تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤)

____________________________________

نلاقى هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أى مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادى عندها أى أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أى أصحابها* فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه‌السلام وقيل من صنعاء (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد فى محل القسم (قالَ) أى يعقوب عليه‌السلام وهو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل فماذا كان عند قول المتوقف لإخوته ما قال فقيل قال يعقوب عند ما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبوله ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غنى عن البيان وإنما المحتاج إليه جواب أبيهم (بَلْ سَوَّلَتْ) أى زينت وسهلت وهو إضراب لا عن صريح كلامهم* فإنهم صادقون فى ذلك بل عما يقتضيه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر عنهم ما يؤدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه قيل لم يكن الأمر كذلك بل زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) من الأمور فأتيتموه* يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى فأمرى صبر جميل أو فصبر جميل أجمل (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) بيوسف وأخيه والمتوقف بمصر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالى وحالهم (الْحَكِيمُ) الذى* لم يبتلنى إلا لحكمة بالغة (وَتَوَلَّى) أى أعرض (عَنْهُمْ) كراهة لما سمع منهم (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) الأسف أشد الحزن والحسرة أضافه إلى نفسه والألف بدل من الياء فناداه أى يا أسفى تعالى فهذا أوانك وإنما أسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الأرزاء غضا عنده وإن تقادم عهده آخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا فى إيابهما وأما يوسف فلم يكن فى شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفى الخبر لم تعط أمة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إلا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يرى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع بل قال ما قال والتجانس بين لفظى الأسف ويوسف مما يزيد النظم الكريم بهجة كما فى قوله عزوجل (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) وقوله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) وقوله (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) ونظائرها (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) الموجب للبكاء فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته* إلى بياض كدر قيل قد عمى بصره وقيل كان يدرك إدراكا ضيعفا. روى أنه ما جفت عينا يعقوب من يوم فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله عزوجل من يعقوب عليه‌السلام وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل عليه‌السلام ما بلغ من وجد يعقوب عليه‌السلام

٣٠١

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧)

____________________________________

على يوسف قال وجد سبعين ثكلى قال فما كان له من الأجر قال أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند النوائب فإن الكف عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده إبراهيم وقال القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون وإنما الذى لا يجوز ما يفعله الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكى وقد نهيتنا عن البكاء فقال ما نهيتكم عن البكاء وإنما* نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح (فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له فى قلبه لا يظهره فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى (وَهُوَ مَكْظُومٌ) من كظم السقاء إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) من كظم الغيظ إذا اجترعه وأصله كظم البعير جرته إذاردها فى جوفه (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) أى لا تفتأ ولا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) تفجعا عليه فحذف حرف النفى كما فى قوله [فقلت يمين الله أبرح قاعدا] لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات* يكون على النفى البتة (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك وقيل الحرض من أذا به هم أو مرض وهو فى الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنف وقد قرىء به وبضمتين كجنب وغرب (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أى الميتين (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) البث أصعب الهم الذى لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس أى ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء* فقال لهم إنى لا أشكو ما بى إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتى وإنما أشكو همى (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) * تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا لدى بابه فى دفعه وقرى بفتحتين وضمتين (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمنى ويلطف بى ولا يخيب رجائى أو أعلم وحيا أو إلهاما من جهته مالا تعلمون من حياة يوسف. قيل رأى ملك الموت فى المنام فسأله عنه فقال هو حى وقيل علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخر له أبواه وإخوته سجدا (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) أى تعرفوا وهو تفعل من الحس* وقرىء بالجيم من الجس وهو الطلب أى تطلبوا (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أى من خبرهما ولم يذكر الثالث* لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه وقرىء بضم الراءأى من رحمته التى يحيى بها العباد وهذا إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم فى قوله وأعلم من الله ما لا

٣٠٢

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (٨٩)

____________________________________

تعلمون ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) * لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط فى حال من الأحوال (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أى على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم وإنما لم يذكر ذلك إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أى الملك القادر المتمنع* (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الهزال من شدة الجوع (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة* عنها واحتقارا لها من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجى السحاب قيل كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا وقيل الصنوبر وحبة الخضراء وقيل سويق المقل والأقط وقيل دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدموا ذلك ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة المرحمة ثم قالوا (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أى أتممه لنا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) برد أخينا إلينا* قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسب بحالهم نظر إلى أمر أبيهم أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلا وإنما سموه تصدقا تواضعا أو أرادوا التصدق فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حرمة الصدقة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لم يبدءوا بما أمروا به استجلابا للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدموا من رقة الحال رقة القلب والحنو على أن ما ساقوه كلام ذو وجهين فإن قولهم وتصدق علينا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه‌السلام حمله على المحمل الأول ولذلك (قالَ) مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من طلب رد أخيهم (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) وكان الظاهر أن* يتعرض لما فعلوا بأخيه فقط وانما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما فى وقوع الفعل عليهما فإن المراد بذلك إفرادهم له عن يوسف وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة أى هل تبتم عن ذلك بعد علمكم بقبحه فهو سؤال عن الملزوم والمراد لازمه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) بقبحه فلذلك أقدمتم على* ذلك أو جاهلون عاقبته وإنما قاله نصحا لهم وتحريضا على التوبة وشفقة عليهم لما رأى عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبا ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه‌السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم على ما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض فى طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه‌السلام بطريق الوحى أو الإلهام على وصية أبيه وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال وقيل أعطوه كتاب يعقوب عليه‌السلام وقد كتب فيه كتاب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدى فشدت يده ورجلا فرمى به فى النار فنجاه الله تعالى وجعلت النار له بردا وسلاما وأما أبى فوضع السكين

٣٠٣

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

____________________________________

على قفاه ليقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لى ابن وكان أحب أولادى إلى فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخا بالدم فقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناى من بكائى عليه ثم كان لى ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته على وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام فلما قرأه لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ما قال وقيل لما قرأه بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ولذلك أكدوه بإن واللام قالوه استغرابا وتعجبا وقرىء إنك بالإيجاب قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به وقيل تبسم فعرفوه بثناياه وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارة ويعقوب مثلها وقرىء أئنك أو أنت يوسف على* معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالة الثانى عليه وفيه زيادة استغراب (قالَ أَنَا يُوسُفُ) * جوابا عن مسئلتهم وقد زاد عليه قوله (وَهذا أَخِي) أى من أبوى مبالغة فى تعريف نفسه وتفخيما لشأن* أخيه وتكملة لما أفاده قوله (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) حسبما يفيده قوله (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فكأنه قال هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأما يوسف وهذا أخى قد من الله علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخى لا أخوكم فلا وجه لطلبكم ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلى* بقوله (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) أى يفعل التقوى فى جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه* (وَيَصْبِرْ) على المحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصى التى تستلذها النفس (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أى أجرهم وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة (وَإِنْ كُنَّا) وإن الشأن كنا (لَخاطِئِينَ) لمتعمدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار ولذلك (قالَ لا تَثْرِيبَ) أى لا عتب ولا تأنيب (عَلَيْكُمُ) وهو تفعيل من الثرب وهو الشحم الغاشى للكرش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالة الجلد والتقريع إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان* ذلك غاية الهزال فضرب مثلا للتقريع الذى يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا (الْيَوْمَ) منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبرا للا أى لا أثر بكم أو لا تثريب مستقر عليكم اليوم الذى هو مظنة له فما ظنكم بسائر الأيام

٣٠٤

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦)

____________________________________

أو بقوله (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب بالقبول ومن كرمه عليه الصلاة والسلام أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحيى منك بما فرط منا فيك فقال عليه الصلاة والسلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلى بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت فى العيون حيث علم الناس إنكم إخوتى وأنى من حفدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) قيل هو الذى كان عليه حينئذ وقيل هو القميص المتوارث الذى كان فى التعويذ أمره جبريل بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيح ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلا عوفى (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) يكن بصيرا أو يأت إلى بصيرا وينصره* قوله (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أى بأبى وغيره ممن ينتظمه لفظ الأهل جميعا من النساء والذرارى.* قبل إنما حمل القميص يهوذا وقال أنا أحزنته بحمل القميص ملطخا بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما انفصل العير (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب عليه الصلاة والسلام لمن عنده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أوجده* الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخا حين أقبل به يهوذا (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أى تنسبونى إلى الفند وهو الخرف وإنكار العقل وفساد الرأى من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة إذ لم تكن فى شبيبتها ذات رأى فتفند فى كبرها وجواب لو لا محذوف أى لصدقتمونى (قالُوا) أى الحاضرون عنده (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفى ذهابك عن الصواب قدما فى إفراط محبنك ليوسف* ولهجك بذكره ورجائك للقائه وكان عندهم أنه قد مات (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) وهو يهوذا (أَلْقاهُ) أى ألقى البشير القميص (عَلى وَجْهِهِ) أى وجهه يعقوب أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه (فَارْتَدَّ) عاد (بَصِيراً) * لما انتعش فيه من القوة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يعنى قوله (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) فالخطاب لمن كان عنده بكنعان* أو قوله (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) فالخطاب لبنيه وهو الأنسب بقوله (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) *

٣٠٥

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٩٩)

____________________________________

فإن مدار النهى المذكور إنما هو العلم الذى أوتى يعقوب من جهة الله سبحانه وعلى هذا يجوز أن يكون هذا مقول القول أى ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام. روى أنه سأل البشير كيف يوسف فقال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أى دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ومن حق من اعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليه الصلاة والسلام ولذلك اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك فى الاستغفار (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذا مشعر بعفوه قيل أخر الاستغفار إلى وقت السحر وقيل إلى ليلة الجمعة ليتحرى به وقت الإجابة وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة ويعضده أنه روى عنه أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال إن الله قد أجاب دعوتك فى ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الاستنباء وقيل المراد الاستمرار على الدعاء فقد روى أنه كان يستغفر كل ليلة جمعة فى نيف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة فى وقت السحر فلما فرغ رفع يديه فقال اللهم اغفر لى جزعى على يوسف وقلة صبرى عنه واغفر لولدى ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه إن الله قد غفر لك ولهم أجمعين (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) روى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتى راحلة ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسف والملك فى أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو يمشى متوكئا على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أَهذا فرعون مصر قال لا بل ولدك فلما لقيه قال عليه الصلاة والسلام السلام عليك يا مذهب الأحزان وقيل قال له يوسف يا أبت بكيت على حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا فقال بلى ولكنى خشيت أن يسلب دينك فيحال بينى وبينك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وكانوا حين خرجوا مع موسى ستمائة الف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف* ومائتى ألف (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أى أباه وخالته وتنزيلها منزلة الأم كتنزيل العم منزلة الأب فى قوله عزوجل (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوجها بعد أمه وقال

٣٠٦

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

____________________________________

الحسن وابن إسحق كانت أمه فى الحياة فلا حاجة إلى التأويل ومعنى آوى إليه ضمهما إليه واعتناقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضرب فى الملتقى مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من الشدائد والمكاره قاطبة والمشيئة متعلقة بالدخول على الأمن (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) عند نزولهم بمصر (عَلَى الْعَرْشِ) على السرير تكرمة لهما فوق ما فعله لإخوته (وَخَرُّوا لَهُ) أى أبواه وإخوته (سُجَّداً) * تحية له فإنه كان السجود عندهم جاريا مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية فى التعظيم والتوقير وقيل ما كان ذلك إلا انحناء دون تعفير الجباه ويأباه الخرور وقيل خروا لأجله سجدا لله شكرا ويرده قوله تعالى (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) التى رأيتها وقصصتها* عليك (مِنْ قَبْلُ) فى زمن الصبا (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) صدقا واقعا بعينه والاعتذار بجعل يوسف بمنزلة القبلة* وجعل اللام كما فى قوله [أليس أول من صلى لقبلتكم] تعسف لا يخفى وتأخيره عن الرفع على العرش ليس بنص فى ذلك لأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعى فلعل تأخيره عنه ليصل به ذكر كونه تعبيرا لرؤياه وما يتصل به من قوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) المشهور استعمال الإحسان بإلى وقد* يستعمل بالباء أيضا كما فى قوله عز اسمه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وقيل هذا بتضمين لطف وهو الإحسان الخفى كما يؤذن به قوله تعالى (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) وفيه فائدة لا تخفى أى لطف بى محسنا إلى غير هذا الإحسان (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) بعد ما ابتليت به ولم يصرح بقصة الجب حذارا من تئريب إخوته لأن الظاهر* حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا واكتفاء بما يتضمنه قوله تعالى (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) * أى البادية (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أى أفسد بيننا بالإغواء وأصله من نخس الرائض* الدابة وحملها على الجرى يقال نزغه ونسغه إذا نخسه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام فى الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أى لطيف التدبير لأجله رفيق حتى يجىء على وجه الحكمة* والصواب ما من صعب إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهل (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجوه المصالح (الْحَكِيمُ) الذى* يفعل كل شىء على قضية الحكمة روى أن يوسف أخذ بيد يعقوب عليهما الصلاة والسلام فطاف به فى خزائنه فأدخله فى خزائن الورق والذهب وخزائن الحلى وخزائن الثياب وخزائن السلاح وغير ذلك فلما أدخله خزائن القراطيس قال يا بنى ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى على ثمانى مراحل قال أمرنى جبريل قال أو ما تسأله قال أنت أبسط إليه منى فسأله قال جبريل الله تعالى أمرنى بذلك لقولك أخاف أن يأكله الذئب قال فهلا خفتنى وروى أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثمة ثم عاد إلى مصر وعاش بعد

٣٠٧

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢)

____________________________________

أبيه ثلاثا وعشرين سنة فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له تاقت نفسه إلى الملك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أى بعضا منه عظيما وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أى بعضا من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيب ظاهر وأما إن أريد به تعليم تعبير الرؤيا كما هو الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك عليه فى الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق فى كونه نعمة من العليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة فى نفسه ولا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع ههنا فمجرد التأخير فى الذكر والعطف بحرف الواو لا يستدعى ذلك الترتيب فى* الوجود (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما وخالقهما نصب على أنه صفة للمنادى أو منادى آخر* وصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة فى ترتيب مبادى ما يعقبه من قوله (أَنْتَ وَلِيِّي) مالك أمورى* (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أو الذى يتولانى بالنعمة فيهما وإذ قد أتممت على نعمة الدنيا (تَوَفَّنِي) اقبضنى* (مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائى أو بعامة الصالحين فى الرتبة والكرامة فإنما تتم النعمة بذلك قيل لما دعا توفاه الله عزوجل طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر فى دفنه وتشاحوا فى ذلك حتى هموا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه فى النيل ليمر عليه ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا واحدا فى التبرك به وولد له أفراييم وميشا ولإفراييم نون ولنون يوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الدلالة على بعد منزلته أو كونه بالانقضاء فى حكم البعيد* والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الذى لا يحوم حوله أحد وقوله (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر بعد خبر أو حال من الضمير فى الخبر ويجوز أن يكون ذلك اسما موصولا ومن أنباء الغيب* صلته ويكون الخبر نوحيه إليك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) يريد إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) وهو جعلهم إياه فى غيابة الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) به ويبغون له الغوائل حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها وتطلع على سرائرهم طرا وتحيط بما لديهم خبرا وليس المراد مجرد نفى حضوره عليه الصلاة والسلام فى مشهد إجماعهم ومكرهم فقط بل فى سائر المشاهد أيضا وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة وأخفى أحوالها كما ينبىء عنه قوله (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) والخطاب وإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن

٣٠٨

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

____________________________________

المراد إلزام المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدم سماعك ذلك من الغير وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو فتبلغه إليهم وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون فى ذلك فيدفع شكهم وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه يعنى أن مثل هذا التحقيق بلا وحى لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحى ومثله قوله تعالى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وقوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يريد به العموم أو أهل مكة (وَلَوْ حَرَصْتَ) أى على إيمانهم وبالغت فى إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك (بِمُؤْمِنِينَ) لتصميمهم على الكفر* وإصرارهم على العناد روى أن اليهود وقريشا لما سألوا عن قصة يوسف وعدوا أن يسلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراة فلم يسلموا حزن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له ذلك (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أى على الأنباء أو القرآن (مِنْ أَجْرٍ) من جعل كما يفعله حملة الأخبار (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة من الله تعالى (لِلْعالَمِينَ) كافة لا أن ذلك* مختص بهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أى كأى عدد شئت من الآيات والعلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وحكمته غير هذه الآية التى جئت بها (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى كائنة فيهما من* الأجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما فى الأرض من العجائب الفائتة للحصر (يَمُرُّونَ عَلَيْها) أى يشاهدونها ولا يعبئون بها وقرىء برفع الأرض على الابتداء* ويمرون خبره وقرىء بنصبها على معنى ويطئون الأرض يمرون عليها وفى مصحف عبد الله والأرض يمشون عليها والمراد ما يرون فيها من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من الآيات والعبر (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) غير* ناظرين إليها ولا متفكرين فيها (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) فى إقرارهم بوجوده وخالقيته (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا أو بقولهم باتخاذه تعالى ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا أو بالنور والظلمة وهى جملة حالية أى لا يؤمن أكثرهم إلا فى حال شركهم قيل نزلت الآية فى أهل مكة وقيل فى المنافقين وقيل فى أهل الكتاب (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أى عقوبة

٣٠٩

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠)

____________________________________

تغشاهم وتشملهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة من غير سابقة علامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها غير مستعدين لها (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) وهى الدعوة إلى التوحيد والإيمان والإخلاص وفسرها بقوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) بيان وحجة واضحة غير عمياء أو حال من الضمير فى سبيلى والعامل فيها معنى الإشارة* (أَنَا) تأكيد للمستكن فى أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه أو مبتدأ خبره (عَلى بَصِيرَةٍ (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) رد لقولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما أوحينا إليك وقرىء بالياء (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنهم أعلم وأحلم وأهل البوادى فيهم الجهل والجفاء والقسوة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أى* الساعة أو الحياة الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة وقرىء بالياء على أنه غير داخل تحت قل (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) غاية لمحذوف دل عليه السياق أى لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم فى الدنيا أو عن إيمانهم لانهما كهم فى الكفر وتماديهم فى الطغيان من غير وازع* (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى إن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت* وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم فى الدنيا (جاءَهُمْ نَصْرُنا) فجأة وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطر بالبال من شبه الوسوسة وحديث النفس وإنما عبر عنه بالظن تهويلا للخطب وأما الظن الذى هو ترجح أحدا الجانبين على الآخر فلا يتصور ذلك من آحاد الأمة فما ظنك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتهم فى معرفة شئون الله سبحانه منزلتهم وقيل الضميران للمرسل إليهم وقيل الأول لهم والثانى للرسل وقرىء بالتشديد أى ظن الرسل أن القوم كذبوهم فيما أوعدوهم وقرىء بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضميرين للرسل أى ظنوا أنهم كذبوا عند قومهم فيما حدثوا به لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا

٣١٠

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

____________________________________

أو على أن الأول لقومهم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) هم الرسل والمؤمنون بهم وقرىء فننجى على لفظ المستقبل* بالتخفيف والتشديد وقرىء فنجا (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا نزل بهم وفيه بيان لمن تعلق بهم* المشيئة (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أى قصص الأنبياء وأممهم وينصره قراءة من قرا بكسر القاف أو قصص يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوى العقول المبرأة عن شوائب احكام الحس (ما كانَ) أى* القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة (حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من* الكتب السماوية وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى ولكن هو تصديق الذى بين يديه (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاج إليه فى الدين إذ ما من أمر دينى إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو* بوسط (وَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةً) ينال بها خير الدارين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى يصدقونه لأنهم* المنتفعون به وأما من عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات المؤت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما.

(تم الجزاء الرابع ويليه الجزاء الخامس وأوله سورة الرعد)

٣١١

فهرست الجزء الرابع من تفسير العلامة أبى السعود

٨ ـ سورة الأنفال

قوله تعالى : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون..................... ١٥

(الجزء العاشر)

قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى الخ ٢٢

٣٩ ٩ ـ سورة التوبة

قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل الخ ٦٢

قوله تعالى : إنما الصدقات الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل       ٧٦

(الجزء الحادى عشر)

قوله تعالى : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم غنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.. ٩٣

قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة الخ...... ١١١

١١٥ ١٠ ـ سورة يونس عليه‌السلام

قوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة......................................... ١٣٨

قوله تعالى : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت   ١٦٤

١٨٢ ١١ ـ سورة هود عليه‌السلام

(الجزء الثانى عشر)

قوله تعالى : وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها.............................. ١٨٦

قوله تعالى : وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربى لغفور رحيم............. ٢٠٩

قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره........ ٢٣١

٢٥٠ ١٢ ـ سورة يوسف عليه‌السلام

قوله تعالى : لقد كان فى يوسف وإخوته آيات للسائلين............................ ٢٥٥

(الجزء الثالث عشر)

قوله تعالى : وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى............... ٢٨٥

قوله تعالى : رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض ٣٠٨

(تم الفرست)

٣١٢