تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢٨)

____________________________________

قرأه أبو عمرو بها وانتصابه على الظرفية على حذف المضاف أى وقت حدوث بادى الرأى والعامل فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولى الألباب الراجحة لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهر الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن ذلك لا يزن عند الله جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة والأشرف من فازبه والأرذل من حرمه نعوذ بالله تعالى من ذلك (وَما نَرى لَكُمْ) أى لك ولمتبعيك فغلب المخاطب على الغائبين (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يعنون أن اتباعهم* لك لا يدل على نبوتك ولا يجديهم فضيلة تستتبع اتباعنا لكم واقتصارهم ههنا على ذكر عدم رؤية الفضل بعد تصريحهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالهم السابق واللاحق ومرادهم أنهم كانوا أراذل قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلة علينا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) جميعا لكون كلامكم واحدا ودعواكم* واحدة أو إياك فى دعوى النبوة وإياهم فى تصديقك واقتصارهم على الظن احتراز منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراة معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الإراءة على نهج الإنصاف (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أى أخبرونى وفيه إيماء ٢٨ إلى ركاكة رأيهم المذكور (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) برهان ظاهر (مِنْ رَبِّي) وشاهد يشهد بصحة دعواى* (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) هى النبوة ويجوز أن تكون هى البينة نفسها جىء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة* من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة من عنده فوجه إفراد الضمير فى قوله تعالى (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) حينئذ* ظاهر وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالإفراد لإرادة كل واحدة منهما أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفائها خفاء النبوة أو لتقدير فعل آخر بعد البينة ومعنى عميت أخفيت وقرىء عميت ومعناه خفيت وحقيقته أن الحجة كما تجعل مبصرة وبصيرة تجعل عمياء لأن الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره وفى قراءة أبى فعماها عليكم على الإسناد إلى الله عزوجل (أَنُلْزِمُكُمُوها) أى أنكرهكم* على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركة الميم وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما جاز فى الثانى الوصل والفصل فوصل كما فى قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) لا تختارونها ولا تتأملون فيها ومحصول الجواب أخبرونى إن كنت على حجة* ظاهرة الدلالة على صحة دعواى إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة عندكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أى لا يكون ذلك وظاهره مشعر بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله تعالى (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) الخ لكنه محمول على أن مراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار إلى الإلزام حال كراهتهم لها لا إلى الإلزام مطلقا هذا ويجوز أن يكون المراد بالبينة دليل العقل الذى هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها من بعض وبه يناط الكرامة عند الله عزوجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات

٢٠١

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٩)

____________________________________

عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها وبالرحمة النبوة التى أنكروا اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها بين ظهرانيهم والمعنى أنكم زعمتهم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبرونى إن امتزت عنكم بزيادة مزبة وحيازة فضيلة من ربى وآتانى بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتى لها وكونى عليها إلى الآن حتى زعمتم أنى مثلكم وهى متحققة فى نفسها أنلزمكم قبول نبوتى التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة وحينئذ يكون كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوابا عن شبههم التى أدرجوها فى خلال مقالهم من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أى على ما قلته فى أثناء* دعوتكم (مالاً) تؤدونه إلى بعد إيمانكم واتباعكم لى فيكون ذلك أجرا لى فى مقابلة اهتدائكم (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) الذى يثيبنى فى الآخرة وفى التعبير عنه حين نسب إليهم بالمال مالا يخفى من المزية* (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) جواب عمالوحوا به بقولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به فى قولهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أنفة من الانتظام معهم فى* سلك واحد (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) تعليل لامتناعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم أى إنهم فائزون فى الآخرة بلقاء الله عزوجل كأنه قيل لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسى لأنهم مقربون فى حضرة القدس والتعرض لوصف الربوبية لتربية وجوب رعايتهم وتحتم الامتناع عن طردهم أو مصدقون فى الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم وحمله على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما فى قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لى أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادى الرأى من غير نظر وتفكر وما على أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون يأباه الجزم بترتب غضب الله عزوجل على طردهم كما سيأتى وأيضا فهم إنما قالوا إن اتباعهم لك إنما هو بحسب بادى الرأى بلا تأمل وتفكر وهذا لا يكاد يصلح مدارا للطرد فى الدنيا ولا للمؤاخذة فى الآخرة غايته أن لا يكونوا فى مرتبة المؤقنين وادعاء أن بناء الإيمان على ظاهر الرأى يؤدى إلى الرجوع عنه عند التأمل فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبتون على دينك بل يرتدون عنه تعسف لا يخفى* (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) بكل ما ينبغى أن يعلم ويدخل فيه جهلهم بلقاء الله عزوجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردهم لغضب الله كما سيأتى وبركاكة رأيهم فى التماس ذلك وتوقيف إيمانهم عليه أنفة عن الانتظام معهم فى سلك واحد وزعما منهم أن الرذالة بالفقر والشرف بالغنى وإيثار صيغة الفعل للدلالة

٢٠٢

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١)

____________________________________

على التجدد والاستمرار أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) يدفع حلول سخطه عنى (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) فإن ذلك أمر لا مرد له لكون الطرد ظلما موجبا لحلول السخط* قطعا وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غنى عن البيان لا سيما غبما قدم ما يلوح به من أحوالهم فكأنه قيل من يدفع عنى غضب الله تعالى إن طردتهم وهم بتلك المثابة من الكرامة والزلفى كما ينبىء عنه قوله تعالى (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل المذكور فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم (وَلا أَقُولُ لَكُمْ) حين أدعى النبوة (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أى رزقه وأمواله حتى تستدلوا بعدمها على كذبى بقولكم وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فإن النبوة أعز من أن تنال بأسباب دنيوية ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أى لا أدعى فى قولى إنى لكم نذير مبين إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم علم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا فإن البشرية ليست من* موانع النبوة بل من مباديها يعنى إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبى والحال أنى لا أدعى شيئا من ذلك ولا الذى أدعيه يتعلق بشىء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانية التى بها تتفاوت مقادير البشر (وَلا أَقُولُ) مساعدة لكم كما تقولون (لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أى تقتحمهم وتحتقرهم من* زراه إذا عابه وإسناد الازدراء إلى أعينهم بالنظر إلى قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وإما للإشعار بأن ذلك لقصور نظرهم ولو تدبروا فى شأنهم ما فعلوا ذلك أى لا أقول فى شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) فى الدنيا أو فى الآخرة فعسى الله أن يؤتيهم خيرى الدارين* إن قلت هذا القول ليس مما تستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصالة أو استتباعا كادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن مما نفاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمن أى وجه عطف نفيه على نفيها قلت من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذى تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفى ذلك جميعا فكأنه قال لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) من الإيمان* وإنما اقتصر على نفى القول المذكور مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما فى الدارين وأنهم على يقين راسخ فى الإيمان جريا على سنن الانصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا

٢٠٣

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤)

____________________________________

لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبنى أموره على الشواهد* الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة (إِنِّي إِذاً) أى إذا قلت ذلك (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وباله راجع إلى أنفسهم وفيه تعريض بأنهم ظالمون فى ازدرائهم واسترذالهم وقيل إذا قلت شيئا مما ذكر من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وهو بعيد لأن تبعة تلك الأقوال مغنية عن التعليل بلزوم الانتظام فى زمرة الظالمين (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) خاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) أى أطلته أو أتيته بأنواعه فإن إكثار الجدال يتحقق بعد وقوع أصله فلذلك عطف عليه بالفاء أو أردت ذلك فأكثرته كما فى قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولما حجهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبرز لهم بينات واضحة المدلول وحججا تتلقاها العقول بالقبول وألقمهم* الحجر برد شبههم الباطلة ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وقالوا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب الذى أشير إليه فى قوله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم على تقدير أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تقول (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) يعنى أن ذلك ليس موكولا إلى ولا هو مما يدخل تحت قدرتى وإنما يتولاه الله الذى كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلق به مشيئته التابعة للحكمة وفيه مالا يخفى من تهويل الموعود فكأنه قيل الإتيان به أمر خارج عن دائرة* القوى البشرية وإنما يفعله الله عزوجل (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعوننى فى الكلام (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) النصح كلمة جامعة لكل ما يدور عليه الخير من قول أو فعل وحقيقته امحاض إرادة* الخير والدلالة عليه ونقيضه الغش وقيل هو إعلام موقع الغى ليتقى وموضع الرشد ليقتفى (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه والتقدير إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحى* وهذه الجملة دليل على ما حذف من جواب قوله تعالى (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحى هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاء على الشرط وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) جزاء للشرط الأول والجملة جزاء للشرط الثانى وعلى التقديرين فالجزاء متعلق بالشرط الأول وتعلقه به معلق بالشرط الثانى وهذا الكلام متعلق بقولهم قد جادلتنا فأكثرت جدالنا صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهارا للعجز عن إلزامهم بالحجج والبينات لتماديهم فى العناد وإيذانا بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدال والخصام بل

٢٠٤

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٣٧)

____________________________________

بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وبأنه لم يأل جهدا فى إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين وإمحاض النصح لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح منه مقارن للإرادة والاهتمام به ولتحقيق المقابلة بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم وإنما اقتصر فى ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة فى بيان غلبة جنابه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم عند مجرد إرادة الله سبحانه لإغوائهم فكيف عند تحقيق ذلك وخلقه فيهم وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمها رتبة وللدلالة على تجددها واستمرارها وإنما قدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم فأتنا بما تعدنا من قوله تعالى (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال وفيه دليل على أن إرادته تعالى يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده غير واقع وقيل معنى أن يغويكم أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم وهلك (هُوَ رَبُّكُمْ) خالقكم ومالك أمركم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم لا محالة* (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعنى نوحا عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقول قوم نوح إن نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عزوجل (قُلْ) يا نوح (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) بالفرض* البحت (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) إثمى ووبال إجرامى وهو كسب الذنب وقرىء بلفظ الجمع وينصره أن فسره* الأولون بآثامى (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم فى إسناد الافتراء إلى فلا وجه لإعراضكم عنى* ومعاداتكم لى وقال مقاتل يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر نوح فكأنه إنما جىء به فى تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومه من المحاجة وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ) أى المصرين على الكفر وهو إقناط له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إيمانهم وإعلام لكونه كالمحال الذى لا يصح توقعه (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) إلا من قد وجد* منه ما كان يتوقع من إيمانه وهذا الاستثناء على طريقة قوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ* (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أى لا تحزن حزن بائس مستكين ولا تغتم بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء فى هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) ملتبسا (بِأَعْيُنِنا) أى بحفظنا وكلاءتنا كأن معه من الله عزوجل حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدى* من الكفرة ومن الزيغ فى الصنعة (وَوَحْيِنا) إليك كيف تصنعها وتعليمنا وإلهامنا. عن ابن عباس رضى*

٢٠٥

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨)

____________________________________

الله تعالى عنهما لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر والأمر للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها واللام إما للعهد بأن يحمل على أن هذا مسوق بوحى الله تعالى إليه عليه‌السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشىء سيصنعه بأمره تعالى ووحيه من شأنه كيت وكيت واسمه كذا وإما للجنس. قيل صنعها عليه الصلاة والسلام فى سنتين وقيل فى أربعمائة سنة وكانت من خشب الساج وجعلت ثلاثة بطون حمل فى البطن الأول الوحوش والسباع والهوام وفى البطن الأوسط الدواب والأنعام وفى البطن الأعلى جنس البشر هو ومن معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه الصلاة والسلام وقيل جعل فى الأول الدواب والوحوش وفى الثانى الإنس وفى الأعلى الطير قيل كان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وسمكها ثلاثين ذراعا وقال الحسن كان طولها ألفا ومائتى ذراع وعرضها ستمائة ذراع وقيل إن الحواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك الترب فقال أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا كعب بن حام قال فضرب بعصاه فقال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام أهكذا هلكت قال لا مت وأنا شاب ولكنى ظننت أنها الساعة فمن ثمة شبت فقال حدثنا عن سفينة نوح قال كان طولها ألفا ومائتى ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة* للدواب والوحش وطبقة للإنس وطبقة للطير ثم قال عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد ترابا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى لا تراجعنى فيهم ولا تدعنى باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل* ولا تدعنى فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بالسببية أكد التعليل فقيل (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أى محكوم عليهم بالإغراق قد مضى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ولزمتهم الحجة فلم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ومثلا للآخرين (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة وقيل تقديره وأخذ يصنع الفلك أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وأيا ما كان ففيه ملأمة للاستمرار المفهوم من الجملة* الواقعة حالا من ضميره أعنى قوله تعالى (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه وإما لأنه كان يصنعها فى برية بهماء فى أبعد موضع من الماء وفى وقت عزته عزة شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا وقيل لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينذرهم الغرق فلما طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عينا ولا أثرا عدوه من باب المحال ثم لما رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص من ذلك فعلوا ما فعلوا ومدار الجميع إنكار أن يكون لعمله عليه الصلاة والسلام عاقبة حميدة مع ما فيه من تحمل المشاق

٢٠٦

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٤٠)

____________________________________

العظيمة التى لا تكاد تطاق واستجها له عليه‌السلام فى ذلك (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) مستجهلين لنا فيما نحن فيه* (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أى نستجهلكم فيما أنتم عليه وإطلاق السخرية عليه للمشاكلة وجمع الضمير فى منا إما لأن* سخريتهم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك تعرض الجميع للمجازاة فى قوله تعالى (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) الخ فتكافأ الكلام من الجانبين وتعليق استجهاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بما فعلوا من السخرية باعتبار إظهاره ومشافهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم جاهلين فيما يأتون ويذرون أمر مطرد لا تعلق له بسخريتهم منهم لكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يتصدى لإظهاره جريا على نهج الأخلاق الحميدة وإنما أظهره جزاء بما صنعوا بعد اللتيا والتى فإن سخريتهم كانت مستمرة ومتجددة حسب تجدد مرورهم عليه ولم يكن يجيبهم فى كل مرة وإلا لقيل ويقول إن تسخروا منا الخ بل إنما أجابهم بعد بلوغ أذاهم الغاية كما يؤذن به الاستئناف فكأن سائلا سأل فقال فما صنع نوح عند بلوغهم منه هذا المبلغ فقيل قال إن تسخروا منا أى إن تنسبونا فيما نحن بصدده من التأهب والمباشرة لاسباب الخلاص من العذاب إلى الجهل وتسخروا منا لأجله فإنا ننسبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصى والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التى من جملتها استجهالكم إيانا وسخريتكم منا والتشبيه فى قوله تعالى (كَما تَسْخَرُونَ) إما فى مجرد التحقق والوقوع أو فى التجدد والتكرر حسبما صدر* عن ملأغب ملألا فى الكيفيات والأحوال التى لا تليق بشأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلا الأمرين واقع فى الحال وقيل نسخر منكم فى المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق فى الدنيا والحرق فى الآخرة ولعل مراده نعاملكم معاملة من يفعل ذلك لأن نفس السخرية مما لا يكاد يليق بمنصب النبوة ومع ذلك لا سداد له لأن حالهم إذ ذاك ليس مما يلائمه السخرية أو ما يجرى مجراها فتأمل (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) وهو عذاب الغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) حلول الدين المؤجل (عَذابٌ مُقِيمٌ) هو عذاب النار الدائم وهو* تهديد بليغ ومن عبارة عنهم وهى إما استفهامية فى حيز الرفع أو موصولة فى محل النصب بتعلمون وما فى حيزها سد مسد مفعولين أو مفعول واحد إن جعل العلم بمعنى المعرفة ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مكابدة المشاق الفادحة لدفع مالا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد فى بناء السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل بعد استجهالهم فسوف تعلمون من يأتيه العذاب يعنى أن ما أباشره ليس فيه عذاب لا حق بى فسوف تعلمون من المعذب ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزه ووصف العذاب بالإخزاء لما فى الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالبغة فى التهديد وتخصيصه بالمؤجل وإيراد الأول بالإتيان فى غاية الجزالة (حَتَّى إِذا

٢٠٧

جاءَ أَمْرُنا) حتى هى التى يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهى مع ذلك غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه وسخروا منه جواب لكلما وقال استئناف على تقدير سؤال سائل كما ذكرناه وقيل هو الجواب وسخروا منه بدل من مر أو صفة لملأ وقد عرفت أن الحق هو الأول لأن المقصود بيان تناهيهم فى إيذائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحمله لأذيتهم لا مسارعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام* (وَفارَ التَّنُّورُ) نبع منه الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها والتنور تنور الخبز وهو قول الجمهور. روى أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك فى السفينة فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب وقيل كان تنور آدم عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعد شىء من الماء على خرق العادة وكان فى الكوفة فى موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلى باب كندة وكان عمل السفينة فى ذلك الموضع أو فى الهند أو فى موضع بالشام يقال له عين وردة وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وعكرمة والزهرى أن التنور وجه الأرض وعن قتادة أشرف* موضع فى الأرض أى أعلاه وعن على رضى الله تعالى عنه فار التنور طلع الفجر (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) أى فى* السفينة وهو جواب إذا (مِنْ كُلٍّ) أى من كل نوع لا بد منه فى الأرض (زَوْجَيْنِ) الزوج ماله مشاكل من نوعه فالذكر زوج للأنثى كما هى زوج له وقد يطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولازالة ذلك الاحتمال* قيل (اثْنَيْنِ) كل منهما زوج للآخر وقرىء على الإضافة وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين لكونه عريقا فيما أمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تمييز بعضه من بعض وتعيين الأزواج فإنه روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يا رب كيف أحمل من كل زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباع والطير وغيرها فجعل يضرب بيديه فى كل جنس فيقع الذكر فى يده اليمنى والأنثى فى اليسرى فيجعلهما فى السفينة وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل أو لأنها إنما تحمل بمباشرة البشر* وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياها (وَأَهْلَكَ) عطف على (زَوْجَيْنِ) أو على (اثْنَيْنِ) والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم* (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم فى قوله تعالى (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية والمراد به ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين والاستثناء منقطع إن أريد بالأهل الأهل إيمانا وهو الظاهر كما ستعرفه أو متصل إن أريد به الأهل قرابة ويكتفى فى صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم وجىء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جىء باللام فيما هو نافع لهم من* قوله عزوجل (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وقوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (وَمَنْ آمَنَ) من غيرهم وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور وإيثار صيغة الإفراد فى آمن محافظة على لفظ من للإيذان* بقلتهم كما أعرب عنه قوله عز قائلا (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) قيل كانوا ثمانية نوح عليه الصلاة والسلام وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم وعن ابن إسحق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة وعنه أيضا أنهم كانوا عشرة سوى نسائهم وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء واعتبار المعية فى إيمانهم للإيماء إلى المعية فى مقر الأمان والنجاة.

٢٠٨

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢)

____________________________________

(وَقالَ) أى نوح عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ولو رجع الضمير إلى الله تعالى لناسب أن يقال إن ربكم ولعل ذلك بعد إدخال ما أمر بحمله فى الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمل الأزواج أو أدخلها فى الفلك وقال للمؤمنين (ارْكَبُوا فِيها) كما سيأتى مثله فى* قوله تعالى (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) والركوب العلو على شىء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بكلمة فى ليس لأن المأمور به كونهم فى جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه‌السلام جعل الوحوش ونظائرها فى البطن الأسفل والأنعام فى الأوسط وركب هو ومن معه فى الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية فى الفلك والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شىء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل فى الأول يوفر له حظ الأصل فيقال ركبت الفرس وعليه قوله عز من قائل (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) وإن استعمل فى الثانى يلوح بمحلية المفعول بكلمة فى فيقال ركبت فى السفينة وعليه الآية الكريمة وقوله عز قائلا (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) وقوله تعالى (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) (بِسْمِ اللهِ) متعلق باركبوا حال من فاعله أى اركبوا مسمين الله تعالى* أو قائلين بسم الله (مَجْراها وَمُرْساها) نصب على الظرفية أى وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما* زمان أو مصدران كالإجراء والإرساء بحذف الوقت كقولك آتيك خفوق النجم أو اسما مكان انتصبا بما فى (بِسْمِ اللهِ) من معنى الفعل أو إرادة القول ويجوز أن يكون (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) مستقلة من مبتدأ وخبر فى موضع الحال من ضمير الفلك أى اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أو جملة مقتضبة على أن نوحا أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام قيل كان عليه‌السلام إذا أراد أن يجريها يقول بسم الله فتجرى وإذا أراد أن يرسيها يقول بسم الله فترسو ويجوز أن يكون الاسم مقحما كما فى قوله (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) ثم اسم السلام عليكما ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أى بقدرته وأمره وقرىء مجريها ومرسيها على صيغة الفاعل مجرورى المحل صفتين لله عزوجل ومجراها ومرساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ) للذنوب والخطايا (رَحِيمٌ) لعباده* ولذلك نجاكم من هذه الطامة والداهية العامة ولو لا ذلك لما فعله وفيه دلالة على أن نجاتهم ليست بسبب استحقاقهم لها بل بمحض فضل الله سبحانه وغفرانه ورحمته على ما عليه رأى أهل السنة (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) متعلق بمحذوف دل عليه الأمر بالركوب أى فركبوا فيها مسمين وهى تجرى ملتبسة بهم (فِي مَوْجٍ

٢٠٩

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣)

____________________________________

كَالْجِبالِ) وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرا به كل موجة من ذلك كجبل فى ارتفاعها وتراكمها وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجرى فى جوفه كالحوت فغير ثابت والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا أو أربعين ذراعا ولئن صح ذلك فهذا الجريان إنما هو قبل أن يتفاقم* الخطب كما يدل عليه قوله تعالى (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه الصلاة والسلام وبين ابنه من المفاوضة بالاستدعاء إلى السفينة والجواب بالاعتصام بالجبل وقرىء ابنها وابنه بحذف الألف على أن الضمير لامرأته وكان ربيبه وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله تعالى (فَخانَتاهُما) فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه أرفع من أن يشار إليه بإصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة فى الدين وقرىء ابناه على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف حرفها وأنت خبير بأنه لا يلائمه الاستدعاء* إلى السفينة فإنه صريح فى أنه لم يقع فى حياته يأس بعد (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أى فى مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا واحتاج إلى النداء المذكور وقيل فى معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوح أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة وقيل كان ينافق أباه فظن أنه مؤمن وقيل كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال ينزجر عما كان عليه ويقبل الإيمان وقيل لم يكن الذى تقدم من قوله تعالى (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) نصا فى كون ابنه داخلا تحته بل كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على ذلك (يا بُنَيَّ) بفتح الياء اقتصارا عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة فى قولك يا بنيا وقرىء بكسر الياء اقتصارا عليه من ياء* الإضافة أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين لأن الراء بعدهما ساكنة (ارْكَبْ مَعَنا) قرأ أبو عمرو والكسائى وحفص بإدغام الباء فى الميم لتقاربهما فى المخرج وإنما أطلق الركوب عن ذكر الفلك* لتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع اغناء المعية عن ذلك (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أى فى المكان وهو وجه الأرض خارج الفلك لا فى الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معه عليه الصلاة والسلام كونه معه فى الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذير عن الهلكة فلا يلائمه النهى عن الكفر (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ) من الجبال (يَعْصِمُنِي) بارتفاعه (مِنَ الْماءِ) زعما منه أن ذلك كسائر المياه فى أزمنة السيول المعتادة التى ربما يتقى منها بالصعود إلى الربا وأنى له ذلك وقد بلغ السيل الزبى وجهلا بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة وأن لا محيص من ذلك سوى الالتجاء إلى ملجأ المؤمنين فلذلك أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين له حقيقة الحال ويصرفه عن ذلك الفكر المحال وكان مقتضى الظاهر أن يجيب بما ينطبق عليه كلامه ويتعرض لنفى ما أثبته للجبل من كونه عاصما له من الماء بأن

٢١٠

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

____________________________________

يقول لا يعصمك منه مفيدا لنفى وصف العصمة عنه فقط من غير تعرض لنفيه عن غيره ولا لنفى الموصوف أصلا لكنه عليه الصلاة والسلام حيث (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) سلك طريقة نفى الجنس المنتظم* لنفى جميع أفراد العاصم ذاتا وصفة كما فى قولهم ليس فيه داع ولا مجيب أى أحد من الناس للمبالغة فى نفى كون الجبل عاصما بالوجهين المذكورين وزاد اليوم للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التى تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التى ربما يتخلص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية وعبر عن الماء فى محل إضماره بأمر الله أى عذابه الذى أشير إليه حيث قيل حتى إذا جاء أمرنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه فى تسميته ماء ويوهم أنه كسائر المياه التى يتفصى منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة وتعليلا للنفى المذكور فإن أمر الله لا يغالب وعذابه لا يرد وتمهيدا لحصر العصمة فى جناب الله عز جاره بالاستثناء كأنه قيل لا عاصم من أمر الله إلا هو وإنما قيل (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) تفخيما لشأنه الجليل* بالإبهام ثم التفسير وبالإجمال ثم التفصيل وإشعارا بعلية رحمته فى ذلك بموجب سبقها على غضبه وكل ذلك لكمال عنايته عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرفه عن التعلل بما لا يغنى عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه وقيل لا مكان يعصم من أمر الله إلا مكان من رحمه‌الله وهو الفلك وقيل معنى لا عاصم لا ذا عصمة إلا من رحمه‌الله تعالى (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أى بين نوح وبين ابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنه وبين الجبل لقوله تعالى* (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه الصلاة والسلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل* لأنه بمعزل من كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجىء إليه موج وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان وفى إيراد كان دون صار مبالغة فى كونه منهم (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) أى انشفى استعير له من ازرداد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجى (ماءَكِ) أى ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون* والأنهار وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أى أمسكى عن إرسال المطر يقال أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت* الحمى أى كفت (وَغِيضَ الْماءُ) أى نقص ما بين السماء والأرض من الماء (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أى أنجز ما وعد الله* تعالى نوحا من إهلاك قومه وإنجائه بأهله أو أتم الأمر (وَاسْتَوَتْ) أى استقرت الفلك (عَلَى الْجُودِيِّ) هو* جبل بالموصل أو بالشأم أو بآمل. روى أنه عليه الصلاة والسلام ركب فى الفلك فى عاشر رجب ونزل عنها فى عاشر المحرم فصام ذلك اليوم شكرا فصار سنة (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى هلاكا لهم والتعرض* لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ

٢١١

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)

____________________________________

مُغْرَقُونَ) ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها وملكت من غرر المزايا ناصيتها وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمرى إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحرى بنا أن نوجز الكلام فى هذا الباب ونفوض الأمر إلى تأمل أولى الألباب والله عنده علم الكتاب (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أى أراد ذلك بدليل الفاء* فى قوله تعالى (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وقد وعدتنى إنجاءهم فى ضمن الأمر بحملهم فى الفلك أو النداء* على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) أى وعدك ذلك أو إن كل وعد تعده حق* لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنك أعلمهم وأعدلهم أو أنت أكثر حكمة من ذوى الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاء أيوب عليه الصلاة والسلام إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (قالَ يا نُوحُ) لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون* كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم بقوله تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أى ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم فى الفك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ثم علل عدم كونه منهم* على طريقة الاستئناف التحقيقى بقوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة كما فى قول الخنساء [فإنما هى إقبال وإدبار] وإيثار غير صالح على فاسد إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هى لصلاحه وقرأ الكسائى ويعقوب إنه عمل غير صالح أى عملا غير صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنيا على ما ذكر من اعتقاد كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهى عن سؤال إنجائه إلا أنه جىء بالنهى على وجه عام يندرج فيه ذلك* اندراجا أوليا فقيل (فَلا تَسْئَلْنِي) أى إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب منى (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذى هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذى هو مفعول مطلق فيكون النهى وارادا بصريحه فى كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب فيكون النهى وارادا فى مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريح فى أن نداءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وعلا ليس استفسارا عن سبب عدم إنجاء ابنه مع سبق وعده بإنجاء أهله وهو

٢١٢

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)

____________________________________

منهم كما قيل فإن النهى عن استفسار ما لم يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشىء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاء منه لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج أو بتقريبها إليه وقيل أو بإنجائه فى قلة الجبل ويأباه تذكير الوعد فى الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء فى الفلك وقوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ومجرد حيلولة الموج بينهما لا يستوجب هلاكه فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهله ولم يكن ابنه مجاهرا بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه عليه‌السلام أن يدعوه إلى الفلك أو يدعو ربه لإنجائه واعتزاله عنه عليه الصلاة والسلام وقصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص فى الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة فى الفلك وزعمه أن الجبل أيضا يجرى مجراه أو لكراهة الاحتباس فى الفلك بل قوله سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء بعد ما قال له نوح عليه الصلاة والسلام ولا تكن مع الكافرين ربما يطمعه عليه‌السلام فى إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوى أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه الصلاة والسلام إلا أنه عليه الصلاة والسلام لو تأمل فى شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله فى كل ما يأتى ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله ولذلك قيل (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فعبر عن ترك الأولى بذلك وقرىء فلا تسألن بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) أى أطلب منك من بعد (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أى مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب على ما مر وهذه توبة منه عليه‌السلام مما وقع منه وإنما لم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة فى التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما صدر عنى من السؤال المذكور* (وَتَرْحَمْنِي) بقبول توبتى (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا بسبب ذلك فإن الذهول عن شكر الله تعالى لا سيما* عند وصول مثل هذه النعمة الجليلة التى هى النجاة وهلاك الأعداء والاشتغال بما لا يعنى خصوصا بمبادى خلاص من قيل فى شأنه إنه عمل غير صالح والتضرع إلى الله تعالى فى أمره معاملة غير رابحة وخسران مبين وتأخير ذكر هذا النداء عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه من زوال الطوفان وقضاء الأمر واستواء الفلك على الجودى والدعاء بالهلاك على الظالمين مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله تعالى فكان من المغرقين حسبما وقع فى الخارج إذ حينئذ يتصور الدعاء بالإنجاء لا بعد العلم بالهلاك ليس لما

٢١٣

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨)

____________________________________

قيل من استقلاله بغرض مهم هو جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم فى الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين قياسا على ما وقع فى قصة البقرة من تقديم ذكر الأمر بذبحها على ذكر القتيل الذى هو أول القصة وكان حقها أن يقال وإذ قتلتم نفسا فادار أتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها كما قرر فى موضعه فإن تغيير الترتيب هناك للدلالة على كمال سوء حال اليهود بتعديد جناياتهم المتنوعة وتثنية التقريع عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الخ لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) الخ للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الأمور العظيمة ولو قصت القصة على ترتيبها لفات الغرض الذى هو تثنية التقريع ولظن أن المجموع تقريع واحد وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثل تلك النكتة أصلا وما ذكر من جعل القرابة الدينية غامرة للقرابة النسبية الخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا بل لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لذكر ما مر من الجواب المستدعى لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة والسلام المؤدى ذكرها إلى ذكر قبولها فى ضمن الأمر الوارد بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجىء مفصلا ولا ريب فى أن هذه المعانى آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا يكاد يفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وذلك إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ وفيه فائدة أخرى هى التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء الثانى عقيب قوله تعالى (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد قوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة والسلام فنص على هلاكه من أول الأمر ثم ذكر الأمر الوارد على الأرض والسماء الذى هو عبارة عن تعلق الإرادة الربانية الأزلية بما ذكر من الغيض والإقلاع وبين بلوغ أمر الله محله وجريان قضائه ونفوذ حكمه عليهم بهلاك من هلك ونجاة من نجا بتمام ذلك الطوفان واستواء الفلك على الجودى فقصت القصة إلى هذه المرتبة وبين ذلك أى بيان ثم تعرض لما وقع فى تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه‌السلام وبين رب العزة جلت حكمته فذكر بعد توبته عليه الصلاة والسلام قبولها بقوله (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أى انزل من الفلك وقرىء بضم الباء (بِسَلامٍ) ملتبسا* بسلامة من المكاره كائنة (مِنَّا) أو بسلام وتحية منا عليك كما قال سلام على نوح فى العالمين (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) أى خيرات نامية فى نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق وقرىء بركة وهذا إعلام وبشارة من الله تعالى بقبول توبته وخلاصه من الخسران بفيضان أنواع الخيرات عليه فى كل

٢١٤

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)

____________________________________

ما يأتى وما يذر (وَعَلى أُمَمٍ) ناشئة (مِمَّنْ مَعَكَ) إلى يوم القيامة متشعبة منهم فمن ابتدائية والمراد الأمم* المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أى ومنهم على أنه خبر حذف لدلالة ما سبق* عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم يعنى ليس جميع من تشعب منهم مسلما ومباركا عليه بل منهم أمم ممتعون فى الدنيا معذبون فى الآخرة وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه‌السلام مسلما ومباركا عليهم صريحا وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوح عليه الصلاة والسلام ومن كون ذرياتهم كذلك بدلالة النص ويجوز أن تكون من بيانية أى وعلى أمم هم الذين معك وإنما سموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم فى قوله تعالى (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) بعض الأمم المتشعبة منهم وهى الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة ويبقى أمر الأمم المؤمنة الناشئة منهم مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه مع ذلك ففى دلالة المذكور على خبره المحذوف خفاء لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية فتأمل (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) إما فى الآخرة أو فى الدنيا أيضا (مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) عن محمد بن كعب القرظى* دخل فى ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وعن ابن زيد هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام وبالعذاب ما نزل بهم (تِلْكَ) إشارة إلى ما قص من قصة نوح عليه الصلاة والسلام إما لكونها بتقضيها فى حكم البعيد أو للدلالة على بعد منزلتها وهى مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أى من جنسها أى ليست من قبيل سائر الأنباء بل هى نسيج وحدها منفردة* عما عداها أو بعضها (نُوحِيها إِلَيْكَ) خبر ثان والضمير لها أى موحاة إليك أو هو الخبر ومن أنباء متعلق* به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال من أنباء الغيب أى موحاة إليك (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) خبر آخر أى مجهولة عندك وعند قومك (مِنْ قَبْلِ هذا) أى من قبل إيحائنا إليك وإخبارك* بها أو من قبل هذا العلم الذى كسبته بالوحى أو من قبل هذا الوقت أو حال من الهاء فى نوحيها أو الكاف فى إليك أى جاهلا أنت وقومك بها وفى ذكر جهلهم تنبيه على أنه عليه الصلاة والسلام لم يتعلمه إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم (فَاصْبِرْ) متفرع على الإيحاء أو العلم المستفاد منه* المدلول عليه بقوله (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أى وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح على ما سمعته من أنواع البلايا فى هذه المدة المتطاولة وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) الخ (إِنَّ الْعاقِبَةَ) بالظفر فى الدنيا* وبالفوز فى الآخرة (لِلْمُتَّقِينَ) كما شاهدته فى نوح عليه الصلاة والسلام وقومه ولك فيه أسوة حسنة فهى*

٢١٥

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢)

____________________________________

تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليل للأمر بالصبر فإن كون العاقبة الحميدة للمتقين وهو فى أقصى درجات التقوى والمؤمنون كلهم متقون مما يسليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويهون عليه الخطوب ويذهب عنه ما عسى يعتريه من ضيق صدره وهذا على تقدير أن يراد بالتقوى الدرجة الأولى منه أعنى التوقى من العذاب المخلد بالتبرؤ من الشرك وعليه قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) ويجوز أن يراد الدرجة الثالثة منه وهى أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقى المطلوب بقوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) فإن التقوى بهذا المعنى منطو على الصبر المذكور فكأنه قيل فاصبر فإن العاقبة للصابرين (وَإِلى عادٍ) متعلق بمضمر* معطوف على قوله تعالى (أَرْسَلْنا) فى قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى (أَخاهُمْ) أى وأرسلنا إلى عاد أخاهم أى واحدا منهم فى النسب كقولهم يا أخا العرب وتقديم المجرور على المنصوب ههنا للحذار عن الإضمار قبل الذكر وقيل متعلق بالفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحا وقد مر فى سورة الأعراف* وقوله تعالى (هُوداً) عطف بيان لأخاهم وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملتهم فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن العوص بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام وقيل هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح* ابن عم أبى عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله وأرغب فى اقتفائه (قالَ) لما كان ذكر* إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أجيب عنه بطريق الاستئناف فقيل قال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أى وحدوه كما ينبىء عنه قوله تعالى (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه استئناف يجرى مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل للأمر بها كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم من إله* سواه وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وقرىء بالجر حملا له على لفظه (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم باتخاذكم* الأصنام شركاء له او بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها (إِلَّا مُفْتَرُونَ) عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خاطب به كل نبى قومه إزاحة لما عسى يتوهمونه وإمحاضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير وإيراد الموصول للتفخيم وجعل الصلة فعل الفطرة لكونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذى لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التى من جملتها الأجر (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى أتغفلون عن هذه القضية أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقلونها أو أتجهلون كل شىء فلا تعقلون ٥٢ شيئا أصلا فإن هذا مما لا ينبغى أن يخفى على أحد من العقلاء (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أى أطلبوا مغفرته

٢١٦

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٥٤)

____________________________________

لما سلف منكم من الذنوب بالإيمان والطاعة (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أى توسلوا إليه بالتوبة وأيضا التبرؤ من الغير* إنما يكون بعد الإيمان بالله تعالى والرغبة فيما عنده (يُرْسِلِ السَّماءَ) أى المطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أى كثير* الدرور (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً) مضافة ومنضمة (إِلى قُوَّتِكُمْ) أى يضاعفها لكم وإنما رغبهم بكثرة المطر لأنهم* كانوا أصحاب زروع وعمارات وقيل حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة والسلام كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل على الإيمان والتوبة (وَلا تَتَوَلَّوْا) أى* لا تعرضوا عما دعوتكم إليه (مُجْرِمِينَ) مصرين على ما كنتم عليه من الإجرام (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أى بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من البينات الفائتة للحصر (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) أى بتاركى عبادتها (عَنْ قَوْلِكَ) أى صادرين عنه أى صادرا تركنا عن ذلك* بإسناد حال الوصف إلى الموصوف ومعناه التعليل على أبلغ وجه لدلالته على كونه علة فاعلية ولا يفيده الباء واللام وهذا كقولهم المنقول عنهم فى سورة الأعراف أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أى بمصدقين فى شىء مما تأتى وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وترك* عبادة الآلهة وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوز الحد فى العتو مالا يخفى (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) أى ما نقول إلا قولنا اعتراك أى أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون لسبك إياها وصدك عن عبادتها* وحطك لها عن رتبة الألوهية والمعبودية بما مر من قولك (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) والتنكير فى سوء للتقليل كأنهم لم يبالغوا فى السوء كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ وهذا الكلام مقرر لما مر من قولهم (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) عن قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فإن اعتقادهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الاعتداد بقوله وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعد كلامك إلا من قبيل مالا يحتمل الصدق والكذب من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نصدقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ولقد سلكوا فى طريقة المخالفة والعناد إلى سبيل الترقى من الأدنى إلى الأعلى حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به عليه الصلاة والسلام حجة فى نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام فى كلامه ثم نفوا تصديقهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مع كون كلامه عليه الصلاة والسلام مما يقبل التصديق ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

٢١٧

مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

____________________________________

 (مِنْ دُونِهِ) أى من إشراككم من دون الله أى من غير أن ينزل به سلطانا كما قال فى سورة الأعراف (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أو مما تشركونه من آلهة غير الله أجاب به عن مقالتهم الحمقاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم مما يضر أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك ولما كان ما وقع أولا منه عليه الصلاة والسلام فى حق آلهتهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع فى ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق عليهم ذلك وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا أنها تصيبه عليه الصلاة والسلام بسوء مجازاة لصنيعه معها صرح عليه الصلاة والسلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسميه المصدرة بأن وأشهد الله على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانة بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بعض آلهتنا والتعاون* فى إيصال الكيد إليه عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن الإنظار والإمهال فى ذلك فقال (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أى إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدر على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمنى فإنى برىء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدى ثم لا تمهلونى ولا تسامحونى فى ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم فى قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما وهذا من أعظم المعجزات فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلا مفردا بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على مباشرة مبادى المضادة والمضارة وحثهم على التصدى لأسباب المعازة والمعارة فلم يقدروا على مباشرة شىء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع واعتصم بحبل متين حيث قال (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) يعنى إنكم وإن بذلتم فى مضارتى مجهودكم لا تقدرون على شىء مما تريدون بى فإنى متوكل على الله تعالى وإنما جىء بلفظ الماضى لكونه أدل على الإنشاء المناسب للمقام وواثق بكلاءتى وحفظى عن غوائلكم وهو* مالكى ومالككم لا يصدر عنكم شىء ولا يصيبنى أمر إلا بإرادته ومشيئته ثم برهن عليه بقوله (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أى إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه فإن الأخذ* بالناصية تمثيل لذلك (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعليل لما يدل عليه التوكل من عدم قدرتهم على إضراره أى هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم على إذ لا يضيع عنده معتصم ولا يفتات عليه ظالم والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد وإما لأن فائدة كونه تعالى مالكا لهم أيضا راجعة إليه عليه الصلاة والسلام.

٢١٨

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥٩)

____________________________________

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أى تتولوا بحذف إحدى التاءين أى إن تستمروا على ما كنتم عليه من التولى والإعراض (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أى لم أعاتب على تفريط فى الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحق* فأبيتم إلا التكذيب والجحود (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم* ويستخلف فى ديارهم وأموالهم قوما آخرين أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده قراءة ابن مسعود رضى الله عنه بالجزم عطفا على الموضع كأنه قيل فإن تولوا يعذرنى ويهلككم ويستخلف مكانكم آخرين وفى اقتصار إضافة الرب عليه عليه‌السلام رمز إلى اللطف به والتدمير للمخاطبين (وَلا تَضُرُّونَهُ) بتوليكم* (شَيْئاً) من الضرر لاستحالة ذلك عليه ومن جزم ويستخلف أسقط منه النون (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) * أى رقيب مهيمن فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها أو حافظ مستول على كل شىء فكيف يضره شىء وهو الحافظ للكل (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أى نزل عذابنا وفى التعبير عنه بالأمر مضافا إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجىء مالا يخفى من التفخيم والتهويل أو ورد أمرنا بالعذاب (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) * وكانوا أربعة آلاف (بِرَحْمَةٍ) عظيمة كائنة لهم (مِنَّا) وهى الإيمان الذى أنعمنا به عليهم بالتوفيق له* والهداية إليه (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أى كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهى السموم التى* كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا وقيل أريد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه وأشد وهذه التنجية وإن لم تكن مقيدة بمجىء الأمر لكن جىء بها تكملة للنعمة عليهم وتعريضا بأن المهلكين كما عذبوا فى الدنيا بالسموم فهم معذبون فى الآخرة بالعذاب الغليظ (وَتِلْكَ عادٌ) أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) كفروا بها بعد ما استيقنوها (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) جمع الرسل مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة* والسلام تفظيعا لحالهم وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد لا نفرق بين أحد من رسله فيجوز أن يراد بالآيات ما أتى به هود وغيره من الأنبياء عليهم‌السلام وفيه زيادة ملاءمة لما تقدم من جميع الآيات وما تأخر من قوله (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) من كبرائهم ورؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب* الرسل فكأنه قيل عصوا كل رسول واتبعوا أمر كل جبار وهذا الوصف ليس كما سبق من جحود الآيات وعصيان الرسل فى الشمول لكل فرد فرد منهم فإن الاتباع للأمر من أوصاف الأسافل دون الرؤساء

٢١٩

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (٦١)

____________________________________

وعنيد فعيل من عند عندا وعندا إذا طغا والمعنى عصوا من دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أى جعلت اللعنة لازمة لهم وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه* فى صحبة اتباعهم رؤساءهم يعنى أنهم لما اتبعوهم أتبعوا ذلك جزاء لصنيعهم جزاء وفاقا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أى أتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهى عذاب النار المخلد حذفت لدلالة الأولى عليها وللإيذان بكون كل من اللغتين نوعا برأسه لم تجمعا فى قرن واحد بأن يقال وأتبعوا فى هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة كما فى قوله تعالى (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) إيذانا باختلاف نوعى الحسنتين فإن المراد* بالحسنة الدنيوية نحو الصحة والكفاف والتوفيق للخير وبالحسنة الأخروية الثواب والرحمة (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أى بربهم أو نعمة ربهم حملا له على نقيضه الذى هو الشكر أو جحدوه (أَلا بُعْداً لِعادٍ) دعاء عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أى هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق الهلاك واستيجاب* الدمار وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة فى تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد فائدته التمييز عن عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه الصلاة والسلام وهم قومه (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) عطف على ما سبق من قوله تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وثمود قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وصالح عليه الصلاة والسلام هو ابن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله إليهم مظنة لأن يسأل ويقال ماذا قال* لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أى وحده وعلل ذلك بقوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيد ويحثهم على زيادة الإخلاص فيه بقوله (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أى هو كونكم وخلقكم منها لا غيره قصر قلب أو قصر إفراد فإن خلق آدم عليه الصلاة والسلام منها خلق لجميع أفراد البشر منها لما مر مرارا من أن خلقته عليه الصلاة والسلام لم تكن مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على خلق جميع ذرياته التى ستوجد إلى يوم القيامة انطواء إجماليا وقيل إن خلق آدم عليه الصلاة والسلام وإنشاء مواد النطف التى منها خلق نسله من التراب إنشاء لجميع الخلق من الأرض فتدبر (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) من العمر أى عمركم واستبقاكم (فِيها) أو من العمارة أى

٢٢٠