تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

____________________________________

الأوقات المحسوبة وتحقيقه أن الحساب إحصاء ماله كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من ثلاثين يوما قد تحصل كل من ذلك من أربع وعشرين ساعة مثلا والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شىء كذلك ولما لم يعتبر فى السنين المعدودة تحصل حد معين له اسم خاص غير أسامى مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتبارى لا يجدى فى تحصل المعدودة نفعا وحيث اعتبر فى الأوقات المحسوبة تحصل ما ذكر من المراتب التى لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك والسنة من حيث تحققها فى نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذى يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه فى ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من الحيثية المذكورة أعنى حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شىء غير ذلك وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالى بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذى اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) أى ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى من* الأحوال وفيه إيذان بأن معنى جعلهما على تلك الأحوال والهيئات ليس إلا خلقهما كذلك كما أشير إليه ولا يقدح فى ذلك أن استفادة القمر النور من الشمس أمر حادث فإن المراد بجعله نورا إنما هو جعله بحيث يتصف بالنور عند وجود شرائط الاتصاف به بالفعل (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء مفرغ من أعم أحوال* الفاعل أو المفعول أى ما خلق ذلك ملتبسا بشىء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا لمقتضى الحكمة البالغة أو مراعى فيه ذلك وهو ما أشير إليه إجمالا من العلم بأحوال السنين والأوقات المنوط به أمور معاملاتهم وعباداتهم (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أى الآيات التكوينية المذكورة أو جميع الآيات فيدخل فيها* الآيات المذكورة دخولا أوليا أو يفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك وقرىء بنون العظمة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الحكمة فى إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شئون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما فى تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها وتخصيص التفصيل بهم لأنهم المنتفعون به (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تنبيه آخر إجمالى على ما ذكر أى فى تعاقبهما وكون كل منهما خلقة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السموات وسكون الأرض أو فى تفاوتهما فى أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو فى اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما فى الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب

١٢١

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) (٧)

____________________________________

الشمالى أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وأما فى أنفسهما* فإن كرية الأرض تقتضى أن يكون بعض الأوقات فى بعض الأماكن ليلا وفى مقابله نهارا (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أصناف المصنوعات (لَآياتٍ) عظيمة أو كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال علمه وقدرته وبالغ حكمته التى من جملة مقتضياتها ما أنكروه من إرسال الرسول* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال الكتب والبعث والجزاء (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) خصهم بذلك لأن الداعى إلى النظر والتدبر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة فهم الواقفون على أن جميع المخلوقات آيات دون غيرهم وكأى من آية فى السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) بيان لمآل أمر من كفر بالبعث وأعرض عن البينات الدالة عليه بعد تحقيق أن مرجع الكل إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئهم للجزاء ثوابا وعقابا وتفصيل بعض الآيات الشاهدة بذلك والمراد بلقائه إما الرجوع إليه تعالى بالبعث أو لقاء الحساب كما فى قوله عز وعلا (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى والمراد بعدم الرجاء عدم التوقع مطلقا المنتظم لعدم الأمل وعدم الخوف فإن عدمهما لا يستدعى عدم اعتقاد وقوع المأمول والمخوف أى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدى إما إلى حسن الثواب أو إلى سوء العذاب فلا يأملون الأول وإليه* أشير بقوله عزوجل (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس* كقوله تعالى (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) ولا يخافون الثانى وإليه أشير بقوله تعالى (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أى سكنوا فيها سكون من لابراح له منها آمنين من اعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا وقيل المراد بالرجاء معناه الحقيقى وباللقاء حسن اللقاء أى لا يأملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من فنون الكرامات السنية بالحياة الدنيا الدنية الفانية واطمأنوا بها أى سكنوا إليها مكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم وإيثار الباء على كلمة إلى المبئة عن مجرد الوصول والانتهاء للإيذان بتمام الملابسة ودوام المصاحبة والمؤانسة وحمل الرجاء على الخوف فقط يأباه كلمة الرضا بالحياة الدنيا فإنها منبئة عما ذكر من ترك الأعلى وأخذ الأدنى واختيار صيغة الماضى فى الصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما* أن اختيار صيغة المستقبل فى الأولى للإيذان باستمرار عدم الرجاء (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) المفصلة فى صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستشهاد بها المتفقة معها فى الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا إليه من الحياة* الدنيا (غافِلُونَ) لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا على ذلك وذكروا بأنواع القوارع لانهما كهم فيما يصدهم

١٢٢

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩)

____________________________________

عنها من الأحوال المعدودة وتكرير الموصول للتوسل به إلى جعل صلته جملة اسمية منبئة عما هم عليه من استمرار الغفلة ودوامها وتنزيل التغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى إيذانا بمغايرة الوصف الأخير للأوصاف الأول واستقلاله باستتباع العذاب هذا وأما ما قيل من أن العطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك فى الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل فى الآجل فكلام ناء عن السداد فتأمل (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر ٨ من صفات السوء (مَأْواهُمُ) أى مسكنهم ومقرهم الذى لا براح لهم منه (النَّارُ) لا ما اطمأنوا بها من الحياة* الدنيا ونعيمها (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من أصناف المعاصى والسيئات* أو بكسبهم إياها والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددى والباء متعلقة بمضمون الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وهو مع خبره خبر لإن فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الخ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى فعلوا الإيمان أو آمنوا بما يشهد به الآيات التى غفل عنها الغافلون أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيندرج فيه ذلك اندراجا أوليا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أى الأعمال* الصالحة فى أنفسها اللائقة بالإيمان وإنما ترك ذكر الموصوف لجريانها مجرى الأسماء (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) * أوثر الالتفات تشريفا لهم بإضافة الرب وإشعارا بعلة الهداية (بِإِيمانِهِمْ) أى يهديهم بسبب إيمانهم إلى* مأواهم ومقصدهم وهى الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أواهم إليه من أعمالهم السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح وفى النظم الكريم إشعار بأن مجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفى فى الوصول إلى الجنة بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفر والمعاصى كافية فى دخول النار ثم إنه لا نزاع فى أن المراد بالإيمان الذى جعل سببا لتلك الهداية هو إيمانهم الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا الإيمان المجرد عنها ولا ما هو أعم منهما إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان الخالى عن العمل الصالح يفضى إلى الجنة فى الجملة ولا يخلد صاحبه فى النار فإن منطوق الآية الكريمة أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه قطعا كيف لا وقوله عزوجل (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) مناد بخلافه فإن المراد بالظلم هو الشرك كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل فى الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم

١٢٣

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١)

____________________________________

* بفعل حرام أو بترك واجب (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أى بين أيديهم كقوله سبحانه (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أو تجرى وهم على سرر مرفوعة وأرائك مصفوفة والجملة مستأنفة أو خبر ثان لأن أو حال من مفعول يهديهم على تقدير كونه المهدى إليه ما يريدونه فى الجنة كما قيل وقيل يهديهم ويسددهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدى إلى الثواب والجنة وقوله تجرى من تحتهم الأنهار جار مجرى التفسير والبيان فإن التمسك بحبل السعادة فى حكم الموصول إليها وقيل يهديهم إلى إدراك الحقائق البديعة بحسب* القوة العملية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجرى أو بيهدى فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم فى الجنة أو ما يريدونه فيها (دَعْواهُمْ) أى دعاؤهم وهو مبتدأ وقوله عزوجل (فِيها) متعلق به وقوله تعالى (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) خبره أى دعاؤهم هذا الكلام وهو معمول لمقدر لا يجوز إظهاره والمعنى اللهم إنا نسبحك تسبيحا ولعلهم يقولونه عند ما عاينوا فيها من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم* عن سمات الخلف (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها) التحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك الله حياة طيبة أى ما يحيى به بعضهم بعضا أو تحية الملائكة إياهم كما فى قوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ) أو تحية* الله عزوجل لهم كما فى قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (سَلامٌ) أى سلامة عن كل مكروه (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أى خاتمة دعائهم (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى أن يقولوا ذلك نعتا له عزوجل بصفات الإكرام إثر نعته تعالى بصفات الجلال أى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه فى سلك الدعاء وأن هى المخففة من أن المثقلة أصله أنه الحمد لله فحذف ضمير الشأن كما فى قوله [أن هالك كل من يحفى وينتعل] وقرىء أن الحمد لله بالتشديد ونصب الحمد ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق ودعوى كون ترتيب الوقوع أيضا كذلك بأن كانوا حين دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو حياهم بذلك رب العزة فحمدوه تعالى وأثنوا عليه يأباها إضافة الآخر إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المراد بالدعاء العبادة كما فى قوله تعالى (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ) الخ إيذانا بأن لا تكليف فى الجنة أى ما عبادتهم إلا أن يسبحوه ويحمدوه وليس ذلك بعبادة إنما يلهمونه وينطقون به تلذذا ولا يساعده تعيين الخاتمة (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ) هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى لإنكارهم البعث وما يترتب عليه

١٢٤

من الحساب والجزاء أشير إلى بعض من عظائم معاصيهم المتفرعة على ذلك وهو استعجالهم بما أوعدوا به من العذاب تكذيبا واستهزاء وإيرادهم باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج أى لو يجعل الله لهم (الشَّرَّ) الذى كانوا يستعجلون به* فإنهم كانوا يقولون اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك وقوله تعالى (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) نصب على أنه مصدر تشبيهى وضع موضع مصدر ناصبه* دلالة على اعتبار الاستعجال فى جانب المشبه كاعتبار التعجيل فى جانب المشبه به وإشعارا بسرعة إجابته تعالى لهم حتى كان استعجالهم بالخير نفس تعجيله لهم والتقدير ولو يعجل الله لهم الشر عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير عند استعجالهم به فحذف ما حذف تعويلا على دلالة الباقى عليه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأدى إليهم الأجل الذى عين لعذابهم وأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين وفى إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل وقرىء على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا واختيار صيغة الاستقبال فى الشرط وإن كان المعنى على المضى لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفى الواقع موقع الماضى ليس بنص فى إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق فى موضعه واعلم أن مدار الإفادة فى الشرطية أن يكون التالى أمرا مغايرا للمقدم فى نفسه مترتبا عليه فى الوجود كما فى قوله عزوجل (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) فإن العنت أى الوقوع فى المشقة والهلاك أمر مغاير لطاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم مترتب عليها فى الوجود أو يكون فردا كاملا من أفراده ممتازا عن البقية بأمر يخصه كما فى الأجوبة المحذوفة فى مثل قوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) وقوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وقوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) ونظائرها أى لرأيت أمرا هائلا فظعيا أو نحو ذلك وكما فى قوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) إذا فسر الجواب بالاستئصال فإنه فرد كامل من أفراد مطلق المؤاخذة قد عبر عنه بما لا مزيد عليه فى الدلالة على الشدة والفظاعة فحسن موقعه فى معرض التالى للمؤاخذة المطلقة وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغاير لتعجيل الشر فى نفسه وهو ظاهر بل هو إما نفسه أو جزئى منه كسائر جزئياته من غير مزية على البقية إذ لم يعتبر فى مفهومه ما ليس فى مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون فى ترتبه عليه وجودا أو عدما مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فالحق أن المقدم ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما كما فى قوله تعالى (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) أى لو يريد مؤاخذتهم فإن تعجيل العذاب لهم نفس المؤاخذة أو جزئى من جزئياتها غير ممتاز عن البقية فليس فى بيان ترتبه عليها وجودا أو عدما مزيد فائدة وإنما الفائدة فى بيان ترتبه على إرادتها حسبما ذكر وأيضا فى ترتب التالى على إرادة المقدم ما ليس فى ترتبه على نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) بنون العظمة الدالة على* التشديد فى الوعيد وهو عطف على مقدر تنبىء عنه الشرطية كأنه قيل لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه

١٢٥

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣)

____________________________________

* الحكمة فنتركهم إمهالا واستدراجا (فِي طُغْيانِهِمْ) الذى هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء* وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة (يَعْمَهُونَ) أى يترددون ويتحيرون ففى وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما فى حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) أى أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة (دَعانا) * لكشفه وإزالته (لِجَنْبِهِ) حال من فاعل دعا بشهادة ما عطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما فى قوله* تعالى يخرون للأذقان أى دعانا كائنا على جنبه أى مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أى فى جميع الأحوال مما ذكر وما لم يذكر وتخصيص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة أو دعانا فى جميع أحوال مرضه على أنه المراد بالضر خاصة مضطجعا عاجزا عن القعود وقاعدا غير قادر على النهوض وقائما* لا يستطيع الحراك (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) الذى مسه غب ما دعانا حسبما ينبىء عنه الفاء (مَرَّ) أى مضى واستمر على طريقته التى كان ينتحيها قبل مساس الضر ونسى حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الضراعة* والابتهال ونأى بجانبه (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) أى كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما فى قوله [كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا] والجملة التشبيهية فى محل النصب على الحالية من فاعل مر أى مر مشبها بمن* لم يدعنا (إِلى ضُرٍّ) أى إلى كشف ضر (مَسَّهُ) وهذا وصف للجنس باعتبار حال بعض أفراده ممن هو* متصف بهذه الصفات (كَذلِكَ) نصب على المصدرية وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الآتى وما فيه من معنى البعد للتفخيم والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه إقحاما لا يكاد يترك فى لغة العرب* ولا فى غيرها ومن ذلك قولهم مثلك لا يبخل مكان أنت لا تبخل أى مثل ذلك التزيين العجيب (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) أى للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة وإسرافهم لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة فلما صرفوها إلى ما لا ينبغى وهى رأس مالهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافا ظاهرا والتزيين إما من جهة الله سبحانه* على طريقة التخلية والخذلان أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك فى الشهوات وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إن فى كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقدر فى الأولى ومن الضر المقرر فى الأخرى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) أى القرون الخالية مثل قوم نوح وعاد وأضرابهم ومن فى قوله تعالى (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلقة بأهلكنا أى أهلكناهم من قبل زمانكم والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات

١٢٦

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

____________________________________

للمبالغة فى تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمى (لَمَّا ظَلَمُوا) ظرف للإهلاك أى أهلكناهم حين* فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادى فى الغى والضلال من غير تأخير وقوله تعالى (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) حال* من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى (بِالْبَيِّناتِ) متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع* حالا من رسلهم دالة على إفراطهم فى الظلم وتناهيهم فى المكابرة أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجال للتكذيب وقد جوز أن يكون قوله تعالى (وَجاءَتْهُمْ) عطفا على (ظَلَمُوا) فلا محل له من الإعراب عند سيبويه وعند غيره محله الجر لأنه معطوف على ما هو مجرور بإضافة الظرف إليه وليس الظلم منحصرا فى التكذيب حتى يحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعى كما فى قوله تعالى (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ) الخ بل هو محمول على سائر أنواع الظلم والتكذيب مستفاد من قوله تعالى (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) على أبلغ وجه* وآكده فإن اللام لتأكيد النفى أى وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطاف لا تنجع فيهم والجملة على الأول عطف على ظلموا لأنه إخبار بإحداث التكذيب وهذا بالإصرار عليه وعلى الثانى عطف على ما عطف عليه وقيل اعتراض بين الفعل وما يجرى مجرى مصدره التشبيهى أعنى قوله تعالى (كَذلِكَ) فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أى مثل ذلك* الجزاء الفظيع أى الإهلاك الشديد الذى هو الاستئصال بالمرة (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أى كل طائفة* مجرمة وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لاشتراكهم لأولئك المهلكين فى الجرائم والجرائر التى هى تكذيب الرسول والإصرار عليه وتقرير لمضمون ما سبق من قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) وقرىء بالياء على الالتفات إلى الغيبة وقد جوز أن يكون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام فى الإجرام ويأباه كل الإباء قوله عزوجل(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) فإنه صريح فى أنه ابتداء تعرض لأمورهم وأن ما بين فيه إنما هو مبادى أحوالهم لاختبار كيفيات أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم ببت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والمعنى ثم استخلفناكم فى الأرض من بعد إهلاك أولئك القرون التى تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها استخلاف من يختبر (لِنَنْظُرَ) أى لنعامل معاملة من ينظر (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فهى استعارة تمثيلية وكيف* منصوب على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانع من تقدم عامله عليه أى أى عمل أو على الحالية أى على أى حال تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن كقوله عز وعلا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ففيه إشعار بأن المراد بالذات والمقصود الأصلى من الاستخلاف إنما هو ظهور الكيفيات الحسنة للأعمال الصالحة وأما الأعمال السيئة فبمعزل من أن تصدر عنهم لا سيما بعد ما سمعوا أخبار القرون المهلكة وشاهدوا آثار بعضها فضلا عن أن ينظم ظهورها فى سلك العلة الغائية

١٢٧

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥)

____________________________________

للاستخلاف وقيل منصوب على أنه مفعول به أى أى عمل تعملون أخيرا أم شرا فنعاملكم بحسبه فلا يكون فى كلمة كيف حينئذ دلالة على أن المعتبر فى الجزاء جهات الأعمال وكيفياتها لا ذواتها كما هو رأى القائل بل تكون حينئذ مستعارة لمعنى أى شىء (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها للخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسول والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة وصيغة* المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتى حسب تجدد التلاوة (آياتُنا) الدالة على حقية التوحيد وبطلان* الشرك والإضافة لتشريف المضاف والترغيب فى الإيمان به والترهيب عن تكذيبه (بَيِّناتٍ) حال كونها واضحات الدلالة على ذلك وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعين التالى وللإيذان بأن كلامهم فى نفس المتلو دون التالى* (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما فى حيز الصلة للعظيمة المحكية عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفهم من عقابه تعالى يوم اللقاء لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذما لهم بذلك أى قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لم يذكر إيذانا* بتعينه (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى نفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أى ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب والجزاء* وما نكرهه من ذم آلهتنا ومعايبها والوعيد على عبادتها (أَوْ بَدِّلْهُ) بتغيير ترتيبه بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى خالية عنها وإنما قالوه كيدا وطمعا فى المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء* به (قُلْ) لهم (ما يَكُونُ لِي) أى ما يصح وما يستقيم لى ولا يمكننى أصلا (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أى من قبل نفسى وهو مصدر استعمل ظرفا وقرىء بفتح التاء وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثانى للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أو لا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدى لذلك مع كونه ضائعا ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء* ولأن ما يدل على استحالة الثانى يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى (إِنْ أَتَّبِعُ) أى ما أتبع فى شىء* مما آتى وأذر (إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) من غير تغيير له فى شىء أصلا على معنى قصر حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتباع ما يوحى إليه لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتباد من ظاهر العبارة كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى وقد مر تحقيق المقام فى سورة الأنعام وهو تعليل لصدر الكلام فإن من شأنه اتباع الوحى على ما هو عليه لا يستبد بشىء دونه قطعا وفيه جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٢٨

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

____________________________________

بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قيد التبديل فى الجواب بقوله من تلقاء نفسى وسماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله تعالى (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فإنه تعليل* لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتباع الوحى أى أخاف إن عصيته تعالى بتعاطى ما ليس لى من التبديل من تلقاء نفسى والإعراض عن اتباع الوحى عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم اللقاء الذى لا يرجونه وفيه إشعار بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراح والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه وإيراد اليوم بالتنوين التفخيمى ووصفه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعه ولا مساغ لحمل مقترحهم على التبديل والإتيان بقرآن آخر من جهة الوحى بتفسير قوله تعالى (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) بأنه لا يتسهل لى أن أبدله بالاستدعاء من جهة الوحى ما أتبع إلا ما يوحى إلى من غير صنع ما من الاستدعاء وغيره من قبلى لأنه يرده التعليل المذكور لا لأن المقترح حينئذ ليس فيه معصية أصلا كما توهم فإن استدعاء تبديل الآيات النازلة حسبما تقتضيه الحكمة التشريعية بعضها ببعض لا سيما بموجب اقتراح الكفرة مما لا ريب فى كونه معصية بل لأنه ليس فيه معصية الافتراء مع أنها المقصودة بما ذكر فى التعليل ألا يرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريح فى أن مقترحهم الإتيان بغير القرآن وتبديله بطريق الافتراء وأن زعمهم فى الأصل أيضا كذلك وقوله عزوجل(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) تحقيق لحقية القرآن وكونه من عند الله تعالى إثر بيان بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته عبارة ودلالة وإنما صدر بالأمر المستقل مع كونه داخلا تحت الأمر السابق إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما سيأتى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه ومفعول شاء محذوف ينبىء عنه الجزاء لا غير ذلك كما قيل فإن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا وقعت شرطا وكان مفعولها مضمون الجزاء ولم يكن فى تعلقها به غرابة كما فى قوله [ولو شئت أن أبكى دما لبكيته] حيث لم يحذف لفقدان الشرط الأخير ولأن المستلزم للجزاء أعنى عدم تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن عليهم إنما هو مشيئته تعالى له لا مشيئته لغير القرآن والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لى منه شىء قط ولو شاء عدم تلاوتى له عليكم لا بأن شاء عدم تلاوتى له من تلقاء نفسى بل بأن لم ينزله على ولم يأمرنى بتلاوته كما ينبىء عنه إيثار التلاوة على القراءة ما تلوته عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أى ولا أعلمكم* به بواسطتى والتالى وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفى المقدم أعنى مشيئة عدم التلاوة ولا يخفى أنها مستلزمة لعدم مشيئة التلاوة قطعا فانتفاؤها مستلزم لانتفائه حتما وانتفاء عدم مشيئة التلاوة إنما يكون بتحقق مشيئة التلاوة فثبت أن تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن بمشيئته تعالى وأمره وإنما قيدنا الإدراء بكونه

١٢٩

بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن عدم الإعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذى هو مشيئة عدم تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجوز نظمه فى سلك الجزاء وفى إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن استناد الإدراء إليه تعالى إيذان بأن لا دخل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك حسبما يقتضيه المقام وقرىء ولا أدرأتكم ولا أدرأكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول أعطأت وأرضأت فى أعطيت وأرضيت أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أى ولا جعلتكم بتلاوته عليكم خصماء تدرءوننى بالجدال وقرىء ولا أنذرتكم به وقرىء لأدراكم بلام الجواب أى لو شاء الله ما تلوته عليكم أنا ولأعلمكم به على لسان غيرى على معنى إنه الحق الذى لا محيص عنه لو لم أرسل به أنا* لأرسل به غيرى البتة أو على معنى أنه تعالى يمن على من يشاء فحصنى بهذه الكرامة (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) تعليل للملازمة المستلزمة لكون تلاوته بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بين آنفا لكن لا بطريق الاستدلال عليها بعدم تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما سبق بسبب مشيئته تعالى إياه بل بطريق الاستشهاد عليها بما شاهدوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك المدة الطويلة من الأمور الدالة على استحالة كون التلاوة من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا وحى وعمرا نصب على التشبيه بظرف الزمان والمعنى قد أقمت فيما بينكم دهرا مديدا مقدار أربعين سنة تحفظون* تفاصيل أحوالى طرا وتحيطون بما لدى خبرا (مِنْ قَبْلِهِ) أى من قبل نزول القرآن لا أتعاطى شيئا مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع* (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلى ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإنه غير خاف على من له عقل سليم والحق الذى لا محيد عنه أن من له أدنى مسكة من القعل إذا تأمل فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء فى شأن من الشئون ولا مراجعة إليهم فى فن من الفنون ولا مخالطة البلغاء فى المفاوضة والحوار ولا خوض معهم فى إنشاء الخطب والأشعار ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل فصيح فائق وبذت بلاغته كل بليغ رائق وعلا نظمه كل منثور ومنظوم وحوى فحواه بدائع أصناف العلوم كاشف عن أسرار الغيب من وراء أستار الكمون ناطق بأخبار ما قد كان وما سيكون مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة مهيمن عليها فى أحكامها المجملة والمفصلة لا يبقى عنده شائبة اشتباه فى أنه وحى منزل من عند الله هذا هو الذى اتفقت عليه كلمة الجمهور ولكن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصار حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتباع الوحى وامتناع الاستبداد بالرأى من غير تعرض هناك ولا ههنا لكون القرآن فى نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا على المطلب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرة فى تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه فى حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفترى على الله تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحى لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب أو افتراء ألا تلاحظون فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد فى هذا العهد البعيد مستحيل أن يفترى على الله عزوجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهى الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء ونحو ذلك وأن ما أتى به وحى

١٣٠

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨)

____________________________________

مبين تنزيل من رب العالمين وقوله عزوجل (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) استفهام إنكارى معناه الجحد أى لا أحد أظلم منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب مفيدا لإنكار أن يكون أحد أظلم منه من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها فإنه إذا قيل من أفضل من فلان أولا أعلم منه يفهم منه حتما أنه أفضل من كل فاضل وأعلم من كل عالم وزيادة قوله تعالى (كَذِباً) مع أن الافتراء لا يكون إلا كذاك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضمنا وحملوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه صريحا مع كونه افتراء على الله تعالى كذب فى نفسه فرب افتراء يكون كذبه فى الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التفادى عما ذكر من الافتراء على الله سبحانه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فكفر بها وهذا تظليم للمشركين* بتكذيبهم للقرآن وحملهم على أنه من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره فلا مجال لحمل الافتراء على الافتراء باتخاذ الولد والشريك أى وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلق كلا ما فيقول هذا من عند الله أو يبدل بعض آياته تعالى ببعض كما تجوزون ذلك فى شأنى وكذلك من كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلم من كل ظالم (إِنَّهُ) الضمير للشأن وقع اسما* لإن والخبر ما يعقبه من الجملة ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدة تصديرها به الإيذان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره فى الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده عليه فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن هذا أى (لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أى لا ينجون من محذور ولا يظفرون بمطلوب والمراد جنس* المجرمين فيندرج فيه المفترى والمكذب إندارجا أوليا (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) حكاية لجناية أخرى ١٨ لهم نشأت عنها جنايتهم الأولى معطوفة على قوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية عطف قصة على قصة ومن دون متعلق بيعبدون ومحله النصب على الحالية من فاعله أى متجاوزين الله سبحانه لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة الأصنام كما يفصح عنه سياق النظم الكريم (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أى ما ليس من شأنه الضر والنفع من الأصنام التى هى جمادات وما موصولة أو موصوفة وتقديم نفى الضرر لأن أدنى أحكام العبادة دفع الضرر الذى هو أول المنافع والعبادة أمر حادث مسبوق بالعدم الذى هو مظنة الضرر فحيث لم تقدر الأصنام على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سبب وقيل لا يضرهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها. كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة عزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) عن النضر بن الحرث إذا كان* يوم القيامة يشفع لى اللات قيل إنهم كانوا يعتقدون أن المتولى لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك

١٣١

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

____________________________________

فعينوا لذلك الروح صنما معينا من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودهم ذلك الروح ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عند الإله الأعظم مشتغلا بعبوديته وقيل إنهم كانوا يعبدون الكواكب فوضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل إنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها وقيل إنهم وضعوا هذه الأصنام على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم* متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يشفعون لهم عند الله تعالى (قُلْ) تبكيتا لهم (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) أى أتخبرونه بما لا وجود له أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله تعالى إذ لولاه لعلمه علام الغيوب وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعونه من المحال الذى لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان* وقرىء أتنبيون بالتخفيف وقوله تعالى (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف فى* يعلم مؤكدة للنفى لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتف عادة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند الله تعالى وقرىء تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به وعلى الأول هو اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) بيان لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة أجمعت عليها الناس قاطبة فطرة وتشريعا وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة وأما حمل اتخاذهم على الاتفاق على الضلال عند الفترة واختلافهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرار فمما لا احتمال له أى وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل وقيل إلى زمن إدريس عليه‌السلام وقيل إلى زمن نوح عليه‌السلام وقيل من حين الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا إلى أن ظهر فيما بينهم الكفر وقيل من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام فالمراد بالناس العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء* عن ذلك (فَاخْتَلَفُوا) بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر لا أن كلا منهما أحدث ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر فإن الكلام ليس فى ذلك الاختلاف إذ كل منهما مبطل حينئذ فلا يتصور أن يقضى بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل والفاء التعقيبية لا تنافى امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوث* الاتفاق (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير القضاء بينهم أو بتأخير العذاب الفاصل بينهم إلى يوم* القيامة فإنه يوم الفصل (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بتمييز الحق من الباطل بإبقاء المحق وإهلاك المبطل وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وللدلالة على الاستمرار.

١٣٢

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١)

____________________________________

(وَيَقُولُونَ) حكاية لجناية أخرى لهم معطوفة على قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ) وصيغة المضارع لاستحضار صورة مقالتهم الشنعاء والدلالة على الاستمرار والقائلون أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أرادوا آية من* الآيات التى اقترحوها كأنهم لفرط العتو والفساد ونهاية التمادى فى المكابرة والعناد لم يعدوا البينات النازلة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنس الآيات واقترحوا غيرها مع أنه قد أنزل عليه من الآيات الباهرة والمعجزات المتكاثرة ما يضطرهم إلى الانقياد والقبول لو كانوا من أرباب العقول (فَقُلْ) لهم فى الجواب (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) اللام* للاختصاص العلمى دون التكوينى فإن الغيب والشهادة فى ذلك الاختصاص سيان والمعنى أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة بالله تعالى لا وقوف لى عليه (فَانْتَظِرُوا) * نزوله (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أى لما يفعل الله بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات واقتراح غيرها وجعل الغيب عبارة عن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) صحة وسعة (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أى خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما فى قوله تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ونظائره. قيل سلط الله تعالى على أهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحيا فطفقوا يطعنون فى آياته تعالى ويعادون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكيدونه وذلك قوله تعالى (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أى بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال فى دفعها وإذا* الأولى شرطية والثانية جوابها كأنه قيل فاجؤوا وقوع المكر منهم وتنكير مكر للتفخيم وفى متعلقة بالاستقرار الذى يتعلق به اللام (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أى أعجل عقوبة أى عذابه أسرع وصولا إليكم* مما يأتى منكم فى دفع الحق وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها فى مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا (إِنَّ رُسُلَنا) * الذين يحفظون أعمالكم والإضافة للتشريف (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أى مكركم أو ما تمكرونه وهو تحقيق* للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا فى إخفائه غير خاف على الحفظة فضلا عن العليم الخبير وصيغة الاستقبال فى الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددى والجملة تعليل من جهته تعالى لأسرعية مكره سبحانه غير داخل فى الكلام الملقن كقوله تعالى (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) فإن كتابة الرسل لما يمكرون من مبادى بطلان مكرهم وتخلف أثره عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف وتلوين الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم للتشديد فى التوبيخ وقرىء على لفظ الغيبة فيكون حينئذ تعليلا لما ذكر أو للأمر

١٣٣

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢)

____________________________________

 (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفا من اختلاف حالهم حسب اختلاف ما يعتريهم من السراء والضراء أى يمكنكم من السير تمكينا مستمرا عند الملابسة* به وقبلها (فِي الْبَرِّ) مشاة وركبانا وقرىء ينشركم من النشر ومنه قوله عزوجل (بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أى السفن فإنه جمع فلك على زنة أسد جمع أسد لا على وزن قفل وغاية التسيير ليست ابتداء ركوبهم فيها بل مضمون الشرطية بتمامه كما ينبىء عنه إيثار الكون المؤذن بالدوام على* الركوب المشعر بالحدوث (وَجَرَيْنَ) أى السفن (بِهِمْ) بالذين فيها والالتفات إلى الغيبة للإيذان بما لهم من سوء الحال الموجب للإعراض عنهم كأنه يذكر لغيرهم مساوى أحوالهم ليعجبهم منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح وقيل ليس فيه التفات بل معنى قوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إذا كان بعضكم فيها إذا الخطاب للكل ومنهم المسيرون فى البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما فى قوله تعالى* (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) أى أو كذى ظلمات يغشاه موج (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة الهبوب موافقة لمقصدهم* (وَفَرِحُوا بِها) بتلك الريح لطيبها وموافقتها (جاءَتْها) جواب إذا والضمير المنصوب للريح الطيبة أى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى وقيل للفلك والأول أظهر لاستلزامه للثانى من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل فى بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر* (رِيحٌ عاصِفٌ) أى ذات عصف وقيل العصوف مختص بالريح فلا حاجة إلى الفارق وقيل الريح قد يذكر* (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ) فى الفلك (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أى من أمكنة مجىء الموج عادة ولا بعد فى مجيئه من جميع الجوانب أيضا إذ لا يجب أن يكون مجيئه من جهة هبوب الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب* أسباب تتفق له (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أى هلكوا فإن ذلك مثل فى الهلاك أصله إحاطة العدو بالحى* أو سدت عليهم مسالك الخلاص (دَعَوُا اللهَ) بدل من (ظَنُّوا) بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم* أو استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا صنعوا فقيل دعوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير أن يشركوا به شيئا من آلهتهم لا مخصصين للدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضا فإنهم بمجرد* تخصيص الدعاء به تعالى لا يكونون مخلصين له الدين (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) اللام موطئة للقسم على إرادة القول* أى قائلين والله لئن أنجيتنا (مِنْ هذِهِ) الورطة (لَنَكُونَنَّ) البتة بعد ذلك أبدا (مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمك التى من جملتها هذه النعمة المسئولة وقيل الجملة مفعول دعوا لأن الدعاء من قبيل القول والأول هو

١٣٤

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

____________________________________

الأولى لاستدعاء الثانى لاقتصار دعائهم على ذلك فقط وفى قوله لنكونن من الشاكرين من المبالغة فى الدلالة على كونهم ثابتين فى الشكر مثابرين عليه منتظمين فى سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس فى أن يقال لنشكرن (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) مما غشيهم من الكربة والفاء للدلالة على سرعة الإجابة (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أى فاجئوا الفساد فيها وسارعوا إليه متراقين فى ذلك متجاوزين عما كانوا عليه من حدود العيث من قولهم بغى الجرح إذا ترامى فى الفساد وزيادة فى الأرض للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقوله تعالى (بِغَيْرِ الْحَقِّ) تأكيد لما يفيده البغى أو معناه* أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ذلك ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على أحد كما فى قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) وأما ما قيل من أنه للاحتراز عن البغى بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زرعهم فلا يساعده النظم الكريم لابتنائه على كون البغى بمعنى إفساد صورة الشىء وإبطال منفعته دون ما ذكر من المعنى اللائق بحال المفسدين (يا أَيُّهَا النَّاسُ) توجيه للخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد* فى التهديد والمبالغة فى الوعيد (إِنَّما بَغْيُكُمْ) الذى تتعاطونه وهو مبتدأ وقوله تعالى (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبره* أى عليكم فى الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك وقوله تعالى (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بيان* لكون ما فيه من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أى تتمتعون متاع الحياة الدنيا وقيل على أنه مصدر وقع موقع الحال أى متمتعين بالحياة الدنيا والعامل هو الاستقرار الذى فى الخبر لا نفس البغى لأنه يؤدى إلى الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ولا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته وأنت خبير بأنه ليس فى تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أى زمن متاع الحياة الدنيا وفيه ما مر بعينه وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أى تبغون متاع الحياة الدنيا ولا يخفى أنه لا يدل على البغى بمعنى الطلب وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغى المفسر بالإفساد المفرط اللائق بحالهم فأى مناسبة بينه وبين البغى بمعنى الطلب وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه وقيل على أنه مفعول له أى لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل ما ذكر من الاستقرار وفيه أن المعلل بما ذكر نفس البغى لا كونه على أنفسهم وقيل أنفسهم وقيل العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أى تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة وقيل على أنه مفعول صريح للمصدر وعلى أنفسكم ظرف لغو متعلق به والمراد بالأنفس الجنس والخبر محذوف لطول الكلام والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك وفيه ما مر من ابتنائه على ما لا يليق بالمقام

١٣٥

من كون البغى بمعنى الطلب نعم لو جعل نصبه على العلة أى إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا محذور كما اختاره بعضهم لكان له وجه فى الجملة لكن الحق الذى تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الأول وقرىء متاع بالرفع على أنه الخبر والظرف صلة للمصدر أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع الخ كما فى قوله تعالى (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) أى هذا بلاغ فالمراد بأنفسهم على الوجه الأول أبناء جنسهم وإنما عبر عنهم بذلك هزا لشفقتهم عليهم وحثا لهم على ترك إيثار التمتع المذكور على حقوقهم ولا مجال للحمل على الحقيقة لأن كون بغيهم وبالا عليهم ليس بثابت عندهم حسبما يقتضيه ما حكى عنهم ولم يخبر به بعد حتى يجعل من تتمة الكلام ويجعل كونه متاعا مقصود الإفادة على أن عنوان كونه وبالا عليهم قادح فى كونه متاعا فضلا عن كونه من مبادى ثبوته للمبتدأ كما هو المتبادر من السوق وأما كون البغى على أبناء الجنس فمعلوم الثبوت عندهم ومتضمن لمبادى التمتع من أخذ المال والاستيلاء على الناس وغير ذلك وأما على الوجهين الأخيرين فلا موجب للعدول عن الحقيقة فإن المبتدأ إما نفس البغى أو الضمير العائد إليه من حيث هو هو لا من حيث كونه وبالا عليهم كما فى صورة كون الظرف صلة للمصدر فتدبر وقرىء متاعا الحياة الدنيا أما نصب متاعا فعلى ما مر وأما نصب الحياة فعلى أنه بدل من متاعا بدل اشتمال وقيل على أنه مفعول به لمتاعا إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا تمكر ولا تعن ماكرا ولا تبغ ولا تعن باغيا ولا تنكث ولا تعن ناكثا وكان يتلوها وقال محمد بن كعب ثلاث من كن فيه كن عليه البغى والنكث والمكر قال تعالى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) و (ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغى واليمين الفاجرة وروى ثنتان يعجلهما الله تعالى فى الدنيا البغى وعقوق الوالدين وعن ابن عباس رضى الله تعالى* عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغى (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا وإنما غير السبك إلى الجملة الاسمية مع تقديم الجار* والمجرور للدلالة على الثبات والقصر (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا على الاستمرار من البغى وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة خفية مبنية على حكمة أبية وهى أن كل ما يظهر فى هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مغايرة لصورته الحقيقية التى بها يظهر فى النشأة الآخرة فإن المعاصى مثلا سموم قاتلة قد برزت فى الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة وكذا الطاعات مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصور مكروهة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فالبغى فى هذه النشأة وإن برز بصورة تشتهيها البغاة وتستحسنها الغواة لتمتعهم به من حيث أخذ المال والتشفى من الأعداء ونحو ذلك لكن ذلك ليس بتمتع فى الحقيقة بل هو تضرر من حيث لا يحتسبون وإنما يظهر لهم ذلك عند إبراز ما كانوا يعملونه من البغى بصورة الحقيقة المضادة لما كانوا يشاهدونه على ذلك من الصورة وهو المراد بالتنبئة المذكورة والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٣٦

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

____________________________________

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) كلام مستأنف مسوق لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود وقد شبه حالها العجيبة الشأن البديعة المثال المنتظمة لغرابتها فى سلك الأمثال فى سرعة تقضيها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار الناس بها بحال ما على الأرض من أنواع النبات فى زوال رونقها ونضارتها فجأة وذهابها حطاما لم يبق لها أثر أصلا بعد ما كانت غضة طرية قد التف بعضها ببعض وزينت الأرض بألوانها وتقوت بعد ضعفها بحيث طمع الناس وظنوا أنها سلمت من الجوائح وليس المشبه به ما دخله الكاف فى قوله عزوجل (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) بل ما يفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من البقول* والزروع والحشيش (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) جعلت الأرض فى تزينها بما عليها من أصناف* النباتات وأشكالها وألوانها المختلفة المونقة آخذة زخرفها على طريقة التمثيل بالعروس التى قد أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها (وَازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فأدغم وقرىء على الأصل وقرىء وأزينت* كأغيلت من غير إعلال والمعنى صارت ذات زينة وازيانت كابياضت (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) * متمكنون من حصدها ورفع غلتها (أَتاها أَمْرُنا) جواب إذا أى ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات* والعاهات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) أى زرعها وساء ما عليها (حَصِيداً) أى شبيها بما حصد من أصله* (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) كأن لم يغن زرعها والمضاف محذوف للمبالغة وقرىء بتذكير الفعل (بِالْأَمْسِ) أى فيما* قبل بزمان قريب فإن الأمس مثل فى ذلك كأنه قيل لم تغن آنفا (كَذلِكَ) أى مثل ذلك التفصيل البديع* (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أى الآيات القرآنية التى من جملتها هذه الآيات المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أى نوضحها* ونبينها (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فى تضاعيفها ويقفون على معانيها وتخصيص تفصيلها بهم لأنهم المنتفعون* بها ويجوز أن يراد بالآيات ما ذكر فى أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكى إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) ترغيب للناس فى الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيا الفانية أى يدعو الناس جميعا إلى دار السلامة عن كل مكروه وآفة وهى الجنة وإنما ذكرت

١٣٧

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧)

____________________________________

بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيص الإضافة التشريفية بهذا الاسم الكريم للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلم الله أو الملائكة فيها على من يدخلها أو يسلم* بعضهم على بعض (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته منهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إليها وهو الإسلام والتزود بالتقوى وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن من أصر على الضلالة لم يرد الله رشده (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أى أعمالهم أى عملوها على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفى المستلزام لحسنها الذاتى وقد فسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم* تكن تراه فإنه يراك (الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى (وَزِيادَةٌ) أى وما يزيد على تلك المثوبة تفضلا لقوله عز اسمه ويزيدهم من فضله وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر* وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان وقيل الحسنى الجنة والزيادة اللقاء (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) أى* لا يغشاها (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد (وَلا ذِلَّةٌ) أى أثر هوان وكسوف بال والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أولا يرهقهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال والتنكير للتحقير أى شىء منهما والجملة مستأنفة لبيان أمنهم من المكاره إثر بيان فوزهم بالمطالب والثانى وإن اقتضى الأول إلا أنه ذكر إذكارا بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة لوروده فعند وروده عليها يتمكن عندها فضل تمكن ولأن فى الفاعل ضرب تفصيل كما فى قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) * وقوله عزوجل (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات المذكورة وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم أى أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلة الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بلا زوال دائمون بلا انتقال (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أى الشرك* والمعاصى وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله تعالى (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أى جزاء الذين كسبوا السيئات أن يجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد فى الحسنة وتغيير السبك حيث لم يقل وللذين كسبوا السيئات السو أى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائى والتباين وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعهم وبسبب جنايتهم على أنفسهم أو الموصول معطوف على الموصول الأول كأنه

١٣٨

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨)

____________________________________

قيل وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها كقولك فى الدار زيد والحجرة عمرو وفيه دلالة على أن المراد بالزيادة الفضل (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وأى ذلة كما ينبىء عنه التنوين التفخيمى وفى إسناد الرهق إلى أنفسهم* دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم جميعا وقرىء يرهقهم بالياء التحتانية (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أى لا يعصمهم أحد من سخطه وعذابه تعالى أو مالهم من عنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وفى نفى العاصم من المبالغة فى نفى العصمة ما لا يخفى والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ) لفرط سوادها وظلمتها (مُظْلِماً) حال من (اللَّيْلِ) والعامل فيه (أُغْشِيَتْ) لأنه* العامل فى قطعا وهو موصوف بالجار والمجرور والعامل فى الموصوف عامل فى الصفة أو معنى الفعل فى من الليل وقرىء قطعا بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال[افتحى الباب وانظرى فى النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم] فيجوز كون مظلما صفة له أو حالا منه وقرىء كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم والجملة كما قبلها مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم (أُولئِكَ) أى الموصوفون بما ذكر من* الصفات الذميمة (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وحيث كانت الآية الكريمة فى حق الكفار بشهادة* السياق والسباق لم يكن فيها تمسك للوعيدية (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة وتأخيره فى الذكر مع تقدمه فى الوجود على بعض أحوالهم المحكية سائقا للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعى الترتيب الخارجى لعد الكل شيئا واحدا كما مر فى قصة البقرة ولذلك فصل عما قبله ويوم منصوب على المفعولية بمضمر أى أندرهم أو ذكرهم وضمير نحشرهم لكلا الفريقين الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى (جَمِيعاً) ومن إفراد* الفريق الثانى بالذكر فى قوله تعالى (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أى نقول للمشركين من بينهم ولأن* توبيخهم وتهديدهم على رءوس الأشهاد أفظع والإخبار بحشر الكل فى تهويل اليوم أدخل وتخصيص وصف إشراكهم بالذكر فى حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم وقيل للفريق الثانى خاصة فيكون وضع الموصول موضع الضمير لما ذكر آنفا (مَكانَكُمْ) نصب على أنه فى الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه* لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأى الفارسى أى ألزموه حتى تنظروا ما يفعل بكم (أَنْتُمْ) * تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسده (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه وقرىء بالنصب على أن الواو* بمعنى مع (فَزَيَّلْنا) من زلت الشىء عن مكانه أزيله أى أزلته والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرىء* فزايلنا بمعناه نحو كلمته وكالمته وهو معطوف على نقول وإيثار صيغة الماضى للدلالة على التحقق المورث لزيادة التوبيخ والتحسير والفاء للدلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيب الخطاب من غير مهلة إيذانا

١٣٩

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠)

____________________________________

* بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة أى ففرقنا (بَيْنَهُمْ) وقطعنا أقرانهم والوصل التى كانت بينهم فى الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبدة فقط لعدم احتمال شمول الشركاء للشياطين كما سيجىء فخابت آمالهم وانصرمت عرى أطماعهم وحصل لهم اليأس الكلى من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم والحال وإن كانت معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب لكن هذه المرتبة من اليقين إنما حصلت عند المشاهدة والمشافهة وقيل المراد بالتزييل التفريق الحسى أى فباعدنا بينهم بعد الجمع فى الموقف وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم كما فى قوله تعالى (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) فالواو* حينئذ فى قوله تعالى (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) حالية بتقدير كلمة قد عند من يشترطها وبدونه عند غيره لا عاطفة كما فى التفسير الأول لاستدعاء المحاورة المحاضرة الفائتة بالمباعدة وليس فى ترتيب التزييل بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكان ما فى ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورة ليصار لأجل رعايتها إلى تغيير الترتيب الخارجى فإن المباعدة بعد المحاورة حتما وأما قطع الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤه حاصل من حين الحشر بل بعض مراتبه حاصل قبله أيضا وإنما الحاصل عند المحاورة أقصاها كما أشير إليه فلا اعتداد بما فى تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ما ذكر من النكتة ولو سلم تأخر جميع مراتبه عن المحاورة فمراعاة تلك النكتة كافية فى استدعاء تقديمه عليها ويجوز أن تكون حالية على هذا التقدير أيضا والمراد بالشركاء قيل الملائكة وعزير والمسيح وغيرهم ممن عبدوه من أولى العلم ففيه تأييد* لرجوع الضمير إلى الكل وقولهم (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) عبارة عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا فى الحقيقة أهواءهم وشياطينهم الذين أغووهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك دونهم كقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية وقيل الأصنام ينطقها الله الذى أنطق كل شىء فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التى كانوا يتوقعونها (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فإنه العليم الخبير (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أى عن عبادتكم لنا وتركه للظهور وللإيذان بكمال الغفلة عنها والغفلة عبارة عن عدم الارتضاء وإلا فعدم شعور الملائكة بعبادتهم لهم غير ظاهر وهذا يقطع احتمال كون المراد بالشركاء الشياطين كما قيل فإن ارتضاءهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مجبرين لهم على ذلك وإن مخففة من إن واللام فارقة (هُنالِكَ) أى* فى ذلك المقام الدهش أو فى ذلك الوقت على استعارة ظرف المكان للزمان (تَبْلُوا) أى تختبر وتذوق* (كُلُّ نَفْسٍ) مؤمنة كانت أو كافرة سعيدة أو شقية (ما أَسْلَفَتْ) من العمل وتعاينه بكنهه مستتبعا لآثاره من نفع أو ضر وخير أو شر وأما ما علمت من حالها من حين الموت والابتلاء بالعذاب فى البرزخ فأمر مجمل وقرىء نبلو بنون العظمة ونصب كل وإبدال ما منه أى نعاملها معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أى العذا

١٤٠