تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢)

____________________________________

لتربية المهابة والالتفات للمبالغة فى الوعيد والإشعار باشتداد غضب الرحمن الناشىء من ذكر قبائحهم وقرىء بالياء على الظاهر (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وروى أنه عليه‌السلام كتب مع أبى بكر رضى الله عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر رضى الله عنه فى وجهه وقال لو لا الذى بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحد ما قاله فنزلت والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخف عليه تعالى وأعد له من العذاب كفأه والتعبير عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع والتوكيد القسمى للتشديد فى التهديد والمبالغة فى الوعيد (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أى سنكتب ما قالوه من العظيمة الشنعاء فى صحائف الحفظة أو سنحفظه ونثبته فى علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب والسين للتأكيد أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه فى غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر بالله تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم ولذلك عطف عليه قوله تعالى (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) إيذانا بأنهما فى العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم وقوله تعالى (بِغَيْرِ حَقٍّ) متعلق بمحذوف وقع حالا من قتلهم أى كائنا بغير حق فى اعتقادهم أيضا كما هو فى نفس الأمر وقرىء سيكتب على البناء للفاعل وسيكتب على البناء للمفعول وقتلهم بالرفع (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أى وننتقم منهم بعد الكتبة بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق كما أذقتم المسلمين الغصص وفيه من المبالغات ما لا يخفى وقرىء ويقول بالياء ويقال على البناء للمفعول (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب المذكور وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأنه وبعد منزلته فى الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أى بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصى والتعبير عن الأنفس بالأيدى لما أن عامة أفاعيلها تزاول بهن ومحل أن فى قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبلها أى والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفى الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياغها وصيغة

١٢١

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤)

____________________________________

المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى صورة المبالغة فى الظلم وقيل هى لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها للمبالغة كما لا كيفا هذا وقد قيل محل أن الجر بالعطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث أن نفى الظلم مستلزم للعدل المقتضى لإثابة المحسن ومعاقبة المسىء وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفى الظلم سببا للتعذيب حسبما ذكره القائل فى سورة الأنفال وقيل سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافى كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه وإنما يحتاج إلى ذلك أن لو كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين (الَّذِينَ قالُوا) نصب أو رفع على الذم وهم كعب بن الأشرف ومالك بن صيفى وحيى بن أخطب وفنحاص بن عازوراء ووهب بن يهوذا (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أى أمرنا فى التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) كما كان عليه أمر أنبياء بنى إسرائيل حيث كان يقرب بالقربان فيقوم النبى فيدعو فتنزل نار من السماء فتأكله أى تحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم فإن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولما كان محصل كلامهم الباطل أن عدم إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان رد عليهم بقوله تعالى (قُلْ) أى تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) كثيرة العدد كبيرة المقدار (مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أى المعجزات الواضحة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) بعينه من القربان الذى تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما قلتم مع معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) شروع فى تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر ما أوحى إليه ما يحزنه عليه الصلاة والسلام من مقالات الكفرة من المشركين واليهود وقوله تعالى (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تعليل لجواب الشرط أى فتسل فقد كذب الخ ومن متعلقة بكذب أو بمحذوف صفة لرسل أى كائنة من قبلك (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أى المعجزات الواضحات صفة لرسل (وَالزُّبُرِ) هو جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته إذا حسنته وقيل زبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قيل أى التوراة والإنجيل والزبور والكتاب فى عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين فى عامة المواقع وقرىء وبالزبر بإعادة الجار دلالة على أنها مغايرة بالذات

١٢٢

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦)

____________________________________

للبينات (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وعد ووعيد للمصدق والمكذب وقرىء ذائقة الموت بالتنوين وعدمه كما فى قوله [ولا ذاكر الله إلا قليلا](وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أى تعطون أجزية أعمالكم على التمام والكمال (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى يوم قيامكم من القبور وفى لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عنه قوله عليه الصلاة والسلام القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أى بعد عنها يومئذ ونجى والزحزحة فى الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنجاة ونيل المراد والفوز الظفر بالبغية وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أى لذاتها وزخارفها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) شبهت بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخرة فهى له متاع بلاغ والغرور إما مصدر أو جمع غار (لَتُبْلَوُنَّ) شروع فى تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين عما سيلقونه من جهة الكفرة من المكاره إثر تسليتهم عما قد وقع مهم ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم الأوجال مما يزلزل أقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب وأصل الابتلاء الاختبار أى تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا ملابسته ومقارفته وذلك إنما يتصور حقيقة مما لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين أو الأمور قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كما مر والجملة جواب قسم محذوف أى والله لتبلون أى لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمال الحسنة وفائدة التوكيد إما تحقيق معنى الابتلاء تهوينا للخطب وإما تحقيق وقوع المبتلى به مبالغة فى الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد (فِي أَمْوالِكُمْ) بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية إلى هلاكها وأما إنفاقها فى سبيل الخير مطلقا فلا يليق نظما فى سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الاتلاف (وَأَنْفُسِكُمْ) بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك وتقديم الأموال لكثرة وقوع الهلكة فيها (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أى من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى عبر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن بعض ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب كما فى قوله تعالى (إِنْ

١٢٣

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

____________________________________

اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) الخ والتصريح بالقبلية لتأكيد الإشعار وتقوية المدار فإن قدم نزول كتابهم مما يؤيد تمسكهم به (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من الطعن فى الدين الحنيف والقدح فى أحكام الشرع الشريف وصد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرا به من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو ذلك مما لا خير فيه (وَإِنْ تَصْبِرُوا) أى على تلك الشدائد والبلوى عند ورودها وتقابلوها بحسن التجمل (وَتَتَّقُوا) أى تتبتلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه (فَإِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزوماتها التى يتنافس فيها المتنافسون أى مما يجب أن يعزم عليه كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه يعنى أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى لابد أن تصبروا وتتقوا والجملة تعليل لجواب الشرط واقع موقعه كأنه قيل وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فالجملة حينئذ جواب الشرط وفى إبراز الأمر بالصبر والتقوى فى صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذياتهم وهو كتمانهم ما فى كتابهم من شواهد نبوته عليه الصلاة والسلام وغيرها وإذ منصوب على المفعولية بمضمر أمر به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة بطريق تجريد الخطاب إثر الخطاب الشامل له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لكون مضمونه من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها على ما مر بيانه فى تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ) الخ أى اذكر وقت أخذه تعالى (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم علماء اليهود والنصارى ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب مبالغة فى تقبيح حالهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ) حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب لقسم ينبئ عنه أخذ الميثاق كأنه قيل لهم بالله لتبيننه (لِلنَّاسِ) وتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التى من جملتها أمر نبوته عليه الصلاة والسلام وهو المقصود بالحكاية وقرىء بالياء لأنهم غيب (وَلا تَكْتُمُونَهُ) عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا كما فى قولك والله لا يقوم زيد وقيل اكتفى بالتأكيد فى الأول لأنه تأكيد له وقيل هو حال من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أى وأنتم لا تكتمونه وإما على رأى من جوز دخول الواو على المضارع المنفى عند وقوعه حالا أى لتبيننه غير كاتمين والنهى عن الكتمان بعد الأمر بالبيان

١٢٤

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨)

____________________________________

إما للمبالغة فى إيجاب المأمور به وإما لأن المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وبالكتمان المنهى عنه إلقاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة وقرىء بالياء كما قبله (فَنَبَذُوهُ) النبذ الرمى والإبعاد أى طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق الموثق بفنون التأكيد وألقوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلا فإن نبذ الشىء وراء الظهر مثل فى الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية كما أن جعله نصب العين علم فى كمال العناية به وفيه من الدلالة على تحتم بيان الحق على علماء الدين وإظهار ما منحوه من العلم للناس أجمعين وحرمة كتمانه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع فى عرض من الأعراض الفانية الكاسدة ما لا يخفى وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار وعن طاوس أنه قال لوهب بن منبه إنى أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب وقال والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن الله سيعذبك وعن محمد بن كعب لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل وعن على رضى الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أى بالكتاب الذى أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه فإن ذكر نبذ الميثاق يدل على ذلك دلالة واضحة وإيقاع الفعل على الكل مع أن المراد به كتم بعضه كدلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ونحوها لما أن ذلك كتم للكل إذ به يتم الكتاب كما أن رفض بعض أركان الصلاة رفض لكلها أو بمنزلة كتم الكل من حيث إنهما سيان فى الشناعة واستجرار العقاب كما فى قوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموه أى تركوا ما أمروا به وأخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) أى شيئا تافها حقيرا من حطام الدنيا وأعراضها وفى تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة فى المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبير عن المشترى الذى هو العمدة فى العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذى شأنه أن يكون وسيلة إليه وجعل الكتاب الذى حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوبا بالباء الداخلة على الآلات والوسائل من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنىء الحقير على الشريف الخطير وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلى وسيلة والوسيلة مقصدا ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعة مكانه (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفته والمخصوص بالذم محذوف أى بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن (لا تَحْسَبَنَّ) الخطاب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أى بما فعلوا كما فى قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ويدل عليه قراءة أبى يفرحون بما فعلوا وقرىء بما آتوا بمعنى أعطوا وبما أوتوا أى أى بما أوتوه من علم التوراة. قال ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود حرفوا التوراة وفرحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل اليهود عن شىء مما فى التوراة فكتموا

١٢٥

الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا وقيل فرحوا بكتمان النصوص الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وأحبوا أن يحمدوا بأنهم متبعون ملة إبراهيم عليه‌السلام فالموصول عبارة عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضع ضميرهم والجملة مسوقة لبيان ما تستتبعه أعمالهم المحكية من العقاب الأخروى إثر بيان قباحتها وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وهو إصرارهم على ما هم عليه من القبائح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وقد نظم ذلك فى سلك الصلة التى حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند المخاطب إيذانا بشهرة اتصافهم بذلك وقيل هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة فى ذلك واستحمدوا به وقيل هم المنافقون كافة وهو الأنسب بظاهر قوله تعالى (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف معزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم فى الغاية القاصية من العداوة فالموصول عبارة عن طائفة معهودة من المذكورين وغيرهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود ولعل الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتى بشىء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليا وأيا ما كان فهو مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد له والفاء زائدة والمفعول الثانى قوله تعالى (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أى ملتبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمى ولا يضر تأنيثها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما فى قوله[فلو لا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا بالموارد] ولا سبيل إلى جعلها اسم مكان على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة لها أى بمفازة كائنة من العذاب لأنها ليست من العذاب وتقدير فعل خاص ليصح به المعنى أى بمفازة منجية من العذاب مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه وقرىء بضم الباء فى الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا وقرىء بياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحسبان ومفعولاه كما ذكر وقرىء بضم الباء فى الثانى فقط على أن الفعل للموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عين الفاعل والثانى بمفازة أى لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم فائزين وقوله تعالى فلا يحسبنهم تأكيد للأول والفاء زائدة كما مر ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصار الدلالة مفعولى الثانى عليهما على عكس ما فى قوله[بأى كتاب أو بأية سنة ترى حبهم عارا على وتحسب] حيث حذف فيه مفعولا الثانى لدلالة مفعولى الأول عليهما أو على أن الفعل الأول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثانى محذوف لدلالة مفعول الفعل الثانى عليه والفعل الثانى مسند إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه‌السلام ومفعولاه الضمير المنصوب وقوله تعالى (بِمَفازَةٍ) وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم وأمانهيه عليه‌السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه‌السلام (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بعد ما أشير

١٢٦

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠)

____________________________________

إلى عدم نجاتهم من مطلق العذاب حقق أن لهم فردا منه لا غاية له فى المدة والشدة كما تلوح به الجملة الاسمية والتنكير التفخيمى والوصف (وَلِلَّهِ) أى خاصة (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد إيجادا وإعداما إحياء وإماته تعذيبا وإثابة من غير أن يكون لغيره شائبة دخل فى شىء من ذلك بوجه من الوجوه فالجملة مقررة لما قبلها وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير لاختصاص ملك العالم الجثمانى المعبر عنه بقطريه به سبحانه وتعالى فإن كونه تعالى قادرا على الكل بحيث لا يشذ من ملكوته شىء من الأشياء يستدعى كون ما سواه كائنا ما كان مقدورا له ومن ضرورته اختصاص القدرة به تعالى واستحالة أن يشاركه شىء من الأشياء فى القدرة على شىء من الأشياء فضلا عن المشاركة فى ملك السموات والأرض وفيه تقرير لما مر من ثبوت العذاب الأليم لهم وعدم نجاتهم منه أثر تقرير وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألولهية مع ما فيه من الإشعار باستقلال كل من الجملتين بالتقرير (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهر والقدرة التامة صدرت بكلمة التأكيد اعتناء بتحقيق مضمونها أى فى إنشائها على ما هى عليه فى ذواتها وصفاتها من الأمور التى يحار فى فهم أجلاها العقول (وَالْأَرْضِ) على ما هى عليه ذاتا وصفة (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى فى تعاقبهما فى وجه الأرض وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السموات وسكون الأرض أو فى تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو فى اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما فى الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالى أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وإما فى أنفسها فإن كرية الأرض تقتضى أن يكون بعض الأوقات فى بعض الأماكن ليلا وفى مقابله نهارا وفى بعضها صباحا وفى بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك والليل قيل إنه اسم جنس يفرق بين واحده وجمعه بالتاء كتمر وتمرة والليالى جمع جمع والصحيح أنه مفرد ولا يحفظ له جمع والليالى جمع ليلة وهو جمع غريب كأنهم توهموا أنها ليلاة كما فى كيكة وكياكى كأنها جمع كيكاة والنهار اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياء ما بينهما وتقديم الليل على النهار إما لأنه الأصل فإن غرر الشهور تظهر فى الليالى وإما لتقدمه فى الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أى نزيله منه فيخلفه (لَآياتٍ) اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أى لآيات كثيرة عظيمة لا يقادر قدرها دالة على تعاجيب شنونه التى من جملتها ما مر من اختصاص الملك العظيم والقدرة التامة به سبحانه وعدم

١٢٧

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١)

____________________________________

التعرض لما ذكر فى سورة البقرة من الفلك والمطر وتصريف الرياح والسحاب لما أن المقصود ههنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة فاكتفى بمعظم الشواهد الدالة على ذلك وأما هناك فقد قصد فى ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة فى سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أى لذوى العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم المتجردين عن العلائق النفسانية المتخلصين من العوائق الظلمانية المتأملين فى أحوال الحقائق وأحكام النعوت المراقبين فى أطوار الملك وأسرار الملكوت المتفكرين فى بدائع صنائع الملك الخلاق المتدبرين فى روائع حكمه المودعة فى الأنفس والآفاق الناظرين إلى العالم بعين الاعتبار والشهود المتفحصين عن حقيقة سر الحق فى كل موجود المثابرين على مراقبته وذكراه غير ملتفتين إلى شىء مما سواه إلا من حيث إنه مرآة لمشاهدة جماله وآلة لملاحظة صفات كماله فإن كل ما ظهر فى مظاهر الإبداع وحضر محاضر التكوين والاختراع سبيل سوى إلى عالم التوحيد ودليل قوى على الصانع المجيد ناطق بآيات قدرته فهل من سامع واع ومخبر بأنباء علمه وحكمته فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى بألطف إشارة مراعيا فى الحوار إبهامهم وتصريحهم (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فتأمل فى هذه الشئون والأسرار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ). عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هل لك يا عائشة أن تأذنى لى الليلة فى عبادة ربى فقلت يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء فى البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له يا رسول الله أتبكى وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال وما لى لا أبكى وقد أنزل الله تعالى على فى هذه الليلة إن فى خلق السموات والأرض الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروى ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها وعن على رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) الموصول إما موصول بأولى الألباب مجرور على أنه نعت كاشف له بما فى حيز الصلة وإما مفصول عنه مرفوع أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر هو القول المقدر قبل قوله تعالى (رَبَّنا) وفيه من تفكيك النظم الجليل ما لا يخفى وأيا ما كان فقد أشير بما فى حيز صلته أن

١٢٨

المراد بهم الذين لا يغفلون عنه تعالى فى عامة أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم فى مراقبته لما أيقنوا بأن كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال فى أنفسهم وإليه أشير بقوله عزوجل (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ولا فى الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون فى ذلك شأنا من شئونه تعالى فالمراد به ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللسانى أولا وأما ما يحكى عن ابن عمرو عروة بن الزبير وجماعة رضى الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم أما قال الله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادهم به تفسير الآية وتحقيق مصداقها على التعيين وإنما أرادوا به التبرك بنوع موافقة لها فى ضمن الإتيان بفرد من أفراد مدلولها وأما حمل الذكر على الصلاة فى هذه الأحوال حسب الاستطاعة كما قال عليه‌السلام لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء فمما لا يساعده سباق النظم الجليل ولا سياقه والقيام والقعود جمع قائم وقاعد كنيام ورقود جمع نائم وراقدو انتصابهما على الحالية من ضمير يذكرون أى يذكرونه قائمين وقاعدين وقوله تعالى (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) متعلق بمحذوف معطوف على الحالين أى وكائنين على جنوبهم أى مضطجعين والمراد تعميم الذكر للأوقات كما مر وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعهودة التى لا يخلو عنها الإنسان غالبا (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف على يذكرون منتظم معه فى حيز الصلة فلا محل له من الإعراب وقيل محله النصب على أنه معطوف على الأحوال السابقة وليس بظاهر وهو بيان لتفكرهم فى أفعاله سبحانه إثر بيان تفكرهم فى ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته التى يؤدى إليها من معرفة أحوال المعاد حسبما نطقت به ألسنة الرسل وآيات الكتب فكما أنها آيات تشريعية هادية للخلق إلى معرفته تعالى ووجوب طاعته كذلك المخلوقات آيات تكوينية مرشدة لهم إلى ذلك فالأولى منبهات لهم على الثانية ودواع إلى الاستشهاد بها كهذه الآية الكريمة ونحوها مما ورد فى مواضع غير محصورة من التنزيل والثانية مؤيدات للأولى وشواهد دالة على صحة مضمونها وحقية مكنونها فإن من تأمل فى تضاعيف خلق العالم على هذا النمط البديع قضى باتصاف خالقه تعالى بجميع ما نطقت به الرسل والكتب من الوجوب الذاتى والوحدة الذاتية والملك القاهر والقدرة التامة والعلم الشامل والحكمة البالغة وغير ذلك من صفات الكمال وحكم بأن من قدر على إنشائه بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدر وحكم بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هى جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم أى علومهم واعتقاداتهم التابعة لأنظارهم فيما نصب لهم من الحجج والدلائل والأمارات والمخايل وسائر أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح بل متناول للعمل القلبى بل هو أشرف أفراده لما أن لكل من القلب والقالب عملا خاصا به ومن قضية كون الأول أشرف من الثانى كون عمله أيضا أشرف من عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفته تعالى التى هى أول الواجبات على العباد والغاية

١٢٩

القصوى من الخلق على ما نطق به عزوجل وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أى ليعرفون كما أعرب عنه قوله عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وإنما طريقها النظر والتفكر فيما ذكر من شئونه تعالى وقد روى عنه عليه‌السلام أنه قال لا تفضلونى على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر فى أمر الله تعالى ولذلك قال عليه‌السلام لا عبادة مثل التفكر وقد عرفت أنه مستتبع لتحقيق ما جاءت به الشريعة الحقة وإلا لما فسر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بقوله عليه الصلاة والسلام أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى فإن التورع عن محارمه سبحانه موقوف على معرفة الحلال والحرام المنوطة بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادق الآيات التكوينية وتتوافق الأدلة السمعية والعقلية وهو السر فى نظم ما حكى عن المتفكرين من الأمور المستدعية للإيمان بالشريعة فى سلك نتيجة تفكرهم كما ستقف عليه وإظهار خلق السموات والأرض مع كفاية الإضمار لإبراز كمال العناية ببيان حالهم والإيذان بكون تفكرهم على وجه التحقيق والتفصيل وعدم التعرض لإدراج اختلاف الملوين فى سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض كما أشير إليه وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحكم بالنتيجة بمجرد تفكرهم فى بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها فى إثبات المطلوب والخلق مصدر على حاله أى يتفكرون فى إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات وقيل بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى فى أى يتفكرون فيما خلق فيهما أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما أو على أنها بيانية (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) كلمة هذا إشارة إلى السموات والأرض متضمنة لضرب من التعظيم كما فى قوله تعالى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) والتذكير لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما فى معنى المخلوق وباطلا إما صفة لمصدر مؤكد محذوف أو حال من المفعول به أى ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما افصحت عنه الرسل والكتب الإلهية كما تحققته مفصلا والجملة بتمامها فى حيز النصب بقول مقدر هو على تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب استئناف مبين لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشىء مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة فى خلق العالم بأولى الألباب ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر فى محال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل فماذا يكون عند تفكرهم فى ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدى إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية على التفصيل الذى وقفت عليه هذا وأما جعله حالا من المستكن فى الفعل كما أطبق عليه الجمهور فمما لا يساعده جزالة النظم الكريم لما أن ما فى حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادى

١٣٠

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣)

____________________________________

الحكم الذى أجرى على الموصول ودواعى ثبوته له كذكرهم الله عزوجل فى عامة أوقاتهم وتفكرهم فى خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدى إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ولا ريب فى أن قولهم ذلك ليس من مبادى الاستدلال المذكور بل من نتائجه المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما فى حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل نعم هو حال من ذلك على تقدير كون الموصول مرفوعا أو منصوبا على المدح أو مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف إذ لا اشتباه فى أن قولهم ذلك من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم وفى إبراز هذا القول فى معرض الحال دون الخبر إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وتردد فى ذلك وقوله تعالى (سُبْحانَكَ) أى تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التى من جملتها خلق ما لا حكمة فيه اعتراض مؤكد لمضمون ما قبله وممهد لما بعده من قوله تعالى (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) فإن معرفة سر خلق العالم وما فيه من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من الأعمال الصالحة وتنزيه الصانع تعالى عن العبث من دواعى الاستعاذة مما يحيق بالمخلين بذلك من وجهين أحدهما الوقوف على تحقق العذاب فالفاء لترتيب الدعاء على ما ذكر والثانى الاستعداد لقبول الدعاء فالفاء لتربيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك كأنه قيل وإذ قد عرفنا سرك وأطعنا أمرك ونزهناك عما لا ينبغى فقنا عذاب النار الذى هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مبالغة فى استدعاء الوقاية وبيان لسببه وتصدير الجملة بالنداء للمبالغة فى التضرع والجؤار وتأكيدها لإظهار كمال اليقين بمضمونها والإيذان بشدة الخوف وإظهار النار فى موضع الإضمار لتهويل أمرها وذكر الإدخال فى مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته. قال الواحدى للإخزاء معان متقاربة يقال أخزاه الله أى أبعده وقيل أهانه وقيل أهلكه وقيل فضحه. قال ابن الأنبارى الخزى لغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع فى بلاء والمعنى فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه كقولهم من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك أى المرعى الذى لا مرعى بعده وفيه من الإشعار بفظاعة العذاب الروحانى ما لا يخفى وقوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) نذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ببيان خلود عذابهم بفقدان من ينصرهم ويقوم بتخليصهم وغرضهم تأكيد الاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ووضعهم الأشياء فى غير مواضعها وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أى ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس فى الآية دلالة على نفى الشفاعة على أن المراد بالظالمين هم الكفار (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) حكاية لدعاء آخر لهم مبنى على تأملهم فى الدليل السمعى بعد حكاية دعائهم السابق المبنى على التفكر فى الأدلة العقلية وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال

١٣١

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)

____________________________________

والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة وكمال النشاط والمراد بالنداء الدعاء وتعديتهما بإلى لتضمنهما معنى الإنهاء وباللام لاشتمالهما على معنى الاختصاص والمراد بالمنادى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنوينه للتفخيم وإيثاره على الداعى للدلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى الدانى والقاصى لما فيه من الإيذان برفع الصوت وينادى صفة لمناديا عند الجمهور كما فى قولك سمعت رجلا يقول كيت وكيت ولو كان معرفة لكان حالا منه كما إذا قلت سمعت زيدا يقول الخ ومفعول ثان لسمعنا عند الفارسى وأتباعه وهذا أسلوب بديع يصار إليه للمبالغة فى تحقيق السماع والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضار صورته وقد اختص النظم الكريم بمزية زائدة على ذلك حيث عبر عن المسموع منه بالمنادى ثم وصف بالنداء للإيمان على طريقة قولك سمعت متكلما يتكلم بالحكمة لما أن التفسير بعد الإبهام والتقييد بعد الإطلاق أوقع عند النفس وأجدر بالقبول وقيل المنادى القرآن العظيم (أَنْ آمِنُوا) أى آمنوا على أن أن تفسيرية أو بأن آمنوا على أنها مصدرية (بِرَبِّكُمْ) بما لككم ومتولى أموركم ومبلغكم إلى الكمال وفى إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه (فَآمَنَّا) أى فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءه (رَبَّنا) تكرير للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به والفاء فى قوله تعالى (فَاغْفِرْ لَنا) لترتيب المغفرة أو الدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعى المغفرة والدعاء بها (ذُنُوبَنا) أى كبائرنا فإن الإيمان يجب ما قبله (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أى صغائرنا فإنها مكفرة عن مجتنب الكبائر (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أى مخصوصين بصحبتهم مغتنمين لجوارهم معدودين من زمرتهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يحبون لقاء الله ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه والأبرار جمع بار أو بر كأصحاب وأرباب (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) حكاية لدعاء آخر لهم مسبوق بما قبله معطوف عليه لتأخر التحلية عن التخلية وتكرير النداء لما مر مرارا والمراد بالموعود الثواب وعلى إما متعلقة بالوعد كما فى قولك وعد الله الجنة على الطاعة أى وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أى وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك وقيل التقدير منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة فى مثل هذه المواقع تعسف وجمع الرسل مع أن المنادى هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لما أن دعوته عليه‌السلام لا سيما فى باب التوحيد وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه تصديق لهم عليهم‌السلام كيف لا وقد أخذ منهم الميثاق بالإيمان به عليه‌السلام لقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ) الآية وكذا الموعود على لسانه من الثواب موعود على ألسنة الكل وإيثار الجمع لإظهار كمال الثقة بإنجاز الموعود بناء على كثرة الشهود (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله يوم لا يخزى الله النبى والذين آمنوا معه مظهرين أنهم ممن آمن معه رجاء للانتظام فى سلكهم يومئذ وقوله تعالى (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لتحقيق ما نظموا فى سلك الدعاء وهذه الدعوات وما فى تضاعيفها من كمال الضراعة

١٣٢

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

____________________________________

والابتهال ليست لخوفهم من إخلاف الميعاد بل لخوفهم من أن لا يكونوا من جملة الموعودين بتغير الحال وسوء الخاتمة والمآل فمرجعها إلى الدعاء بالتثبيت أو للمبالغة فى التعبد والخشوع والميعاد الوعد وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه البعث بعد الموت وفى الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) الاستجابة بمعنى الإجابة وقال تاج القراء الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول وتتعدى باللام وبنفسها كما فى قوله [فلم يستجبه عند ذاك مجيب] وهو عطف على الاستئناف المقدر فيما سلف مترتب على ما فى حيزه من الأدعية كما أن قوله عزوجل (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) الخ عطف على قيل المقدر قبل آلآن أى قيل لهم آلآن آمنتم به ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى فى سورة الأعراف (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) معطوف على ما دل عليه معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الخ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع الخ ولا ضير فى اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء وصيغة الماضى ههنا للإيذان بتحقق الاستجابة وتقررها كما لا ضير فى الاختلاف بين قوله تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وبين ما عطف عليه من قوله تعالى (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) كما سيأتى ويجوز أن يكون معطوفا على مضمر ينساق إليه الذهن أى دعوا بهذه الأدعية فاستجاب الخ وأما على تقرير كون المقدر حالا فهو عطف على يتفكرون باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعنى قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم وحيث كانت هى من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظام فى سلك محاسنهم المعدودة فى أثناء مدحهم وأما على تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب فلا مساغ لهذا العطف أصلا لما عرفت من أن حق ما فى حيز الصلة أن يكون من مبادى جريان الحكم على الموصول وقد عرفت أن دعواتهم السابقة ليست كذلك فأين الاستجابة المتأخرة عنها وفى التعرض لعنوان الربوبية المبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم من تشريفهم وإظهار اللطف بهم ما لا يخفى (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أى بأنى وهكذا قرأ أبى رضى الله عنه والباء للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم أى سنته السنية مستمرة على ذلك والالتفات إلى التكلم والخطاب لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والمراد تأكيدها ببيان سببها والإشعار بأن مدارها أعمالهم التى قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء وتعميم الوعد لسائر العاملين وإن لم يبلغوا درجة أولى الألباب لتأكيد استجابة الدعوات المذكورة والتعبير عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقية إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه

١٣٣

عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من القبائح وإبراز الإثابة فى معرض الأمور الواجبة عليه وقرىء بكسر الهمزة على إرادة القول أى قائلا أنى الخ فلا التفات حينئذ وقرىء لا أضيع بالتشديد ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لعامل أى عامل كائن منكم وقوله تعالى (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لعامل وتأكيد لعمومه وقوله تعالى (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) جملة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء فى سلك الرجال فى الوعد فإن كون كل منهما من الآخر لتشعبهما من أصل واحد أو لفرط الاتصال بينهما أو لا تفاقهما فى الدين والعمل مما يستدعى الشركة والاتحاد فى ذلك. روى أن أم سلمة رضى الله عنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى أسمع الله تعالى يذكر الرجال فى الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت وقوله تعالى (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ضرب تفصيل لما أجمل فى العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده على وجه المدح والتعظيم أى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين وقوله تعالى (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) على الأول عبارة عن نفس الهجرة وعلى الثانى عن كيفيتها وكونها بالقسر والاضطرار (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أى بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وهو متناول لكل أذية نالتهم من قبل المشركين (وَقاتَلُوا) أى الكفار فى سبيل الله تعالى (وَقُتِلُوا) استشهدوا فى القتال وقرىء بالعكس لما أن الواو لا تستدعى الترتيب أو لأن المراد قتل بعضهم وقتال آخرين إذ ليس المعنى على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر فى حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل فى الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة أو باثنين منها أو بأكثر إما بطريق التوزيع أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين كما هو رأى الكوفيين كيف لا ولو أدير الحكم على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض وقرىء وقتلوا بالتشديد (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) جواب قسم محذوف أى والله لأكفرن والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذى هو الموصول وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وعد ذلك عموما وقوله تعالى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وتفسير له (ثَواباً) مصدر مؤكد لما قبله فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة فى معنى الإثابة وقوله تعالى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بمحذوف هو صفة له مبينة لشرفه أى لأثيبنهم إثابة كائنة أو تثويبا كائنا من عنده تعالى بالغا إلى المرتبة القاصية من الشرف وقوله تعالى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله والإسم الجليل مبتدأ خبره عنده وحسن الثواب مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والعندية عبارة عن الاختصاص به تعالى مثل كونه بقدرته تعالى وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال شىء يكون بحضرة أحد لا يد عليه لغيره فالاختصاص مستفاد من التمثيل سواء جعل عنده خبرا مقدما لحسن الثواب أولا وفى تصدير الوعد الكريم بعدم إضاعة العمل ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسان الذى لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ عن عظم شأن المحسن ما لا يخفى.

١٣٤

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨)

____________________________________

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) بيان لقبح ما أوتى الكفرة من حظوظ الدنيا وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها إثر بيان حسن ما أوتى المؤمنون من الثواب والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن المراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أو على أن المراد نهى المؤمنين كما يوجه الخطاب إلى مداره القوم ورؤسائهم والمراد أفناؤهم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب من المؤمنين والنهى للمخاطب وإنما جعل للتقلب مبالغة أى لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط فى المكاسب والمتاجر والمزارع. روى أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين فى رخاء ولين عيش فيقولون إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت وقرىء ولا يغرنك بالنون الخفيفة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع قليل لا قدر له فى جنب ما ذكر من ثواب الله تعالى قال عليه‌السلام ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع فإذن لا يجدى وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أى مصيرهم الذى يأوون إليه لا يبرحونه (جَهَنَّمُ) التى لا يوصف عذابها وقوله تعالى (وَبِئْسَ الْمِهادُ) ذم لها وإيذان بأن مصيرهم إليها مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم والمخصوص بالذم محذوف أى بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) بيان لكمال حسن حال المؤمنين غب بيان وتكرير له إثر تقرير مع زيادة خلودهم فى الجنات ليتم بذلك سرورهم ويزداد تبجحهم ويتكامل به سوء حال الكفرة وإيراد التقوى فى حيز الصلة للإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى والمراد به الاتقاء من الشرك والمعاصى فالموصول مبتدأ والظرف خبره وجنات مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو الظرف خبر لجنات والجملة خبر للموصول وخالدين فيها أى فى الجنات حال مقدرة من الضمير أو من جنات لتخصصها بالوصف والعامل ما فى الظرف من معنى الاستقرار (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وقرىء بسكون الزاى وهو ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما قال أبو الشعر الضبى [وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا] وانتصابه على الحالية من جنات لتخصصها بالوصف والعامل فيه ما فى الظرف من معنى الاستقرار وقيل هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقا أو عطاء من عند الله (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر وقوله تعالى (لِلْأَبْرارِ) متعلق بمحذوف هو صفة لخير أى ما عنده تعالى من الأمور المذكورة الدائمة خير كائن للأبرار أى مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل لما قبلها

١٣٥

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

____________________________________

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة. قيل هم عبد الله ابن سلام وأصحابه وقيل هم أربعون من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل المراد به أصحمة النجاشى فإنه لما مات نعاه جبريل إلى النبى عليه‌السلام فقال عليه‌السلام اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم فخرج إلى البقيع فنظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشى وصلى عليه واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلى على علج نصرانى لم يره قط وليس على دينه فنزلت وإنما دخلت لام الابتداء على اسم إن لفصل الظرف بينهما كما فى قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين وتأخير إيمانهم بهما عن إيمانهم بالقرآن فى الذكر مع أن الأمر بالعكس فى الوجود لما أنه عيار ومهيمن عليهما فإن إيمانهم بهما إنما يعتبر بتبعية إيمانهم به إذ لا عبرة بأحكامهما المنسوخة وما لم ينسخ منها إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعده بهما والمراد بإيمانهم بهما إيمانهم بهما من غير تحريف ولا كتم كما هو ديدن المحرفين وأتباعهم من العامة (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل يؤمن والجمع باعتبار المعنى (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال كما قبله ونظمها فى سلك محاسنهم ليس من حيث عدم الاشتراء فقط بل لتضمن ذلك لإظهار ما فى الكتابين من شواهد نبوته عليه‌السلام (أُولئِكَ) إشارة إليهم من حيث اتصافهم بما عد من صفاتهم الحميدة وما فيه من معنى البعد للدلالة على علو رتبتهم وبعد منزلتهم فى الشرف والفضيلة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (لَهُمْ) وقوله (أَجْرُهُمْ) أى المختص بهم الموعود لهم بقوله تعالى (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) وقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) مرتفع بالظرف على الفاعلية أو على الابتداء والظرف خبره والجملة خبر لأولئك وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) نصب على الحالية من أجرهم والمراد به التشريف كالصفة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لنفوذ علمه بجميع الأشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الأجر من غير حاجة إلى تأمل والمراد بيان سرعة وصول الأجر الموعود إليهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إثر ما بين فى تضاعيف السورة الكريمة فنون الحكم والأحكام ختمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل (اصْبِرُوا) أى على مشاق الطاعات وغير ذلك من المكاره والشدائد (وَصابِرُوا) أى غالبوا أعداء الله تعالى بالصبر فى مواطن الحروب وأعدى عدوكم بالصبر على مخالفة الهوى وتخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصبر لكونها أشد منه وأشق (وَرابِطُوا) أى أقيموا فى الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو مستعدين له قال تعالى (وَمِنْ رِباطِ

١٣٦

٤ ـ سورة النساء

مائة وست وسبعون آية مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

____________________________________

الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه ما ذكر فى تضاعيف السورة الكريمة اندراجا أوليا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كى تنتظموا فى زمرة المفلحين الفائزين بكل مطلوب الناجين من كل الكروب. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ السورة التى يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس والله أعلم.

(سورة النساء مدنية وهى مائة وست وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم حكمه جميع المكلفين عند النزول ومن سينتظم فى سلكهم من الموجودين حينئذ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة عند انتظامهم فيه لكن لا بطريق الحقيقة فإن خطاب المشافهة لا يتناول القاصرين عن درجة التكليف إلا عند الحنابلة بل إما بطريق تغليب الفريق الأول على الأخيرين وإما بطريق تعميم حكمه لهما بدليل خارجى فإن الإجماع منعقد على أن آخر الأمة مكلف بما كلف به أولها كما ينبئ عنه قوله عليه‌السلام الحلال ما جرى على لسانى إلى يوم القيامة والحرام ما جرى على لسانى إلى يوم القيامة وقد فصل فى موضعه وأما الأمم الدارجة قبل النزول فلا حظ لهم فى الخطاب لاختصاص الأوامر والنواهى بمن يتصور منه الامتثال وأما اندراجهم فى خطاب ما عداهما مما له دخل فى تأكيد التكليف وتقوية الإيجاب فستعرف حاله ولفظ الناس ينتظم الذكور والإناث حقيقة وأما صيغة جمع المذكر فى قوله تعالى (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فواردة على طريقة التغليب لعدم تاولها حقيقة للإناث عند غير الحنابلة وأما إدخالهن فى الأمر بالتقوى بما ذكر من الدليل الخارجى وإن كان فيه مراعاة جانب الصيغة لكنه يستدعى تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده والمأمور به إما مطلق التقوى التى هى التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناء الجنس أى اتقوه فى مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو فى مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيا ما كان فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريقة الترغيب

١٣٧

والترهيب وكذا وصف الرب بقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) فإن خلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع لإنبائه عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التى من جملتها عقابهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أقوى الدواعى إلى الاتقاء من موجبات نقمته وأتم الزواجر عن كفران نعمته وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة هى نفس آدم عليه‌السلام من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة وتعميم الخطاب فى ربكم وخلقكم للأمم السالفة أيضا مع اختصاصه فيما قبل بالمأمورين بناء على أن تذكير شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل من مؤكدات الأمر بالتقوى وموجبات الامتثال به تفكيك للنظم الكريم مع الاستغناء عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه‌السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه‌السلام من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا للتعرض لخلق الوسايط جميعا وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن للتعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد نطق بذلك قوله عزوجل (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) فإنه مع ما عطف عليه صريح فى ذلك وهو معطوف إما على مقدر ينبئ عنه سوق الكلام لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعى إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها الخ وهو استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ وبيان كيفية خلقهم منه وتفصيل ما أجمل أولا أو صفة لنفس مفيدة لذلك وإما على خلقكم داخل معه فى حيز الصلة مقرر ومبين لما ذكر وإعادة الفعل مع جواز عطف مفعوله على مفعول الفعل الأول كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأول بطريق التفريع من الأصل والثانى بطريق الإنشاء من المادة فإنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم عليه‌السلام. روى أنه عزوجل لما خلقه عليه‌السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده وتأخير ذكر خلقها عن ذكر خلقهم لما أن تذكير خلقهم أدخل فى تحقيق ما هو المقصود من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديم الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيته عليه‌السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وإيرادها بعنوان الزوجية تمهيد لما بعده من التناسل (وَبَثَّ مِنْهُما) أى نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد والتناسل (رِجالاً كَثِيراً) نعت لرجالا مؤكد لما أفاده التنكير من الكثرة والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد وقيل هو نعت لمصدر مؤكد للفعل أى بثا كثيرا (وَنِساءً) أى كثيرة وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وإيثارهما على ذكورا وإناثا لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره وقرىء وخالق وباث على حذف المبتدأ أى وهو خالق وباث (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا أسألك بالله وأنشدك الله على سبيل الاستعطاف يقتضى الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة فى الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصله تتساءلون فطرحت إحدى التامين تخفيفا وقرىء بإدغام تاء التفاعل فى السين لتقاربهما فى الهمس

١٣٨

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

____________________________________

وقرىء تسألون من الثلاثى أى تسألون به غيركم وقد فسر به القراءة الأولى والثانية وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع كما فى قولك رأيت الهلال وتراءيناه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرىء تسلون بنقل حركة الهمزة إلى السين (وَالْأَرْحامَ) بالنصب عطفا على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا وينصره قراءة تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرنونها فى السؤال والمناشدة بالله عزوجل ويقولون أسألك بالله وبالرحم أو عطفا على الاسم الجليل أى اتقوا الله والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى وهو قول مجاهد وقتادة والسدى والضحاك والفراء والزجاج وقد جوز الواحدى نصبه على الإغراء أى والزموا الأرحام وصلوها وقرىء بالجر عطفا على الضمير المجرور وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك أى مما يتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليل على أن صلتها بمكان منه كما فى قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعنه عليه‌السلام الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلنى وصله الله ومن قطعنى قطعه الله (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أى مراقبا وهى صيغة مبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقبانا إذا أحد النظر لأمر يريد تحقيقه أى حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما فى ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم بذلك وهو تعليل للأمر ووجوب الامتثال به وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) شروع فى تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا عقيب الأمر بنفسه مرة بعد أخرى وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب. واليتيم من مات أبوه من اليتم وهو الانفراد ومنه الدرة اليتيمة وجمعه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى الأسماء جمع على بتائم ثم قلب فقيل يتامى أو لأنه لما كان من وادى الآفات جمع على يتمى ثم جمع يتمى على يتامى والاشتقاق يقتضى صحة إطلاقه على الكبار أيضا واختصاصه بالصغار مبنى على العرف وأما قوله عليه‌السلام لا يتم بعد الحلم فتعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ أى لا يجرى على اليتيم بعده حكم الأيتام والمراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهى عن التبدل والأكل لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد على ما ينطق به قوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغُوا) الآية وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازا للإيذان بأنه ينبغى أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها فالمراد بهم إما الصغار على ما هو المتبادر والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة وأما من جرى عليه اليتم فى الجملة مجازا أعم من

١٣٩

أن يكون كذلك عند النزول أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالهم والتحفظ عن إضاعتها مطلقا وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتى من الأمر به وقيل المراد بهم الصغار وبالإيتاء الإعطاء فى الزمان المستقبل وقيل أطلق اسمهم على الكبار بطريق الإتساع لقرب عهدهم باليتم حثا للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم أول ما بلغوا قبل أن يزول عنهم اسمهم المعهود فالإيتاء بمعنى الإعطاء بالفعل ويأباهما ما سيأتى من قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى) الخ فإن ما فيه من الأمر بالدفع وارد على وجه التكليف الابتدائى لا على وجه تعيين وقته أو بيان شرطه فقط كما هو مقتضى القولين وأما تعميم الاسم للصغار والكبار مجازا بطريق التغليب مع تعميم الإيتاء للإيتاء حالا وللإيتاء مآلا وتعميم الخطاب لأولياء كلا الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلف لا يخفى فالأنسب ما تقدم من حمل إيتاء أموالهم إليهم على ما يؤدى إليه من ترك التعرض لها بسوء كما يلوح به التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواء أريد باليتامى الصغار أو ما يعم الصغار والكبار حسبما ذكر آنفا وأما ما روى من أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ طلب منه ماله فمنعه فنزلت فلما سمعها قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فغير قادح فى ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) نهى عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهى الضمنى عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشىء بالشىء واستبداله به أخذ الأول بدل الثانى بعد أن كان حاصلا له أو فى شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما فى قوله تعالى (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) الخ وقوله تعالى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما فى قوله تعالى (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) الخ وأخرى بالعكس كما فى قولك بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما نص عليه الأزهرى وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما فى قوله تعالى (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) والمراد بالخبيث والطيب إن كان هو الحرام والحلال فالمنهى عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراء والزجاج وقيل معناه لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهى عنه أكل ماله مكان ما لهم المحقق أو المقدر وقيل هو اختزال ماله مكان حفظه وأيا ما كان فإنما عبر عنهما بهما تنفيرا عما أخذوه وترغيبا فيما أعطوه وتصويرا لمعاملتهم بصورة ما لا يصدر عن العاقل وإن كان هو الردىء والجيد فمورد النهى ما كانوا عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الردىء من مال أنفسهم وبه قال سعيد بن المسيب والنخعى والزهرى والسدى وتخصيص هذه المعاملة بالنهى لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها وأما التعبير عنها بتبدل الخبيث بالطيب مع أنها تبديله به أو تبدل الطيب بالخبيث فللإيذان بأن الأولياء حقهم أن يكونوا فى المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوب إليه مشترى كان أو ثمنا لا لسلب المسلوب عنه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه أى لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون

١٤٠