تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦)

____________________________________

أنهم كانوا على خيل باق قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة عمائم صفر وقال قتادة والضحاك كانوا قد أعلموا بالعهن فى نواصى الخيل وأذنابها روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه تسوموا فإن الملائكة قد تسومت وقرىء مسومين على البناء للمفعول ومعناه معلمين من جهته سبحانه وقيل مرسلين من التسويم بمعنى الإسامة (وَما جَعَلَهُ اللهُ) كلام مبتدأ غير داخل فى حيز القول مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وأن حقيقة النصر مختص به عزوجل ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته معطوف على فعل مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإن الإخبار بوقوع النصر على الإطلاق وتذكير وقته وحكاية الوعد بوقوعه على وجه مخصوص هو الإمداد بالملائكة مرة بعد أخرى وتعيين وقته فيما مضى يقضى بوقوعه حينئذ قضاء قطعيا لكن لم يصرح به تعويلا على تعاضد الدلائل وتآخذ الإمارات والمخايل وإيذانا بكمال الغنى عنه بل احترازا عن شائبة التكرير أو عن إيهام احتمال الخلف فى الوعد المحتوم كأنه قيل عقيب قوله تعالى (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) فأمدكم بهم وما جعله الله الخ والجعل متعد إلى واحد هو الضمير العائد إلى مصدر ذلك الفعل المقدر وأما عوده إلى المصدر المذكور أعنى قوله تعالى (أَنْ يُمِدَّكُمْ) أو إلى المصدر المدلول عليه بقوله تعالى (يُمْدِدْكُمْ) كما قيل فغير حقيق بجزالة التنزيل لأن الهيئة البسيطة متقدمة على المركبة فبيان العلة الغائبة لوجود الإمداد كما هو المراد بالنظم الكريم حقه أن يكون بعد بيان وجوده فى نفسه ولا ريب فى أن المصدر بن المذكورين غير معتبرين من حيث الوجود والوقوع كمصدر الفعل المقدر حتى يتصدى لبيان أحكام وجودهما بل الأول معتبر من حيث الكفاية والثانى من حيث الوعد على أن الأول هو الإمداد بثلاثة آلاف والواقع هو الإمداد بخمسة آلاف وقوله تعالى (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) استثناء مفرغ من أعم العلل وتلوين الخطاب لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البشارة وتسكين القلوب بتوفيق الأسباب الظاهرة وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنى عنه بماله من التأييد الروحانى أى وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشىء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أى بالإمداد وتسكن إليه كما كانت السكينة لبنى إسرائيل كذلك فكلاهما علة غائية للجعل وقد نصب الأول لاجتماع شرائطه من اتحاد الفاعل والزمان وكونه مصدرا مسوقا للتعليل وبقى الثانى على حاله لفقدانها وقيل للإشارة أيضا إلى أصالته فى العلية وأهميته فى نفسه كما فى قوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) وفى قصر الإمداد عليهما إشعار بأن الملائكة عليهم‌السلام لم يباشروا يومئذ القتال وإنما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين بتكثير السواد ونحوه كما هو رأى بعض السلف رضى الله عنه وقيل الجعل متعد إلى

٨١

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨)

____________________________________

اثنين وقوله عزوجل (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) استثناء من أعم المفاعيل أى وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم فاللام فى قوله تعالى (وَلِتَطْمَئِنَ) متعلقة بمحذوف تقديره ولتطمئن قلوبكم به فعل ذلك (وَمَا النَّصْرُ) أى حقيقة النصر على الإطلاق فيندرج فى حكمه النصر المعهود إندراجا أوليا (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى إلا كائن من عنده تعالى من غير أن يكون فيه شركة من جهة الأسباب والعدد وإنما هى مظاهر له بطريق جريان سنته تعالى أو وما النصر المعهود إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكة فإنهم بمعزل من التأثير وإنما قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب (الْعَزِيزِ) أى الذى لا يغالب فى حكمه وأقضيته وإجراء هذا الوصف عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاص النصر به تعالى كما أن وصفه بقوله (الْحَكِيمِ) أى الذى يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة للإيذان بعلة جعل النصر بإنزال الملائكة فإن ذلك من مقتضيات الحكم البالغة (لِيَقْطَعَ) متعلق بقوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ) وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح ذلك فى تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه أو بما تعلق به الخبر فى قوله عز وعلا (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود وقد أشير إلى أن المعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصورى لا ما فى ضمنه من النصر المعنوى الذى هو ملاك الأمر وأما تعلقه بنفس النصر كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبى هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلل معينة على الحصول من جهته تعالى وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر أو النصر المعهود على ذلك والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصر الظاهر عند إمداد الملائكة إلا ثابت من عند الله ليقطع أى يهلك وينقص (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى طائفة منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديدهم سبعون وأسر سبعون (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أى يخزيهم ويغيطهم بالهزيمة فإن الكبت شدة غيظ أو وهن يقع فى القلب من كبته بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة وقيل الكبت الإصابة بمكروه وقيل هو الصرع للوجه واليدين فالتاء حينئذ غير مبدلة وأو للتنويع (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أى فينهزموا منقطعى الآمال غير فائزين من مبتغاهم بشىء كما فى قوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصورين إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره بالطريق الأولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولسائر مباشرى القتال مدخل فى الجملة (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على بكبتهم

٨٢

والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق هو الله عزوجل نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروى المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروى متحقق فى الفريقين الأولين أيضا ونظم التوبة والتعذيب المذكور فى سلك العلة الغائبة للنصر المترتبة عليه فى الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشىء من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر وأن تعذيبهم بالعذاب المذكور مترتب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور هذا وقيل إن عتبة بن أبى وقاص شج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وكسر رباعيته فجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نببهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية كأنه نوع معاتبة على إنكاره عليه‌السلام لفلاحهم وقيل أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقوله تعالى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) حينئذ معطوف على (الْأَمْرِ) أو على (شَيْءٌ) بإضمار أن أى ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شىء أو ليس لك من أمرهم شىء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم ونقل عن الفراء وابن الأنبارى أن أو بمعنى إلا أن والمعنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح به أو يعذبهم فتتشفى منهم وأيا ما كان فهو كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد إثر بيان بعض ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب الظاهر لأن كلا منهما مبنى على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومنبىء عن سلبه عمن سواه وأما تعلق كل القصة بغزوة أحد على أن قوله تعالى (إِذْ تَقُولُ) بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) وأن ما حكى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقع يوم أحد وأن الإمداد الموعود كان مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحقق الموعود كما قيل فلا يساعده النظم الكريم أما أولا فلأن المشروط بالصبر والتقوى إنما هو الإمداد بخمسة آلاف لا بثلاثة آلاف مع أنه لم يقع الإمداد يومئذ ولا بملك واحد وأما ثانيا فلانه كان ينبغى حينئذ أن ينعى عليهم جناياتهم وحرمانهم بسببها تلك النعمة الجليلة ودعوى ظهوره مع عدم دلالة السباق والسياق عليه بل مع دلالتهما على خلافه مما لا يكاد يسمع وأما ثالثا فلأنه لا سبيل إلى جعل الضمير فى قوله تعالى (وَما جَعَلَهُ اللهُ) الخ عائدا إلى الإمداد الموعود لأنه لم يتحقق فكيف يبين علته الغائية ولا إلى الوعد به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعد لبشارتكم واطمئنان قلوبكم فلم تفعلوا ما شرط عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجاز الموعود لما أن قوله تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) صريح فى أنه قد وقع الإمداد الموعود لكن أثره إنما هو مجرد البشارة والاطمئنان وقد حصلا وأما النصر الحقيقى فليس ذلك إلا من عنده تعالى وجعله استئنافا مقررا لعدم وقوع الإمداد على معنى أن النصر الموعود مخصوص به تعالى فلا ينصر من خالف أمره بترك الصبر والتقوى اعتساف بين يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله على أن قوله تعالى (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) الآية متعلق حينئذ بما تعلق به قوله تعالى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) من الثبوت والاستقرار ضرورة أن تعلقه بقوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) الآية مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقا بوقعة أحد من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فلا بد من اعتبار وجود النصر قطعا لأن تفصيل الأحكام المترتبة على وجود شىء

٨٣

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١٣١)

____________________________________

بصدد بيان انتفائه مما لم يعهد فى كلام الناس فضلا عن الكلام المجيد فالحق الذى لا محيد عنه أن قوله تعالى (إِذْ تَقُولُ) ظرف ل (نَصَرَكُمُ) وأن ما حكى فى أثنائه إلى قوله تعالى (خائِبِينَ) متعلق بيوم بدر قطعا وما بعده محتمل للوجهين المذكورين وقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) تعليل على كل حال لقوله تعالى (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) مبين لكون ذلك من جهتهم وجزاء لظلمهم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكوت كل الكائنات به عزوجل إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به سبحانه تقريرا لما سبق وتكملة له وتقديم الجار للقصر وكلمة ما شاملة للعقلاء أيضا تغليبا أى له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا لا مدخل فيه لأحد أصلا فله الأمر كله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه بعمله مشيئة كذلك وإيثار كلمة من فى الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى غضبه وبأنها من مقتضيات الذات دونه فإنه من مقتضيات سيئات العصاة وهذا صريح فى نفى وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافى له (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مع زيادة وفى تخصيص التذييل به دون قرينة من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) كلام مبتدأ مشتمل على ما هو ملاك الأمر فى كل باب لا سيما فى باب الجهاد من التقوى والطاعة وما بعدهما من الأمور المذكورة على نهج الترغيب والترهيب جىء به فى تضاعيف القصة مسارعة إلى إرشاد المخاطبين إلى ما فيه وإيذانا بكمال وجوب المحافظة عليه فيما هم فيه من الجهاد فإن الأمور المذكورة فيه مع كونها مناطا للفوز فى الدارين على الإطلاق عمدة فى أمر الجهاد عليها يدور فلك النصرة والغلبة كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لقوا ما لقوا ولعل إيراد النهى عن الربا فى أثنائها لما أن الترغيب فى الإنفاق فى السراء والضراء الذى عمدته الإنفاق فى سبيل الجهاد متضمن للترغيب فى تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها الربا فنهوا عن ذلك والمراد بأكله أخذه وإنما عبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بالأخذ ولشيوعه فى المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيع وقوله عزوجل (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ليس لتقييد النهى به بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخا لهم بذلك إذ كان الرجل يربى إلى أجل فإذا حل قال للمدين زدنى فى المال حتى أزيدك فى الأجل فيفعل وهكذا عند محل كل أجل فيستغرق بالشىء الطفيف ماله بالكلية ومحله النصب على الحالية من الربا وقرىء مضعفة (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهيتم عنه من الأمور التى من جملتها الربا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين للفلاح(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ

٨٤

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤)

____________________________________

لِلْكافِرِينَ) بالتحرز عن متابعتهم وتعاطى ما يتعاطونه كان أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى يقول هى أخوف آية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه (وَأَطِيعُوا اللهَ) فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه (وَالرَّسُولَ) الذى يبلغكم أوامره ونواهيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) راجين لرحمته. عقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا فى الطاعة وإيراد لعل فى الموضعين للإشعار بعزة منال الفلاح والرحمة قال محمد بن إسحق هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد (وَسارِعُوا) عطف على (أَطِيعُوا) وقرىء بغير واو على وجه الاستئناف أى بادروا وأقبلوا وقرىء سابقوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أى إلى ما يؤدى إليهما وقيل إلى الإسلام وقيل إلى التوبة وقيل إلى الإخلاص وقيل إلى الجهاد وقيل إلى أداء جميع الواجبات وترك جميع المنهيات فيدخل فيها ما مر من الأمور المأمور بها والمنهى عنها دخولا أوليا وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية متقدمة على التحلية ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لمغفرة أى كائنة من ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم وقوله تعالى (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أى كعرضهما صفة لجنة وتخصيص العرض بالذكر للمبالغة فى وصفها بالسعة والبسطة على طريقة التمثيل فإن العرض فى العادة أدنى من الطول وعن ابن عباس رضى الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فى حيز الجر على أنه صفة أخرى لجنة أو فى محل النصب على الحالية منها لتخصصها بالصفة أى هيئت لهم وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة الآن وأنها خارجة عن هذا العالم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) فى محل الجر على أنه نعت للمتقين مادح لهم أو بدل منه أو بيان أو فى حيز النصب أو الرفع على المدح ومفعول ينفقون محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق أو متروك بالكلية كما فى قولك يعطى ويمنع (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) فى حالتى الرخاء والشدة واليسر والعسر أو فى الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أى لا يخلون فى حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) عطف على الموصول والعدول إلى صيغة الفاعل للدلالة على الاستمرار وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد الحدوث والتجدد والكظم الحبس يقال كظم غيظه أى حبسه قال المبرد تأويله أنه كتمه على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأته وشددت عليه أى الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ)

٨٥

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥)

____________________________________

أى التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته. روى أنه ينادى مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله تعالى فلا يقوم إلا من عفا وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هؤلاء فى أمتى قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيرا فى الأمم التى مضت وفى هذين الوصفين إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره عليه‌السلام وندب له عليه‌السلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضى الله عنه حيث قال حين رآه قد مثل به لأمثلن بسبعين مكانك (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذى هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذى هو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى وقد فسره عليه‌السلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها (وَالَّذِينَ) مرفوع على الابتداء وقيل مجرور معطوف على ما قبله من صفات المتقين وقوله تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاء وحظهم أو فى من حظهم أو على نفس المتقين فيكون التفاوت أكثر وأظهر (إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أى فعلة بالغة فى القبح كالزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن أتوا ذنبا أى ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة أو الفاحشة ما يتعدى إلى الغير وظلم النفس ما ليس كذلك قيل قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله تعالى منا كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره افعل كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل إن نبهان التمار أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا فقال لها هذا التمر ليس بجيد وفى البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك وأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر له ذلك فنزلت وقيل جرى مثل هذا بين أنصارى وامرأة رجل ثقفى كان بينهما مؤاخاة فندم الأنصارى وحثا على رأسه التراب وهام على وجهه وجعل يسيح فى الجبال تائبا مستغفرا ثم أتى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وأيا ما كان فإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الزناة انتظاما أوليا (ذَكَرُوا اللهَ) تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء أو وعيده أو حكمه وعقابه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) بالتوبة والندم والفاء للدلالة على أن ذكره تعالى مستتبع للاستغفار لا محالة (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) استفهام إنكارى والمراد بالذنوب جنسها كما فى قولك فلان يلبس الثياب ويركب الخيل لا كلها حتى يخل بما هو المقصود من استحالة صدور مغفرة فرد منها عن غيره تعالى وقوله تعالى (إِلَّا اللهُ) بدل من الضمير المستكن فى يغفر أى لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأن كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء فيسارع إلى الجواب به والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة والجملة معترضة بين المعطوفين أو

٨٦

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧)

____________________________________

بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه والإشعار بالوعد بالقبول (وَلَمْ يُصِرُّوا) عطف على (فَاسْتَغْفَرُوا) وتأخيره عنه مع تقدم عدم الإصرار على الاستغفار رتبة لإظهار الاعتناء بشأن الاستغفار واستحقاقه للمسارعة إليه عقيب ذكره تعالى أو حال من فاعله أى ولم يقيموا أو غير مقيمين (عَلى ما فَعَلُوا) أى ما فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم. روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة وأنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فاعل (يُصِرُّوا) أى لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما أنه قد يعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن تقصير فى تحصيل العلم به (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين آخرا باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى (جَزاؤُهُمْ) بدل اشتمال منه وقوله تعالى (مَغْفِرَةٌ) خبر له أو جزاؤهم مبتدأ ثان ومغفرة خبر له والجملة خبر لأولئك وهذه الجملة خبر لقوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) الخ على الوجه الأول وهو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب فى سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين يكون قوله تعالى (أُولئِكَ) الخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر من أوصاف الأولين ما فيه شائبة الذنب حتى يذكر فى مطلع الجزاء الشامل لهما المغفرة وتخصيص الإشارة بالآخرين مع اشتراكهما فى حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى كائنة من جهته تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم والتشريف (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عطف على مغفرة والتنكير المشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة مما يؤيد رجحان الوجه الأول (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير فى جزاؤهم لأنه مفعول به فى المعنى لأنه فى قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات فى اللفظ وهى لأصحابها فى المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوص بالمدح محذوف أى ونعم أجر العاملين ذلك أى ما ذكر من المغفرة والجنات والتعبير عنهما بالأجر المشعر بأنهما يستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب فى الطاعات والزجر عن المعاصى والجملة تذييل مختص بالتائبين حسب اختصاص التذييل السابق بالأولين وناهيك مضمونهما دليلا على ما بين الفريقين من التفاوت النير والتباين البين شتان بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عزوجل وبين العاملين الحائزين لأجرتهم وعمالتهم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) رجوع إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح

٨٧

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩)

____________________________________

والخلو المضى والسنن الوقائع وقيل الأمم والظرف إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من سنن أى قد مضت من قبل زمانكم لو كائنة من قبلكم وقائع سنها الله تعالى فى الأمم المكذبة كما فى قوله تعالى (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا) الخ والفاء فى قوله تعالى (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) للدلالة على سببية خلوها للسير والنظر أو للأمر بهما وقيل المعنى على الشرط أى إن شككتم فسيروا الخ وكيف خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة فى محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار (هذا) إشارة إلى ما سلف من قوله تعالى (قَدْ خَلَتْ) إلى آخره (بَيانٌ لِلنَّاسِ) أى تبيين لهم على أن اللام متعلقة بالمصدر أو كائن لهم على أنها متعلقة بمحذوف وقع صفة له وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون أى هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظر وإن كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا فى عواقب من قبلهم من أهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارهم وإن لم يكن الكلام مسوقالهم (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) أى وزيادة بصيرة وموعظة لكم وإنما قيل (لِلْمُتَّقِينَ) للإيذان بعلة الحكم فإن مدار كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم ويجوز أن يراد بالمتقين الصائرين إلى التقوى. والهدى والموعظة على ظاهرهما أى هذا بيان لمآل أمر الناس وسوء مغبته وهداية لمن اتقى منهم وزجر لهم عما هم عليه من التكذيب وأن يراد به ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل ويراد بالهدى والموعظة أيضا ما يعم ابتداءهما والزيادة فيهما وإنما قدم كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على كونه هدى وموعظة للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم وأما زيادة الهدى أو أصله فأمر مترتب عليه وتخصيص البيان للناس مع شموله للمتقين أيضا لما أن المراد به مجرد البيان العارى عن الهدى والعظة والاقتصار عليهما فى جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلى ويجوز أن يكون تعريف الناس للجنس أى هذا بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة وقيل كلمة هذا إشارة إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين والمصرين وقوله تعالى (قَدْ خَلَتْ) الآية اعتراض للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين وأنت خبير بأن الاعتراض لابد أن يكون مقررا لمضمون ما وقع فى خلاله ومعاينة آثار هلاك المكذبين مما لا تعلق له بحال أحد الأصناف الثلاثة للمؤمنين وإن كان باعثا على الإيمان زاجرا عن التكذيب وقيل إشارة إلى القرآن ولا يخفى بعده (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) تشجيع للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتسلية عما أصابهم يوم أحد من القتل والقرح وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة

٨٨

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) (١٤٠

____________________________________

رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومن الأنصار سبعون رجلا رضى الله عنهم أى لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على من قتل منكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) جملة حالية من فاعل الفعلين أى والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافهم فهو تصريح بالوعد بالنصر والغلبة بعد الإشعار به فيما سبق أو وأنتم المعهودون بغاية علو الشأن لما أنكم على الحق وقتالكم لله عزوجل وقتلاكم فى الجنة وهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم فى النار وقيل وأنتم الأعلون حالا منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالنهى أو بالأعلون وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه أى إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضى العلو لا محالة أو إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلون وأيا ما كان فالمقصود تحقيق المعلق بناء على تحقق المعلق به كما فى قول الأجير إن كنت عملت لك فأعطنى أجرى ولذلك قيل معناه إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن بقيتم على الإيمان (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) القرح بالفتح والضم لغتان كالضعف والضعف وقد قرىء بهما وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها وقرىء بفتحين وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون وقيل كلا المسين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا منهم صاحب لوائهم وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) إشارة إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى الأيام المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم أحد بل هى داخلة فيها دخولا أوليا والمراد بها أوقات الظفر والغلبة (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال [فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر] والمداولة كالمعاورة يقال داولته بينهم فتداولوه أى عاورته فتعاوره واسم الإشارة مبتدأ والأيام إما صفة له أو بدل منه أو عطف بيان له فنداولها خبره أو خبر فنداولها حال من الأيام والعامل معنى اسم الإشارة أو خبر بعد خبر وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة سابقتها ولا حقتها وفيه ضرب من التسلية وقوله عزوجل (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إما من باب التمثيل أى ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم أو العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أى ليمييز الثابتين على الإيمان من غيرهم كما فى قوله تعالى (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ

٨٩

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١)

____________________________________

الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أو هو على حقيقته معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل إذ هو الذى يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث إنه موجود بالقوة وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإيذان بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى اسم الذات المستجمع للصفات لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته تعالى مغاير لمنشأ الآخر والجملة علة لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة التى نطق بها قوله تعالى (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) من المداولة المعهودة الجارية بين فريقى المؤمنين والكافرين واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين محذوفة لدلالة المذكورة عليها لكونها من مباديها كأنه قيل نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم الخ فإن ظهور أعمالهم وخروجها من القوة إلى الفعل من مبادى تمييزهم عن غيرهم ومواجب تعلق العلم الأزلى بها من تلك الحيثية وكذا الحال فى باب التمثيل فتأمل وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عدد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجرى عليه من النوائب ولا يشعر بأن الله تعالى جعل له فى ذلك من الألطاف الخفية ما لا يخطر بالبال كأنه قيل نداولها بينكم ليكون من المصالح كيت وكيت وليعلم الخ وفيه من تأكيد التسلية ومزيد التبصرة ما لا يخفى وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية فيما بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمى ببيانها ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية إليه كأنه قيل نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد وليعلم الخ فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود وقيل هى متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) جمع شهيد أى ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء أحد فمن ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بيتخذ أو بمحذوف وقع حالا من شهداء أو جمع شاهد أى ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة فمن بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل دون المستشهدين فقط وأيا ما كان ففى لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ونفى المحبة كناية عن البغض وفى إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم والمراد بهم إما غير الثابتين على الإيمان فالتقرير من حيث أن بغضه تعالى لهم من دواعى إخراج المخلصين المصطفين للشهادة من بينهم وإما الكفرة الذين أديل لهم فالتقرير من حيث إن ذلك ليس بطريق النصرة لهم فإنها مختصة بأوليائه تعالى بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين وقوله تعالى (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أى ليصفيهم ويطهرهم من

٩٠

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢)

____________________________________

الذنوب عطف على يتخذ وتكرير اللام لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن التمحيص وهذه الأمور الثلاثة علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت فى الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين فى الظالمين أو ليقترن بقوله عزوجل (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) فإن التمحيص فيه محو الآثار وإزالة الأوضار كما أن المحق عبارة عن النقص والإذهاب قال المفضل وهو أن يذهب الشىء بالكلية حتى لا يرى منه شىء ومنه قوله تعالى (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أى يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمراد بهم الذين حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر وقد محقهم الله عزوجل جميعا (أَمْ حَسِبْتُمْ) كلام مستأنف سيق لبيان ما هى الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من تمييز المخلصين وتمحيصهم واتخاذ الشهداء وإظهار عزة منالها والخطاب للذين انهزموا يوم أحد وأم منقطعة وما فيها من كلمة بل للإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادى الفوز بالمطلب الأسنى والهمزة للإنكار والاستبعاد أى بل أحسبتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) وتفوزوا بنعيمها وقوله تعالى (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر بغير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم لما بينهما من اللزوم المبنى على لزوم تحقق الأول لتحقق الثانى ضرورة استحالة تحقق شىء بدون علمه تعالى به وإيثارها على التصريح للمبالغة فى تحقيق المعنى المراد فإنها إثبات لعدم جهادهم بالبرهان وللإيذان بأن مدار ترتب الجزاء على الأعمال إنما هو علم الله تعالى بها كأنه قيل والحال أنه لم يوجد الذين جاهدوا منكم وإنما وجه النفى إلى الموصوفين مع أن المنفى هو الوصف فقط وكان يكفى أن يقال ولما يعلم الله جهادكم كناية عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغة فى بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلا وفى كلمة لما إيذان بأن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر فى تأكيد الإنكار وقرىء يعلم بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون أو على طريقة اتباع الميم لما قبلها فى الحركة لإبقاء تفخيم اسم الله تعالى ومنكم حال من الذين (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) منصوب بإضمار أن على أن الواو للجمع كما فى قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أى لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أى الجمع بينهما وإيثار اسم الفاعل على الموصول للدلالة على أن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على الفواصل وقيل مجزوم معطوف على المجزوم قبله قد حرك لالتقاء الساكنين بالفتح للخفة والاتباع كما مر ويؤيده القراءة بالكسر على ما هو الأصل فى تحريك الساكن وقرىء يعلم بالرفع على أن الواو للحال وصاحبها الموصول والمبتدأ محذوف أى وهو يعلم الصابرين كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.

٩١

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤)

____________________________________

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أى تتمنون الحرب فإنها من مبادى الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون أن يشهدوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهدا لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) متعلق بتمنون مبين لسبب إقدامهم على التمنى أى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته وقرىء تلاقوه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أى ما تتمنونه من أسباب الموت أو الموت بمشاهدة أسبابه وقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) حال من ضمير المخاطبين وفى إيثار الرؤية على الملاقاة وتقييدها بالنظر مزيد مبالغة فى مشاهدتهم له والفاء فصيحة كأنه قيل إن كنتم صادقين فى تمنيكم ذلك فقد رأيتموه معاينين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة بناء على تضمنها لغلبة الكفار لما أن مطلب من يتمناها نيل كرامة الشهداء من غير أن يخطر بباله شىء غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) مبتدأ وخبر ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا وقوله تعالى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول منبئة عن كونه فى شرف الخلو فإن خلو مشاركيه فى منصب الرسالة من شواهد خلوه عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا والقصر قلبى فإنهم لما انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا كسائر الرسل فى أنه يخلو كما خلوا ويجب التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدهم فرد عليهم بأنه ليس إلا رسولا كسائر الرسل فسيخلو كما خلوا ويجب التمسك بدينه كما يجب التمسك بدينهم وقيل هو قصر إفراد فإنهم لما استعظموا عدم بقائه عليه الصلاة والسلام لهم نزلوا منزلة المستبعدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فرد عليهم بأنه مقصور على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذ من جعل قوله تعالى (قَدْ خَلَتْ) الخ كلاما مبتدأ مسوقا لتقرير عدم براءته عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيان كونه أسوة لمن قبله من الرسل عليهم‌السلام وأيا ما كان فالكلام يخرج على خلاف مقتضى الظاهر (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إنكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم بعد وفاته مع كونه سببا فى الحقيقة لثباتهم على الدين وإيراد الموت بكلمة إن مع علمهم به البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه وهكذا الحال فى سائر الموارد فإن كلمة إن فى كلام الله تعالى لا تجرى على ظاهرها قط ضرورة علمه تعالى بالوقوع

٩٢

أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع أو أمر آخر يناسب المقام وتقديم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذى ثار منه الفتنة وعظم فيه المحنة لما أن الموت فى شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على التثبت هناك أهم ولأن الوصف الجامع بينه وبين الرسل عليهم‌السلام هو الخلو بالموت دون القتل. روى أنه لما التقى الفئتان حمل أبو دجانة فى نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قتالا شديدا وقاتل على بن أبى طالب رضى الله عنه قتالا عظيما حتى التوى سيفه وكذا سعد بن أبى وقاص فقتلوا جماعة من المشركين وهزموهم فلما نظر الرماة إليهم ورأوا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النهب ولم يلتفتوا إلى نهى أميرهم عبد الله بن جبير فلم يبق منهم عنده إلا ثمانية نفر فلما رآهم خالد بن الوليد قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم فى مائتين وخمسين فارسا من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقى من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين ففرقوهم وهزموهم وحملوا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحو ثلاثين رجلا كل منهم يجثوا بين يديه ويقول وجهى لوجهك وقاء ونفسى لنفسك فداء وعليك سلام الله غير مودع ورمى عبد الله بن قميئة الحارثى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم فذب عنه مصعب بن عمير رضى الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يزعم أنه قتل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال قتلت محمدا وصرخ صارخ قيل إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى عباد الله قال كعب بن مالك كنت أول من عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتى يا معشر المسلمين هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون وقال بعضهم ليت بن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنس بن النضر وهو عم أنس بن مالك يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حى لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا كراما على مامات عليه ثم قال اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل وتجويزهم لقتله عليه الصلاة والسلام مع قوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) لما أن كل آية ليس يسمعها كل أحد ولا كل من يسمعها يستحضرها فى كل مقام لا سيما فى مثل ذلك المقام الهائل وقد غفل عمر رضى الله عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته عليه الصلاة والسلام وقام فى الناس فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى وإن رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع والله ليرجعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات ولم يزل يكرر ذلك إلى أن قام أبو بكر رضى الله عنه فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ثم قال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ثم تلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية قال الراوى والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تلاها أبو بكر وقال عمر رضى الله عنه والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر رضى الله عنه يتلو فعقرت حتى ما تحملى رجلاى وعرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) بإدباره عما كان يقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر الجهاد وغيره

٩٣

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥)

____________________________________

وقيل بارتداده عن الإسلام وما ارتد يومئذ أحد من المسلمين إلا ما كان من المنافقين (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ) بما فعل من الانقلاب (شَيْئاً) أى شيئا من الضرر وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أى الثابتين على دين الإسلام الذى هو أجل نعمة وأعز معروف سموا بذلك لأن الثبات عليه شكر له وعرفان لحقه وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد بهم الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصار وعن على رضى الله عنه أبو بكر وأصحابه رضى الله عنهم وعنه رضى الله عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين ومن أحباء الله تعالى وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن جزائهم (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة الله عزوجل لا يكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت موارد الخوف واقتحمت مضايق كل هول مخوف وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقة بموتهم فى الوقت الذى حذروه فيه ولذلك لم يقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتال وكلمة كان ناقصة اسمها أن تموت وخبرها الظرف على أنه متعلق بمحذوف وقوله تعالى (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) استثناء مفرغ من أعم الأسباب أى وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على أن الإذن مجاز منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموت فى قبض روحها وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التى لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى أو بتنزيل إقدامها على مباديه أعنى القتال منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة فى تحقيق المرام فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها فى إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى (كِتاباً) مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أى كتبه الله كتابا (مُؤَجَّلاً) موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وقرىء موجلا بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف وبعد تحقيق أن مدار الموت والحياة محض مشيئة الله عزوجل من غير أن يكون فيه مدخل لأحد أصلا أشير إلى أن توفية ثمرات الأعمال دائرة على إرادتهم ليصرفوها عن الأغراض الدنية إلى المطالب السنية فقيل (وَمَنْ يُرِدْ) أى بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ) بنون العظمة على طريق الالتفات (مِنْها) أى من ثوابها ما نشاء أن نؤتيه إياه كما فى قوله عزوجل (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) وهو تعريض بمن شغلتهم الغنائم يومئذ وقد مر تفصيله (وَمَنْ يُرِدْ) أى بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أى من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جرى به الوعد الكريم (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القوى والقدر إلى ما خلقت هى لأجله من طاعة الله تعالى لا يلويهم

٩٤

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦)

____________________________________

عن ذلك صارف أصلا والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم وإما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفى تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يقصر عنه البيان ما لا يخفى وقرىء الأفعال الثلاثة بالياء (وَكَأَيِّنْ) كلام مبتدأ ناع عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم فى صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين فى سبيل الله مع الرسل الخالية عليهم‌السلام وكأين لفظة مركبة من كاف التشبيه وأى حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير كما حدث فى كذا وكذا والنون تنوين أثبتت فى الخط على غير قياس وفيها خمس لغات هى إحداهن والثانية كائن مثل كاعن والثالثة كأين مثل كعين والرابعة كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهى قلب ما قبلها والخامسة كأن مثل كعن وقد قرىء بكل منها ومحلها الرفع بالابتداء وقوله تعالى (مِنْ نَبِيٍّ) تمييز لها لأنها مثل كم الخبرية وقد جاء تمييزها منصوبا كما فى قوله[أطرد اليأس بالرجا فكأين أملا حم يسره بعد عسر] وقوله تعالى (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) خبر لها على أن الفعل مسند إلى الظاهر والرابط هو الضمير المجرور فى معه وقرىء قتل وقتل على صيغة المبنى للمفعول مخففة ومشددة والربى منسوب إلى الرب كالربانى وكسر الراء من تغييرات النسب وقرىء بضمها وبفتحها أيضا على الأصل وقيل هو منسوب إلى الربة وهى الجماعة أى كثير من الأنبياء قاتل معه لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه علماء أتقياء أو عابدون أو جماعات كثيرة فالظرف متعلق بقاتل أو بمحذوف وقع حالا من فاعله كما فى القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمال فيهما لتعلقه بالفعل أى قتلوا أو قتلوا كائنين معه فى القتال لا فى القتل قال سعيد بن جبير ما سمعنا بنبى قتل فى القتال وقال الحسن البصرى وجماعة من العظماء لم يقتل نبى فى حرب قط وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبى والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا منه والرابط هو الضمير المجرور الراجع إليه وهذا واضح على القراءة المشهورة بلا خلاف أى كم من نبى قاتل كائنا معه فى القتال ربيون كثير وأما على القراءتين الأخيرتين فغير ظاهر لا سيما على قراءة التشديد وقد جوزه بعضهم وأيده بأن مدار التوبيخ اتخذا لهم للإرجاف بقتله عليه‌السلام أى كم من نبى قتل كائنا معه فى القتل أو فى القتال ربيون الخ وقوله تعالى (فَما وَهَنُوا) عطف على قاتل على أن المراد به عدم الوهن المتوقع من القتال كما فى قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشىء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة صنع جديد مصحح لدخول الفاء المرتبة له على ما قبله أى فما فتروا وما انكسرت همتهم (لِما أَصابَهُمْ) فى أثناء القتال وهو علة للمنفى دون النفى نعم يشعر بعلته قوله تعالى (فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن كون ذلك فى سبيله عزوجل مما يقوى قلوبهم ويزيل وهنهم وما موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهى عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره المعترية

٩٥

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧)

____________________________________

للكل وإن جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون كما هو الأنسب بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء فهى عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانهم من الخوف والحزن وغير ذلك هذا على القراءة المشهورة وأما على القراءتين الأخيرتين فإن أسند الفعل إلى الربيين فالضميران للباقين منهم حتما وإن أسند إلى ضمير النبى كما هو الأنسب بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبى فى القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه فى القتال (وَما ضَعُفُوا) عن العدو وقيل عن الجهاد وقيل فى الدين (وَمَا اسْتَكانُوا) أى وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب أن يكون لمن يخضع له وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والارجاف بقتل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بابن أبى المنافق فى طلب الأمان من أبى سفيان (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أى على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره فى سبيل الله فينصرهم ويعظم قدرهم والمراد بالصابرين إما المعهودون والإظهار فى موضع الإضمار للثناء عليهم بحسن الصبر والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة تذييل لما قبلها (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) كلام مبين لمحاسنهم القولية معطوف على ما قبله من الجمل المبينة لمحاسنهم الفعلية وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها فى قوله تعالى (إِلَّا أَنْ قالُوا) والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء ما كان قولا لهم عند أى لقاء للعدو واقتحام مضايق الحرب وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شىء من الأشياء إلا أن قالوا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أى صغائرنا (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أى تجاوزنا الحد فى ركوب الكبائر أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برءاء من التفريط فى جنب الله تعالى هضما لها واستقصارا لهممهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أى فى مواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والخور والتزلزل فى مواقف الحرب ومراصد الدين وفيه من التعريض بالمهزمين ما لا يخفى وقرأ ابن كثير وعاصم فى رواية عنهما برفع قولهم على أنه الاسم والخبر أن وما فى حيزها أى ما كان قولهم حينئذ شيئا من الأشياء إلا هذا القول المنبئ عن أحاسن المحاسن وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكى عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع

٩٦

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (١٤٩)

____________________________________

من الأخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان فى الجمل الخبرية هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع فى الخارج وفى ذهن السامع ولا يخفى أن ذلك ههنا فى أن مع ما فى حيزها أتم وأكمل وأما ما تفيده الاضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة جمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات فى باب البيان وإنما اختار الجمهور ما اختاره لقاعدة صناعية هى أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالاسمية ولا ريب فى أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به وقولهم مضاف إلى مضمر فهو بمنزلة العلم فتأمل (فَآتاهُمُ اللهُ) بسبب دعائهم ذلك (ثَوابَ الدُّنْيا) أى النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أى وثواب الآخرة الحسن وهو الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن محبة الله تعالى للعبد عبارة عن رضاه عنه وإرادة الخير به فهى مبدأ لكل سعادة واللام إما للعهد وإنما وضع المظهر موضع ضمير المعهودين للإشعار بأن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وهذا أنسب بمقام ترغيب المؤمنين فى تحصيل ما حكى عنهم من المناقب الجليلة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى زجرهم عن متابعة الكفار ببيان استتباعها لخسران الدنيا والآخرة إثر ترغيبهم فى الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم‌السلام ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الاعتناء بما فى حيزه ووصفهم بالإيمان لتذكير حالهم وتثبيتهم عليها بإظهار مباينتها لحال أعدائهم كما أن وصف المنافقين بالكفر فى قوله تعالى (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) لذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم قال على رضى الله عنه نزلت فى قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا فى دينهم فوقوع قوله تعالى (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) جوابا للشرط مع كونه فى قوة أن يقال إن تطيعوهم فى قولهم ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا فى دينهم يدخلوكم فى دينهم باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أى الدنيا والآخرة غير فائزين بشىء منهما واقعين فى العذاب الخالد على أن الارتداد على العقب علم فى انتكاس الأمر ومثل فى الحور بعد الكور وقيل المراد بهم اليهود والنصارى حيث كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه فى الدين ويقولون لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له وقيل أبو سفيان وأصحابه والمراد بطاعتهم استئمانهم والاستكانة لهم وقيل الموصول على عمومه والمعنى نهى المؤمنين عن طاعتهم فى أمر من الأمور حتى لا يستجروهم إلى الارتداد عن الدين

٩٧

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢)

____________________________________

فلا حاجة على هذه التقادير إلى ما مر من البيان (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) إضراب عما يفهم من مضمون الشرطية كأنه قيل فليسوا أنصاركم حتى تطيعوهم بل الله ناصركم لا غيره فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم وقرىء بالنصب كأنه قيل فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله ومولاكم نصب على أنه صفة له (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فخصوه بالطاعة والاستعانة (سَنُلْقِي) بنون العظمة على طريقة الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة وقرىء بالياء والسين لتأكيد الإلقاء (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بسكون العين وقرىء بضمها على الأصل وهو ما قذف فى قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة وقيل ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئا قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجعوا فاستأصلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى فى قلوبهم الرعب فأمسكوا فلا بد من كون نزول الآية فى تضاعيف الحرب أو عقيب انقضائه وقيل هو ما ألقى فى قلوبهم من الرعب يوم الأحزاب (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) متعلق بنلقى دون الرعب وما مصدرية أى بسبب إشراكهم به تعالى فإنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعى الرعب (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أى بإشراكه (سُلْطاناً) أى حجة سميت به لوضوحها وإنارتها أو لقوتها أو لحدتها ونفوذها وذكر عدم تنزيلها مع استحالة تحققها فى نفسها من قبيل قوله [ولا ترى الضب بها ينحجر] أى لا ضب ولا انحجار وفيه إيذان بأن المتبع فى الباب هو البرهان السماوى دون الآراء والأهواء الباطلة (وَمَأْواهُمُ) بيان لأحوالهم فى الآخرة إثر بيان أحوالهم فى الدنيا وهى الرعب أى ما يأوون إليه فى الآخرة (النَّارُ) لا ملجأ لهم غيرها (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أى مثواهم وإنما وضع موضعه المظهر المذكور للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم فى إشراكهم ظالمون واضعون للشىء فى غير موضعه والمخصوص بالذم محذوف أى بئس مثوى الظالمين النار وفى جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث وأما المأوى فهو المكان الذى يأوى إليه الإنسان (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) نصب على أنه مفعول ثان لصدق صريحا وقيل بنزع الجار أى فى وعده نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه عليه‌السلام من النصر حيث قال للرماة لا تبرحوا مكانكم

٩٨

فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وفى رواية أخرى لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فى هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أى تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه إذا أبطل حسه وهو ظرف لصدقكم وقوله تعالى (بِإِذْنِهِ) أى بتيسيره وتوفيقه لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الآية وقد مر تحقيق أن ذلك كان يوم بدر كيف لا والموعود بما ذكر إمداده عزوجل بإنزال الملائكة عليهم‌السلام وتقييد صدق وعده تعالى بوقت قتلهم بإذنه تعالى صريح فى أن الموعود هو النصر المعنوى والتيسير لا الإمداد بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله سنلقى الخ وأنت خبير بأن إلقاء الرعب كان عند تركهم القتال ورجوعهم من غير سبب أو بعد ذلك فى الطريق على اختلاف الروايتين وأيا ما كان فلا سبيل إلى كونه مغيا بقوله تعالى (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أى جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف القلب (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرهم عبد الله بن جبير رضى الله عنه لا نخالف أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبت مكانه فى نفر دون العشرة من أصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أى من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا أمير الرماة ومن معه من أصحابه حسبما فصل فى تفسير قوله تعالى (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) وجواب إذا محذوف وهو منعكم نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة هذا على تقدير كون إذا شرطية وحتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وقيل إذا اسم كما فى قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى (صَدَقَكُمُ) باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم الخ وعلى هذا فقوله تعالى (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) عطف على ذلك وعلى الأول عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين أى كفكم عنهم حتى حالت الحال ودالت الدولة وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أى بعاملكم معاملة من يمتحنكم بالمصائب ليظهر ثباتكم على الإيمان عندها (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومؤذن بأن ذلك العفو بطريق التفضل والإحسان لا بطريق الوجوب عليه أى شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة والتنكير للتفخيم والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار فى موقع الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا.

٩٩

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

____________________________________

(إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق ب (صَرَفَكُمْ) أو بقوله تعالى (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أو بمقدر كما ذكروا والإصعاد الذهاب والإبعاد فى الأرض وقرىء تصعدون من الثلاثى أى فى الجبل وقرىء تصعدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرىء يصعدون بالالتفات إلى الغيبة (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أى لا تلتفتون إلى ماوراءكم ولا يقف واحد منكم لواحد وقرىء تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا وقرىء يلوون كيصعدون (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) كان عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى عباد الله إلى عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وإيراده عليه‌السلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته عليه‌السلام كانت بطريق الرسالة من جهته سبحانه إشباعا فى توبيخ المنهزمين (فِي أُخْراكُمْ) فى ساقتكم وجماعتكم الأخرى (فَأَثابَكُمْ) عطف على صرفكم أى فجازاكم الله تعالى بما صنعتم (غَمًّا) موصولا (بِغَمٍّ) من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفوت الغنيمة فالتنكير للتكثير أو غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم له (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) أى لتتمرنوا على الصبر فى الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضرآت وقيل لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم وقيل الضمير فى أثابكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى واساكم فى الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر وما أصابكم من الجراح وغير ذلك (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أى عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) عطف على قوله تعالى (فَأَثابَكُمْ) والخطاب للمؤمنين حقا (مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ) أى الغم المذكور والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة كما فى قوله تعالى (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية (أَمَنَةً) أى أمنا نصب على المفعولية وقوله تعالى (نُعاساً) بدل منها أو عطف بيان وقيل مفعول له أو هو المفعول وأمنة حال منه متقدمة عليه أو مفعول له أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أى ذوى أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة وقرىء بسكون الميم كأنها مرة من الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر

١٠٠