تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (٤٥)

____________________________________

لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أى تعلمون عبارة جنس الرؤيا علما مستمرا* وهى الانتقال من الصور الخيالية المشاهدة فى المنام إلى ما هى صور وأمثلة لها من الأمور الآفاقية أو الأنفسية الواقعة فى الخارج من العبور وهو المجاوزة تقول عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ونحوه أولتها أى ذكرت مآلها وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا والجمع بين الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه واللام للبيان أو لتقوية العامل المؤخر لرعاية الفواصل أو لتضمين تعبرون معنى فعل متعد باللام كأنه قيل إن كنتم تنتدبون لعبارتها ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما يقال فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبر آخر (قالُوا) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال الملأ للملك فقيل قالوا هى (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أى تخاليطها جمع ضغث وهو فى الأصل ما جمع* من أخلاط النبات وحزم ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ووساوس الشيطان وتريها فى المنام والأحلام جمع حلم وهى الرؤيا الكاذبة التى لا حقيقة لها والإضافة بمعنى من أى هى أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التى لها عاقبة تؤول إليها ويعتنى بأمرها وجمعوها وهى رؤيا واحدة مبالغة فى وصفها بالبطلان كما فى قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا يملك إلا فرسا واحدا وعمامة فردة أو لتضمنها أشياء مختلفة من البقرات السبع السمان والسبع العجاف والسنابل السبع الخضر والأخر اليابسات فتأمل حسن موضع الأضغاث مع السنابل فلله در شأن التنزيل (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) * أى المنامات الباطلة التى لا أصل لها (بِعالِمِينَ) لا لأن لها تأويلا ولكن لا نعلمه بل لأنه لا تأويل لها وإنما* التأويل للمنامات الصادقة ويجوز أن يكون ذلك اعترافا منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير فى تأويل الأحلام مع أن لها تأويلا كما يشعر به عدولهم عما وقع فى كلام الملك من العبارة المعربة عن مجرد الانتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبىء عن التصرف والتكلف فى ذلك لما بين الآئل والمآل من البعد ويؤيده قوله عزوجل (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أى من صاحبى يوسف وهو الشرابى (وَادَّكَرَ) بغير المعجمة وهو الفصيح وعن الحسن* بالمعجمة أى تذكر يوسف عليه‌السلام وشئونه التى شاهدها ووصيته بتقريب رؤيا الملك وإشكال تأويلها على الملأ (بَعْدَ أُمَّةٍ) أى مدة طويلة وقرىء أمة بالكسر وهى النعمة أى بعد ما أنعم عليه بالنجاة وأمه* أى نسيان والجملة حال من الموصول أو من ضميره فى الصلة وقيل معطوفة على نجا وليس بذاك لأن حق كل من الصفة والصلة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف والموصول عند المخاطب كما عند المتكلم ولذلك قيل إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات وأنت تدرى أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا مجال لنظمه مع نجاته المعلومة قبل فى سلك الصلة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أى أخبركم*

٢٨١

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (٤٧)

____________________________________

* بالتلقى عمن عنده علمه لا من تلقاء نفسى ولذلك لم يقل أنا أفتيكم فيها وعقبه بقوله (فَأَرْسِلُونِ) أى إلى يوسف وإنما لم يذكره ثقة بما سبق من التذكر وما لحق من قوله (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أى أرسل إليه فأتاه فقال يا يوسف ووصفه بالمبالغة فى الصدق حسبما شاهده وذاق أحواله وجربها لكونه بصدد* اغتنام آثاره واقتباس أنواره فهو من باب براعة الاستهلال (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أى فى رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه فى عالم الشهادة أى بين لنا مآلها وحكمها وحيث عاين علو رتبته عليه‌السلام فى الفضل عبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا نبئنا بتأويله وفى قوله أفتنا مع أنه المستفتى وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره* ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه فى ذلك معبر وسفير كما آذن بذلك حيث قال (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) * أى إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجن فى الخارج كما قيل فأنبئهم بذلك (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه وإنما لم يبت القول فى ذلك مجاراة معه على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يعلموه على يقين من الرجوع فربما اخترم دونه لعل المنايا دون ما تعدانى. ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه (قالَ) استئناف مبنى على* السؤال كأنه قيل فماذا قال يوسف عليه‌السلام فى التأويل فقيل قال (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قرىء بفتح الهمزة وسكونها وكلاهما مصدر دأب فى العمل إذا جد فيه وتعب وانتصابه على الحالية من فاعل تزرعون أى دائبين أو تدأبون دأبا على أنه مصدر مؤكد لفعل هو الحال أول عليه‌السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بسنين مجدبة فأخذهم بأنهم يواظبون سبع سنين على الزراعة ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذى هو مصداق البقرات السمان وتأويلها* ودلهم فى تضاعيف ذلك على أمر نافع لهم فقال (فَما حَصَدْتُمْ) أى فى كل سنة (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها ولعله عليه‌السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخضر وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتادا فيما بينهم وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلها* أمرا محقق الوقوع وتأويلا للرؤيا مصداقا لما فيها من البقرات السمان (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) فى تلك السنين وفيه إرشاد منه عليه‌السلام لهم إلى التقليل فى الأكل والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ) وبعد إتمام ما أمرهم به شرع فى بيان بقية التأويل التى يظهر منها حكمة الأمر المذكور فقال.

٢٨٢

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩)

____________________________________

(ثُمَّ يَأْتِي) وهو عطف على (تَزْرَعُونَ) فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثا لهم على الجد والمبالغة فى الزراعة على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد السنين السبع المذكورات وإنما لم يقل* من بعدهن قصدا إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكت عن أوصاف المرجع بالكلية (سَبْعٌ شِدادٌ) * أى سبع سنين صعاب على الناس (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) من الحبوب المتروكة فى سنابلها وفيه تنبيه على* أن أمره عليه‌السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازى كما فى نهاره صائم وفيه تلويح بأنه تأويل لأكل العجاف السمان واللام فى لهن ترشيح لذلك فكأن ما ادخر فى السنابل من الحبوب شىء قد هيىء وقدم لهن كالذى يقدم للنازل وإلا فهو فى الحقيقة مقدم للناس فيهن (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون مبذور الزراعة (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل الغلال المدخر (عامٌ) لم يعبر عنه بالسنة تحاشيا عن المدلول الأصلى لها من عام* القحط وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الغيث أى* يمطرون يقال غيثت البلاد إذا مطرت فى وقت الحاجة أو من الغوث يقال أغاثنا الله تعالى أى أمدنا برفع المكاره حين أظلتنا (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أى ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون* والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها والتعرض لذكر العصر مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم فى الحبوب إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكرات يتوقف صلاحها على مباد أخرى غير المطر وإما لمراعاة جانب المستفتى باعتبار حالته الخاصة به بشارة له وهى التى يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس فى القراءة بالفوقانية وقيل معنى بعصرون يحلبون الضروع وتكرير فيه إما للإشعار باختلاف أوقات ما يقع فيه من الغيث والعصر زمانا وهو ظاهر وعنوانا فإن الغيث والغوث من فضل الله تعالى والعصر من فعل الناس وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ولأجله قدم فى الموضعين على الفعلين فإن المقصود الأصلى بيان أنه يقع فى ذلك العام هذا النفع وذاك النفع لا بيان أنهما يقعان فى ذلك العام كما يفيده التأخير ويجوز أن يكون التقديم للقصر على معنى أن غيثهم وعصرهم فى سائر السنين بمنزلة العدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك فى الأخير لمراعاة الفواصل وفى الأول لرعاية حاله وقرىء يعصرون على البناء للمفعول من عصره إذا أنجاه وهو المناسب للإغاثة ويجوز أن يكون المبنى للفاعل أيضا منه كأنه قيل فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أى يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا وقيل معنى يعصرون يمطرون من أعصرت السحابة إما بتضمين أعصرت معنى مطرت وتعديته وإما بحذف الجار وإيصال الفعل على أن الأصل أعصرت عليهم وأحكام هذا العام المبارك ليست مستنبطة من رؤيا الملك وإنما تلقاها عليه‌السلام من جهة الوحى فبشرهم بها بعد ما أول

٢٨٣

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١)

____________________________________

الرؤيا بما أول وأمرهم بالتدبير اللائق فى شأنه إبانة لعلو كعبه ورسوخ قدمه فى الفضل وأنه محيط بما لم يخطر ببال أحد فضلا عما يرى صورته فى المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائهما فى منامهما لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وإتماما للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه‌السلام فى العلم بوقوعها أحد ولو برؤية ما يدل عليها فى المنام (وَقالَ الْمَلِكُ) بعد ما جاءه السفير بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير* (ائْتُونِي بِهِ) لما علم من علمه وفضله (فَلَمَّا جاءَهُ) أى يوسف (الرَّسُولُ) واستدعاه إلى الملك (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أى سيدك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أى ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد فى التفتيش ليتبين براءته ويتضح نزاهته إذ السؤال مما يهيج الإنسان على الاهتمام فى البحث للتفصى عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز مع مالقى منها مالقى من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجان والأحزان محافظة على مواجب الحقوق واحترازا عن مكرها حيث اعتقدها مقيمة فى عدوة العداوة وأما النسوة فقد كان يطمع فى صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدى ولم يصرح بمراودتهن له وقولهن أطع مولاتك واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله* (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) مجاملة معهن واحترازا عن سوء قالتهن عند الملك وانتصابهن للخصومة مدافعة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك* فقيل قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن (ما خَطْبُكُنَّ) أى شأنكن وهو الأمر الذى يحق* لعظمه أن يخاطب المرء فيه صاحبه (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ) وخادعتنه (عَنْ نَفْسِهِ) ورغبتنه فى إطاعة مولاته* هل وجدتن فيه شيئا من سوء وريبة (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له وتعجبا من نزاهته وعفته (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) بالغن فى نفى جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة من (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) وكانت حاضرة فى المجلس وقيل أقبلت النسوة عليها يقررنها وقيل خافت أن يشهدن عليها بما قالت لهن ولقد راودته عن* نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين فأقرت قائلة (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أى ثبت واستقر أو تبين وظهر بعد خفاء قاله الخليل وقيل هو مأخوذ من الحصة وهى القطعة من الجملة أى تبين حصة الحق من حصة الباطل كما تتبين حصص الأراضى وغيرها وقيل بان وظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه وقرىء على البناء للمفعول من حصحص البعير مباركه أى ألقاها فى

٢٨٤

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣)

____________________________________

الأرض للإناخة قال[فحصحص فى صم الصفا ثفناته * وناء بسلمى نوأة ثم صمما] والمعنى أقر الحق فى مقره ووضع فى موضعه ولم ترد بذلك مجرد ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهته عليه‌السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته فى سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت فى ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق فى نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه‌السلام فى محل النزاع وخيانتها فقالت (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى عن نفسى (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أى فى قوله حين افتريت عليه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن فتأمل أيها المنصف هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم تتمالك الخصماء من الشهادة بها والفضل ما شهدت به الخصماء وإنما تصدى عليه‌السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليظهر براءة ساحته مما قذف به لا سيما عند العزيز قبل أن يحل ما عقده كما يعرب عنه قوله عليه‌السلام لما رجع إليه الرسول وأخبره بكلامهن (ذلِكَ) أى ذلك التثبيت المؤدى إلى ظهور حقيقة الحال (لِيَعْلَمَ) أى العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) فى حرمته كما زعمه لا علما مطلقا فإن ذلك لا يستدعى تقديم التفتيش على الخروج* من السجن بل قبل ما ذكر من نقض ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوق السيادة لأن المباشرة للخروج من حبسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتيات على رأيه وأما أن يكون ذلك لئلا يتمكن من تقبيح أمره عند الملك تمحلا لامضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه‌السلام فى الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله (بِالْغَيْبِ) أى بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أى لم أخنه وأنا* غائب عنه أو وهو غائب عنه أو وهو غائب عنى أو ظرف أى بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة وأيا ما كان فالمقصود بيان كمال نزاهته عن الخيانة وغاية اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابها (وَأَنَّ اللهَ) * أى وليعلم أنه تعالى (لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أى لا ينفذه ولا يسدده بل يبطله ويزهقه أولا يهديهم فى* كيدهم إيقاعا للفعل على الكيد مبالغة كما فى قوله تعالى (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى يضاهئونهم فى قولهم وفيه تعريض بامرأته فى خيانتها أمانته وبه فى خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آيات نزاهته عليه‌السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عزوجل أمره وأحسن عاقبته (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أى لا أنزهها عن السوء قاله عليه‌السلام هضما لنفسه الكريمة البريئة عن كل سوء وربأ بمكانها عن النزكية والإعجاب بحالها عند ظهور كمال نزاهتها على أسلوب قوله عليه‌السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر أو تحديثا بنعمة الله عزوجل عليه وإبرازا لسره المكنون فى شأن أفعال العباد أى لا أنزهها عن السوء من حيث هى هى ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله عز وعلا (إِنَّ النَّفْسَ) البشرية التى من جملتها نفسى فى حد ذاتها (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) مائلة إلى الشهوات*

٢٨٥

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥)

____________________________________

* مستعملة للقوى والآلات فى تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله تعالى وعصمته ورحمته كما يفيده قوله (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) من النفوس التى يعصمها من الوقوع فى المهالك ومن جملتها نفسى أو هى أمارة بالسوء فى كل وقت إلا وقت رحمة ربى وعصمته لها وقيل الاستثناء منقطع أى لكن رحمة ربى هى التى تصرف* عنها السوء كما فى قوله تعالى (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) عظيم المغفرة لما يعترى النفوس بموجب طباعها ومبالغ فى الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك وإيثار الإظهار فى مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادى المغفرة والرحمة وقيل إلى هنا من كلام امرأة العزيز والمعنى ذلك الذى قلت ليعلم يوسف عليه‌السلام أنى لم أخنه ولم أكذب عليه فى حال الغيبة وجئت بما هو الحق الواقع وما أبرىء نفسى مع ذلك من الخيانة حيث قلت فى حقه ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربى أى إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إن ربى غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له فعلى هذا يكون تأنيه عليه‌السلام فى الخروج من السجن لعدم رضاه عليه‌السلام بملاقاة الملك وأمره بين بين ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهته وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ماله من الفضل ونباهة الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ) أجعله خالصا (لِنَفْسِي) وخاصا بى (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أى فأتوا به فحذف للإيذان بسرعة الإتيان به فكأنه لم يكن بين الأمر بإحضاره والخطاب معه زمان أصلا والضمير المستكن فى كلمه ليوسف والبارز* للملك أى فلما كلمه يوسف إثر ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة* ومنزلة رفيعة (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شىء واليوم ليس بمعيار ليس بمعيار لمدة المكانة والأمانة بل هو آن التكلم والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن احتمال كونهما بعد حين. روى أنه عليه‌السلام لما جاءه الرسول خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبس ثيابا جددا فلما دخل على الملك قال اللهم إنى أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره وشر غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسان قال لسان آبائى وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال أحب أن أسمع منك رؤياى فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على مارآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره وقيل توفى قطفير فى تلك الليالى فنصبه منصبه وزوجه راعيل فوجدها عذراء وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينه عليه‌السلام لما عين له من أمر الخزائن كما يعرب عنه قوله عزوجل(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أى أرض مصر أى ولنى أمرها من الإيراد والصرف (إِنِّي حَفِيظٌ) لها ممن* لا يستحقها (عَلِيمٌ) بوجوه التصرف فيها وفيه دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده

٢٨٦

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨)

____________________________________

عليه‌السلام ولعل إيثاره عليه‌السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين حسبما فصل فى التأويل لكونه من فروع تلك الولاية لمجرد عموم الفائدة وجموم العائدة كما قيل وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه‌السلام من جعله على خزائن الأرض إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له غنى عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عزوجل وإنما الملك آلة فى ذلك قيل (وَكَذلِكَ) أى مثل ذلك التمكين البليغ (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أى جعلنا له مكانا (فِي الْأَرْضِ) أى أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا فى أربعين وفى التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين فى الأرض مسندا إلى ضميره عز سلطانه من تشريفه عليه‌السلام والمبالغة فى كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال مالا يخفى (يَتَبَوَّأُ مِنْها) ينزل من بلادها (حَيْثُ يَشاءُ) ويتخذه* مباءة وهو عبارة عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكته وسلطانه فكأنها منزله يتصرف فيها كما يتصرف الرجل فى منزله وقرأ ابن كثير بالنون. روى أن الملك توجه وختمه بخاتمة ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال عليه‌السلام أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسى ولا لباس آبائى فقال قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وباع من أهل مصر فى سنى القحط الطعام فى السنة الأولى بالدنانير والدراهم وفى الثانية بالحلى والجواهر وفى الثالثة بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا ما رينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه ثم أعتقهم ورد إليهم أموالهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) * بعطائنا فى الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم (مَنْ نَشاءُ) بمقتضى الحكمة الداعية إلى المشيئة (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفيه بكماله وفيه إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصببه الرحمة المرقومة وأنها أجر له ولدفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل قيل على سبيل التوكيد (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أى أجرهم فى الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيم المقيم الذى لا نفاد له (خَيْرٌ) لهم أى للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعه الموصول فقيل (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) تنبيها على* ان المراد بالإحسان إنما هو الإيمان والثبات على التقوى المستفاد من جمع صيغتى الماضى والمستقبل (وَجاءَ

٢٨٧

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٥٩)

____________________________________

إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب أرض مصر وقد كان أرسلهم* يعقوب عليه‌السلام جميعا غير بنيامين (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) أى على يوسف وهو فى مجلس ولايته (فَعَرَفَهُمْ) لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم فى الحالين ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما فى زمن القحط وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا* له (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أى والحال أنهم منكرون له لطول العهد وتباين ما بين حاليه عليه‌السلام فى نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارهم له أمرا مستمرا فى حالتى المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه‌السلام إياهم (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أى أصلحهم بعدتهم من الزاد* وما يحتاج إليه المسافر وأوقر ركائبهم بما جاءوا له من الميرة وقرىء بكسر الجيم (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لم يقل بأخيكم مبالغة فى إظهار عدم معرفته لهم ولعله عليه‌السلام إنما قاله لما قيل من أنهم سألوه عليه‌السلام حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيل من أنه لما رأوه وكلموه بالعبرية قال لهم من أنتم فإنى أنكركم فقالوا له نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لهم لعلكم جئتم عيونا فقالوا معاذ الله نحن أخوة من أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبى من الأنبياء اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثنى عشر فهلك منا واحد فقال كم أنتم قالوا عشرة قال فأين الحادى عشر قالوا هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك قال فمن يشهدلكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق قالوا نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال فدعوا بعضكم عندى رهينة وائتونى بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون فخلفوه عنده إذ لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان فى الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل على تقدير عدم الإتيان به ولا جعل بضاعتهم فى رحالهم لأجل رجوعهم ولا عدتهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلهم عند أبيهم إرسال أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون* لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أتمه لكم وإيثار صيغة* الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة له مستمرة (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) جملة حالية أى ألا ترون أنى أوفى الكيل لكم إيفاء مستمرا والحال أنى فى غاية الإحسان فى إنزالكم وضيافتكم وقد كان الأمر كذلك وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب فى أثنائه وأما الإحسان فى الإنزال فقد كان مستمرا فيما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية ولم يقله عليه‌السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به والاقتصار فى الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه‌السلام معهم فى ذلك كمعاملته مع غيرهم فى مراعاة مواجب العدل وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم فى ذلك مما شاء.

٢٨٨

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣)

____________________________________

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) من بعد فضلا عن إيفائه (وَلا تَقْرَبُونِ) بدخول بلادى فضلا عن الإحسان فى الإنزال والضيافة وهو إما نهى أو نفى معطوف على محل الجزاء وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليه‌السلام (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أى سنخادعه عنه ونحتال فى انتزاعه من يده ونجتهد فى ذلك وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك غير مفرطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا نتعانى به (وَقالَ) يوسف (لِفِتْيانِهِ) غلمانه الكيالين جمع فتى وقرىء لفتيته وهى جمع قلة له (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإنه وكل بكل رحل* رجلا يعبى فيه بضاعتهم التى شروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما وإنما فعله عليه‌السلام تفضلا عليهم وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يؤذن به قوله (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أى يعرفون حق ردها والتكرم فى ذلك أو لكى يعرفوها وهو ظاهر* التعلق بقوله (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا وأما معرفة* حق التكرم فى ردها فهى وإن كانت فى ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حسبما أمرتهم به فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من* أقوى الدواعى إلى الرجوع وما قيل إنما فعله عليه‌السلام لما لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا فكلام حق فى نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور وأما أن علية الجعل المذكور للرجوع من حيث إن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لأنهم لا يستحلون إمساكهم فمداره حسبانهم أنها بقيت فى رحالهم نسيانا وظاهر أن ذلك مما لا يخطر ببال أحد أصلا فإن هيئة التعبية تنادى بأن ذلك بطريق التفضل ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا) قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أى فيما بعد وفيه مالا يخفى من الدلالة على كون الامتيار مرة بعد مرة معهودا فيما بينهم وبينه عليه‌السلام (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) * بنيامين إلى مصر وفيه إيذان بأن مدار المنع عدم كونه معهم (نَكْتَلْ) بسببه من الطعام ما نشاء وقرأ حمزة*

٢٨٩

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥)

____________________________________

* والكسائى بالياء على إسناده إلى الأخ لكونه سببا للاكتيال أو يكتل لنفسه مع اكتيالنا (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يصيبه مكروه (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم فى حقه أيضا* ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفو الأمر إلى الله (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) وقرىء* حفظا وانتصابهما على التمييز والحالية على القراءة الأولى توهم تقيد الخيرية بتلك الحالة (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمنى بحفظه ولا يجمع على مصيبتين وهذا كما ترى ميل منه عليه‌السلام إلى الإيذان والإرسال لما رأى فيه من المصلحة (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أى تفضلا وقد* علموا ذلك بما مر من دلالة الحال وقرىء بنقل حركة الدال المدغمة إلى الراء كما قيل فى قيل وكيل (قالُوا) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل ماذا قالوا حينئذ فقيل قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح* (يا أَبانا ما نَبْغِي) إذا فسر البغى بالطلب فما إما استفهامية منصوبة به فالمعنى ماذا نبتغى وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعى إلى امتثال أمره والمراجعة إليه فى الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا* كرامته وقوله تعالى (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندرى بعد ما من علينا من المنن العظام هل من مزيد على هذا فنطلبه ولم يريدوا به الاكتفاء بذلك مطلقا أو التقاعد عن طلب نظائره بل أرادوا الاكتفاء به فى استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه فى استجلاب المزيد كما أشرنا إليه وقوله تعالى (رُدَّتْ إِلَيْنا) حال من (بِضاعَتُنا) والعامل معنى الإشارة وإيثار صيغة البناء للمفعول للإيذان بكمال الإحسان الناشىء عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا يفاعله وقوله* عزوجل (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أى نجلب إليهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه رد البضاعة* أى فنستظهر بها ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) من المكاره حسبما وعدنا فما يصيبه من مكروه (وَنَزْدادُ) أى* بواسطته ولذلك وسط الإخبار بحفظه بين الأصل والمزيد (كَيْلَ بَعِيرٍ) أى وسق بعير زائدا على أوساق* أباعرنا على قضية التقسيط (ذلِكَ) أى ما يحمله أباعرنا (كَيْلٌ يَسِيرٌ) أى مكيل قليل لا يقوم بأودنا فهو استئناف وقع تعليلا لما سبق كانه قيل أى حاجة إلى الازدياد فقيل ما قيل أو ذلك الكيل الزائد شىء قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه أو أى مطلب نطلب من مهماتنا والجملة الواقعة بعده توضيح

٢٩٠

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦)

____________________________________

وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شىء من المكاره ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأى شىء نبتغى وراء هذه المباغى وقرىء ما تبغى على خطاب يعقوب عليه‌السلام أى أى شىء تبغى وراء هذه المباغى المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل بنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه والجملة الاستئنافية موضحة لذلك أو أى شىء تبغى شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار. وإما نافية فالمعنى ما نبغى شيئا غير ما رأينا من إحسان الملك فى وجوب المراجعة إليه أو ما نبغى غير هذه المباغى وقيل ما نطلب منك بضاعة أخرى والجملة المستأنفة تعليل له وأما إذا فسر البغى بمجاوزة الحد فما نافية فقط والمعنى ما نبغى فى القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغى وقوله (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) عطف على (ما نَبْغِي) أى ما نبغى فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيل أمثاله من مير أهلنا وحفظ أخينا فإن ذلك أهون شىء بواسطة إحسانه وقد جوز أن يكون كلاما مبتدأ أى جملة اعتراضية تذييلية على معنى وينبغى أن نمير أهلنا وشبه ذلك بقولك سعيت فى حاجة فلان ويجب أن أسعى وأنت خبير بأن شأن الجمل التذييلية أن تكون مؤكدة لمضمون الصدر ومقررة له كما فى المثال المذكور وقولك فلان ينطق بالحق فالحق أبلج وإن قوله (وَنَمِيرُ) الخ وإن ساعدنا فى حمله على معنى ينبغى أن نمير أهلنا بمعزل من ذلك أو ما نبغى فى الرأى وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا والجمل إلى آخرها تفصيل وبيان لعدم بغيهم وإصابة رأيهم أى بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت فتأمل (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) بعد ما عاينت منكم ما عاينت (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أى ما أتوثق به من جهة الله عزوجل وإنما جعله موثقا منه تعالى لأن تأكيد* العهود به مأذون فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عزوجل (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا* بالله لتأتننى به (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أى إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلكوا وأصله من إحاطة* العدو فإن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا وهو استثناء من أعم الأحوال أو أعم العلل على تأويل الكلام بالنفى الذى ينساق إليه أى لتأنننى به ولا تمتنعن منه فى حال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا حال الإحاطة بكم أو لعلة الإحاطة بكم ونظيره قولهم أقسمت عليك لما فعلت وإلا فعلت أى ما أريد منك إلا فعلك وقد جوز الأول بلا تأويل أيضا أى لتأتننى به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم وأنت تدرى أنه حيث لم يكن الإتيان به من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما فى قولك لألزمنك إلا أن تعطينى حقى ولم يكن مراده عليه‌السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت صل إلا أن تكون

٢٩١

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧)

____________________________________

محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما فى قولك لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج إلا الإخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك فى مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه فآل المعنى* إلى التأويل المذكور (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) عهدهم من الله حسبما أراد يعقوب عليه‌السلام (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ) أى على ما قلنا فى أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار* صورته المؤدى إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته (وَكِيلٌ) مطلع رقيب يريد به عرض ثقته بالله تعالى وحثهم على مراعاة ميثاقهم (وَقالَ) ناصحا لهم لما أزمع على إرسالهم جميعا (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا) مصر* (مِنْ بابٍ واحِدٍ) نهاهم عن ذلك حذارا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة وقد كانوا تجملوا فى هذه الكرة أكثر مما فى المرة الأولى وقد اشتهروا فى مصر بالكرامة والزلفى لدى الملك بخلاف النوبة الأولى فكانوا مئنة لدنو كل ناظر وطموح كل طامح وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما ينكر وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن العين حق وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسنين رضى الله عنهما بقوله أعوذ بكلمات الله التأمة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول كان أبو كما يعوذ بها إسماعيل وإسحق عليهم‌السلام رواه البخارى فى صحيحه وقد شهدت بذلك التجارب ولما لم يكن عدم الدخول من باب واحد مستلزما للدخول من أبواب متفرقة وكان فى دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما فى الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور* قال (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) بيانا لما هو المراد بالنهى وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما* له إظهارا لكمال العناية وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق لشىء آخر (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ) أى لا* أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيرى (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أى شيئا مما قضى عليكم فإن الحذر لا يمنع القدر ولم يرد به عليه‌السلام إلغاء الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال خذوا حذركم بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير فى الجملة وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من* العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه (إِنِ الْحُكْمُ) مطلقا (إِلَّا لِلَّهِ) لا يشاركه أحد ولا يمانعه شىء (عَلَيْهِ) لا على أحد سواه (تَوَكَّلْتُ) فى كل ما آتى وأذر وفيه دلالة على* أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل (وَعَلَيْهِ) دون غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) جمع بين الحرفين فى عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيدا بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله عزوجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولا أوليا وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عزوجل غير مغترين

٢٩٢

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨)

____________________________________

بما وصاهم به من التدبير (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرقة من البلد قيل كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها وإنما أكتفى بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه (ما كانَ) ذلك الدخول* (يُغْنِي) فيما سيأتى عند وقوع ما وقع (عَنْهُمْ) عن الداخلين لأن المقصود به استدفاع الضرر عنهم والجمع* بين صيغتى الماضى والمستقبل لتحقيق المقارنة الواجبة بين جواب لما ومدخوله فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول المذكور مغنيا فيما سيأتى فتأمل (مِنَ اللهِ) من جهته (مِنْ شَيْءٍ) أى شيئا مما قضاه عليهم مع كونه* مظنة لذلك فى بادى الرأى حيث وصاهم به يعقوب عليه‌السلام وعملوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى فليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما فى قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) فإن مجىء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة فى بادى الرأى كما فى قولك حلف أن يعطينى حقى عند حلول الأجل فلما حل لم يعطنى شيئا فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه‌السلام فى تضاعيف وصيته من أنه لا يغنى عنهم من الله شيئا فكأنه قيل ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفد ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قالعليه‌السلام فلقوا مالقوا فيكون من باب وقوع المتوقع فتأمل (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع أى ولكن حاجة وحرازة كائنة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أى أظهرها ووصاهم بها دفعا للخاطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا فى تغيير التقدير وقد جعل ضمير الفاعل فى قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة فى نفس يعقوب وهى إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغنى عنهم من جهة الله تعالى شيئا ولكن قضى حاجة حاصلة فى نفس يعقوب بوقوعه حسب إرادته فالاستثناء منقطع أيضا وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطرة وأما إصابة العين فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) جليل (لِما عَلَّمْناهُ) لتعليمنا إياه بالوحى ونصب الأدلة حيث لم يعتقد* أن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير حتى يتبين الخلل فى رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغنى عنهم من الله شيئا فكان الحال كما قال وفى تأكيد الجملة بإن واللام وتنكير العلم وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه‌السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أسرار القدر ويزعمون أنه يغنى عنه الحذر وأما ما يقال من أن* المعنى لا يعلمون إيجاب الحذر مع أنه لا يغنى شيئا من القدر فيأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادى

٢٩٣

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) (٧١)

____________________________________

 (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) بنيامين أى ضمه إليه فى الطعام أو فى المنزل أو فيهما. روى أنهم لما دخلوا عليه قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وستجدون ذلك عندى فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقى بنيامين وحيدا فبكى وقال لو كان أخى يوسف حيا لأجلسنى معه فقال يوسف بقى أخوكم فريدا وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كل اثنين منهم بيتا فقال هذا لا ثانى معه فيكون معى فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لى عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لى هلك فقال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك* (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) أى فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تعلمهم بما أعلمتك قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعن وهب إنه لم يتعرف إليه بل قال له أنا أخوك بدل أخيك المفقود ومعنى فلا تبتئس لا تحزن بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم وروى أنه قال له فأنا لا أفارقك قال قد علمت باغتمام والدى بى فإذا حبستك يزداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال لا أبالى فافعل مابدا لك قال أدس صاعى فى رحلك ثم أنادى عليك بأنك سرقته ليتهيأ لى ردك بعد تسريحك معهم قال افعل (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) أى المشربة قيل كانت مشربة جعلت صاعا يكال به وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب وكانت من فضة وقيل من ذهب وقيل من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت إناء مستطيلة تشبه* المكوك الفارسى الذى يلتقى طرفاه يستعمله الأعاجم وقيل كانت مرصعة بالجواهر (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين وقرىء وجعل على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد* (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) وهى الإبل التى عليها الأحمال لأنها تعير أى تذهب وتجىء وقيل هى قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وأصلها فعل مثل سقف وسقف ففعل به ما فعل ببيض وغيد والمراد أصحابها كما فى قوله عليه‌السلام يا خيل الله اركبى روى أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا منزلا* وقيل خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأدركوا ونودوا (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) هذا الخطاب إن كان يأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه والأول هو الأظهر الأوفق للسياق وقرأ اليمانى سارقون بلا لام (قالُوا) أى الأخوة (وَأَقْبَلُوا

٢٩٤

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٧٣)

____________________________________

عَلَيْهِمْ) جملة حالية من ضمير قالوا جىء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم (ما ذا تَفْقِدُونَ) * أى تعدمون تقول فقدت الشىء إذا عدمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا ضاع عنكم وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقرىء تفقدون من أفقدته إذا وجدته فقيدا وعلى التقديرين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم ماذا سرق منكم لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شىء فضلا أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكن أن يضيع منهم شىء فيسألونهم أنه ماذا وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البرآء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث (قالُوا) فى جوابهم (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقرىء صاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقى فى رحلهم اتفاقا (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) من عند نفسه مظهرا له قبل التفتيش (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام* جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد فى رحله (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن (قالُوا تَاللهِ) الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لا تدخل إلا على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن فى قول ضعيف ولو قلت تالرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأيا ما كان ففيه تعجب (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) علما جازما* مطابقا للواقع (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أى لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أى* إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفى المجىء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفى الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجىء الذى يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل فى قوله تعالى (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الدال بظاهره على نفى المبالغة فى الظلم دون نفى الظلم فى الجملة الذى هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلاما مفرطا فى الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم فى كرتى مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غاية ما يكون من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد (وَما كُنَّا سارِقِينَ) أى ما كنا نوصف* بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفى الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاما للحجة عليهم وتحقيقا للتعجب المفهوم من تاء القسم.

٢٩٥

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

____________________________________

 (قالُوا) أى أصحاب يوسف عليه‌السلام (فَما جَزاؤُهُ) الضمير للصواع على حذف المضاف أى فما جزاء* سرقته عندكم وفى شريعتكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) لا فى دعوى البراءة عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفى كون الصواع فيهم كما يؤذن به قوله عزوجل(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ) أى أخذ من* وجد الصواع (فِي رَحْلِهِ) حيث ذكر بعنوان الوجدان فى الرحل دون عنوان السرقة وإن كان ذلك مستلزاما لها فى اعتقادهم المبنى على قواعد العادة ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذ والاسترقاق سنة إنما هو جزاء السارق دون من وجد فى يده مال غيره كيفما كان فتأمل واحمل كلام كل فريق على مالا* يزاحم رأيه فإنه أقرب إلى معنى الكيد وأبعد من الافتراء وقوله تعالى (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير لذلك الحكم أى فأخذه جزاؤه كقولك حق الضيف أن يكرم فهو حقه ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هى خبره على إقامة الظاهر مقام المضمر والأصل جزاؤه من وجد فى رحله فهو هو على أن الأول لمن* والثانى للظاهر الذى وضع موضعه (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الجزاء الأوفى (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بالسرقة تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهم عما فعل بهم غافلون (فَبَدَأَ) يوسف بعد ما رجعوا إليه للتفتيش (بِأَوْعِيَتِهِمْ) بأوعية الأخوة العشرة أى بتفتيشها* (قَبْلَ) تفتيش (وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين لنفى النهمة. روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال ما أظن هذا أخذ* شيئا فقالوا والله لا نتركه حتى تنظر فى رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أى السقاية أو* الصواع فإنه يذكر ويؤنث (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان وقرىء بضم الواو وبقلبها همزة كما فى أشاح فى وشاح* (كَذلِكَ) نصب على المصدرية والكاف مقحمة للدلالة على فخامة المشار إليه وكذا ما فى ذلك من معنى البعد أى مثل ذلك الكيد العجيب وهو عبارة عن إرشاد الأخوة إلى الافتاء المذكور بإجرائه على* على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله عزوجل (كِدْنا لِيُوسُفَ) صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التى رتبها من دس الصواع وما يتلوه فاللام ليست* كما فى قوله (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فإنها داخلة على المتضرر على ما هو الاستعمال الشائع وقوله تعالى (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه لا تفسير وبيان له كما قيل كأنه قيل لماذا فعل ذلك فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله فى دين الملك فى أمر السارق أى فى سلطانه قاله ابن عباس

٢٩٦

أو فى حكمه وقضائه قاله قتادة إلا به لأن جزاء السارق فى دينه إنما كان ضربه وتغريمه ضعف ما أخذ دون الاسترقاق والاستبعاد كما هو شريعة يعقوب عليه‌السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التى نسبها إليه فى حال من الأحوال (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أى إلا حال مشيئته التى هى عبارة عن إرادته* لذلك الكيد أو إلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه ويجوز أن يكون الكيد عبارة عنه وعن مباديه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا لكن لا على أن يكون القصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذا بالنسبة إلى غيره مطلقا على معنى مثل ذلك الكيد كدنا لا كيدا آخر إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسف عن أخذ أخيه فى دين الملك فى شأن السارق قطعا إذ لا علاقة بين مطلق الكيد ودين الملك فى أمر السارق أصلا بل بالنسبة إلى بعضه على معنى مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه فى دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجرى مجرى الجزاء الصورى من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الافتاء المذكور وعلى هذا ينبغى أن يحمل القصر فى تفسير من فسر قوله تعالى (كِدْنا لِيُوسُفَ) بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه أى مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح مرتبا علمناه دون بعض من ذلك فقط الخ وعلى كل حال فالاستثناء من أعم الأحوال كما أشير إليه ويجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أى لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى أو إلا بسبب مشيئته تعالى وأيا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفا لدين الملك وقد قيل معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وأنت تدرى أن المراد بدينه ما عليه حينئذ فتغييره مخل بالاتصال وإرادة مطلق ما يتدين به أعم منه ومما يحدث تفضى إلى كون الاستثناء من قبيل التطبيق بالمحال إذا المقصود بيان عجز يوسف عليه‌السلام عن أخذ أخيه حينئذ ولم تتعلق المشيئة بالجعل المذكور إذ ذاك وإرادة عجزه مطلقا تؤدى إلى خلاف المراد فإن استثناء حال المشيئة المذكورة من أحوال عجزه عليه‌السلام مما يشعر بعدم الحاجة إلى الكيد المذكور فتدبر وقد جوز الانقطاع أى لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه فى دين غير دين الملك (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) أى رتبا كثيرة عالية من العلم وانتصابها* على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أى إلى درجات والمفعول قوله تعالى (مَنْ نَشاءُ) أى نشاء رفعه* حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) من أولئك* المرفوعين (عَلِيمٌ) لا ينالون شأوه واعلم أنه إن جعل الكيد عبارة عن المعنيين الأولين فالمراد برفع يوسف* عليه‌السلام ما اعتبر فيه بالشرطية او الشرطية من إرشاده عليه‌السلام إلى دس الصواع فى رحل أخيه وما يتفرع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قبله والمعنى أرشدنا أخوته إلى الافتاء المذكور لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بدونه أو أرشدنا كلا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما نم من قبل يوسف فقط لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بذلك فقوله تعالى (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) إلى

٢٩٧

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

____________________________________

قوله تعالى (عَلِيمٌ) توضيح لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يعزب عن علمه شىء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداده وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدر علمه ولا يكتنه كنهه يرفع كلا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم ومدارجه وقد رفع يوسف إلى ما يليق به من الدرجات العالية وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفى بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه‌السلام لم يكن على يقين من صدور الإفتاء المذكور عن إخوته وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله عزوجل وجودا وعلما والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية وفى صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز وعلا وجلالة مقدار علمه المحيط ما لا يخفى وأما إن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء المذكور فالرفع عبارة عن ذلك التعليم والإفتاء وإن لم يكن داخلا تحت قدرته عليه‌السلام لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحى والتعليم والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذى سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من أخذ أخيه إلا بذلك فقوله نرفع درجات من نشاء توضيح لقوله كدنا وبيان لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدح ليوسف برفعه إليها وقوله (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) تذييل له أى نرفع درجات عالية من العلم من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة قال ابن عباس رضى الله عنهما فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهى العلم إلى الله تعالى والمعنى أن إخوة يوسف عليه‌السلام كانوا علماء إلا أن يوسف عليه‌السلام أفضل منهم وقرىء درجات من نشاء بالإضافة والأول أنسب بالتذييل حيث نسب فيه الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته ويجوز أن يكون العليم فى هذا التفسير أيضا عبارة عن الله عزوجل أى وفوق كل من أولئك المرفوعين عليم يرفع كلا منهم إلى درجته اللائقة به والله تعالى أعلم (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) يعنون بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يريدون به يوسف عليه‌السلام وما جرى عليه من جهة عمته على ما قيل من أنها كانت تحضنه فلما شب أراد يعقوب عليه‌السلام انتزاعه منها وكانت لا تصبر عنه ساعة وكانت لها منطقة ورثتها من أبيها إسحق عليه‌السلام فاحتالت لاستبقاء يوسف عليه‌السلام فعمدت إلى المنطقة فحزمتها عليه من تحت ثيابه ثم قالت فقدت منطقة إسحق عليه‌السلام فانظروا من أخذها فوجدوها محزومة على يوسف فقالت إنه لى سلم أفعل به ما أشاء فخلاه يعقوب عليه‌السلام عندها حتى ماتت وقيل كان أخذ فى صباه صنما لأبى أمه فكسره وألقاه فى الجيف* وقيل دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيرا من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) أى أكن الحزازة الحاصلة مما قالوا (فِي نَفْسِهِ) لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما فى قوله تعالى (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما وهو تأكيد لما سبق (قالَ) أى فى نفسه وهو استئناف

٢٩٨

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٠)

____________________________________

مبنى على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل فماذا قال فى نفسه فى تضاعيف ذلك الإسرار فقيل قال (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أى منزلة حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البرىء وقيل بدل* من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله أنتم شر مكانا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أى عالم علما بالغا إلى* أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا بل إنما هو افتراء علينا فالصيغة لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه عزوجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم (قالُوا) عند ما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستطفين (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً) لم يريدوا بذلك الإخبار بأن له أبا فإن ذلك معلوم* مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أبا (شَيْخاً كَبِيراً) فى السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به* يتعلل عن شقيقه الهالك (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) * إلينا فأتمم إحسانك بهذه التتمة أو المتعودين بالإحسان فلا تغير عادتك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أى نعوذ بالله معاذا من (أَنْ نَأْخُذَ) فحذف الفعل وأقيم مقامه المصدر مضافا إلى المفعول به بعد حذف الجار (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها وإيثار صيغة التكلم مع الغير مع كون الخطاب من جانب إخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك أو للإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أولى الحل والعقد وإيثار من وجدنا متاعنا عنده دون سرق متاعنا لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب فى الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع فى الرحل على محمل غير السرقة (إِنَّا إِذاً) أى إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو* برضاه (لَظالِمُونَ) فى مذهبكم وما لنا ذلك وهذا المعنى هو الذى أريد بالكلام فى أثناء الحوار وله معنى* باطن هو أن الله عزوجل إنما أمرنى بالوحى أن آخذ بنيامين لمصالح علمها الله فى ذلك فلو أخفت غيره كنت ظالما وعاملا بخلاف الوحى (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أى يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس بدلالة صيغة الاستفعال وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده فى أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ منه بالله عزوجل ومن تسميته ظلما بقوله (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (خَلَصُوا) اعتزلوا وانفردوا عن الناس (نَجِيًّا) أى ذوى نجوى على أن يكون* بمعنى النجوى والتناجى أو فوجا نجيا على أن يكون بمعنى المناجى كالشعير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر

٢٩٩

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (٨١)

____________________________________

ومنه قوله تعالى (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) ويجوز أن يقال هم نجى كما يقال هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير* (قالَ كَبِيرُهُمْ) فى السن وهو روبيل أو فى العقل وهو يهوذا أو رئيسهم شمعون (أَلَمْ تَعْلَمُوا) كأنهم* أجمعوا عند التناجى على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم ألم تعلموا (أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه من الله لإذنه فيه وكون الحلف باسمه* الكريم (وَمِنْ قَبْلُ) أى ومن قبل هذا (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم وقد قلتم وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون وما مزيدة أو مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول تعلموا أى ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم السابق فى شأن يوسف عليه‌السلام ولا ضير فى الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وقد جوز النصب عطفا على اسم أن والخبر فى يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع فى شأن يوسف عليه‌السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا فى شأن يوسف عليه‌السلام وقع من قبل وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا بكون تفريطهم السابق واقعا فى شأن يوسف كما هو مفاد الأول ولا بكون تفريطهم الكائن فى شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثانى على أن الظرف المقطوع عن الإضافة لا يقع خبرا ولا صفة ولا صلة ولا حالا عند البعض كما تقرر فى موضعه وقيل محله الرفع على الابتداء والخبر من قبل وفيه ما فيه وقيل ما موصولة أو موصوفة ومحلها النصب عطفا على مفعول تعلموا أى ما فرطتموه بمعنى قدمتموه فى حقه* من الخيانة وأما النصب عطفا على اسم أن والرفع على الابتداء فقد عرفت حاله (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) متفرع على ما ذكره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أى فلن أفارق أرض* مصر جاريا على قضية الميثاق (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فى البراح بالانصراف إليه وكأن أيمانهم كانت معقودة* على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب عليه‌السلام (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج منها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخى بسبب من الأسباب. روى أنهم كلموا العزيز فى إطلاقه فقال روبيل أيها الملك لتردن إلينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة فى جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس من غضب واحد منهم سكن غضبه فقال يوسف لابنه قم إلى جنبه فمسه فمسه فقال روبيل من هذا إن فى هذا البلد بذرا من بذر يعقوب (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذا لا يحكم إلا بالحق والعدل (ارْجِعُوا) أنتم (إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ظاهر الحال وقرىء سرق اى نسب إلى السرقة (وَما شَهِدْنا) عليه (إِلَّا بِما عَلِمْنا) وشاهدنا أن الصواع استخرجت من وعائه (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) أى باطن الحال (حافِظِينَ) فما ندرى أن حقيقة الأمر كما شاهدنا أم بخلافه أو وما كنا عالمين حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق أو أنا

٣٠٠