الأمور الحسنة التى من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) نزلت فى فرقة من المنافقين قالوا فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا ينبغى فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ذلك فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول إنما محمد أذن سامعة وذلك قوله عزوجل (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أى يسمع كل ما قيل من غير أن يتدبر فيه ويميز بين* ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به وإنما قالوه لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفح عنهم حلما وكرما فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) من قبيل* رجل صدق فى الدلالة على المبالغة فى الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ويجوز أن يكون المراد أذنا فى الخير والحق وفيما ينبغى سماعه وقبوله لا فى غير ذلك كما يدل عليه قراءة رحمة بالجر عطفا عليه أى هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله وقرىء أذن بسكون الذال فيهما وقرىء أذن خير على أنه صفة أو خبر ثان وقوله عزوجل (يُؤْمِنُ بِاللهِ) تفسير لكونه أذن خير لهم أى* يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبة له وكون ذلك خيرا للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أى يصدقهم لما علم فيهم من الخلوص واللام مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور* وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق كما فى قوله تعالى (أَنُؤْمِنُ لَكَ) الخ وقوله تعالى (فَما آمَنَ لِمُوسى) الخ (وَرَحْمَةٌ) * عطف على أذن خير أى وهو رحمة بطريق إطلاق المصدر على الفاعل للمبالغة (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أى* للذين أظهروا الإيمان منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم فى ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار وقرىء بالنصب على أنها علة لفعل دل عليه أذن خير أى يأذن لكم رحمة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) بما نقل عنهم من قولهم هو* أذن ونحوه وفى صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم كما أفصح عنه قوله تعالى فيما سيأتى (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ (لَهُمْ) بما يجترئون عليه من أذيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ينبىء* عنه بناء الحكم على الموصول (عَذابٌ أَلِيمٌ) وهذا اعتراض مسوق من قبله عزوجل على نهج الوعيد غير* داخل تحت الخطاب وفى تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا للموصول ما لا يخفى من المبالغة وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة مضافا إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته

٧٧

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣)

____________________________________

راجعة إلى جنابه عزوجل موجبة لكمال السخط والغضب (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) الخطاب للمؤمنين خاصة وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم أى يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل إليهم مما يورث أذاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما التخلف عن الجهاد* فليس بداخل فى هذا الاعتذار (لِيُرْضُوكُمْ) بذلك وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منهم ولم يكذبهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكون وسيلة إلى إرضائه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن الرضا بما فعلوا كما أشير إليه (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أى أحق بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى باب الإجلال والإعظام مشهدا ومغيبا وأما ما أتوا به من الأيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريق علمه فى الإخبار إلى أن يجىء الحق ويزهق الباطل والجملة نصب على الحالية من ضمير يحلفون أى يحلفون لكم لإرضائكم والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم أى يعرضون عما يهمهم ويجديهم ويشتغلون بما لا يعنيهم وإفراد الضمير فى يرضوه إما للإيذان بأن رضاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مندرج تحت رضاه سبحانه وإرضاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إرضاء له تعالى لقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وإما لأنه مستعار لاسم الإشارة الذى يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما فى قول رؤبة[فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه فى الجلد توليع البهق] أى كأن ذلك لا يقال أى حاجة إلى الاستعارة بعد التأويل المذكور لأنا نقول لو لا الاستعارة لم يتسن التأويل لما أن الضمير لا يتعرض إلا لذات ما يرجع إليه من غير تعرض لوصف من أوصافه التى من جملتها المذكورية وإنما المتعرض لها اسم الإشارة وإما لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه ومنه قول من قال[نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأى مختلف] أو إلى الله على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الثانية* محذوف كما هو رأى المبرد (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف تعويلا على دلالة ما سبق عليه أى إن كانوا مؤمنين فليرضوا الله ورسوله بما ذكر فإنهما أحق بالإرضاء (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أى أولئك المنافقون والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتها وقرىء بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ أى ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فنون القوارع والإنذارات* (أَنَّهُ) أى الشأن (مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) المحادة من الحد كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعنى الجانب فإن كل واحد من مباشرى كل من الأفعال المذكورة فى محل غير محل صاحبه ومن شرطية* جوابها قوله تعالى (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) على أن خبره محذوف أى فحق أن له نار جهنم وقرىء بكسر الهمزة والجملة الشرطية فى محل الرفع على أنها خبر لأن وهى مع خبرها سادة مسد مفعولى يعلموا وقيل المعنى

٧٨

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٦٥)

____________________________________

فله وأن تكرير للأولى تأكيدا لطول العهد لا من باب التأكيد اللفظى المانع للأولى من العمل ودخول الفاء كما فى قول من قال[لقد علم الحى اليمانون أننى * إذا قلت أما بعد أنى خطيبها] وقد جوز أن يكون فأن له معطوفا على أنه وجواب الشرط محذوف تقديره ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له الخ ورد بأن ذلك إنما يجوز عند كون فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم (خالِداً فِيها) حال مقدرة* من الضمير المجرور إن اعتبر فى الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وإن اعتبر مطلق الاستقرار فالأمر ظاهر (ذلِكَ) أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالد بذلك إيذانا ببعد درجته فى الهول والفظاعة (الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) الخزى الذل والهوان المقارن للفضيحة والندامة وهى ثمرات نفاقهم حيث يفتضحون على رءوس الأشهاد بظهورها ولحوق العذاب الخالد بهم والجملة تذييل لما سبق (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) فى شأنهم فإن ما نزل فى حقهم نازل عليهم (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا* يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق ومعنى تنبئتها إياهم بما فى قلوبهم مع أنه معلوم لهم وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على أسرارهم لا اطلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها أو المراد بالتنبئة المبالغة فى كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم وقيل معنى يحذر ليحذر وقيل الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالى بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه أى يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما فى قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم قال أبو مسلم كان إظهار الحذر منهم بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر كل شىء ويقول إنه بطريق الوحى يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) أى* افعلوا الاستهزاء وهو أمر تهديد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) أى من القوة إلى الفعل أو من الكمون إلى البروز* (ما تَحْذَرُونَ) أى ما تحذرونه من إنزال السورة ومن مخازيكم ومثالبكم المستكنة فى قلوبكم الفاضحة لكم على* ملأ الناس والتأكيد لرد إنكارهم بذلك لا لدفع ترددهم فى وقوع المحذور إذ ليس حذرهم بطريق الحقيقة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) عما قالوا (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير فى غزوة تبوك وبين يديه ركب من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام وقصورها هيهات هيهات فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبى الله لا والله ما كنا فى شىء من أمرك ولا من أمر أصحابك ولكن كنا فى شىء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر (قُلْ) غير ملتفت إلى اعتذارهم ناعيا*

٧٩

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨)

____________________________________

عليهم جناياتهم منزلا لهم منزلة المعترف بوقوع الاستهزاء موبخا لهم على أخطائهم موقع الاستهزاء* (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحقق الاستهزاء وثبوته (لا تَعْتَذِرُوا) لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارة عن محو أثر الذنب فإنه معلوم* الكذب بين البطلان (قَدْ كَفَرْتُمْ) أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطعن فيه (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بعد* إظهاركم له (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لتوبتهم وإخلاصهم أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء وقرىء إن يعف على إسناد الفعل إلى الله سبحانه وقرىء على البناء للمفعول مسندا إلى الظرف بتذكير الفعل وبتأنيثه* أيضا ذهابا إلى المعنى كأنه قيل إن ترحم طائفة (نُعَذِّبْ) بنون العظمة وقرىء بالياء على البناء للفاعل وبالتاء* على البناء للمفعول مسندا إلى ما بعده (طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) مصرين على الإجرام وهو غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين قال محمد بن إسحق الذى عفى عنه رجل واحد هو يحيى بن حمير الأشجعى لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال اللهم إنى لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتى قتلا فى سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) التعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم* فى الكفر والنفاق (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أى متشابهون فى النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشىء الواحد بالشخص وقيل أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم فى حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقرير لقوله تعالى* (وَما هُمْ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أى بالكفر والمعاصى (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) أى عن الإيمان والطاعة استئناف مقرر لمضمون ما سبق ومفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خبر ثان* (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أى عن المبرات والإنفاق فى سبيل الله فإن قبض اليد كناية عن الشح (نَسُوا اللهَ) * أغفلوا ذكره (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من رحمته وفضله وخذلهم والتعبير عنه بالنسيان للمشاكلة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون فى التمرد والفسق الذى هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل خير والإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير كما فى قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ) أى المجاهرين

٨٠