تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (٦٦)

____________________________________

عن المقاصد بالذات إلى وسائلها مما لا يساعده جلالة شأن التنزيل الكريم (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا تغيير* لأقواله التى من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الإخلاف فيها ثبوتا قطعيا وعلى تقدير كون المراد بالبشرى الرؤيا الصالحة فالمراد بعدم تبديل كلماته تعالى ليس عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية بل عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتى بطريق الوعد من قوله تعالى (لَهُمُ الْبُشْرى) فتدبر (ذلِكَ) * إشارة إلى ما ذكر من أن لهم البشرى فى الدارين (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز وراءه وفيه تفسير لما* أبهم فيما سبق وهاتيك الجملة والتى قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرطه أن يكون بعده كلام متصل بما قبله أو هذه تذييل والسابقة اعتراض (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئة عن مقالاتهم الموحشة وتبشير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه عزوجل ينصره ويعزه عليهم إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب وقرىء ولا يحزنك من أحزنه وهو فى الحقيقة نهى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم فى تدبير هلاكك وإبطال أمرك وسائر ما يتفوهون به فى شأنك مما لا خير فيه وإنما وجه النهى إلى قولهم للمبالغة فى نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن لما أن النهى عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما فى قولك لا أرينك ههنا وتخصيص النهى عن الحزن بالإيراد مع شمول النفى السابق للحزن أيضا لما أنه لم يكن فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض الأوقات نوع حزن فسلى عن ذلك وقوله تعالى (إِنَّ الْعِزَّةَ) تعليل للنهى على طريقة* الاستئناف أى الغلبة والقهر (لِلَّهِ جَمِيعاً) أى فى ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا* غيرهم فهو يقهرهم ويعصمك منهم وينصرك عليهم وقد كان كذلك فهى من جملة المبشرات العاجلة وقرىء بفتح أن على صريح التعليل أى لأن العزة لله (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع ما يقولون فى حقك ويعلم* ما يعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أى العقلاء من الملائكة والثقلين وتخصيصهم بالذكر للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيدا له سبحانه مقهورين تحت قهره وملكته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك وهو مع ما فيه من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة بالله تعالى الموجب لسلوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم مبالاته بالمشركين وبمقالاتهم تمهيد لما لحق من قوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) وبرهان على بطلان*

١٦١

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨)

____________________________________

ظنونهم واعمالهم المبنية عليها وما إما نافية وشركاء مفعول يتبع ومفعول يدعون محذوف لظهوره أى ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء فى الحقيقة وإن سموها شركاء فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون ويكون مفعول يتبع محذوفا لانفهامه من* قوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أى ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنهم الباطل وإما موصولة معطوفة على من كأنه قيل ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أى وله شركاؤهم وتخصيصهم بالذكر مع دخولهم فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة فى بيان بطلان اتباعهم وفساد ما بنوه عليه من ظنهم شركاءهم معبودين مع كونهم عبيدا له سبحانه وإما استفهامية أى وأى شىء يتبعون أى لا يتبعون شيئا ما يتبعون إلا الظن والخيال الباطل كقوله تعالى (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) الخ وقرىء تدعون بالتاء فالاستفهام للتبكيت والتوبيخ كأنه قيل وأى شىء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم فى ذلك كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل إن يتبع هؤلاء المشركون إلا* الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون من الحق (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه ويحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة وتقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرا حال وإلا فلكم مفعوله الثانى أو هو حال كما فى الوجه الأول والمفعول الثانى لتسكنوا فيه أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثانى من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما فى الأولى والتقدير هو الذى جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم كما سيجىء نظيره فى قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الآية فحذف فى كل واحد من الجانبين ما ذكر فى الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وإسناد* الإبصار إلى النهار مجازى كالدى فى نهاره صائم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى جعل كل منهما كما وصف أو فيهما وما فى* اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته (لَآياتٍ) عجيبة كثيرة أو آيات أخر* غير ما ذكر (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أى هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها سماع تدبر واعتبار فيعملون بمقتضاها وتخصيص الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها (قالُوا) شروع فى ذكر ضرب آخر من أباطيلهم وبيان بطلانه (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً)

١٦٢

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

____________________________________

أى تبناه (سُبْحانَهُ) تنزيه وتقديس له عما نسبوا إليه وتعجيب من كلمتهم الحمقاء (هُوَ الْغَنِيُّ) على الإطلاق* عن كل شىء فى كل شىء وهو علة لتنزيهه سبحانه وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة وقوله عزوجل (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى من العقلاء وغيرهم تقرير لغناه وتحقيق لمالكيته تعالى لكل ما سواه* وقوله تعالى (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أى حجة (بِهذا) أى بما ذكر من قولهم الباطل توضيح لبطلانه* بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض فمن فى قوله تعالى (مِنْ سُلْطانٍ) زائدة لتأكيد النفى وهو مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل للظرف لاعتماده على النفى وبهذا متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان وإما بمحذوف وقع صفة له وإما بما فى عندكم من معنى الاستقرار كأنه قيل إن عندكم فى هذا القول من سلطان والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة فى الإلزام والإفحام وتأكيد ما فى قوله تعالى (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلافهم* وفيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها فهى جهالة وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعى وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به (قُلْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبين لهم سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أى فى كل أمر فيدخل ما نحن بصدده من الافتراء* بنسبة الولد والشريك إليه سبحانه دخولا أوليا (لا يُفْلِحُونَ) أى لا ينجون من مكروه ولا يفوزون* بمطلوب أصلا وتخصيص عدم النجاة والفوز بما يندرج فى ذلك من عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة لا يناسب مقام المبالغة فى الزجر عن الافتراء عليه سبحانه (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) كلام مستأنف سيق لبيان أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو فى ضمن افترائهم بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل كيف لا يفلحون وهم فى غبطة ونعيم فقيل هو متاع يسير فى الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله عز وعلا (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أى بالموت (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فيبقون فى الشفاء المؤبد* بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم فى الدنيا فأين هم من الفلاح وقيل المبتدأ المحذوف حياتهم أو تقلبهم وقد قيل إنه افتراؤهم ولا يخفى أن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه فى نفسه يتمتع وينتفع به وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها وعده كذلك باعتبار إجراء حكم ما يؤدى إليه من رياستهم عليه مما لا وجه له فالوجه ما ذكر أولا وليس ببعيد ما قيل إن المحذوف هو الخبر أى لهم متاع والآية إما مسوقة من جهة الله تعالى لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة فى الكلام المأمور به كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى (ثُمَّ إِلَيْنا) وقوله تعالى (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ) وإما داخلة فيه على أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه عزوجل.

١٦٣

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١)

____________________________________

 (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أى على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من أنهم لا يفلحون وأن ما يتمتعون* به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على العذاب الخالد (نَبَأَ نُوحٍ) أى خبره الذى له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك فى الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه من زوال ما تمتعوا به من النعيم وحلول عذاب الغرق الموصول بالعذاب المقيم لينزجروا بذلك عما هم عليه من الكفر أو تنكسر شدة شكيمتهم أو يعترف بعضهم بصحة نبوتك بأن عرفوا أن ما تتلوه موافقا لما ثبت عندهم من غير مخالفة بينهما أصلا مع علمهم بأنك لم تسمع ذلك من أحد ليس إلا بطريق الوحى وفيه من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه واختصاص العزة به تعالى وانتفاء الخوف والحزن عن أوليائه عز وعلا قاطبة وتشجيع النبى* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى (إِذْ قالَ) معمول لنبأ أو بدل منه بدل* اشتمال وأيا ما كان فالمراد بعض نبئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا كل ما جرى بينه وبين قومه واللام فى قوله تعالى (لِقَوْمِهِ) * للتبليغ (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ) أى عظم وشق (عَلَيْكُمْ مَقامِي) أى نفسى كما يقال فعلته لمكان فلان أى لفلان ومنه قوله تعالى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أى خاف ربه أو قيامى ومكثى بين ظهرانيكم مدة طويلة أو قيامى* (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) فإنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة يقومون على أرجلهم والجماعة قعود ليظهر حالهم* ويسمع مقالهم (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) جواب للشرط أى دمت على تخصيص التوكل به تعالى ويجوز أن* يراد به إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) عطف على الجواب والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه أو هو الجواب وما سبق جملة معترضة والإجماع العزم قيل هو متعد بنفسه وقيل فيه حذف وإيصال قال السدوسى أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا وأخرى أفعل* كذا وإذا عزم على أمروا حد فقد جمعه أى جعله جميعا (وَشُرَكاءَكُمْ) بالنصب على أن الواو بمعنى مع كما تدل عليه القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل تنزيلا للفصل منزلة التأكيد وإسناد الإجماع إلى الشركاء على طريقة التهكم وقيل إنه عطف على أمركم بحذف المضاف أى أمر شركائكم وقيل منصوب بفعل محذوف أى وادعوا شركاءكم وقد قرىء كذلك وقرىء فاجمعوا من الجمع أى فاعزموا على أمركم الذى تريدون بى من السعى فى إهلاكى واحتشدوا فيه على أى وجه يمكنكم (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) ذلك (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أى مستورا من غمه إذا ستره بل مكشوفا مشهورا تجاهروننى به فإن السر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك فى حقى لم يكن للسروجه وإنما خاطبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك إظهارا لعدم المبالاة بهم وأنهم لم يجدوا إليه سبيلا وثقة بالله سبحانه وبما وعده من عصمته وكلاءته فكلمة ثم للتراخى فى

١٦٤

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣)

____________________________________

الرتبة وإظهار الأمر فى موقع الإضمار لزيادة تقرير يقتضيها مقام الأمر بالإظهار الذى يستلزمه النهى عن التستر والإسرار وقيل المراد بأمرهم ما يعتريهم من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم والغمة والغم كالكربة والكرب وثم للتراخى الزمانى والمعنى لا يكن حالكم عليكم غمة وتخلصوا بإهلاكى من ثقل مقامى وتذكيرى ولا يخفى أنه لا يساعده قوله عزوجل (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أى أدوا إلى أى أحكموا ذلك الأمر الذى تريدون بى ولا تمهلونى كقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أو أدوا إلى ما هو حق عليكم عندكم من إهلاكى كما يقضى الرجل غريمه فإن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه وقرىء أفضوا بالفاء أى انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الفاء لترتيب التولى على ما سبق فالمراد به إما الاستمرار عليه وإما إحداث التولى المخصوص أى إن أعرضتم عن نصيحتى وتذكيرى إثر ما شاهدتم منى من مخايل صحة ما أقول ودلائلها التى من جملتها دعوتى إياكم جميعا إلى تحقيق ما تريدون بى من السوء غير مبال بكم وبما يأتى منكم وإحجامكم من الإجابة علما منكم بأنى على الحق المبين مؤيد من عند الله العزيز (فَما سَأَلْتُكُمْ) بمقابلة وعظى وتذكيرى (مِنْ أَجْرٍ) تؤدونه إلى حتى يؤدى ذلك إلى توليكم* إما لاتهامكم إياى بالطمع والسؤال وإما لثقل دفع المسئول عليكم أو حتى يضرنى توليكم المؤدى إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولى ببيان عدم ما يصححه والثانى لإظهار عدم مبالاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوده وعدمه وعلى التقديرين فالفاء الجزائية لسببية الشرط لإعلام مضمون الجزاء لا لنفسه والمعنى إن توليتم فاعلموا أن ليس فى مصحح له ولا تأثر منه وقوله عزوجل (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ينتظم المعنيين جميعا* خلا أنه على الأول تأكيد وعلى الثانى تعليل لاستغنائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم أى ما ثوابى على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبنى به آمنتم أو توليتم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه لا أخالف أمره* ولا أرجو غيره أو المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء فى طاعة الله تعالى (فَكَذَّبُوهُ) فأصروا على ما هم عليه من التكذيب بعد ما ألزمهم الحجة وبين لهم المحجة وحقق أو توليهم ليس له سبب غير التمرد والعناد فلا جرم حقت عليهم كلمة العذاب (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) من المسلمين وكانوا ثمانين (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) من الهالكين (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى بالطوفان وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء* والاستخلاف حسبما وقع فى قوله عز وعلا (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وغير ذلك من الآيات الكريمة لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التى هى من مقتضيات الربوبية على الغضب الذى هو من مستتبعات

١٦٥

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤)

____________________________________

* جرائم المجرمين (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تهويل لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ بَعَثْنا) أى أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد نوح عليه‌السلام (رُسُلاً) التنكير للتفخيم* ذاتا ووصفا أى رسلا كراما ذوى عدد كثير (إِلى قَوْمِهِمْ) أى إلى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما أى قوم كانوا بل كل رسول إلى قومه خاصة مثل هود إلى عاد* وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص (فَجاؤُهُمْ) أى جاء كل رسول قومه المخصوصين به* (بِالْبَيِّناتِ) أى المعجزات الواضحة الدالة على صدق ما قالوا والباء إما متعلقة بالفعل المذكور على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من ضمير جاءوا أى ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتى كل رسول ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد* إنما هى فيما بين ضميرى جاءوهم كما أشير إليه (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) بيان لاستمرار عدم إيمانهم فى الزمان الماضى لا لعدم استمرار إيمانهم كما مر مثله فى هذه السورة الكريمة غير مرة أى فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام فى وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم لشدة شكيمتهم فى الكفر والعناد ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم حسبما يدل عليه حكاية قوم نوح فالمراد بعدم إيمانهم المذكور* ههنا إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتى وبما أشير إليه فى قوله عزوجل (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) تكذيبهم من حين مجىء الرسل إلى زمان الإصرار والعناد وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول حيث جعل صلة للموصول إيذانا بأنه بين بنفسه غنى عن البيان وإنما المحتاج إلى ذلك عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التى كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذى تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا عبارة عن جميع الشرائع التى جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجىء الرسل إلى آخره وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من كون الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التى أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذى أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذبهم بها قبل مجىء رسلهم أنهم ما كانوا فى زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوكيد قط بل كان كل قوم من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح عليه‌السلام فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجىء الرسل كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقى بدلالة النص فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور أمر العذاب والعقاب

١٦٦

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦)

____________________________________

عند اجتماع المكذبين هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم فى الكفر والتكذيب وعلى التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة فى المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح عليه‌السلام والمعنى فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب بمثله قوم نوح ولا يخفى ما فيه من التعسف وقيل الباء للسببية أى بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يخفى أن ذلك يؤدى إلى مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأى الأخفش وابن السراج ليرجع إليها الضمير وفى إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا فى الأذهان ما لا يخفى من التعسف (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الطبع المحكم (نَطْبَعُ) بنون العظمة* وقرىء بالياء على أن الضمير لله سبحانه (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين عن الحدود المعهودة فى الكفر* والعناد المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد وذلك بخذلاتهم وتخليتهم وشأنهم لانهما كهم فى الغى والضلال وفى أمثال هذا دلالة على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد (ثُمَّ بَعَثْنا) عطف على قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) عطف قصة على قصة (مِنْ بَعْدِهِمْ) أى من بعد* أولئك الرسل عليهم‌السلام (مُوسى وَهارُونَ) خصت بعثتهما عليهما‌السلام بالذكر ولم يكتف باندراج* خبرهما فيما أشير إليه إشارة إجمالية من أخبار الرسل عليهم‌السلام مع أقوامهم وأوثر فى ذلك ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها كما فى نبأ نوح عليه‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أى أشراف* قومه وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم فى إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم فى النوازل والملمات (بِآياتِنا) أى ملتبسين بها وهى الآيات المفصلات فى الأعراف (فَاسْتَكْبَرُوا) الاستكبار ادعاء الكبر* من غير استحقاق والفاء فصيحة أى فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قول اللعين لموسى عليه‌السلام ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين الخ (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) اعتراض مقرر* لمضمون ما قبله أى كانوا معتادين لارتكاب الذنوب العظام فإن الإجرام مؤذن بعظم الذنب ومنه الجرم أى الجثة فلذلك اجترءوا على ما اجترءوا عليه من الاستهانة برسالة الله تعالى وحمل الاستكبار على الامتناع عن قبول الآيات لا يساعده قوله عز وعلا (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) فإنه صريح فى أن المراد باستكبارهم ما وقع منهم قبل مجىء الحق الذى سموه سحرا أعنى العصا واليد البيضاء كما ينبىء عنه سياق النظم الكريم وذلك أول ما أظهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات العظام والفاء فيه أيضا فصيحة معربة عما صرح به فى مواضع أخر كأنه قيل قال موسى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى قوله تعالى (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا من فرط عتوهم

١٦٧

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧)

____________________________________

وعنادهم إن هذا لسحر مبين أى ظاهر كونه سحرا أو فائق فى بابه واضح فيما بين أضرابه وقرىء لساحر (قالَ مُوسى) استئناف مبنى على سؤال تنساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا قال لهم موسى حينئذ فقيل* قال على طريقة الاستفهام الإنكارى التوبيخى (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ) الذى هو أبعد شىء من السحر الذى* هو الباطل البحت (لَمَّا جاءَكُمْ) أى حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر وكلا الحالين مما ينافى القول المذكور والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبله وما بعده عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغى أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية أى أتقولون له ما تقولون من أنه سحر يعنى به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم أو القول بمعنى العيب والطعن من قولهم فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيره الذكر فى قوله تعالى (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) الخ فيستغنى عن المفعول* أى أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عزوجل (أَسِحْرٌ هذا) إنكار مستأنف من جهته عليه‌السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ وتجهيل بعد تجهيل أما على الأول فظاهر وأما على الثانى فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال مثلا أفيه عيب حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم فى خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار السابق على أن ليس فيه شائبة عيب ما وما فى هذا من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدلة على كونه آية باهرة من آيات الله المنادية على امتناع كونه سحرا أى أسحر هذا الذى أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار ولما استلزم كونه سحرا كون من أتى به ساحرا أكد الانكار السابق وما فيه من التوبيخ* والتجهيل بقوله عزوجل (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) وهو جملة حالية من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو بلا ضمير كما فى قول من قال [جاء الشتاء ولست أملك عدة] وقولك جاء زيد ولم تطلع الشمس أى أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أى لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره من مثلى من المؤيدين من عند الله العزيز الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذور وقوله تعالى (أَسِحْرٌ هذا) جملة معترضة بين الحال وصاحبها أكد بها الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره عنه عليه‌السلام هذا وأما تجوير أن يكون الكل مقول القول على أن المعنى أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح الساحرون فمما لا يساعده النظم الكريم أصلا أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرف جوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه أصلا مما يجب تنزيه النظم التنزيلى عن الحمل على أمثاله وأما ثانيا فلان التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم فى معارضته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة وأما ثالثا فلأن قوله عزوجل

١٦٨

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١)

____________________________________

(قالُوا أَجِئْتَنا) الخ مسوق لبيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذى هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معاند لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة قوله تعالى (قالَ مُوسى) الخ حسبما أشير إليه كأنه قيل فماذا قالوا لموسى عليه‌السلام عندما قال لهم ما قال فقيل قالوا عاجزين عن المحاجة أجئتنا (لِتَلْفِتَنا) أى لتصرفنا فإن الفتل واللفت أخوان (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أى من عبادة الأصنام* ولا ريب فى أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه‌السلام على الوجه الذى شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه‌السلام خاليا عن التبكيت الملجىء لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ولا ريب فى أنه لا علاقة بين قولهم أجئتنا الخ وبين إنكاره عليه‌السلام لما حكى عنهم مصصحة لكونه جوابا عنه (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أى الملك أو التكبر على الناس باستتباعهم وقرىء ويكون* بالياء التحتانية وكلمة فى فى قوله تعالى (فِي الْأَرْضِ) أى أرض مصر متعلقة بتكون أو بالكبرياء أو* بالاستقرار فى لكما لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الكبرياء أو من الضمير فى لكما لتحمله إياه (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أى بمصدقين فيما جئتما به وتثنية الضمير فى هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم* من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما‌السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر وأما اللفت والمجىء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه‌السلام خاصة (وَقالَ فِرْعَوْنُ) توحيد الفعل لأن الأمر من وظائف فرعون أى قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادى إلزامهما عليهما‌السلام بالفعل بعد اليأس من إلزامها بالقول (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) بفنون السحر حاذق ماهر فيه وقرىء سحار (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم لأمر فرعون كما هو شأن الفاء الفصيحة فى كل مقام أى فأتوا به فلما جاءوا (قالَ لَهُمْ مُوسى) لكن لا فى ابتداء مجيئهم بل بعد ما قالوا له عليه‌السلام* ما حكى عنهم فى السور الآخر من قولهم إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين ونحو ذلك (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) * أى ملقون له كائنا ما كان من أصناف السحر (فَلَمَّا أَلْقَوْا) ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم (قالَ) لهم (مُوسى) غير مكترث بهم وبما صنعوا (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما موصولة*

١٦٩

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣)

____________________________________

وقعت مبتدأ والسحر خبره أى هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه من آيات الله سبحانه أو هو من جنس السحر يريهم أن حاله بين لا يعبأ به كأنه قال ما جئتم به مما لا ينبغى أن يجاء به وقرىء آلسحر على الاستفهام فما استفهامية أى أى شىء جئتم به أهو السحر الذى يعرف حاله كل أحد ولا يتصدى له عاقل وقرىء ما جئتم* به سحر وقرىء ما أتيتم به سحر ودلالتهما على المعنى الثانى فى القراءة المشهورة أظهر (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أى سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدى من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه للناس والسين للتأكيد* (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أى عمل جنس المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحر دخولا أوليا أو عملكم فيكون من باب وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم وليس المراد بعدم إصلاح عملهم عدم جعل فسادهم صلاحا بل عدم إثباته وإتمامه أى لا يثبته ولا يكمله ولا يديمه بل يمحقه ويهلكه ويسلط عليه الدمار والجملة تعليل لما سبق من قوله (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) والكل اعتراض تذييلى وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ) عطف على قوله* سيبطله أى يثبته ويقويه وإظهار الاسم الجليل فى المقامين الأخيرين لإلقاء الروعة وتربية المهابة (بِكَلِماتِهِ) * بأوامره وقضاياه وقرىء بكلمته (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم (فَما آمَنَ لِمُوسى) معطوف على مقدر قد فصل فى مواقع أخر أى فألقى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون الخ وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) مما لا يحتمل الخلف أصلا وعطفه على ذلك بالفاء مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما فى قوله عزوجل (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) وما فى قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر والسر فى ذلك أن الإتيان بالشىء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع* حادث أى فما آمن له عليه‌السلام بمشاهدة تلك الآيات القاهرة (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أى إلا أولاد من أولاد قومه بنى إسرائيل حيث دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم وقيل الضمير لفرعون والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به عليه‌السلام أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية* وخازنه وامرأته وماشطته وهو بعيد (عَلى خَوْفٍ) أى كائنين على خوف عظيم (مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) الضمير لفرعون والجمع لما هو المعتاد فى ضمائر العظماء ولا يأباه مقام بيان علوه فى الفساد وغلوه فى الشر والتسلط على العباد أو لأن المراد به آله كما يقال ربيعة ومضر أو للذرية أو للقوم أى على خوف من فرعون* ومن أشراف بنى إسرائيل حيث كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم (أَنْ يَفْتِنَهُمْ)

١٧٠

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧)

____________________________________

أى يعذبهم وهو بدل اشتمال أو مفعول خوف فإن إعمال المصدر المنكر كثير كما فى قوله عزوجل (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) أو مفعول له بعد حذف اللام وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه الآمر بالتعذيب (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فى أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) فى الظلم والفساد بالقتل وسفك* الدماء أو فى الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء والجملتان اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما سبق (وَقالَ مُوسى) لما رأى تخوف المؤمنين منه (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أى صدقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) وبه ثقوا ولا تخافوا أحدا غيره فإنه كافيكم كل شر وضر (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) مستسلمين لقضاء* الله تعالى مخلصين له وليس هذا من تعليل الحكم بشرطين فإن المعلل بالإيمان وجوب التوكل عليه تعالى فإنه المقتضى له والمشروط بالإسلام وجوده فإنه لا يتحقق مع التخليط ونظيره إن أحسن إليك زيد فأحسن إليه إن قدرت عليه (فَقالُوا) مجيبين له عليه‌السلام من غير تلعثم فى ذلك (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لأنهم كانوا مؤمنين ٨٥ مخلصين ثم دعوا ربهم قائلين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) أى موقع فتنة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى لا تسلطهم علينا* حتى يعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتتنوا بنا ويقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وقوله تعالى (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) دعاء منهم بالإنجاء من سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم بعد الإنجاء من ظلمهم ولذلك عبر عنهم بالكفر بعد ما وصفوا بالظلم وفى ترتيب الدعاء على التوكل تلويح بأن الداعى حقه أن يبنى دعاءه على التوكل على الله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) أن مفسرة لأن فى الوحى معنى القول أى اتخذا مباءة (لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) تسكنون فيها وترجعون إليها للعبادة (وَاجْعَلُوا) أنتما* وقومكما (بُيُوتَكُمْ) تلك (قِبْلَةً) مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة فإن موسى عليه‌السلام* كان يصلى إليها (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أى فيها أمروا بذلك فى أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم* ويفتنوهم عن دينهم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة فى الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة فى العقبى وإنما ثنى الضمير* أولا لأن التبوؤ للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد ثم وحد لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالايمان وللإشعار بأنه المدار فى التبشير.

١٧١

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠)

____________________________________

 (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) أى ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها* (وَأَمْوالاً) وأنواعا كثيرة من المال (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم بممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك لعن الله إبليس وقيل اللام للعاقبة وهى متعلقة بآتيت أو للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعة إلى الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون ربنا تكريرا للأول تأكيدا أو تنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم* تقدمة لقوله تعالى (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الطمس المحو وقرىء بضم الميم أى أهلكها (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أى اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب* للدعاء أو دعاء بلفظ النهى أو عطف على (لِيُضِلُّوا) وما بينهما دعاء معترض (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أى يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) يعنى موسى وهرون عليهما* السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير فى المواقع الثلاثة (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن فى وقته لا محالة. روى* أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أى بعادات الله سبحانه فى تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة فى الاستعجال أو عدم الوثوق بوعد الله تعالى وقرىء بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ولا تتبعان من تبع ولا تتبعان أيضا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط وقرىء جوزنا وهو من التجويز المرادف للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع فى قول الأعشى [كما جوز السكى فى الباب فيتق] وإلا لقيل وجوزنا بنى إسرائيل فى البحر ولخلا النظم الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو* المشهور فى الفرق بين أذهبه وذهب به (فَأَتْبَعَهُمْ) يقال تبعته حتى اتبعته إذا كان سبقك فلحقته أى* أدركهم ولحقهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان (بَغْياً وَعَدْواً) ظلما واعتداء

١٧٢

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ()٩١)

____________________________________

أى باغين وعادين أو للبغى والعدوان وقرىء وعدوا وذلك أن موسى عليه‌السلام خرج ببنى إسرائيل على حين غفلة من فرعون فلما سمع به تبعهم حتى لحقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله يبسا فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ماغشيهم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أى لحقه وألجمه (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أى بأنه والضمير للشأن وقرىء إنه* على الاستئناف بدلا من آمنت وتفسيرا له (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) لم يقل كما قاله السحرة* آمنا برب العالمين رب موسى وهرون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بنى إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا فى القبول والانتظام معهم فى سلك النجاة (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أى الذين أسلموا نفوسهم لله أى جعلوها سالمة خاصة له تعالى وأراد بهم* إما بنى إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة على الأول عطف على آمنت وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار وعلى الثانى يحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أى آمنت مخلصا لله منتظما فى سلك الراسخين فيه ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا على القبول المفضى إلى النجاة وهيهات هيهات بعد مافات مافات وأتى ما هو آت وقوله عزوجل(آلْآنَ) مقول لقول مقدر معطوف على (قالَ) أى فقيل آلآن وهو إلى قوله تعالى (آيَةً) حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكار التوبيخى على تأخيره وتقريعه بالعصيان والإفساد وغير ذلك وفى حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكى فى صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى كما يفصح عنه ما روى من أن جبريل دس فاه عند ذلك بحال البحر وسده به فإنه تأكيد للرد القولى بالرد الفعلى ولا ينافيه تعليله بمخافة إدراك الرحمة فيما نقل أنه قال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو رأيتنى يا محمد وأنا آخذ من حال البحر فأدسه فى فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذ المراد بها الرحمة الدنيوية أى النجاة التى هى طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما فى إيمان قوم يونس عليه‌السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور فى شأن جبريل عليه‌السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة فى ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك فى حالة البأس واليأس فيحمل دسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد فتدبر والله الموفق وحق العامل فى الظرف أن يقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه أى آلآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات وقوله عز وعلا (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حال من فاعل الفعل المقدر جىء به لتشديد التوبيخ* والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لعدم بلوغ الدعوة إليه ولا للتأمل والتدبر فى دلائله وآياته ولا لشىء آخر مما عسى يعد عذرا فى التأخير بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) عطف على (عَصَيْتَ) داخل فى حيز الحال أى وكنت* من الغالين فى الضلال والإضلال عن الإيمان كقوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ

١٧٣

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣)

____________________________________

عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والسارى إلى غيره من الظلم والتعدى وصد بنى إسرائيل عن الإيمان والأول عن عصيانه الخاص به (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) أى نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا وفى التعبير عنه بالتنجية تلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة كما مر وتهكم به أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل وقرىء ننجيك* من الإنجاء وننحيك بالحاء من التنحية أى نلقيك بناحية الساحل (بِبَدَنِكَ) فى موضع الحال من ضمير المخاطب أى ننجيك ملابسا ببدنك فقط لامع روحك كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لأطماعه بالمرة أو عاريا عن اللباس أو كاملا سويا أو بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها وقرىء* بأبدانك أى بأجزاء بدنك كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان فى نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك حتى يروى أنهم لم يصدقوا موسى عليه‌السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل أو تكون لمن يأتى بعدك من الأمم إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية وقرىء لمن خلفك فعلا ماضيا أى لمن خلفك من الجبابرة وقرىء لمن خلقك بالقاف أى لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة فى أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهذا الوجه محتمل على القراءة المشهورة أيضا وفى تعليل تنجيته بما ذكر إيذان بأنها ليست لإعزازه أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رءوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده فى الأسواق أو يدار برأسه فى البلاد واللام الأولى متعلقة بننجيك* والثانية بمحذوف وقع حالا من آية أى كائنة لمن خلفك (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وهو اعتراض تذييلى جىء به عند الحكاية تقريرا لفحوى الكلام المحكى (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم إثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها أى أسكناهم وأنزلناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم* (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أى منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر ملكوهما بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا

١٧٤

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦)

____________________________________

فى نواحيهما حسبما نطق به قوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى اللذائذ (فَمَا اخْتَلَفُوا) فى أمر دينهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أى* إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها أو فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما علموا صدق نبوته وتظاهر معجزاته فالمراد بالمختلفين أعقابهم الذين كانوا فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والتعذيب (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أى فى شك ما يسير على الفرض والتقدير فإن مضمون الشرطية إنما هو تعليق شىء بشىء من غير تعرض لإمكان شىء منهما كيف لا وقد يكون كلاهما ممتنعا كقوله عزوجل (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ونظائرهما (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من القصص التى من جملتها* قصة فرعون وقومه وأخبار بنى إسرائيل (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإن ذلك محقق* عندهم ثابت فى كتبهم حسبما ألقينا إليك والمراد إظهار نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة الأحبار حسبما هو المسطور فى كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلا أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ فى العلم بصحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تهييجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيادة تثبيته على ما هو عليه من اليقين لا تجويز صدور الشك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أشك ولا أسأل وقيل المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم الدارى وكعب وأضرابهم وقيل الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أى إن كنت أيها السامع فى شك مما أنزلنا إليك على لسان نبينا وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة فى الدين ينبغى أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم وقرىء فاسأل الذين يقرءون الكتب (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ) الذى لا محيد عنه ولا ريب فى* حقيته (مِنْ رَبِّكَ) وظهر ذلك بالآيات القاطعة التى لا يحوم حولها شائبة الارتياب وفى التعرض لعنوان* الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريف ما لا يخفى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) بالتزلزل عما أنت* عليه من الجزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) من باب التهييج والإلهاب والمراد به إعلام أن التكذيب من القبح والمحذورية بحيث ينبغى أن ينهى عنه من لا يتصور إمكان صدوره عنه فكيف بمن يمكن اتصافه به وفيه قطع لأطماع الكفرة (فَتَكُونَ) بذلك (مِنَ الْخاسِرِينَ) أنفسا وأعمالا (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) شروع فى بيان سر إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال أى ثبتت ووجبت بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة البالغة (كَلِمَتُ رَبِّكَ) حكمه وقضاؤه*

١٧٥

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨)

____________________________________

بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون فى النار كقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) إلى آخره* (لا يُؤْمِنُونَ) أبدا إذ لا كذب لكلامه ولا انتقاض لقضائه أى لا يؤمنون إيمانا نافعا واقعا فى أوانه فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينة العذاب مثل فرعون باقيا عند الموت فيدخل فيهم المرتدون (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) واضحة المدلول مقبولة لدى العقول لأن سبب إيمانهم وهو تعلق إرادته تعالى به مفقود لكن فقدانه ليس لمنع منه سبحانه مع استحقاقهم له بل لسوء اختيارهم المتفرع على عدم استعدادهم لذلك (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) كدأب آل فرعون وأضرابهم (فَلَوْ لا كانَتْ) كلام مستأنف لتقرير ما سبق من استحالة إيمان من حقت عليهم كلمته تعالى لسوء اختيارهم مع تمكنهم من التدارك فيكون الاستثناء الآنى بيانا لكون قوم يونس عليه‌السلام ممن لم يحق عليه الكلمة لاهتدائهم إلى التدارك فى وقته ولو لا* بمعنى هلا وقرىء كذلك أى فهلا كانت (قَرْيَةٌ) من القرى المهلكة (آمَنَتْ) قبل معاينة العذاب ولم تؤخر* إيمانها إلى حين معاينته كما فعل فرعون وقومه (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله تعالى منها ويكشف بسببه* العذاب عنها (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء منقطع أى لكن قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) أول ما رأوا أمارة* العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بعد ما أظلهم وكاد يحل بهم ويجوز أن تكون الجملة فى معنى النفى كما يفصح عنه حرف التحضيض فيكون الاستثناء متصلا إذ المراد بالقرى أهاليها كأنه قيل ما آمنت طائفة من الأمم العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس عليه‌السلام* فيكون قوله تعالى (لَمَّا آمَنُوا) استئنافا لبيان نفع إيمانهم ويؤيده قراءة الرفع على البدلية (وَمَتَّعْناهُمْ) بمتاع* الدنيا بعد كشف العذاب عنهم (إِلى حِينٍ) مقدر لهم فى علم الله سبحانه. روى أن يونس عليه‌السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وقيل قال لهم يونس عليه‌السلام أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسود سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود رضى الله عنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى أن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده إلى صاحبه وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حى حين لا حى ويا حى محيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت فقالوها

١٧٦

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

____________________________________

فكشف عنهم وعن الفضيل بن عياض قالوا إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) تحقيق لدوران إيمان كافة المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته تعالى مطلقا إثر بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ومفعول المشيئة محذوف لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وأن لا يكون فى تعلقها به غرابة كما هو المشهور أى لو شاء سبحانه إيمان من فى الأرض من الثقلين لآمن (كُلُّهُمْ) بحيث لا يشذ* عنهم أحد (جَمِيعاً) مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التى عليها* بنى أساس التكوين والتشريع وفيه دلالة على أن من شاء الله تعالى إيمانه يؤمن لا محالة (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينبىء عنه حرف الامتناع فى الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فيكون الإنكار متوجها* إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكار على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة فى الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأى الجمهور وأيا ما كان فالمشيئة على إطلاقها إذ لا فائدة بل لا وجه لاعتبار عدم مشيئة الإلجاء خاصة فى إنكار الترتيب عليه أو ترتيب الإنكار عليه وفى إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن فى المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادر على أن يفعل فى قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر وفيه إيذان باعتبار الإلجاء فى المشيئة كما أشير إليه (وَما كانَ لِنَفْسٍ) بيان لتبعية إيمان النفوس المؤمنة لمشيئته تعالى وجودا بعد بيان الدوران الكلى عليها وجودا وعدما أى ماصح وما استقام لنفس من النفوس التى علم الله تعالى أنها تؤمن (أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أى بتسهيله* ومنحه للألطاف وإنما خصت النفس بمن ذكر ولم يجعل من قيل قوله تعالى (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى ما كان لنفس أن تؤمن فى حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمان مما يئول إليه حالها كما أن الموت مآل لكل نفس بحيث لا محيص لها عنه فلا بد من تخصيص النفس بمن ذكر فإن النفوس التى علم الله أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أى الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس* الذى هو عبارة عن القبيح المستقذر المستكره لكونه علما فى القبح والاستكراه وقيل هو العذاب أو الخذلان المؤدى إليه وقرىء بنون العظمة وقرىء بالزاى أى يجعل الكفر ويبقيه (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) * لا يستعملون عقولهم بالنظر فى الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع

١٧٧

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

____________________________________

فلا يحصل لهم الهداية التى عبر عنها بالإذن فيبقون مغمورين بقبائح الكفر والضلال أو مقهورين بالعذاب والنكال والجملة معطوفة على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فيأذن لهم بمنح الألطاف ويجعل الخ (قُلِ) مخاطبا لأهل مكة بعثا لهم على التدبر فى ملكوت السموات والأرض وما فيهما من* تعاجيب الآيات الأنفسية والآفاقية ليتضح لك أنهم من الذين لا يعقلون وحقت عليهم الكلمة (انْظُرُوا) * أى تفكروا وقرىء بنقل حركة الهمزة إلى لام قل (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى أى شىء بديع فيهما من عجائب صنعه الدالة على وحدته وكمال قدرته على أن ماذا جعل بالتركيب اسما واحدا مغلبا فيه الاستفهام على اسم الإشارة فهو مبتدأ خبره الظرف ويجوز أن يكون ما مبتدأ وذا بمعنى الذى والظرف صلته والجملة خبر للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبر فى محل النصب بإسقاط الخافض وفعل النظر* معلق بالاستفهام (وَما تُغْنِي) أى ما تنفع وقرىء بالتذكير (الْآياتُ) وهى التى عبر عنها بقوله تعالى* (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (وَالنُّذُرُ) جمع نذير على أنه فاعل بمعنى منذر أو على أنه مصدر أى لا تنفع* الآيات والرسل المنذرون أو الإنذارات (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) فى علم الله تعالى وحكمه فما نافية والجملة إما حالية أو اعتراضية ويجوز كون ما استفهامية إنكارية فى موضع النصب على المصدرية أى أى إغناء تغنى الخ فالجملة حينئذ اعتراضية (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) أى مشركو مكة وأضرابهم (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) * أى إلا يوما مثل أيام الذين خلوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من مشركى الأمم الماضية أى مثل وقائعهم ونزول بأس* الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها (قُلْ) تهديدا لهم (فَانْتَظِرُوا) ما هو عاقبتكم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لذلك (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) بالتشديد وقرىء بالتخفيف وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله مثل أيام الذين خلوا وما بينهما اعتراض جىء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة فى تشديد* الوعيد كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) وصيغة الاستقبال لحكاية الأحوال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما فى* قوله تعالى (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) الخ ونظائره الواردة فى مواقع عديدة ليتصل به قوله عزوجل (كَذلِكَ) * أى مثل ذلك الإنجاء (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض بين العامل والمعمول أى حق ذلك حقا وقيل بدل من المحذوف* الذى ناب عنه كذلك أى إنجاء مثل ذلك حقا والكاف متعلقة بقوله تعالى (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أى من كل شدة وعذاب والجملة تذييل لما قبلها مقرر لمضمونه والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم‌السلام والأتباع وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه وأيا ما كان ففيه

١٧٨

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٦)

____________________________________

تنبيه على أن مدار النجاة هو الإيمان (قُلْ) لجمهور المشركين (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) * الذى أتعبد الله عزوجل به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفته (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فى* وقت من الأوقات (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب أى فاعلموا* أنه تخصيص العبادة به ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا وتقديم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى لتقدم التخلية على التحلية كما فى كلمة التوحيد وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم فى شك من صحة دينى وسداده فاعلموا أن خلاصته إخلاص العبادة لمن بيده الإيجاد والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكاركم وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا أنه حق لا ريب فيه وفى تخصيص التوفى بالذكر متعلقا بهم ما لا يخفى من التهديد والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل فى هذا الباب هو الشك فى صحته وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه أو إن كنتم فى شك من ثباتى على الدين فاعلموا أنى لا أتركه أبدا (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بما دل عليه العقل ونطق به الوحى وهو تصريح بأن ما هو* عليه من دين التوحيد ليس بطريق العقل الصرف بل بالإمداد السماوى والتوفيق الإلهى وحذف حرف الجر من أن يجوز أن يكون من باب الحذف المطرد مع أن وأن. وأن يكون خاصا بفعل الأمر كما فى قوله [أمرتك الخير فافعل ما أمرت به] (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف على أن أكون خلا أن صلة أن محكية بصيغة الأمر ولا ضير فى ذلك لأن مناط جواز وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبية ووجوب كون الصلة خبرية فى الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهى لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحرفى كذلك أى وأمرت بالاستقامة فى الدين والاستبداد فيه بأداء المأمور به والانتهاء عن المنهى عنه أو باستقبال القبلة فى الصلاة وعدم الالتفات إلى اليمين والشمال (حَنِيفاً) حال من الدين أو الوجه أى مائلا عن الأديان الباطلة (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على* أقم داخل تحت الأمر أى لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا وقوله عز وعلا (وَلا تَدْعُ) عطف على قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) غير داخل تحت الأمر وقيل على ما قبله من النهى والوجه هو الأول لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض كما ترى ولا وجه لادراج الكل تحت

١٧٩

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨)

____________________________________

الأمر وهو تأكيد للنهى المذكور وتفصيل لما أجمل فيه إظهارا لكمال العناية بالأمر وكشفا عن وجه* بطلان ما عليه المشركون أى لا تدع (مِنْ دُونِ اللهِ) استقلالا ولا اشتراكا (ما لا يَنْفَعُكَ) إذا دعوته* بدفع مكروه أو جلب محبوب (وَلا يَضُرُّكَ) إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه* وتقديم النفع على الضرر غنى عن بيان السبب (فَإِنْ فَعَلْتَ) أى ما نهيت عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر كنى به عنه تنويها لشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنبيها على رفعة مكانه من أن ينسب إليه عبادة غير الله سبحانه ولو فى ضمن* الجملة الشرطية (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) جزاء للشرط وجواب لسؤال من يسأل عن تبعة ما نهى عنه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) تقرير لما أورد فى حيز الصلة من سلب النفع من الأصنام وتصوير لاختصاصه* به سبحانه (فَلا كاشِفَ لَهُ) عنك كائنا من كان وما كان (إِلَّا هُوَ) وحده فيثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهانى وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما* ظاهرا فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى بالكلية (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) تحقيق لسلب* الضرر الوارد فى حيز الصلة أى إن يرد أن يصيبك بخير (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الذى من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل من غير استحقاق عليه سبحانه أى لا أحد يقدر على رده كائنا ما كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما يمس من يمسه لما يوجبه من الدواعى الخارجية لا بالقصد الأولى أو أريد معنى الفعلين فى كل من الضر والخير وأنه لا راد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما فأوجز الكلام بأن ذكر فى أحدهما المس وفى الآخر الإرادة ليدل بما ذكر فى كل جانب على ما ترك فى الجانب الآخر على أنه قد* صرح بالإصابة حيث قيل (يُصِيبُ بِهِ) إظهارا لكمال العناية بجانب الخير كما ينبىء عنه ترك الاستثناء فيه أى يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير وجعل الفضل عبارة عن ذلك الخير بعينه على* أن يكون من باب وضع المظهر فى موضع المضمر لما ذكر من الفائدة يأباه قوله عزوجل (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فإن ذلك ينادى بعموم الفضل وقوله عز قائلا (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تذييل لقوله تعالى (يُصِيبُ بِهِ) الخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة محقق لمضمونها (قُلْ) مخاطبا لأولئك

١٨٠