تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٤٤)

____________________________________

معتبر فى الكل مما لا يساعده النظم الكريم (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبى حنيفة رحمه‌الله وعند الشافعى رحمه‌الله لا بد أن يعلق باليد شىء من التراب (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أى إلى المرفقين لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ولأنه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) تعليل للترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا وقيل هو كناية عنهما فإن الترفيه والمسامحة من روادف العفو وتوابع الغفران (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وتوجيهه إليه ههنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل معا للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها والرؤية بصرية أى ألم تنظر إليهم فإنهم أحقاء أن تشاهدهم وتتعجب من أحوالهم وتجويز كونها قلبية على أن إلى لتضمنها معنى الانتهاء لما فعلوه يأباه مقام تشهير شنائعهم ونظمها فى سلك الأمور المشاهدة والمراد بهم أحبار اليهود. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت فى حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبى ورهطه يثبطانهم عن الإسلام وعنه رضى الله عنه أيضا أنها نزلت فى رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لويا لسانهما وعاباه والمراد بالكتاب هو التوراة وحمله على جنس الكتاب المنتظم لها انتظاما أوليا تطويل للمسافة وبالذى أوتوه ما بين لهم فيها من الأحكام والعلوم التى من جملتها ما علموه من نعوت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب المنبئ عن كونه حقا من حقوقهم التى يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا وتنوينه تفخيمى مؤيد للتشنيع عليهم والتعجيب من حالهم فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما فى حيز الصلة على كمال شناعتهم والإشعار بمكان ما طوى ذكره فى المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذى هو أحد العوضين وكلمة من متعلقة إما بأوتوا أو بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر بيان فخامته الذاتية أى نصيبا كائنا من الكتاب وقوله تعالى (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) قيل هو حال مقدرة من واو أوتوا ولا ريب فى أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور فى الإيتاء مما لا يليق بالمقام وقيل هو حال من الموصول أى ألم تنظر إليهم حال اشترائهم وأنت خبير بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور وما عطف عليه والذى تقتضيه جزالة النظم الكريم أنه استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام على وجه الإجمال والإبهام مبنى على سئوال نشأ منه كأنه قيل ما ذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهور الأمر لا سيما بعد الإشعار المذكور والتعبير عن ذلك بالاشتراء الذى هو عبارة عن

١٨١

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)

____________________________________

استبدال السلعة بالثمن أى أخذها بدلا منه أخذا ناشأ عن الرغبة فيها والإعراض عنه للإيذان بكمال رغبتهم فى الضلالة التى حقها أن يعرض عنها كل الإعراض وإعراضهم عن الهداية التى يتنافس فيها المتنافسون وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم وغاية ركاكة آرائهم ما لا يخفى حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز وليس المراد بالضلالة جنسها الحاصل لهم من قبل حتى يخل بمعنى الاشتراء المنبئ عن تأخرها عنه بل هو فردها الكامل وهو عنادهم وتماديهم فى الكفر بعد ما علموا بشأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتيقنوا بحقية دينه وأنه هو النبى العربى المبشر به فى التوراة ولا ريب فى أن هذه الرتبة لم تكن حاصلة لهم قبل ذلك وقد مر فى أوائل سورة البقرة (وَيُرِيدُونَ) عطف على يشترون شريك له فى بيان محل التشنيع والتعجيب وصيغة المضارع فيهما للدلالة على الاستمرار التجددى فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه فى قوة تجدد نفسه وتكرره أى لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته عليه‌السلام (أَنْ تَضِلُّوا) أنتم أيضا أيها المؤمنون (السَّبِيلَ) المستقيم الموصل إلى الحق (وَاللهُ أَعْلَمُ) أى منكم (بِأَعْدائِكُمْ) جميعا ومن جملتهم هؤلاء وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلم بحالهم ومآل أمرهم والجملة معترضة لتقرير ارادتهم المذكورة (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) فى جميع أموركم ومصالحكم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فى كل المواطن فثقوا به واكتفوا بولايته ونصرته ولا تتولوا غيره أولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم ففيه وعد ووعيد والباء مزيدة فى فاعل كفى لتأكيد الاتصال الإسنادى بالاتصال الإضافى وتكرير الفعل فى الجملتين مع إظهار الجلالة فى مقام الإضمار لا سيما فى الثانى لتقوية استقلالهما المناسب للاعتراض وتأكيد كفايته عزوجل فى كل من الولاية والنصرة والإشعار بعليتهما فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قيل هو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما فى معرض الاعتراض الذى حقه العموم والإطلاق وانتظام ما هو المقصود فى المقام انتظاما أوليا كما أشير إليه وقيل هو صلة لنصير أى ينصركم من الذين هادوا كما فى قوله تعالى (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) وفيه ما فيه من تحجير واسع نصرته عزوجل مع أنه لا داعى إلى وضع الموصول موضع ضمير الأعداء لأن ما فى حيز الصلة ليس بوصف ملائم للنصر وقيل هو خبر مبتدأ محذوف وقع قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) صفة له أى من الذين هادوا قوم أو فريق يحرفون الخ وفيه أنه يقتضى كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذى هو المصداق لاشترائهم فى الحقيقة فالذى يليق بشأن

١٨٢

التنزيل الجليل أنه بيان للموصول الأول المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين قد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرهم عن مخالطتهم والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عزوجل والاكتفاء بولايته ونصرته وأن قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ) وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور وتفصيل لفنون ضلالتهم وقد روعيت فى النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام والتفصيل إثر الإجمال روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال والكلم اسم جنس واحده كلمة كتمرو تمرة وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا وجمعية مواضعه باعتبار تعدده معنى وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة وقرىء يحرفون الكلام والمراد به ههنا إما ما فى التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم فى أثناء المحاورة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) الخ على ما قبله عطفا تفسيريا لما ستقف على سره فإن أريد به الأول كما هو رأى الجمهور فتحريفه إزالته عن مواضعه التى وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم فى نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمر ربعة عن موضعه فى التوراة بأن وضعوا مكانه آدم طوال وكتحريفهم الرجم بوضعهم بدله الحد أو صرفه عن المعنى الذى أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الزائغة الملائمة لشهواتهم الباطلة وإن أريد به الثانى فلا بد من أن يراد بمواضعه ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما فى التوراة أو بتعيين العقل أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولهم سمعنا وعصينا ينبغى أن يجرى على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقى ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة فإن من لا يتفوه بتلك العظيمة لا يكاد يتجاسر على مثل هذه الجناية وإلا فحمله على ما قالوه فى مجلس النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القبائح خاصة يستدعى اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السر الموعود فتأمل أى يقولون فى كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا بلسان المقال أو الحال سمعنا وعصينا عنادا وتحقيقا للمخالفة وقوله تعالى (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) عطف على (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) داخل تحت القول أى ويقولون ذلك فى أثناء مخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أى مدعوا عليك بلا سمعت أو غير مسمع كلاما ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبه على المفعولية. وللخير بأن يحمل على اسمع منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء به مظهرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون فى أنفسهم المعنى الأول مطمئنون به (وَراعِنا) عطف على (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أى ويقولون فى أثناء خطابهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا أيضا يوردون كلا من العظائم الثلاث فى مواقعها وهى أيضا كلمة ذات وجهين محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك وللشر بحملها على السب بالرعونة أى الحمق أو بإجرائها مجرى ما يشبهها من كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهى راعينا كانوا يخاطبونهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ينوون الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والاحترام ومصيرهم إلى مسلك النفاق فى

١٨٣

القولين الأخيرين مع تصريحهم بالعصيان فى الأول لما قالوا من أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء وقيل كانوا يقولون الأول فيما بينهم وقيل يجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أى فتلابها وصرفا للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروها وأجروا راعنا المشابهة لراعينا مجرى انظرنا أو فتلا بها وضما لما يظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أى قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين أى يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن فى الدين أو على الحالية أى لاوين وطاعنين فى الدين (وَلَوْ أَنَّهُمْ) عندما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه (قالُوا) بلسان المقال أو بلسان الحال مكان قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إنما أعيد سمعنا مع أنه متحقق فى كلامهم وإنما الحاجة إلى وضع أطعنا مكان عصينا لا للتنبيه على عدم اعتباره بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعهم سماع الرد ومرادهم بحكايته إعلام عصيانهم للأمر بعد سماعه والوقوف عليه فلا بد من إزالته وإقامة سماع القبول مقامه (وَاسْمَعْ) أى لو قالوا عند مخاطبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدل قولهم اسمع غير مسمع اسمع (وَانْظُرْنا) أى ولو قالوا ذلك بدل قولهم راعنا ولم يدسوا تحت كلامهم شرا وفسادا أى لو ثبت أنهم قالوا هذا مكان ما قالوا من الأقوال (لَكانَ) قولهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) مما قالوا (وَأَقْوَمَ) أى أعدل وأسد فى نفسه وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل فى المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق النهكم وإما بمعنى اسم الفاعل وإنما قدم فى البيان حاله بالنسبة إليهم على حاله فى نفسه لأن هممهم مقصورة على ما ينفعهم (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أى ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك (فَلا يُؤْمِنُونَ) بعد ذلك (إِلَّا قَلِيلاً) قيل أى إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الكتب والرسل أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فإنهم يؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان قال تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وكلاهما ليس بإيمان قطعا وقد جوز أن يراد بالقلة العدم بالكلية على طريقة قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أى إن كان الإيمان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو فى المعنى تعليق بالمحال وأنت خبير بأن الكل يأباه ما يعقبه من الأمر بالإيمان بالقرآن الناطق بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمحال الذى هو إيمانهم بعدم إيمانهم المستمر أما على الوجه الأخير فظاهر وأما على الأولين فلأن أمرهم بالإيمان المنجز بجميع الكتب والرسل تكليف لهم بإيمانهم بعدم إيمانهم ببعض الكتب والرسل وبعدم إيمانهم إلى وقت الاحتضار فالوجه أن يحمل القليل على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل فى لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار بل بجعله ضمير المفعول فى لعنهم أى ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا فإنه تعالى لم يلعنهم فلم ينسد عليهم باب الإيمان وقد آمن بعد ذلك فريق من الأحبار كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما كما سيأتى.

١٨٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤٧)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إما إلى من حكيت أحوالهم وأقوالهم خاصة بطريق الالتفات ووصفهم تارة بإيتاء الكتاب أى التوراة وأخرى بإيتاء نصيب منها لتوفية كل من المقامين حقه فإن المقصود فيما سبق بيان أخذهم الضلالة وإزالة ما أوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلها حتى يوصفوا بإيتائه بل هو بعضها فوصفوا بإيتائه وأما ههنا فالمقصود تأكيد إيجاب الامتثال بالأمر الذى يعقبه والتحذير عن مخالفته من حيث إن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه والكفر بالثانى مقتض للكفر بالأول قطعا ولا ريب فى أن المحذور عندهم إنما هو لزوم الكفر بالتوراة نفسها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآن مصدقا لكلها وإن كان مناط التصديق بعضا منها ضرورة أن مصدق البعض مصدق للكل المتضمن له حتما. وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبة وهو الأظهر وأياما كان فتفصيل ما فصل لما كان من مظان إقلاع كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهداية مشفوعا بالوعيد الشديد على المخالفة فقيل (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) من القرآن عبر عنه بالموصول تشريفا له بما فى حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عزوجل (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرر المراجعة إليها من موجبات العثور على ما فى تضاعيفها المؤدى إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها فى القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهى عن المعاصى والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها فى جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة فى الحقيقة بل هى عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التى عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعى (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال به والجد فى الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غنى عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين وفى تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب وفى إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصل الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أى آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها قال ابن عباس رضى الله عنهما نجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة وقال قتادة والضحاك نعميها كقوله تعالى (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) وقيل نجعلها منابت الشعر كوجوه القردة (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فالفاء للتسبيب أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع

١٨٥

الأقفاء والأقفاء إلى موضعها وقد اكتفى بذكر أشدهما فالفاء للتعقيب وقيل المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارا وأدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهى أذرعات الشأم فالمراد بذلك إجلاء بنى النضير ولا يخفى أنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع فالوجه ما سبق من الوجوه وقد اختلف فى أن الوعيد هل كان بوقوعه فى الدنيا أو فى الآخرة فقيل كان بوقوعه فى الدنيا ويؤيده ما روى أن عبد الله ابن سلام رضى الله تعالى عنه لما قدم من الشأم وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتى أهله فأسلم وقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهى إلى قفاى وفى رواية جاء إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويده على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما روى أن عمر رضى الله عنه قرأ هذه الآية على كعب الأحبار فقال كعب يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم اختلفوا فقيل إنه منتظر بعد ولا بد من طمس فى اليهود ومسخ وهو قول المبرد وفيه أن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذبوها وفى التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجد بعد مئات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العالمين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة الله تعالى العزيز الحكيم وقيل إن وقوعه كان مشروطا بعدم الإيمان وقد آمن من أحبارهم المذكوران وأضرابهما فلم يقع وفيه أن إسلام بعضهم إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم وقيل كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع فى وقوع الثانى كيف لا وهم ملعونون بكل لسان فى كل زمان وتفسير اللعن بالمسخ ليس بمقرر البتة وأنت خبير بأن المتبادر من اللعن المشبه بلعن أصحاب السبت هو المسخ وليس فى عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على عدم إرادة المسخ ضرورة أنه تغيير مغاير لما عطف عليه على أن المتوعد به لابد أن يكون أمرا حادثا مترتبا على الوعيد محذورا عندهم ليكون مزجرة عن مخالفة الأمر ولم يعهد أنه وقع عليهم لعن بهذا الوصف إنما الواقع عليهم ما تداولته الألسنة من اللعن المستمر الذى ألفوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة للعنيد وقيل إنما كان الوعيد بوقوع ما ذكر فى الآخرة عند الحشر وسيقع فيها لا محالة أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع وأما ما روى عن عبد الله بن سلام وكعب فمبنى على الاحتياط اللائق بشأنهما والحق أن النظم الكريم ليس بنص فى أحد الوجهين بل المتبادر منه بحسب المقام هو الأول لأنه أدخل فى الزجر وعليه مبنى ما روى عن الحبرين لكن لما لم يتضح وقوعه علم أن المراد هو الثانى والله تعالى أعلم وأيا ما كان فلعل السر فى تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات مراعاة المشاكلة بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التى هى التحريف والتغيير والله هو العليم الخبير (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أى ما أمر به كائنا ما كان أو أمره بإيقاع شىء ما من الأشياء (مَفْعُولاً) نافذا كائنا لا محالة فيدخل فيه ما أوعدتم به

١٨٦

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤٩)

____________________________________

دخولا أوليا فالجملة اعتراض تذييلى مقرر لما سبق ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية ما فى الاعتراض من الاستقلال (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون فى المغفرة كما فى قوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أى على التحريف ويقولون سيغفر لنا والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة فى النار ونزوله فى حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه لا يقتضى اختصاصه بكفرهم بل يكفى اندراجه فيه قطعا بل لا وجه له أصلا لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم فى الشدة من أنواع الكفر أى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدى إلى فتحه ولأن ظلمات الكفر والمعاصى إنما يسترها نور الإيمان فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شىء من الكفر والمعاصى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) عطف على خبر إن وذلك إشارة إلى الشرك وما فيه من معنى البعد مع قربه فى الذكر للإيذان ببعد درجته وكونه فى أقصى مراتب القبح أى ويغفر ما دونه فى القبح من المعاصى صغيرة كانت أو كبيرة تفضلا من لدنه وإحسانا من غير توبة عنها لكن لا لكل أحد بل (لِمَنْ يَشاءُ) أى لمن يشاء أن يغفر له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتهما لمن اتصف بهما سواء فى استحالة الدخول تحت المشيئة المبنية على الحكمة التشريعية فإن اختصاص مغفرة المعاصى من غير توبة بأهل الإيمان من متممات الترغيب فيه والزجر عن الكفر ومن علق المشيئة بكلا الفعلين وجعل الموصول الأول عبارة عمن لم يتب والثانى عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا وأن مساق النظم الكريم لإظهار كمال عظم جريمة الكفر وامتيازه عن سائر المعاصى ببيان استحالة مغفرته وجواز مغفرتها فلو كان الجواز على تقدير التوبة لم يظهر بينهما فرق للإجماع على مغفرتهما بالتوبة ولم يحصل ما هو المقصود من الزجر البليغ عن الكفر والطغيان والحمل على التوبة والإيمان (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) إظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لزيادة تقبيح الإشراك وتفظيع حال من يتصف به (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أى افترى واختلق مرتكبا إثما لا يقادر قدره ويستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان والمراد بهم اليهود الذين يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا هل على هؤلاء ذنب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر

١٨٧

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١)

____________________________________

عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار أى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم أو من ادعائهم التكفير مع استحالة أن يغفر للكافر شىء من كفره أو معاصيه وفيه تحذير من إعجاب المرء بنفسه وبعمله (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل هم لا يزكونها فى الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكى من يشاء تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين إذ هو العليم الخبير بما ينطوى عليه البشر من المحاسن والمساوى وقد وصفهم الله بما هم متصفون به من القبائح وأصل التزكية نفى ما يستقبح بالفعل أو القول (وَلا يُظْلَمُونَ) عطف على جملة قد حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أى يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون فى ذلك العقاب (فَتِيلاً) أى أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذى فى شق النواة يضرب به المثل فى القلة والحقارة وقيل التقدير يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شىء أصلا ولا يساعده مقام الوعيد (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) كيف نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه والأخفش والعامل يفترون وبه تتعلق على أى فى أى حال أو على أى حال يفترون عليه تعالى الكذب والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها والجملة فى محل النصب بعد نزع الخافض والنظر متعلق بها وهو تعجيب إثر تعجيب وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه وافتراؤهم على الله سبحانه فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول الله وارتضاءه إياهم تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولكون هذا أشنع من الأول جرما وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر وارتضائه لعباده ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة فى تقبيح حالهم (وَكَفى بِهِ) أى بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام (إِثْماً مُبِيناً) ظاهرا بينا كونه إثما والمعنى كفى ذلك وحده فى كونهم أشد إثما من كل كفار أثيم أو فى استحقاقهم لأشد العقوبات لما مر سره وجعل الضمير لزعمهم مما لا مساغ له لإخلاله بتهويل أمر الافتراء فتدبر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما ذكر من إيتاء النصيب لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح وقوله عزوجل (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) استئناف مبين لمادة التعجب مبنى على سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون حين ينظر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله تعالى فقيل أصله الجبس وهو الذى

١٨٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٥٣)

____________________________________

لا خير عنده فأبدل السين تاء وقيل الجبت الساحر بلغة الحبشة والطاغوت الشيطان قيل هو فى الأصل كل ما يطغى الإنسان. روى أن حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة فى سبعين راكبا من اليهود ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينقضوا العهد الذى كان بينهم وبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا وقال أبو سفيان لكعب إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا نحن أم محمد فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك قال وما دينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقى الحاج ونقرى الضيف ونفك العانى وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى لأجلهم وفى حقهم (هؤُلاءِ) يعنونهم (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أى أقوم دينا وأرشد طريقة وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح (أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم فى الذكر للإشعار ببعد منزلتهم فى الضلال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أى أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مصيرهم ومآلهم (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ) أى يبعده عن رحمته (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا لا بشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيص على حرمانهم مما طلبوا من قريش وفى كلمة لن وتوجيه الخطاب إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدى بالكلية ما لا يخفى (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) شروع فى تفصيل بعض آخر من قبائحهم وأم منقطعة وما فيها من بل للإضراب والانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم وغيرها مما حكى عنهم إلى ذمهم بادعائهم نصيبا من الملك وبخلهم المفرط وشحهم البالغ والهمزة لإنكار أن يكون لهم ما يدعونه وإبطال ما زعموا أن الملك سيصير إليهم وقوله تعالى (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسبب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس منه أقل قليل ومن حق من أوتى الملك أن يؤثر الغير بشىء منه فالفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف أى إن جعل لهم نصيب منه فإذن لا يؤتون الناس مقدار نقير وهو ما فى ظهر النواة من النقرة يضرب به المثل فى القلة والحقارة وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متفاقرون ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه أى لعده منكرا غير لائق بالوقوع على أن الفاء للعطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى ألهم نصيب وافر من الملك حيث

١٨٩

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥)

____________________________________

كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نفيرا كما تقول لغنى لا يراعى أباه ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا وفائدة إذن تأكيد الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء وهى ملغاة عن العمل كأنه قيل فلا يؤتون الناس إذن وقرىء فإذن لا يؤتوا بالنصب على إعمالها (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذى هو شر الرذائل وأقبحها لا سيما على ما هم بمعزل من استحقاقه واللام فى الناس للعهد والإشارة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وحمله على الجنس إيذانا بحيازتهم الكمالات البشرية قاطبة فكأنهم هم الناس لا غير لا يلائمه ذكر حديث آل إبراهيم فإن ذلك لتذكير ما بين الفريقين من العلاقة الموجبة لاشتراكهما فى استحقاق الفضل والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبى الموعود منهم فلما خص الله تعالى بتلك الكرامة غيرهم حسدوهم أى بل أيحسدونهم (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما وقوله تعالى (فَقَدْ آتَيْنا) تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتى من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر والمعنى أن حسدهم المذكور فى غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل هذا (آلَ إِبْراهِيمَ) الذين هم أسلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أبناء أعمامه (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أى النبوة (وَآتَيْناهُمْ) مع ذلك (مُلْكاً عَظِيماً) لا يقادر قدره فكيف يستبعدون نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفضيل مع الإشعار بما بين النبوة والملك من المغايرة فإن أريد به الإيتاء بالذات فالمراد بآل إبراهيم أنبياؤهم خاصة والضمير المنصوب فى الفعل الثانى لبعضهم إما بحذف المضاف أو بطريق الاستخدام لما أن الملك لم يؤت كلهم. قال ابن عباس رضى الله عنهما الملك فى آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم‌السلام وإن أريد به ما يعمه وغيره من الإيتاء بالواسطة وهو اللائق بالمقام والأوفق لما قبله من نسبة إيتاء الفضل إلى الناس فالمراد بآل إبراهيم كلهم فإن تشريف البعض بما ذكر من إيتاء النبوة والملك تشريف للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسهم من أنواره وفى تفصيل ما أوتوه وتكرير الفعل ووصف الملك بالعظم وتنكيره التفخيمى من تأكيد الإلزام وتشديد الإنكار ما لا يخفى هذا هو المتبادر من النظم الكريم وإليه جنح جمهور أئمة التفسير لكن الظاهر حينئذ أن يكون قوله تعالى (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكى من غير أن يكون له دخل فى الإلزام الذى سيق له الكلام أى فمن جنس

١٩٠

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٥٦)

____________________________________

هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتى آل إبراهيم ومنهم من أعرض عنه وأما جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم فيستدعى تراخى الآية الكريمة عما قبلها نزولا كيف لا وحكاية إيمانهم بالحديث المذكور وإعراضهم عنه بصيغة الماضى إنما يتصور بعد وقوع الإيمان والإعراض المتأخرين عن سماع الحديث المتأخر عن نزوله وكذا جعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ الظاهر بيان حالهم بعد هذا الإلزام وحمله على حكاية حالهم السابقة لا تساعده الفاء المرتبة لما بعدها على ما قبلها ولا يبعد كل البعد أن تكون الهمزة لتقرير حسدهم وتوبيخهم بذلك ويكون قوله تعالى (فَقَدْ آتَيْنا) الآية تعليلا له بدلالته على إعراضهم عما أوتى آل إبراهيم وإن لم يذكر كونه بطريق الحسد كأنه قيل بل أيحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به وذلك ديدنهم المستمر فإنا قد آتينا آل إبراهيم ما آتينا فمنهم أى من جنسهم من آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلم وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) نارا مسعرة يعذبون بها والجملة تذييل لما قبلها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) إن أريد بهم الذين كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه أو ما يعم سائر معجزاته أيضا وإن أريد بهم الجنس المتناول لهم تناولا أوليا فالمراد بالآيات ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التى أوتيها الأنبياء عليهم‌السلام (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) قال سيبويه سوف كلمة تذكر للتهديد والوعيد وينوب عنها السين وقد يذكر ان فى الوعد فيفيدان التأكيد أى ندخلهم نارا عظيمة هائلة (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) أى احترقت وكلما ظرف زمان والعامل فيه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) من قبيل بدله بخوفه أمنا لا من قبيل يبدل الله سيئائهم حسنات أى أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كان عينه مادة بأن يزال عنه الاحتراق ليعود إحساسه للعذاب والجملة فى محل النصب على أنها حال من ضمير نصليهم وقد جوز كونها صفة لنارا على حذف العائد أى كلما نضجت فيها جلودهم فمعنى قوله تعالى (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز أعزك الله وقيل يخلق مكانه جلدا آخر والعذاب للنفس العاصية لا لآلة إدراكها قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس وروى أن هذه الآية قرئت عند عمر رضى الله تعالى عنه فقال للقارىء أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ عندى تفسيرها يبدل فى ساعة مائة مرة فقال عمر رضى الله عنه هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وقال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا وروى أبو هريرة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن بين منكبى الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع وعن أبى هريرة أنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق ليس لبيان قلته بل

١٩١

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨)

____________________________________

لبيان أن إحساسهم بالعذاب فى كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان لدوام الملابسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثرا أو على سرايته للباطن ولعل السر فى تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق ومع إبقاء أبدانهم على حالها مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب بصيانة بدنها عن الاحتراق (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحد (حَكِيماً) يعاقب من يعاقبه على وفق حكمته والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتهويل الأمر وتربية المهابة وتعليل الحكم فإن عنوان الألوهية مناط لجميع صفات كماله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا لمساءة الأولين ومسرة الآخرين أى الذين آمنوا بآياتنا وعملوا بمقتضياتها وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقرىء سيدخلهم بالياء ردا على الاسم الجليل وفى السين تأكيد للوعد (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) حال مقدرة من الضمير المنصوب فى سندخلهم وقوله عز وعلا (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أى مما فى نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة البدنية والأدناس الطبيعية فى محل النصب على أنه حال من جنات أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو على أنه صفة لجنات بعد صفة أو فى محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أى فينانا لاجوب فيه دائما لا تنسخه شمس اللهم ارزقنا ذلك بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما فى ليل أليل ويوم أيوم وقرىء يدخلهم بالياء وهو عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما فى قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فى تصدير الكلام بكلمة التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية وإن ورد فى شأن عثمان بن طلحة ابن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان رضى الله عنه باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم

١٩٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

____________________________________

أمنعه فلوى على بن أبى طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلى أكرهت وآذيت ثم جئت ترفو فقال لقد أنزل الله تعالى فى شأنك قرآنا فقرأ عليه الآية فقال عثمان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن السدانة فى أولاد عثمان أبدا وقرىء الأمانة على التوحيد والمراد الجنس لا المعهود وقيل هو أمر للولاة بأداء الحقوق المتعلقة بذممهم من المناصب وغيرها إلى مستحقها كما أن قوله تعالى (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة قيد به بخلاف المأمور به أو لا فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا فقوله تعالى (أَنْ تَحْكُمُوا) عطف على (أَنْ تُؤَدُّوا) قد فصل بين العاطف والمعطوف بالظرف المعمول له عند الكوفيين والمقدر يدل هو عليه عند البصريين لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها عندهم أى وأن تحكموا إذا حكمتم الخ وقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) متعلق ب (تَحْكُمُوا) أو بمقدر وقع حالا من فاعله أى ملتبسين بالعدل والإنصاف (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) ما إما منصوبة موصوفة بيعظكم به أو مرفوعة موصولة به كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به أو نعم الشىء الذى يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف أى نعما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل فى الحكومات وقرىء نعما بفتح النون والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الامتثال بالأمر وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) لأقوالكم (بَصِيراً) بأفعالكم فهو وعد ووعيد وإظهار الجلالة لما ذكر آنفا فإن فيه تأكيدا لكل من الوعد والوعيد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما أمر الولاة بطريق العموم أو بطريق الخصوص بأداء الأمانات والعدل فى الحكومات أمر سائر الناس بطاعتهم لكن لا مطلقا بل فى ضمن طاعة الله تعالى وطاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قيل (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدى بهم من المهتدين وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وجوب الطاعة لهم وقيل هم علماء الشرع لقوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ويأباه قوله تعالى (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد فى حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولى الأمر بطريق الالتفات وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيان حكم طاعة أولى الأمر عند موافقتها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستدعى بيان حكمها عند المخالفة أى إن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم فى أمر من أمور الدين فراجعوا فيه إلى كتاب الله (وَالرَّسُولِ) أى إلى سنته وقد استدل

١٩٣

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٦٠)

____________________________________

به منكر والقياس وهو فى الحقيقة دليل على حجيته كيف لا ورد المختلف فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الأمر به بعد الأمر بطاعة الله تعالى وبطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد إليهما بالقياس (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) متعلق بالأمر الأخير الوارد فى محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير من المخالفة وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه أى إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فردوه الخ فإن الإيمان بهما يوجب ذلك أما الإيمان بالله تعالى فظاهر وأما الإيمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب على المخالفة (ذلِكَ) أى الرد المأمور به (خَيْرٌ) لكم وأصلح (وَأَحْسَنُ) فى نفسه (تَأْوِيلاً) أى عاقبة ومآلا وتقديم خيريته لهم على أحسنيته فى نفسه لما مر من تعلق أنظارهم بما ينفعهم والمراد بيان اتصافه فى نفسه بالخيرية الكاملة والحسن الكامل فى حد ذاته من غير اعتبار فضله على شىء يشاركه فى أصل الخيرية والحسن كما ينبئ عنه التحذير السابق (أَلَمْ تَرَ إِلَىالَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجيبا له من حال الذين يخالفون ما مر من الأمر المحتوم ولا يطيعون الله ولا رسوله ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله أعنى التوراة لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ببيان كمال المباينة بين دعواهم وبين ما صدر عنهم وقرىء الفعلان على البناء للفاعل وقوله عزوجل (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) استئناف سيق لبيان محل التعجيب مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون فقيل يريدون الخ روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لليهودى فلم يرض به المنافق فدعاه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال اليهودى قضى لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وقال إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت الفاروق فالطاغوت كعب بن الأشرف سمى به لإفراطه فى الطغيان وعداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه أو جعل اختيار التحاكم إلى غير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان وقال الضحاك المراد بالطاغوت كهنة اليهود وسحرتهم وعن الشعبى أن المنافق دعا خصمه إلى كاهن فى جهينة فتحاكما إليه وعن السدى أن الحادثة وقعت فى قتيل بين بنى قريظة والنضير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكم إلى أبى بردة الكاهن الأسلمى فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ

١٩٤

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً(٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (٦٢)

____________________________________

فى معرض التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم دون نفسه مع وقوعه أيضا للتنبيه على أن إرادته مما يقضى منه العجب ولا ينبغى أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه وهذا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة فإنه كما يقتضى كونهم من منافقى اليهود يقتضى كون ما صدر عنهم من التحاكم ظاهر المنافاة لا دعاء الإيمان بالتوراة وليس التحاكم إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابة من الظهور وأيضا فالمتبادر من قوله تعالى (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) كونهم مأمورين بكفره فى الكتابين وما ذاك إلا الشيطان وأولياؤه المشهورون بولايته كالكهنة ونظائرهم لا من عداهم ممن لم يشتهر بذلك وقرىء أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع كما فى قوله تعالى (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) والجملة حال من ضمير يريدون مفيدة لتأكيد التعجيب وتشديد الاستقباح كالوصف السابق وقوله عز وعلا (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) عطف على يريدون داخل فى حكم التعجيب فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب وضلالا إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد كما فى قوله تعالى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أى إضلالا بعيدا وإما مصدر مؤكد لفعله المدلول عليه بالفعل المذكور أى فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفه بالبعد الذى هو نعت موصوفه للمبالغة وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) تكملة لمادة التعجيت ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك فى ضمن التحاكم إلى الطاغوت وقرىء تعالوا بضم اللام على أنه حذف لام الفعل تخفيفا كما فى قولهم ما باليت بالة أصلا بالية كعافية وكما قالوا فى آية إن أصلها أيية فحذفت اللام ووقعت واو الجمع بعد اللام فى تعالى فضمت فصار تعالوا ومنه قول أهل مكة للمرأة تعالى بكسر اللام وعليه قول أبى فراس الحمدانى[أيا جارتى ما أنصف الدهر بيننا تعالى أقاسمك الهموم تعالى] (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ) إظهار المنافقين فى مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم والرؤية بصرية وقوله تعالى (يَصُدُّونَ عَنْكَ) حال من المنافقين وقيل الرؤية قلبية والجملة مفعول ثان لها والأول هو الأنسب بظهور حالهم وقوله تعالى (صُدُوداً) مصدر مؤكد لفعله أى يعرضون عنك إعراضا وأى إعراض وقيل هو اسم للمصدر الذى هو الصد والأظهر أنه مصدر لصد اللازم والصد مصدر للمتعدى يقال صد عنه صدودا أى أعرض عنه وصده عنه صدا أى منعه منه وقوله تعالى (فَكَيْفَ) شروع فى بيان غائلة جنايتهم المحكية ووخامة عاقبتها أى كيف يكون حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أى وقت إصابة المصيبة إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما عملوا من الجنايات التى من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك (ثُمَّ جاؤُكَ) للاعتذار عما صنعوا

١٩٥

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤)

____________________________________

من القبائح وهو عطف على أصابتهم والمراد تفظيع حالهم وتهويل ما دهمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمر عند إصابة المصيبة وعند المجىء للاعتذار (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) حال من فاعل جاءوك (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أى ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغنى عنهم الاعتذار وقيل جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا ما أردنا أى ما أراد صاحبنا المقتول بالتحاكم إلى عمر رضى الله تعالى عنه إلا أن يحسن إليه ويوفق بينه وبين خصمه (أُولئِكَ) إشارة إلى المنافقين وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم فى الكفر والنفاق وهو مبتدأ خبره (الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أى من فنون الشرور والفسادات المنافية لما أظهروا لك من الأكاذيب (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) جواب شرط محذوف أى إذا كان حالهم كذلك فأعرض عن قبول معذرتهم وقيل عن عقابهم لمصلحة فى استبقائهم ولا تظهر لهم علمك بما فى بواطنهم ولا تهتك سترهم حتى يبقوا على وجل وحذر (وَعِظْهُمْ) أى ازجرهم عن النفاق والكيد (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) فى حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرور التى يعلمها الله تعالى أو فى أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا بالنصيحة لأنها فى السر انجع (قَوْلاً بَلِيغاً) مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر وقيل متعلق ببليغا على رأى من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف أى قل لهم قولا بليغا فى أنفسهم مؤثرا فى قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعارا وهو التوعد بالقتل والاستئصال والإيذان بأن ما فى قلوبهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على الله تعالى وأن ذلك مستوجب لأشد العقوبات وإنما هذه المكافأة والتأخير لإظهارهم الإيمان والطاعة وإضمارهم الكفر ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق ليمسنهم العذاب إن الله شديد العقاب (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) كلام مبتدأ جىء به تمهيدا لبيان خطئهم فى الاشتغال بستر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلافيها بالتوبة أى وما أرسلنا رسولا من الرسل لشىء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى فى طاعته وأمره المرسل إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عنه تعالى فطاعته طاعة الله تعالى ومعصيته معصيته تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله أو بتيسير الله تعالى وتوفيقه فى طاعته (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وعرضوها لعذاب على عذاب النفاق بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك (جاؤُكَ) من غير تأخير كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك فى التنصل عن جنايتهم القديمة والحادثة ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها

١٩٦

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥)

____________________________________

بالاعتذار الباطل والأيمان الفاجرة (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) بالتوبة والإخلاص وبالغوا فى التضرع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم وإنما قيل (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) على طريقة الالتفات تفخيما لشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعته فى حيز القبول (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) لعلموه مبالغا فى قبول توبتهم والتفضل عليهم بالرحمة وإن فسر الوجدان بالمصادفة كان قوله تعالى (تَوَّاباً) حالا و (رَحِيماً) بدل منه أو حالا من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضل ترغيب للسامعين فى المسارعة إلى التوبة والاستغفار ومزيد تنديم لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهور تباشير قبول التوبة وحصول الرحمة لهم ومشاهدتهم لآثارهما نعمة زائدة عليهما موجبة لكمال الرغبة فى تحصيلها وتمام الحسرة على فواتها (فَلا وَرَبِّكَ) أى فو ربك ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفى فى جوابه أعنى قوله (لا يُؤْمِنُونَ) لأنها تزاد فى الإثبات أيضا كما فى قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ونظائره (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أى يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جىء بصيغة التحكيم مع أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكم بأمر الله سبحانه إيذانا بأن حقهم أن يجعلوه حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أى فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه (ثُمَّ لا يَجِدُوا) عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أى فتقضى بينهم ثم لا يجدوا (فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) ضيقا (مِمَّا قَضَيْتَ) أى مما قضيت به أو من قضائك وقيل شكا من أجله إذ الشاك فى ضيق من أمره (وَيُسَلِّمُوا) أى ينقادوا لأمرك ويذعنوا له (تَسْلِيماً) تأكيد للفعل بمنزلة تكريره أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم يقال سلم لأمر الله وأسلم له بمعنى وحقيقته سلم نفسه له وأسلمها إذا جعلها سالمة له خالصة أى ينقادوا لحكمك إنقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم قيل نزلت فى شأن المنافق واليهودى وقيل فى شأن الزبير ورجل من الأنصار حين اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شراج من الحرة كانا يسقيان بها النخل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصارى وقال لأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله ثم قال اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأى فيه سعة له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمستوعب للزبير حقه فى صريح الحكم ثم خرجا فمرا على المقداد بن الأسود فقال لمن القضاء فقال الأنصارى قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودى كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه فى قضاء يقضى بينهم وايم الله لقد اذنبنا ذنبا مرة فى حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا فى طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس أما والله إن الله ليعلم منى الصدق لو أمرنى محمد أن أقتل نفسى لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر

١٩٧

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩)

____________________________________

رضى الله عنهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذى نفسى بيده إن من أمتى رجالا الإيمان أثبت فى قلوبهم من الجبال الرواسى فنزلت فى شأن هؤلاء (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتهم من عبادة العجل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا فى معنى أمرنا (ما فَعَلُوهُ) أى المكتوب المدلول عليه بكتبنا أو أحد مصدرى الفعلين (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أى إلا أناس قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك وقيل معنى اقتلوا أنفسكم تعرضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيد وقرىء إلا قليلا بالنصب على الاستثناء أو إلا فعلا قليلا (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به ظاهرا وباطنا وسميت أوامر الله تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد (لَكانَ) أى فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) عاجلا وآجلا (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لهم على الإيمان وأبعد من الاضطراب فيه وأشد تثبيتا لثواب أعمالهم (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت فقيل وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جواب وجزاء (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يصلون بسلوكه إلى عالم القدس ويفتح لهم أبواب الغيب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف فيه فضل ترغيب فى الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما ينتهى إليه همم الأمم وأرفع ما يمتد إليه أعناق عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا متضمن لتفسير ما أبهم فى جواب الشرطية السابقة وتفصيل ما أجمل فيه والمراد بالطاعة هو الانقياد التام والامتثال الكامل لجميع الأوامر والنواهى (فَأُولئِكَ) إشارة إلى المطيعين والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى فعل الشرط باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع القرب فى الذكر للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الشرف وهو مبتدأ خبره (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) والجملة جواب الشرط وترك ذكر المنعم به للإشعار بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للمنعم عليهم والتعرض لمعية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أن الكلام فى بيان حكم طاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجريان ذكرهم فى

١٩٨

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠)

____________________________________

سبب النزول مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم متضمنة لطاعتهم لاشتمال شريعته على شرائعهم التى لا تتغير بتغير الأعصار روى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا يا نبى الله إن صرنا إلى الجنة تفضلنا بدرجات النبوة فلا نراك وقال الشعبى جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله وهو يبكى فقال ما يبكيك يا فلان فقال يا رسول الله بالله الذى لا إله إلا هو لأنت أحب إلى من نفسى وأهلى ومالى وولدى وإنى لأذكرك وأنا فى أهلى فيأخذنى مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتى وأنك ترفع مع النبيين وإنى إن أدخلت الجنة كنت فى منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وروى أن ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن فى وجهه فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حاله فقال يا رسول الله ما بى من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت فى منزل دون منزلك وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام والذى نفسى بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم وروى أن أنسا قال يا رسول الله الرجل يحب قوما ولما يلحق بهم قال عليه الصلاة والسلام المرء مع من أحب (وَالصِّدِّيقِينَ) أى المتقدمين فى تصديقهم المبالغين فى الصدق والإخلاص فى الأقوال والأفعال وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم المقربين كأبى بكر الصديق رضى الله عنه (وَالشُّهَداءِ) الذين بذلوا أرواحهم فى طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته (وَالصَّالِحِينَ) الصارفين أعمارهم فى طاعته وأموالهم فى مرضاته وليس المراد بالمعية الاتحاد فى الدرجة ولا مطلق الاشتراك فى دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أرادو إن بعد ما بينهما من المسافة (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) الرفيق الصاحب مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب واللطافة فى المعاشرة قولا وفعلا فإن جعل أولئك إشارة إلى النبيين ومن بعدهم على أن ما فيه من معنى البعد لما مر مرارا فرفيقا إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفراده لما أنه كالصديق والخليط والرسول يستوى فيه الواحد والمتعدد أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم رفيقا وإن جعل إشارة إلى المطيعين فهو تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من النبيين ومن بعدهم لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز فى الوجه الأول والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب قرىء وحسن بسكون السين (ذلِكَ) إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء المنعم عليهم أو إلى فضلهم ومزيتهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته فى الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى (الْفَضْلُ) صفته وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) خبره أى ذلك الفضل العظيم من الله

١٩٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣)

____________________________________

تعالى لا من غيره أو الفضل خبره ومن الله متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الإشارة أى ذلك الذى ذكر الفضل كائنا من الله تعالى لا أن أعمال المكلفين توجبه (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) الحذر والحذر واحد كالأثر والإثر والشبه والشبه اى تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التى بقى بها نفسه وقيل هو ما يحذر به من السلاح والحزم أى استعدوا للعدو (فَانْفِرُوا) بكسر الفاء وقرىء بضمها أى اخرجوا إلى الجهاد عند خروجكم (ثُباتٍ) جمع ثبة وهى الجماعة من الرجال فوق العشرة ووزنها فى الأصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها تاء التأنيث وهل هى واو أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقة من ثبا يثبو كحلا يحلو أى اجتمع وقيل من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعت محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه ومحلها النصب على الحالية أى انفروا جماعات متفرقة سرية بعد سرية (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أى مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أى ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم والخطاب لعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد أو ليبطئن غيره ويثبطنه من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل كما بطأ ابن أبى ناسا يوم أحد والأول أنسب لما بعده واللام الأولى للابتداء دخلت على اسم إن للفصل بالخبر والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن فى ليبطئن والتقدير وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) كقتل وهزيمة (قالَ) أى المبطئ فرحا بصنعه وحامدا لرأيه (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ) أى بالقعود (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أى حاضرا فى المعركة فيصيبنى ما أصابهم والفاء فى الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعيه لشىء ينتظر المبطئ وقوعه (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) كفتح وغنيمة (مِنَ اللهِ) متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أى فضل كائن من الله تعالى ونسبة إصابة الفضل إلى جناب الله تعالى دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيلية كما فى قوله سبحانه وإذا مرضت فهو يشفين وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق وأثر نفاقهم فيها أظهر (لَيَقُولَنَّ) ندامة على تثبطه وقعوده وتهالكا على حطام الدنيا وتحسرا على فواته وقرىء ليقولن بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى من وقوله تعالى (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ

٢٠٠