تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

____________________________________

نُؤَخِّرُهُ) أى ذلك اليوم الملحوظ بعنوانى الجمع والشهود (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إلا لانقضاء مدة* قليلة مضروبة حسبما تقتضيه الحكمة (يَوْمَ يَأْتِ) أى حين يأتى ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله كقوله تعالى أن تأتيهم الساعة وقيل يوم يأتى الجزاء الواقع فيه وقيل أى الله عزوجل فإن المقام مقام تفخيم شأن اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أى لا تتكلم بما ينفع وينجى من جواب أو* شفاعة وهو العامل فى الظرف أو الانتهاء المحذوف فى قوله تعالى (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أى ينتهى الأجل يوم يأتى أو المضمر المعهود أعنى اذكر (إِلَّا بِإِذْنِهِ) عز سلطانه فى التكلم كقوله تعالى (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) وهذا فى موطن من مواطن ذلك اليوم وقوله عزوجل (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) فى موقف آخر من مواقفه كما أن قوله سبحانه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) فى آخر منها أو المأذون فيه الجوابات الحقة والممنوع عنه الأعذار الباطلة نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما فى قول الكفرة (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ونظائره (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ) وجبت له النار بموجب الوعيد* (وَسَعِيدٌ) أى ومنهم سعيد حذف الخبر لدلالة الأول عليه وهو من وجبت له الجنة بمقتضى الوعد* والضمير لأهل الموقف المدلول عليهم بقوله لا تكلم نفس أو للناس وتقديم الشقى على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أى سبقت لهم الشقاوة (فَفِي النَّارِ) أى مستقرون فيها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما فى أول النهيق وآخره قال الشماخ بصف حمار الوحش[بعيد مدى التطريب أول صوته * زفير ويتلوه شهيق محشرج] والمراد بهما وصف شدة كربهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرىء شقوا بالضم والجملة مستأنفة كأن سائلا قال ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير فى الجار والمجرور كقوله عز اسمه (خالِدِينَ فِيها) خلا أنه إن أريد حدوث كونهم فى النار فالحال مقدرة (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أى مدة دوامهما وهذا التوقيت* عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع بناء على منهاج قول العرب مادام تعار وما أقام ثبير وما لاح كوكب وما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وغير ذلك من كلمات التأييد لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض فإن النصوص القاطعة دالة على تأييد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما وإن أريد التعليق فالمراد سموات الآخرة وأرضها كما يدل على ذلك النصوص كقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وقوله تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) وجزم كل أحد بأن أهل الآخرة

٢٤١

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

____________________________________

لا بد لهم من مظلة ومقلة دائمتين يكتفى فى تعليق دوام قرارهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على* تفاصيل أحوالهما وكيفياتهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وقوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وقوله تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعنى أنهم مستقرون فى النار فى جميع الأزمنة إلا فى زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق* الوجوب على الله تعالى قال (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يعنى إنه فى تخليد الأشقياء فى النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتيب الأجزية على أفعال العباد والعدول من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابة وزيادة التقرير وقيل هو استثناء من الخلود فى عذاب النار فإنهم لا يخلدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أخر من العذاب وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله تعالى عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وأنت تدرى أنا وإن سلمنا أن المراد بالنار ليس مطلق دار العذاب المشتملة على أنواع العذاب بل نفس النار فما خلا عذاب الزمهرير من تلك الأنواع مقارن لعذاب النار فلا مصداق فى ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين فى العذاب الجسمانى الذى هو عذاب النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهى العقوبات والآلام الروحانية التى لا يقف عليها فى هذه الحياة الدنيا المنغمسون فى أحكام الطبيعة المقصور إدراكهم على ما ألفوا من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقى ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية إذا ألقى إليهم ولذلك لم يتعرض لبيانه واكتفى بهذه المرتبة الإجمالية المنبئة عن التهويل وهذه العقوبات وإن كانت تعتريهم وهم فى النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون به وهذه المرتبة كافية فى تحقيق معنى الاستثناء هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفق بما ذكر وقيل ما بمعنى من على إرادة معنى الوصفية فالمعنى إن الذين شقوا فى النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودهم فيها وهم عصاة المؤمنين (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) الكلام فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم فيها بهجة وسرورا كما ذكر فى أهل النار من أنه لهم فيها زفير وشهيق لأن* المقام مقام التحذير والإنذار (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله سبحانه (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يقتضى إعطاء وإنعاما فكأنه قيل يعطيهم عطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى (أَنْبَتَكُمْ

٢٤٢

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠)

____________________________________

مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) وإن حمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحانى الذى عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييز فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة قال ابن زيد أخبرنا الله تعالى بالذى يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذى يشاء لأهل النار ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من انقطاعه (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أى فى شك والفاء لترتيب النهى على ما قص من القصص وبين فى تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أى من جهة عبادة هؤلاء المشركين وسوء عاقبتها* أو من حال ما يعبدونه من الأوثان فى عدم نفعه لهم ولما كان مساق النظم الكريم قبيل الشروع فى القصص لبيان غاية سوء حال الكفرة وكمال حسن حال المؤمنين وقد ضرب لهم مثل فقيل مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون وقد قص عقيب ذلك من أنباء الأمم السالفة مع رسلهم المبعوثة إليهم ما يتذكر به المتذكر نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كونه فى شك من مصير أمر هؤلاء المشركين فى العاجل والآجل ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) الذين قصت عليك قصصهم (مِنْ قَبْلُ) أى هم وآباؤهم سواء فى الشرك ما يعبدون عبادة إلا* كعبادتهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها أو مثل ما كانوا يعبدونه فحذف كان لدلالة قوله (مِنْ قَبْلُ) عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثل ذلك فإن تماثل الأسباب يقتضى تماثل المسببات (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) أى* هؤلاء الكفرة (نَصِيبَهُمْ) أى حظهم المعين لهم حسب جرائمهم وجرائرهم من العذاب عاجلا وآجلا* كما وفينا آباءهم أنصباءهم المقدرة لهم أو من الرزق المقسوم لهم فيكون بيانا لوجه تأخر العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) * وفائدته دفع توهم التجوز وجعلها مقيدة له لدفع احتمال كونه منقوصا فى حد نفسه مبنى على الذهول عن كون العامل هو التوفية فتأمل (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أى التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أى فى شأنه وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن وقولهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وزعمهم إنك افتريته (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ

٢٤٣

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢)

____________________________________

مِنْ رَبِّكَ) وهى كلمة القضاء بإنظارهم إلى يوم القيامة على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أى لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذى يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين* وقيل بين قوم موسى وليس بذاك (وَإِنَّهُمْ) أى وإن كفار قومك أريد به بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس (لَفِي شَكٍّ) عظيم (مِنْهُ) أى من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى* ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية ينادى به نداء غير خفى (مُرِيبٍ) موقع فى الريبة (وَإِنَّ كُلًّا) التنوين عوض عن المضاف إليه أى وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع* وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أى أجزية أعمالهم واللام الأولى موطئة للقسم والثانية جواب للقسم المحذوف ولما مركبة من من الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمن فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت أولاهن والمعنى لمن الذى أو لمن خلق أو لمن فريق والله ليوفينهم ربك وقرىء لما بالتخفيف على أن ما مزيدة للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم الآية وقرىء لما بالتنوين أى جميعا كقوله سبحانه (أَكْلاً لَمًّا) وقرأ أبى* وإن كل لما ليوفينهم على أن إن نافية ولما بمعنى إلا وقد قرىء به (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ) أى بما يعمله كل فرد* من المختلفين من الخير والشر (خَبِيرٌ) بحيث لا يخفى عليه شىء من جلائله ودقائقه وهو تعليل لما سبق من توفية أجزية أعمالهم فإن الإحاطة بتفاصيل أعمال الفريقين وما يستوجبه كل عمل بمقتضى الحكمة من الجزاء المخصوص توجب توفية كل ذى حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) لما بين فى تضاعيف القصص المحكية عن الأمم الماضية سوء عاقبة الكفر وعصيان الرسل وأشير إلى أن حال هؤلاء الكفرة فى الكفر والضلال واستحقاق العذاب مثل أولئك المعذبين وأن نصيبهم من العذاب واصل إليهم من غير نقص وأن تكذيبهم للقرآن مثل تكذيب قوم موسى عليه‌السلام للتوراة وأنه لو لم تسبق كلمة القضاء بتأخير عقوبتهم العامة ومؤاخذتهم التامة إلى يوم القيامة لفعل بهم ما فعل بآبائهم من قبل وأنهم يوفون نصيبهم غير منقوص وأن كل واحد من المؤمنين والكافرين يوفى جزاء عمله أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة كما أمر به فى العقائد والأعمال المشتركة بينه وبين سائر المؤمنين ولا سيما الأعمال الخاصة به عليه‌السلام من تبليغ الأحكام الشرعية والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة بحيث يدخل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الآية وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية* والخروج من عهدته فى غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيبتنى سورة هود (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أى تاب من الشرك والكفر وشاركك فى الإيمان وهو المعنى بالمعية وهو معطوف على

٢٤٤

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤)

____________________________________

المستكن فى قوله (فَاسْتَقِمْ) وحسن من غير تأكيد لمكان الفاصل القائم مقامه وفى الحقيقة هو من عطف الجملة على الجملة إذ المعنى وليستقم من تاب معك وقيل هو منصوب على أنه مفعول معه كما قاله أبو البقاء والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب معك (وَلا تَطْغَوْا) ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفى* قصد الأمور ذميم وإنما سمى ذلك طغيانا وهو تجاوز الحد تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله عليه‌السلام (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهى وفى الآية دلالة على* وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد الرأى فإنه طغيان وضلال وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد (وَلا تَرْكَنُوا) أى لا تميلوا أدنى ميل (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى إلى الذين وجد منهم الظلم فى الجملة ومدار النهى هو الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة فى النهى من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة فى مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المراد النهى عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس كذلك (فَتَمَسَّكُمُ) بسبب ذلك (النَّارُ) وإذا كان حال الميل فى الجملة إلى من وجد منه ظلم ما فى الإفضاء* إلى مساس النار هكذا فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين فى الظلم والعدوان ميلا عظيما ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويلقى شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيى بزيهم ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو فى الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعف الطالب والمطلوب والآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم والتهديد عليه وخطاب الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة التى هى العدل فإن الميل إلى أحد طرفى الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو على غيره وقرىء تركنوا على لغة تميم وتركنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أى من أنصار ينقذونكم من النار والجملة نصب* على الحالية من قوله (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ونفى الأولياء ليس بطريق نفى أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولى بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الآحاد لكن لا على معنى نفى استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفى أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) من جهة الله* سبحانه إذ قد سبق فى حكمه أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم وثم لتراخى رتبة كونهم غير منصورين من جهة الله بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه لما بين أن الله تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) أى غدوة وعشية وانتصابه على الظرفية لكونه مضافا إلى الوقت (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أى ساعات منه* قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه جمع زلفة عطف على طرفى النهار والمراد بصلاتهما صلاة

٢٤٥

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦)

____________________________________

الغداة والعصر وقيل الظهر موضع العصر لأن ما بعد الزوال عشى وبصلاة الزلف المغرب والعشاء* وقرىء زلفا بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر وزلفى بمعنى زلفة كقربى بمعنى قربة (إِنَّ الْحَسَناتِ) التى* من جملتها بل عمدتها ما أمرت به من الصلوات (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) التى قلما يخلو منها البشر أى يكفرنها وفى الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنب الكبائر وقيل نزلت فى أبى اليسر الأنصارى إذ قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما فعل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنتظر أمر ربى فلما صلى صلاة العصر نزلت قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت أو يمنعن من اقترافها كقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (ذلِكَ) إشارة إلى قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ) فما بعده وقيل إلى القرآن (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أى عظة للمتعظين (وَاصْبِرْ) على مشاق ما أمرت به فى تضاعيف الأوامر السابقة وأما ما نهى عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس فى الانتهاء عنه مشقة فلا وجه لتعميم الصبر له اللهم إلا أن يراد به مالا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة عن الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم* البشرية إلى من وجد منه ظلم ما فإن فى الاحتراز عن أمثاله من المشقة مالا يخفى (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أى يوفيهم أجور أعمالهم من غير بخس أصلا وإنما عبر عن ذلك بنفى الإضاعة مع أن عدم إعطاء الأجر ليس بإضاعة حقيقة كيف لا والأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه من القبائح وإبراز الإثابة فى معرض الأمور الواجبة عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف به وهو تعليل للأمر بالصبر وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان (فَلَوْ لا كانَ) فهلا كان (مِنَ الْقُرُونِ) الكائنة (مِنْ قَبْلِكُمْ) على رأى من جوز حذف الموصول مع* بعض صلته أو كائنة من قبلكم (أُولُوا بَقِيَّةٍ) من الرأى والعقل أو أولو فضل وخير وسميابها لأن الرجل إنما يستبقى مما يخرجه عادة أجوده وأفضله فصار مثلا فى الجودة والفضل ويقال فلان من بقية القوم أى من خيارهم ومنه ما قيل فى الزوايا خبايا وفى الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أى فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقية وهى المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره أى أولو مراقبة وخشية* من عذاب الله تعالى كأنهم ينتظرون نزوله لإشفاقهم (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) الواقع منهم* حسب ما حكى عنهم (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء منقطع أى لكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفة على أن من للبيان لا للتبعيض لأن جميع الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلام

٢٤٦

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧)

____________________________________

لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية على النهى المذكور إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم مريدا لاستثناء الصلحاء من المحضضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناء من النفى اللازم للتحضيض فكأنه قيل ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا منهم لكن الرفع هو الأفصح حينئذ على البدلية (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بمباشرة الفساد وترك النهى عنه (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أى أنعموا من* الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهر وأما المساهلون فلما لهم فى ذلك من نيل حظوظهم الفاسدة وقيل المراد بهم تاركو النهى وأنت خبير بأنه يلزم منه عدم دخول مباشرى الفساد فى الظلم والإجرام عبارة (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أى كافرين فهو بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة وهو فشو الظلم واتباع الهوى* فيهم وشيوع ترك النهى عن المنكرات مع الكفر وقوله (وَاتَّبَعَ) عطف على مضمر دل عليه الكلام أى لم ينهوا واتبع الخ فيكون العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم فى الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئناف يترتب على قوله (إِلَّا قَلِيلاً) أى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشرى الفساد وتاركى النهى عنه فيكون الإظهار مقتضى الظاهر وقوله (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على (أُتْرِفُوا) أى اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر أو على اتبع أى اتبعوا شهواتهم وكانوا بذلك الاتباع مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضا وتسجيلا عليهم بأنهم قوم مجرمون وقرىء وأتبع أى أتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) أى ما صح وما استقام بل استحال فى الحكمة أن يهلك القرى التى أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويعلم من ذلك حال باقيها من القرى الظالمة واللام لتأكيد النفى وقوله (بِظُلْمٍ) أى ملتبسا* به قيل هو حال من الفاعل أى ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعله الله تعالى بعباده كائنا ما كان لما تقرر من قاعدة أهل السنة وقد مر تفصيله فى سورة آل عمران عند قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقوله تعالى (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) حال من المفعول والعامل* عامله ولكن لا باعتبار تقيده بما وقع حالا من فاعله أعنى بظلم لدلالته على تقيد نفى الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ولا ريب فى فساده بل مطلقا عن ذلك وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أى لا يهك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر وذلك لفرط رحمته ومسامحته فى حقوقه تعالى ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق الله تعالى الغنى الحميد وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدرى أن مقام النهى عن المنكرات التى أقبحها الإشراك بالله لا يلائمه فإن الشرك داخل فى الفساد فى الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولا عن الإشراك ثم عن

٢٤٧

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

____________________________________

سائر المعاصى التى كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصى وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهى عنه وبعضهم متوجهين إلى الاتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مجتمعة على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا* متفقين على الحق (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فى الحق أى مخالفين له كقوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أى لم يخالفوه وحمله على مطلق الاختلاف الشامل لما يصدر من المحق* والمبطل يأباه الاستثناء المذكور (وَلِذلِكَ) أى ولما ذكر من الاختلاف (خَلَقَهُمْ) أى الذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون فاللام للعاقبة أو للترحم فالضمير لمن واللام فى معناها أو لهما معا فالضمير للناس كافة* واللام بمعنى مجازى عام لكلا المعنيين (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أى وعيده أو قوله للملائكة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أى من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما (وَكُلًّا) أى وكل نبأ* فالتنوين عوض عن المضاف إليه (نَقُصُّ عَلَيْكَ) نخبرك به وقوله تعالى (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) بيان لكلا* وقوله تعالى (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بدل منه والأظهر أن يكون المضاف إليه المحذوف فى كلا المفعول المطلق لنقص أى كل اقتصاص أى كل أسلوب من أساليبه نقص عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) مفعول نقص وفائدته التنبيه على أن المقصود بالاقتصاص زيادة يقينه عليه‌السلام وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذية الكفار بالوقوف على تفاصيل أحوال الأمم* السالفة فى تماديهم فى الضلال وما لقى الرسل من جهتهم من مكابدة المشاق (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة أو* الأنباء المقصوصة عليك (الْحَقُّ) الذى لا محيد عنه (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أى الجامع بين كونه حقا فى نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ولكون الوصف الأول حالا له فى نفسه حلى باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره وتقديم الظرف أعنى فى هذه على الفاعل لأن المقصود بيان منافع السورة أو الأنباء المقصوصة فيها واشتمالها على ما ذكر من المنافع المفصلة لا بيان كون ذلك فيها لا فى غيرها ولأن عند تأخير ما حقه التقديم تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن ولأن

٢٤٨

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

____________________________________

فى المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا الحق ولا يتعظون به ولا يتذكرون (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم وجهتكم التى هى عدم الإيمان (إِنَّا عامِلُونَ) على حالنا وهو الإيمان به والاتعاظ والتذكر به (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعا (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك* والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله تعالى وفى تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار بأنه لا ينفع دونها (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فيجازيهم بموجبه وقرىء* تعملون على تغليب المخاطب أى أنت وهم فيجازى كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق. عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق كل واحد من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد من كذبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى.

٢٤٩

١٢ ـ سورة يوسف عليه‌السلام

(مكية وهى مائة وإحدى عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

____________________________________

(سورة يوسف عليه‌السلام مكية إلا الآيات ١ و ٢ و ٣ و ٧ فمدنية وآياتها ١١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر) الكلام فيه وفى محله وفيما أريد بالإشارة والآيات والكتاب فى قوله* (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) عين ما سلف فى مطلع سورة يونس (الْمُبِينِ) من أبان بمعنى بان أى الظاهر أمره فى كونه من عند الله تعالى وفى إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبار عن الغيب أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقه ولا يلتبس لديهم دقائقه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بين أى المبين لما فيه من الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين فى الدارين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص وعلى تقدير كون الكتاب عبارة عن السورة فإبانته إنباؤه عن قصة يوسف عليه‌السلام فإنه قد روى أن أخبار اليهود قالوا لرؤساء المشركين سلوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لماذا انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه‌السلام ففعلوا ذلك فيكون وصف الكتاب بالإبانة من قبيل براعة الاستهلال لما سيأتى ولما وصف الكتاب بما يدل على الشرف الذاتى عقب ذلك بما يدل على الشرف الإضافى فقيل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أى الكتاب المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة فإن كان عبارة عن الكل وهو الأظهر* الأنسب بقوله تعالى (قُرْآناً عَرَبِيًّا) إذ هو المشهور بهذا الاسم المعروف بهذا النعت المتسارع إلى الفهم عند إطلاقهما فالأمر ظاهر وإن جعل عبارة عن السورة فتسميتها قرآنا لما عرفته فيما سلف والسر فى ذلك أنه اسم جنس فى الأصل يقع على الكل والبعض كالكتاب أو لأنه مصدر بمعنى المفعول أى أنزلناه* حال كونه مقروءا بلغتكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أى لكى تفهموا معانيه طرا وتحيطوا بما فيه من البدائع خبرا وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر منزل من عند خلاق القوى والقدر (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) أى نخبرك ونحدثك واشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن من يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا كما يقال* تلا القرآن لأنه يتبع ما حفظ منه آية بعد آية (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أى أحسن الاقتصاص فنصبه على

٢٥٠

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

____________________________________

المصدرية وفيه مع بيان الواقع إيهام لما فى اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل وترك المفعول إما للاعتماد على انفهامه من قوله عزوجل (بِما أَوْحَيْنا) أى بإيحائنا (إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أى هذه السورة* فإن كونها موحاة منبىء عن كون ما فى ضمنها مقصوصا والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحى غير المتلو وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماء اليهود وأحسنيته لأنه قد اقتص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين وفى كلمة هذا إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما فى قوله تعالى (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بأن يكون المراد بذلك المجموع فتأمل أو نقص عليك أحسن ما نقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه‌السلام على أن القصص فعل بمعنى المفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمى به المفعول كالخلق والصيد ونصب أحسن على المفعولية وأحسنيتها لتضمنها من الحكم والعبر مالا يخفى كمال حسنه (وَإِنْ كُنْتَ) إن مخففة من الثقيلة وضمير الشأن الواقع* اسما لها محذوف واللام فارقة والجملة خبر والمعنى وإن الشأن كنت (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل إيحائنا إليك هذه* السورة (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط وهو تعليل لكونه موحى والتعبير* عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن غفل عنه بعض الغافلين (إِذْ قالَ يُوسُفُ) نصب بإضمار اذكر وشروع فى القصة إنجازا للوعد بأحسن الاقتصاص أو بدل من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) على تقدير كونه مفعولا بدل اشتمال فإن اقتصاص الوقت المشتمل على المقصوص من حيث اشتماله عليه اقتصاص للمقصوص ويوسف اسم عبرى لا عربى لخلوه عن سبب آخر غير التعريف وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناء على التلعب به لا على أنه مضارع بنى للمفعول أو الفاعل من آسف لشهادة المشهورة بعجمته (لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكريم* ابن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (يا أَبَتِ) أصله يا أبى فعوض* عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما فى الزيادة فلذلك قلبت هاء فى الوقف على قراءة ابن كثير وأبى عمرو ويعقوب وكسرتها لأنها عوض عن حرف يناسبها وفتحها ابن عامر فى كل القرآن لأنها حركة أصلها أو لأن الأصل يا أبتا فحذف الألف وبقى الفتحة وإنما لم يجز يا أبتى لأنه جمع بين العوض والمعوض وقرىء بالضم إجراء لها مجرى الألفاظ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا لا من* الرؤية لقوله (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) ولأن الظاهر أن وقوع مثل هذه الأمور البديعة فى عالم الشهادة لا يختص برؤية راء دون راء فيكون طامة كبرى لا يخفى على أحد من الناس (أَحَدَ عَشَرَ

٢٥١

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

____________________________________

كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) روى عن جابر رضى الله عنه أن يهوديا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أخبرنى يا محمد عن النجوم التى رآهن يوسف عليه‌السلام فسكت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أخبرتك بذلك هل تسلم فقال نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرع ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف عليه‌السلام والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودى أى والله إنها لأسماؤها وقيل الشمس والقمر أبواه وقيل أبوه وخالته والكواكب إخوته وإنما أخر الشمس والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما على سائر الطوالع بعطفهما عليها كما فى عطف جبريل وميكائيل على الملائكة عليهم‌السلام وقد جوز أن تكون الواو بمعنى مع أى رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ولا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى تأخر ملاقاته عليه‌السلام لهما عن ملاقاته لإخوته وعن وهب أن يوسف عليه‌السلام رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة فى الأرض كهيئة الدارة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتعلتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لإخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتى عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل وقيل كان بين* رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة وقيل ثمانون (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) استئناف ببيان حالهم التى رآهم عليها كأن سائلا سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك وإنما أجريت مجرى العقلاء فى الضمير لوصفها بوصف العقلاء أعنى السجود وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام بما هو الأهم مع ٥ ما فى ضمنه من رعاية الفاصلة (قالَ يا بُنَيَّ) صغره للشفقة أولها ولصغر السن وهو أيضا استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال يعقوب بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة ولما عرف يعقوب عليه‌السلام من هذه الرؤيا أن يوسف يبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرام خاف عليه حسد الأخوة وبغيهم فقال صيانة لهم من ذلك وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأن الله تعالى سيحقق ذلك لا محالة وطمعا فى حصوله بلا مشقة* (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) هى ما فى المنام كما أن الرؤية ما فى اليقظة فرق بينهما بحرفى التأنيث كما فى القربى والقربة وحقيقتها ارتسام الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق من المعانى الحاصلة هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ثم إذا كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية* استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه (عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا) نصب باضمار أن أى فيفعلوا

٢٥٢

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

____________________________________

(لَكَ) أى لأجلك ولإهلاكك (كَيْداً) متينا راسخا لا تقدر على التفصى عنه أو خفيا عن فهمك لا تتصدى* لمدافعته وهذا أوفق بمقام التحذير وإن كان يعقوب عليه‌السلام يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل مادلت الرؤيا على وقوعه وهذا الأسلوب آكد من أن يقال فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وقد قيل إنما جىء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدى باللام ليفيد معنى المضمن والمضمن فيه للتأكيد أى فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلة وكيدا والمراد بإخوته ههنا الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم بنو علاته الأحد عشروهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وربالون ويشجرو دينة بنو يعقوب من ليا بنت خالته ودان ونفتالى وجاد وآشر بنوه من سريتين زلفة وبلهة وهؤلاءهم المشار إليهم بالكواكب الأحد عشر وأما بنيامين الذى هو شقيق يوسف عليه‌السلام وأمهما راحيل التى تزوجها يعقوب عليه‌السلام بعد وفاة أختها ليا أو فى حياتها إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهى إذ لا يتوهم مضرته ولا يخشى معرته ولم يكن معدودا معهم فى الرؤيا إذ لم يكن معهم فى السجود ليوسف والمراد نهيه عن اقتصاص الرؤيا عليهم كلا أو بعضا (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة* فلا يألو جهدا فى إغواء إخوتك وإضلالهم وحملهم على مالا خير فيه وهو استئناف كأن يوسف عليه‌السلام قال كيف يصدر ذلك عن إخوتى الناشئين فى بيت النبوة فقيل إن الشيطان يحملهم على ذلك ولما نبهه عليهما‌السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما يستتبع منافع وحذره إشاعتها المؤدية إلى أن يحول إخوته بينها وبين ظهور آثارها وحصولها أو يوعروا سبيل وصولها شرع فى تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالى فقال (وَكَذلِكَ) أى ومثل ذلك الاجتباء البديع الذى شاهدت آثاره فى عالم المثال من سجود تلك الأجرام العلوية النيرة لك وبحسبه وعلى وفقه (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) يختارك لجناب كبريائه ويستنبؤك افتعال من جباه* إذا جمعه ويصطفيك على أشراف الخلائق وسراة الناس قاطبة ويبرز مصداق تلك الرؤيا فى عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور والمراد بالتشبيه بيان المضاهاة المتحققة بين الصور المرئية فى عالم المثال وبين ما وقعت هى صورا وأشبا حاله من الكائنات الظاهرة بحسبها فى عالم الشهادة أى كما سخرت لك تلك الأجرام العظام يسخر لك وجوه الناس ونواصيهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة ومراده بيان إطاعة أبويه وإخوته له لكنه إنما لم يصرح به حذرا من إذاعته (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير* داخل تحت التشبيه أراد به عليه‌السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه‌السلام بما أخبر به على طريقة التعبير والتأويل كأنه قال وهو يعلمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أى ذلك الجنس من العلوم* أو طرفا صالحا منه فتطلع على حقية ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقى ما سيأتى بالقبول والمراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هى أحاديث الملك إن كانت صادقة أو أحاديث

٢٥٣

النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك والأحاديث اسم جمع للحديث كالأباطيل اسم جمع للباطل لا جمع أحدوثة وقيل كأنهم جمعوا حديثا على أحدثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع وقيل هو تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم‌السلام والأول هو الأظهر وتسمية التعبير تأويلا لأنه جعل المرئى آيلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير ورجعه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه‌السلام من تعبيره لرؤيا صاحبى السجن ورؤيا الملك وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التى عبر عنها بإتمام النعمة وإنما عرف يعقوب عليه‌السلام ذلك منه من جهة الوحى أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه‌السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفته عليه‌السلام لذلك بطريق الفراسة والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالها وتمييز ما هو آفاقى منها مما هو أنفسى كيف لا وهى تدل على كمال تمكن نفسه عليه‌السلام فى عالم المثال وقوة تصرفاتها فيه فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها فى عالم الشهادة وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة فى أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرة على وفقها فى العالم الآخر وأن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به ومدارا لجريان أحكامه فإن لكل نبى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام* معجزة بها تظهر آثاره وتجرى أحكامه (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها وتوسيط ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجى ولما أشرنا إليه من كون أثره وسيلة إلى تمام النعمة ويجوز أن يعد نفس الرؤيا* من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) وهم أهله من بنيه وغيرهم فإن رؤية يوسف عليه‌السلام إخوته كواكب يهتدى بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة وأما إذا أريد بتمام تلك النعمة الملك فكونه كذلك* بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) نصب على المصدرية أى ويتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك وهى نعمة الرسالة والنبوة وإتمامها على إبراهيم عليه‌السلام باتخاذه خليلا وإنجائه من النار ومن ذبح الولد وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه وكل ذلك نعم جليلة وقعت تتمة لنعمة النبوة ولا يجب فى تحقيق التشبيه كون ذلك فى جانب المشبه به مثل ما وقع فى جانب المشبه من كل وجه* (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل هذا الوقت أو من قبلك (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به فى ضمن التعبير الإجمالى لرؤياه والاقتصار فى المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء فإن إتمام النعمة

٢٥٤

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨)

____________________________________

يقتضى سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة (إِنَّ رَبَّكَ) استئناف لتحقيق مضمون الجمل المذكورة أى* يفعل ما ذكر لأنه (عَلِيمٌ) بكل شىء فيعلم من يستحق الاجتباء وما يتفرع عليه من التعليم المذكور وإتمام النعمة* العامة على الوجه المذكور (حَكِيمٌ) فاعل لكل شىء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فيفعل ما يفعل كما* يفعل جريا على سنن علمه وحكمته والتعرض لعنوان الربوبية فى الموضعين لتربية تحقق وقوع ما ذكر من الأفاعيل هذا وقد قيل فى تفسير الآية الكريمة أى وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس يجتبيك ربك للنبوة والملك أو لأمور عظام ويتم نعمته عليك بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة حيث جعلهم فى الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا فى الجنة كما أتمها على أبويك بالرسالة فتأمل والله الهادى (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أى فى قصتهم والمراد بهم ههنا إما جميعهم فإن لبنيامين أيضا حصة من القصة أو بنو علاته المعدودون فيما سلف إذ عليهم يدور رحاها (آياتٌ) علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة (لِلسَّائِلِينَ) لكل* من يسأل عن قصتهم وعرفها أو الطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها والمنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فالمراد بالقصة نفس المقصوص أو على نبوته عليه‌السلام لمن سأله من المشركين أو اليهود عن قصتهم فأخبرهم بذلك على ما هى عليه من غير سماع من أحد ولا ممارسة شىء من الكتب فالمراد بها اقتصاصها وجمع الآيات حينئذ للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية فى الدلالة على نبوته عليه‌السلام على نحو ما ذكر فى قوله تعالى (مَقامُ إِبْراهِيمَ) على تقدير كونه عطف بيان لقوله تعالى (آياتٌ بَيِّناتٌ) لا لما قيل من أنه لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى وقرأ ابن كثير آية وفى بعض المصاحف عبرة وقيل إنما قص الله تعالى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر يوسف وبغى إخوته عليه لما رأى من بغى قومه عليه ليأتسى به (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) أى شقيقه بنيامين وإنما لم يذكر باسمه تلويحا بأن مدار المحبة أخوته ليوسف من الطرفين ألا يرى إلى أنهم كيف اكتفوا بإخراج يوسف من البين من غير تعرض له حيث قالوا اقتلوا يوسف (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) وحد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرق* فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث نعم إذا عرف وجب الفرق وإذا أضيف جاز الأمران وفائدة لام الابتداء فى يوسف تحقيق مضمون الجملة وتأكيده (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أى والحال أنا جماعة* قادرون على الحل والعقد أحقاء بالمحبة والعصبة والعصابة العشرة من الرجال فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم (إِنَّ أَبانا) فى ترجيحهما علينا فى المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من كفاية* الأمور بالصغر والقلة (لَفِي ضَلالٍ) أى ذهاب عن طريق التعديل اللائق وتنزيل كل منا منزلته (مُبِينٍ) *

٢٥٥

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

____________________________________

ظاهر الحال. روى أنه كان أحب إليه لما يرى فيه من مخايل الخير وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه فتضاعف حسدهم حتى حملهم على مباشرة ما قص عنهم (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) من جملة ما حكى بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضوا بذلك كما يروى أن القائل شمعون أو دان والباقون كانوا راضين إلا من قال لا تقتلوا الخ فجعلوا كأنهم القائلون وأدرجوا تحت القول المسند إلى الجميع أو قاله كل واحد منهم مخاطبا للبقية وهو أدل على مسارعتهم إلى ذلك القول وتنكير أرضا وإخلاؤها من الوصف للإبهام أى أرضا منكورة* مجهولة بعيدة من العمران ولذلك نصبت نصب الظروف المبهمة (يَخْلُ) بالجزم جواب للأمر أى يخلص* (لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) فيقبل عليكم بكليته ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم فى محبته أحد فذكر الوجه* لتصوير معنى إقباله عليهم (وَتَكُونُوا) بالجزم عطفا على يخل أو بالنصب على إضمار أن أو الواو بمعنى مع مثل قوله وتكتموا الحق وإيثار الخطاب فى لكم وما بعده للمبالغة فى حملهم على القبول فإن اعتناء* المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف أى من بعد الفراغ* من أمره أو قتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه أو صالحين فى أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلو وجه أبيكم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وهو الذى قال (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) الخ وقيل روبيل وهو استئناف مبنى على سؤال من سأل وقال أتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتى الضيع أم خالفهم فى ذلك أحد فقيل قال* قائل منهم (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) أظهره فى مقام الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه أو استعظاما لقتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه* عليهم بقوله (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) أى فى قعره وغوره سمى بها لغيبته عن عين الناظر والجب البئر التى لم تطو بعد لأنها أرض جبت جبا من غير أن يزاد على ذلك شىء وقرأ نافع فى غيابات الجب فى الموضعين كأن لتلك الجب غيابات أو أراد بالجب الجنس أى فى بعض غيابات الجب وقرىء غيابات وغيبة* (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاط أخذ شىء مشرف على الضياع* (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أى بعض طائفة تسير فى الأرض واللام فى السيارة كما فى الجب وما فيهما وفى بعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذى هو تنائى يوسف عنهم بحيث لا يدرى أثره ولا يروى خبره وقرىء تلتقطه على التأنيث لأن بعض السيارة سيارة كقوله [كما شرقت صدر القناة من الدم] ومنه قطعت بعض أصابعه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بمشورتى لم يبت القول عليهم بل إنما عرض

٢٥٦

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣)

____________________________________

عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وتوجيها لهم إلى رأيه وحذرا من نسبتهم له إلى التحكم والافتيات أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبيه لا محالة ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا ذلك منه أولا أجيب بطريق الاستئناف على وجه أدرج فى تضاعيفه قبولهم له بما سيجىء من قوله وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب فقيل (قالُوا يا أَبانا) خاطبوه بذلك تحريكا لسلسلة النسب بينه وبينهم وتذكيرا لرابطة الأخوة بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام ليتسببوا بذلك إلى استنزاله عليه‌السلام عن رأيه فى حفظه منهم لما أحس منهم بأمارات الحسد والبغى فكأنهم قالوا (ما لَكَ) أى أى شىء لك* (لا تَأْمَنَّا) أى لا تجعلنا أمناء (عَلى يُوسُفَ) مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) * مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بالنصيحة والمقة قط والقراءة المشهورة بالإدغام والإشمام وعن نافع رضى الله عنه ترك الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ) أى يتسع فى أكل الفواكه ونحوهما فإن الرتع هو الاتساع فى الملاذ (وَيَلْعَبْ) بالاستباق* والتناضل ونظائرهما مما يعد من باب التأهب للغزو وإنما عبروا عن ذلك باللعب لكونه على هيئته تحقيقا لما راموه من استصحاب يوسف عليه‌السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه‌السلام وقرىء نرتع ونلعب بالنون وقرأ ابن كثير نرتع من ارتعى ونافع بالكسر والياء فيه وفى يلعب وقرىء يرتع من أرتع ماشيته ويرتع بكسر العين ويلعب بالرفع على الابتداء (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه أكدوا* مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم له على الخبر احتيالا فى تحصيل مقصدهم (قالَ) استئناف مبنى على سؤال من يقول فماذا قال يعقوب عليه‌السلام فقيل قال (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) اللام للابتداء كما فى قوله عزوجل (إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ (أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدة* مفارقته على وقلة صبرى عنه (وَ) مع ذلك (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لأن الأرض كانت مذأبة والحزن* ألم القلب بفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف والثانى إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب وقيل رأى فى المنام أنه قد شد عليه عليه‌السلام ذئب وكان يحذره فقال ذلك وقد لقنهم العلة [إن البلاء موكل بالمنطق] وقرأ ابن كثير ونافع فى رراية البزى بالهمزة على الأصل وأبو عمرو به وقفا وعاصم وابن عامر وحمزة درجا وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هاجت من كل جانب وقال الأصمعى الأمر بالعكس وهو أظهر لفظا ومعنى (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.

٢٥٧

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

____________________________________

 (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أى والحال أنا جماعة كثيرة جديرة بأن يعصب بنا الأمور العظام* وتكفى الخطوب بآرائنا وتدبيراتنا واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم وقوله (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب مجزىء عن الجزاء أى لهالكون ضعفا وخورا وعجزا أو مستحقون للهلاك إذ لا غناء عندنا ولا جدوى فى حياتنا أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار ويقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حيث أكل الذئب بعضهم وهم حضور وقيل إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شىء عندنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف يعقوب عليه‌السلام من أكل الذئب لأنه السبب القوى فى المنع دون الحزن لقصر مدته بناء على أنهم يأتون به عن قريب (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) أى* أزمعوا (أَنْ يَجْعَلُوهُ) مفعول لأجمعوا يقال أجمع الأمر ومنه فأجمعوا أمركم ولا يستعمل ذلك إلا فى* الأفعال التى قويت الدواعى إلى فعلها (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) قيل هى بئر بأرض الأردن وقيل بين مصر ومدين وقيل على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه‌السلام بكنعان التى هى من نواحى الأردن كما أن مدين كذلك وأما ما يقال من أنها بئر بيت المقدس فيرده التعليل بالتقاط السيارة ومجيئهم أباهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه‌السلام وبين بيت المقدس مراحل وجواب لما محذوف إيذانا بظهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا به من الأذية ما فعلوا. يروى أنهم لما برزوا إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا أما عاهدتمونى أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر فتعلق بثيابهم فنزعوها من يديه فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه لما عزموا عليه من تلطيخه بالدم احتيالا لأبيه فقال يا إخوتاه ردوا على قميصى أنوارى به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك فدلوه فيها فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان فى البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكى فنادوه وظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهوذا وكان يأتيه بالطعام كل يوم ويروى أن إبراهيم عليه‌السلام حين ألقى فى النار وجرد عن ثيابه أتاه جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب فى تميمة وعلقها فى عنق يوسف فجاءه جبريل عليه* السلام فأخرجه من التميمة فألبسه إياه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) عند ذلك تبشيرا له بما يئول إليه أمره وإزالة لوحشته وإيناسا له قيل كان ذلك قبل إدراكه كما أوحى إلى يحيى وعيسى وقيل كان إذ ذاك مدركا قال* الحسن رضى الله عنه كان له سبع عشرة سنة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أى لتتخلصن مما أنت فيه من* والحال وضيق المجال ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنك يوسف لتباين حاليك

٢٥٨

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧)

____________________________________

حالك هذا وحالك يومئذ لعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم وقيل لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل فى التسلية روى أنهم حين دخلوا عليه ممتازين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال إنه ليخبرنى هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقيتموه فى غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحى وأزلنا عن قلبه الوحشة التى أورثوه وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مرهق ومستوحش لا أنيس له وقرىء لننبئنهم بالنون على أنه وعيد لهم فقوله تعالى (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) متعلق ب (أَوْحَيْنا) لا غير (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) آخر النهار وقرىء عشيا وهو تصغير عشى وعشى بالضم والقصر جمع أعشى أى عشوا من البكاء (يَبْكُونَ) متباكين روى أنه لما سمع يعقوب عليه‌السلام بكاءهم فزع وقال مالكم يا بنى وأين يوسف (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أى متسابقين فى العدو والرمى وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالانتضال والتناضل ونظائرهما (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أى ما نتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) عقيب ذلك* من غير مضى زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا فى مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعهد تركه عليه‌السلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذا لم يبرحوه ولم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا إنا لم نقصر فى محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه فى مأمننا ومجمعنا بمرأى منا لأن ميدان السباق لا يكون عادة إلا بحيث يتراءى غايتاه وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مساقة قصيرة فكان ما كان (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدق لنا فى هذه المقالة الدالة على عدم تقصير نافى أمره (وَلَوْ كُنَّا) عندك* وفى اعتقادك (صادِقِينَ) موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيىء الظن بنا* غير واثق بقولنا وكلمة لو فى أمثال هذه المواقع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفى على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وقد مر تفصيله فى سورة البقرة عند قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ).

٢٥٩

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩)

____________________________________

 (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) محله النصب على الظرفية من قوله (بِدَمٍ) أى جاءوا فوق قميصه بدم كما تقول جاء على* جماله بأحمال أو على الحالية منه والخلاف فى تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفا (كَذِبٍ) مصدر وصف به الدم مبالغة أو مصدر بمعنى المفعول أى مكذوب فيه أو بمعنى ذى كذب أى ملابس لكذب وقرىء كذبا على أنه حال من الضمير أى جاءوا كاذبين أو مفعول له وقرأت عائشة رضى الله تعالى عنها بغير المعجمة أى كدر وقيل طرى قال ابن جنى أصله من الكذب وهو الفوف البياض الذى يخرج على أظفار الأحداث كأنه دم قد أثر فى قميصه. روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها وزل عنهم أن يمزقوه فلما سمع يعقوب بخبر يوسف عليهما‌السلام صاح بأعلى صوته وقال أين القميص فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ولم يمزق عليه قميصه وقيل كان فى قميص يوسف عليه‌السلام ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على كذبهم* وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ولم يمزق عليه قميصه وقيل كان فى قميص يوسف عليه‌السلام ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على كذبهم* والقاه على وجهه فارتد بصيرا ودليلا على براءة يوسف عليه‌السلام حين قد من دبر (قالَ) استئناف* مبنى على سؤال فكأنه قيل ما قال يعقوب هل صدقهم فيما قالوا أم لا فقيل قال لم يكن ذلك (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) أى زينت وسهلت قاله ابن عباس رضى الله عنهما والتسويل تقدير شىء فى النفس مع الطمع فى إتمامه قال الأزهرى كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أمنيته التى يطلبها فتزين لطالبها* الباطل وغيره وأصله مهموز وقيل من السول وهو الاسترخاء (أَمْراً) من الأمور منكرا لا يوصف* ولا يعرف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى فأمرى صبر جميل أو فصبر جميل أجمل أو أمثل وفى الحديث الصبر الجميل الذى لا شكوى فيه أى إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه‌السلام إنما أشكوبثى وحزنى إلى الله وقيل سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل ما هذا قال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله* عزوجل إليه يا يعقوب أتشكونى قال يا رب خطيئة فاغفرها لى وقرأ أبى فصبرا جميلا (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) * أى المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه‌السلام للاستعانة المستمرة (عَلى ما تَصِفُونَ) على إظهار حال ما تصفون وبيان كونه كذبا وإظهار سلامته فإنه علم فى الكذب قال سبحانه سبحان (رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) وهو الأليق بما سيجىء من قوله تعالى (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه يأباه تكذيبه عليه‌السلام لهم فى ذلك ولا تساعده الصيغة فإنها قد غلبت فى وصف الشىء بما ليس فيه كما أشير إليه (وَجاءَتْ) شروع فى بيان

٢٦٠