تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

أحكامه المقصودة منه شرعا وأما حل الوطء فليس من تلك الأحكام فلا ضير فى تخلفه عنه كما فى المجوسية والأمهات تعم الجدات وإن علون والبنات تتناول بناتهن وإن سفلن والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد والدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد والدتك قريبا أو بعيدا وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) نزل الله تعالى الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه ومنه قوله عليه‌السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهو حكم كلى جار على عمومه وأما أم أخيه لأب واخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى يحل بعمومه ضرورة حلهن فى صور الرضاع بل من جهة المصاهرة ألا يرى أن الأولى موطوءة أبيه والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته والرابعة موطوءة جده الصحيح والخامسة موطوءة جده الفاسد (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) شروع فى بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التى لها لحمة كلحمة النسب والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهور العلماء روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه لا بأس بأن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها وعن عمر وعمران بن الحصين رضى الله عنهما أن الأم تحرم بنفس العقد وعن مسروق هى مرسلة فأرسلوا ما أرسل الله وعن ابن عباس أبهموا ما أبهم الله خلا أنه روى عنه وعن على وزيد وابن عمر وابن الزبير رضى الله عنهم أنهم قرءوا وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل أقام الموت فى ذلك مقام الدخول كما قام مقامه فى باب المهر والعدة ويلحق بهن الموطوءات بوجه من الوجوه المعدودة فيما سبق والممسوسات ونظائرهن والأمهات تعم المرضعات كما تعم الجدات حسبما ذكر (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) الربائب جمع ربيبة فعيل بمعنى مفعول والتاء للنقل إلى الاسمية والربيب ولد المرأة من آخر سمى به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده وإن لم يكن ذلك أمرا مطردا وهو المعنى بكونهن فى الحجور فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكن فى حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن لا كونهن كذلك بالفعل وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها كما أنها النكتة فى إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن وفى شرف التقلب فى حجورهم وتحت حمايتهم وتربيتهم مما يقوى الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم ويستدعى إجراءهن مجرى بناتهم لا تقييد الحرمة بكونهن فى حجورهم بالفعل كما روى عن على رضى الله عنه وبه اخذ داود ومذهب جمهور العلماء ما ذكر أولا بخلاف ما فى قوله تعالى (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) فإنه لتقييدها به قطعا فإن

١٦١

كلمة من متعلقة بمحذوف وقع حالا من ربائبكم أو من ضميرها المستكن فى الظرف لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا أى وربائبكم اللآتى استقررن فى حجوركم كائنات من نسائكم الخ ولا مساغ لجعله حالا من أمهات أو مما أضيفت هى إليه خاصة وهو بين لا سترة به ولا مع ما ذكر أو لا ضرورة أن حاليته من ربائبكم أو من ضمير ما تقتضى كون كلمة من ابتدائية وحاليته من أمهات أو من نسائكم تستدعى كونها بيانية وادعاء كونها اتصالية منتظمة لمعنى الابتداء والبيان أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله مع أنه سعى فى إسكات ما نطق به النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم واتفق عليه الجمهور حسبما ذكر فيما قبل وأما ما نقل من القراءة فضعيفة الرواية وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ ومعنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهى كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب وفى حكمه اللمس ونظائره كما مر (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا) أى فيما قبل (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أصلا (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أى فى نكاح الربائب وهو تصريح بما أشعر به ما قبله والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيان حكم الدخول مستتبع لبيان حكم عدمه (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) أى زوجاتهم سميت الزوجة حليلة لحلها للزوج أو لحلولها فى محله وقيل لحل كل منهما إزار صاحبه وفى حكمهن مزنياتهم ومن يجرين مجراهن من الممسوسات ونظائرهن وقوله تعالى (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) لإخراج الأدعياء دون أبناء الأولاد والأبناء من الرضاع فإنهم وإن سفلوا فى حكم الأبناء الصلبية (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) فى حيز الرفع عطفا على ما قبله من المحرمات والمراد به جمعهما فى النكاح لا فى ملك اليمين وأما جمعهما فى الوطء بملك اليمين فملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما فى المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه فى رحم أختين بخلاف نفس ملك اليمين فإنه ليس فى معنى النكاح فى الإفضاء إلى الوطء ولا مستلزما له ولذلك يصح شراء المجوسية دون نكاحها حتى لو وطئهما لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه وطء الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أخت أمته الموطوءة لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحة موطوءة حكما فكأنه جمعهما وطأ وإسناد الحرمة إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما فى المحرمات السابقة ولكونه بمعزل من الدلالة على حرمة الجمع بينهما على سبيل المعية ويشترك فى هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله وذلك متحقق فى الجمع بين هؤلاء بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله عليه‌السلام لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لا بيان التغيير وقيل هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء منقطع أى لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلا بقصد التأكيد والمبالغة كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل لما أفاده الاستثناء فيتحتم الانقطاع وقال عطاء والسدى معناه إلا ما كان من يعقوب عليه‌السلام فإنه قد جمع بين ليا أم يهوذا وبين راحيل أم يوسف عليه الصلاة والسلام ولا يساعده التعليل لأن ما فعله يعقوب عليه‌السلام كان حلالا فى شريعته وقال ابن عباس رضى الله عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله

١٦٢

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢٤)

____________________________________

تعالى إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات إلا اثنتين نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين ألا يرى أنه قد عقب النهى عن كل منهما بقوله تعالى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وهذا يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف التعليلين (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد وهن ذوات الأزواج أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أى أعفهن عن الوقوع فى الحرام وقرىء على صيغة اسم الفاعل فإنهن أحصن فروجهن عن غير أزوجهن أو أحصن أزواجهن وقيل الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا وفتح الصاد محمول على الشذوذ كما فى نظيريه ملقح ومسهب من ألقح وأسهب قيل قد ورد الإحصان فى القرآن بإزاء أربعة معان الأول التزوج كما فى هذه الآية الكريمة الثانى العفة كما فى قوله تعالى (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) الثالث الحرية كما فى قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) والرابع الإسلام كما فى قوله تعالى (فَإِذا أُحْصِنَ) قيل فى تفسيره أى أسلمن وهى معطوفة على المحرمات السابقة وقوله تعالى (مِنَ النِّساءِ) متعلق بمحذوف وقع حالا منها أى كائنات من النساء وفائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس كما توهم (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) استثناء من المحصنات استثناء النوع من الجنس أى ملكتموه وإسناد الملك إلى الأيمان لما أن سببه الغالب هو الصفة الواقعة بها وقد اشتهر ذلك فى الأرقاء لا سيما فى إناثهم وهن المرادات ههنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر والتعبير عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرق عن رتبة العقلاء وهى إما عامة حسب عموم صلتها فالاستثناء حينئذ ليس لإخراج جميع أفرادها من حكم التحريم بطريق شمول النفى بل بطريق نفى الشمول المستلزم لإخراج بعضها أى حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللآتى ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن فى الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا حسب اختلاف الرأيين وإما خاصة بالمذكورات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللآتى سبين فإن نكاحهن مشروع فى الجملة أى لغير ملاكهن وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لما عرفت من أن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجرى فيه الاستثناء قطعا وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبى على اختلاف الرأيين فمبنى على اعتقاد الناس حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفرقة ألا يرى إلى ما روى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من أنه قال أصبنا يوم أوطاس سبايالهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى رواية عنه قلنا يا رسول الله كيف نقع على

١٦٣

نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن فنزلت والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستحللناهن وفى رواية أخرى عنه ونادى منادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض فأباح وطأهن بعد الاستبراء وليس فى ترتيب هذا الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالة على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها. هذا وقد روى عن أبى سعيد رضى الله عنه أنه قال إنها نزلت فى نساءكن يهاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن فالمحصنات حينئذ عبارة عن مهاجرات يتحقق أو يتوقع من أزواجهن الإسلام والمهاجرة ولذلك لم يزل عنهن اسم الإحصان والنهى لتحريم المحقق وتعرف حال المتوقع وإلا فما عداهن بمعزل من الحرمة واستحقاق إطلاق الاسم عليهن كيف لا وحين انقطعت العلاقة بين المسببة وزوجها مع اتحادهما فى الدين فلأن تنقطع ما بين المهاجرة وزوجها أحق وأولى كما يفصح عنه قوله عزوجل (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) الآية (كِتابَ اللهِ) مصدر مؤكد أى كتب الله (عَلَيْكُمْ) تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا وقيل منصوب على الإغراء بفعل مضمر أى الزموا كتاب الله وعليكم متعلق إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالا منه وقيل هو إغراء آخر مؤكد لما قبله قد حذف مفعوله لدلالة المذكور عليه أو بنفس عليكم على رأى من جوز تقديم المنصوب فى باب الإغراء كما فى قوله[يأيها المائح دلوى دونكا [أنى رأيت الناس يحمدونكا] وقرىء كتب الله بالجمع والرفع أى هذه فرائض الله عليكم وقرىء كتب الله بلفظ الفعل (وَأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على حرمت عليكم الخ وتوسيط قوله تعالى (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بينهما للمبالغة فى الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرىء على صيغة المبنى للفاعل فيكون معطوفا على الفعل المقدر وقيل بل على حرمت الخ فانهما جملتان متقابلتان مؤسستان للتحريم والتحليل المنوطين بأمر الله تعالى ولا ضير فى اختلاف المسند إليه بحسب الظاهر لا سيما بعد ما أكدت الأولى بما يدل على أن المحرم هو الله تعالى (ما وَراءَ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة أى أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ولعل إيثار اسم الإشارة المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه على الضمير المتعرض للذات فقط لتذكير ما فى كل واحدة منهن من العنوان الذى عليه يدور حكم الحرمة فيفهم مشاركة من فى معناهن لهن فيها بطريق الدلالة فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ليس بطريق العبارة بل بطريق الدلالة كما سلف وقيل ليس المراد بالإحلال الإحلال مطلقا أى على جميع الأحوال حتى يرد أنه يلزم منه حل الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بل إنما هو إحلالهن فى الجملة أى على بعض الأحوال ولا ريب فى حل نكاحهن بطريق الإنفراد ولا يقدح فى ذلك حرمته بطريق الجمع ألا يرى أن حرمة نكاح المعتدة والمطلقة ثلاثا والخامسة ونكاح الأمة على الحرة ونكاح الملاعنة لا تقدح فى حل نكاحهن بعد العدة وبعد التحليل وبعد تطليق الرابعة وانقضاء العدة وبعد تطليق الحرة وبعد إكذاب الملاعن نفسه وأنت خبير بأن الحل يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمة فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل ههنا به أيضا (أَنْ تَبْتَغُوا) متعلق بالفعلين المذكورين على أنه

١٦٤

مفعول له لكن لا باعتبار ذاتهما بل باعتبار بيانهما وإظهارهما أى بين لكم تحريم المحرمات المعدودة وإحلال ما سواهن إرادة أن تبتغوا بأموالكم والمفعول محذوف أى تبتغوا النساء أو متروك أى تفعلوا الابتغاء (بِأَمْوالِكُمْ) بصرفها إلى مهورهن أو بدل اشتمال مما وراء ذلكم بتقدير ضمير المفعول (مُحْصِنِينَ) حال من فاعل تبتغوا والإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال ثانية منه أو حال من الضمير فى محصنين والسفاح الزنا والفجور من السفح الذى هو صب المى سمى به لأنه الغرض منه ومفعول الفعلين محذوف أى محصنين فروجكم غير مسافحين الزوانى وهى فى الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح البتة وما فى قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهى إما شرطية ما بعدها شرطها وإما موصولة ما بعدها صلتها وأيا ما كان فهى مبتدأ خبرها على تقدير كونها شرطيه إما فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما على الخلاف المعروف وعلى تقدير كونها موصولة قوله تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها عبارة عن النساء فالعائد إلى المبتدأ هو الضمير المنصوب فى فآتوهن سواء كانت شرطية أو موصولة ومن بيانية أو تبعيضيه محلها النصب على الحالية من الضمير المجرور فى به والمعنى فأى فرد استمتعتم به أو فالفرد الذى استمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فآتوهن أجورهن وقد روعى تارة جانب اللفظ فأفرد الضمير أولا وأخرى جانب المعنى فجمع ثانيا وثالثا وأما على تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن فمن ابتدائية متعلقة بالاستمتاع والعائد إلى المبتدأ محذوف والمعنى أى فعل استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوة أو نحوهما أو فالفعل الذى استمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فآتوهن أجورهن لأجله أو بمقابلته والمراد بالأجور المهور فإنها أجور أبضاعهن (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة أو نعت لمصدر محذوف أى إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد أى فرض ذلك فريضة أى لهن عليكم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) أى لا إثم عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراء منه على طريقة قوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ) إثر قوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) وتعميمه للزيادة على المسمى لا يساعده رفع الجناح عن الرجال لأنها ليست مظنة الجناح إلا أن يجعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة على المسمى مظنة الجناح على الزوجة وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوها وقيل من مقام أو فراق ولا يساعده قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) إذ لا تعلق لهما بالفريضة إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة وقيل نزلت فى المتعة التى هى النكاح إلى وقت معلوم من يوم أو أكثر سميت بذلك لأن الغرض منها مجرد الاستمتاع بالمرأة واستمتاعها بما يعطى وقد أبيحت ثلاثة أيام حين فتحت مكة شرفها الله تعالى ثم نسخت لما روى أنه عليه‌السلام أباحها ثم أصبح يقول يأيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة وقيل أبيح مرتين وحرم مرتين وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه رجع عن القول بجوازه عند موته وقال اللهم إنى أتوب إليك من قولى بالمتعة وقولى فى الصرف (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بمصالح العباد (حَكِيماً) فيما شرع لهم من الأحكام ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم

١٦٥

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥)

____________________________________

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) من إما شرطية ما بعدها شرطها أو موصولة ما بعدها صلتها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يستطع أى حال كونه منكم وقوله تعالى (طَوْلاً) أو غنى وسعة أى اعتلاء ونيلا وأصله الزيادة والفضل مفعول ليستطع. وقوله عزوجل (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) إما مفعول صريح لطولا فإن أعمال المصدر المنون شائع ذائع كما فى قوله تعالى (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) كأنه قيل ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاحهن وإما بتقدير حرف الجر أى ومن لم يستطع منكم غنى إلى نكاحهن أو لنكاحهن فالجار فى محل النصب صفة لطولا أى طولا موصلا إليه أو كائنا له أو على نكاحهن على أن الطول بمعنى القدرة فى القاموس الطول والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغنى والسعة ومحل أن بعد حذف الجار نصب عند سيبويه والفراء وجر عند الكسائى والأخفش وإما بدل من طولا لأن الطول فضل والنكاح قدرة وإما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له لأنه بمعناه إذ الاستطاعة هى الطول أو تمييز أى ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعة أو من جهة الطول والغنى أى لا من جهة الطبيعة والمزاج فإن عدم الاستطاعة من تلك الجهة لا تعلق له بالمقام والمراد بالمحصنات الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فإن حريتهن أحصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان وقوله عزوجل (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إما جواب للشرط أو خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط والجار متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله وما موصولة أى فلينكح امرأة أو أمة من النوع الذى ملكته أيمانكم وهو فى الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومن تبعيضية أى فلينكح امرأة كائنة من ذلك النوع وقيل من زائدة والموصول مفعول للفعل المقدر أى فلينكح ما ملكته أيمانكم وقوله تعالى (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فى محل النصب على الحالية من الضمير المقدر فى ملكت الراجع إلى ما وقيل هو المفعول للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكت متعلق بنفس الفعل ومن لابتداء الغاية أو بمحذوف وقع حالا من فتياتكم ومن للتبعيض أى فلينكح فتياتكم كائنات بعض ما ملكت أيمانكم والمؤمنات صفة لفتياتكم على كل تقدير وقيل هو المفعول للفعل المقدر ومما ملكت على ما تقدم آنفا ومن فتياتكم حال من العائد المحذوف وظاهر النظم الكريم يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب إليه الشافعى رحمه‌الله تعالى وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية أصلا كما هو رأى أهل الحجاز وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى متمسكا بالعمومات فمحمل الشرط والوصف هو الأفضلية ولا

١٦٦

نزاع فيها لأحد وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال ومما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسرا وقوله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) جملة معترضة جىء بها لتأنيسهم بنكاح الإماء واستنزالهم من رتبة الاستنكاف منه ببيان أن مناط التفاضل ومدار التفاخر هو الإيمان دون الأحساب والأنساب على ما نطق به قوله عز قائلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتبكم فى الإيمان الذى به تنتظم أحوال العباد وعليه يدور فلك المصالح فى المعاش والمعاد ولا تعلق له بخصوص الحرية والرق فرب أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر وقوله تعالى (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إن أريد به الاتصال من حيث الدين فهو بيان لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم فى ذلك وإن أريد به الاتصال من حيث النسب فهو اعتراض آخر مؤكد للتأنيس من جهة أخرى والخطاب فى الموضعين إما لمن كما فى الخطاب الذى يعقبه قد روعى فيما سبق جانب اللفظ وههنا جانب المعنى والالتفات للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخطابات السابقة لحصول الترغيب بخطابهم أيضا وأياما كان فإعادة الأمر بالنكاح على وجه الخطاب فى قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ) مع انفهامه من قوله تعالى (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) حسبما ذكر لزيادة الترغيب فى نكاحهن وتقييده بقوله تعالى (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) وتصديره بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أى وإذ قد وقفتم على جلية الأمر فانكحوهن بإذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن وفى اشتراط إذن الموالى دون مباشرتهم للعقد إشعار بجواز مباشرتهن له (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أى مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بآتوهن أى أدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء واللز حسبما يقتضيه الشرع والعادة ومن ضرورته أن يكون الأداء إليهن بإذن الموالى فيكون ذكر إيتائهن لبيان جواز الأداء إليهن لا لكون المهور لهن وقيل أصله آتوا مواليهن فحذف المضاف وأوصل الفعل إلى المضاف إليه (الْمُحْصَناتِ) حال من مفعول فانكحوهن أى حال كونهن عفائف عن الزنا (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) حال مؤكدة أى غير مجاهرات به (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) عطف على مسافحات ولا لتأكيد ما فى غير من معنى النفى الخدن الصاحب قال أبو زيد الأخدان الأصدقاء على الفاحشة والواحد خدن وخدين والجمع للمقابلة بالانقسام على معنى أن لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى أن لا يكون لها أخدان أى غير مجاهرات بالزنا ولا مسرات له وكان الزنا فى الجاهلية منقسما إلى هذين القسمين (فَإِذا أُحْصِنَّ) أى بالتزويج وقرىء على البناء للفاعل أى أحصن فروجهن أو أزواجهن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أى فعلن فاحشة وهى الزنا (فَعَلَيْهِنَّ) فثابت عليهن شرعا (نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أى الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذابِ) من الحد الذى هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصان فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالإحصان كتفاوت حد الحرائر فالفاء فى فإن أتين جواب إذا والثانية جواب أن والشرط الثانى مع جوابه مترتب على وجود الأول كما فى قولك إذا اتيتنى فإن لم أكرمك فعبدى حر (ذلِكَ) أى نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أى لمن خاف وقوعه فى الإثم الذى تؤدى إليه غلبة الشهوة وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعترى الإنسان بعد

١٦٧

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٦)

____________________________________

صلاح حاله ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح وقيل أريد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد والأول هو اللائق بحال المؤمن دون الثانى لإيهامه أن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه (وَأَنْ تَصْبِرُوا) أى عن نكاحهن متعففين كافين انفسكم عما تشتهيه من المعاصى (خَيْرٌ لَكُمْ) من نكاحهن وإن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق قال عمر رضى الله عنه أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه وقال سعيد بن جبير ما نكاح الأمة من الزنا إلا قريب ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد فى السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادى وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح والعزة هى اللائقة بالمؤمنين ولأن مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم أمر المنزل وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت (وَاللهُ غَفُورٌ) مبالغ فى المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ما فى ذلك من الأمور المنافية لحال المؤمنين (رَحِيمٌ) مبالغ فى الرحمة ولذلك رخص لكم فى نكاحهن (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) استئناف مسوق لتقرير ما سبق من الأحكام وبيان كونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين قيل أصل النظم الكريم يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة ومفعول يبين محذوف ثقة بشهادة السباق والسياق أى يريد الله أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم أو ما تعبدكم به من الحلال والحرام وقيل مفعول يريد محذوف تقديره يريد الله تشريع ما شرع من التحريم والتحليل لأجل التبيين لكم وهذا مذهب البصريين ويعزى إلى سيبويه وقيل إن اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار أن وهى وما بعدها مفعول للفعل المتقدم فإن اللام قد تقام مقام أن فى فعل الإرادة والأمر فيقال أردت لأذهب وأن أذهب وأمرتك لتقوم وأن تقوم قال تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) وفى موضع (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) وقال تعالى (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) وفى موضع (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) وفى آخر (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أى أن أعدل بينكم وهذا مذهب الكوفيين ومنعه البصريون وقالوا إن وظيفة اللام هى الجر والنصب فيما قالوا بإضمار أن أى أمرنا بما أمرنا لنسلم ويريدون ما يريدن ليطفئوا وقيل يؤول الفعل الذى قبل اللام بمصدر مرفوع بالابتداء ويجعل ما بعده خبرا له كما فى تسمع بالمعيدى خير من أن تراه أى أن تسمع به ويعزى هذا الرأى إلى بعض البصريين (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير والتفريط فى مراعاة ما كلفتموه من الشرائع فإن المكلف قلما يخلو من تقصير يستدعى تلافيه بالتوبة ويغفر لكم ذنوبكم أو يرشدكم إلى ما يردعكم عن المعاصى ويحثكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بالأشياء التى من جملتها

١٦٨

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩)

____________________________________

ما شرع لكم من الأحكام (حَكِيمٌ) مراع فى جميع أفعاله الحكمة والمصلحة (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) جملة مبتدأة مسوقة لبيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة لا لبيان إرادته تعالى لتوبته عليهم حتى يكون من باب التكرير للتقرير ولذلك غير الأسلوب إلى الجملة الاسمية دلالة على دوام الإرادة ولم يفعل ذلك فى قوله تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) للإشارة إلى الحدوث وللإيماء إلى كمال المباينة بين مضمونى الجملتين كما مر فى قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية والمراد بمتبعى الشهوات الفجرة فإن اتباعها الائتمار بها وأما المتعاطى لما سوغه الشرع من المشتهيات دون غيره فهو متبع له لا لها وقيل هم اليهود والنصارى وقيل هم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت فلما حرمهن الله تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم وقرىء بالياء التحتانية والضمير للذين يتبعون الشهوات (مَيْلاً عَظِيماً) أى بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بما مر من الرخص ما فى عهدتكم من مشاق التكاليف والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه فى مشاق الطاعات وعن الحسن أن المراد ضعف الخلقة ولا يساعده المقام فإن الجملة اعتراض تذييلى مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة فى نكاح الإماء وليس لضعف البنية مدخل فى ذلك وإنما الذى يتعلق به التخفيف فى العبادات الشاقة وقيل المراد به ضعفه فى أمر النساء خاصة حيث لا يصبر عنهن وعن سعيد بن المسيب ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء فقد أتى على ثمانون سنة وذهبت إحدى عينى وأنا أعشوا بالأخرى وإن أخوف ما أخاف على فتنة النساء وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما وخلق الإنسان على البناء للفاعل والضمير لله عزوجل وعنه رضى الله عنه ثمانى آيات فى سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ

١٦٩

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠)

____________________________________

بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) شروع فى بيان بعض الحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان الحرمات المتعلقة بالأبضاع وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا وغير ذلك مما لم يبحه الشرع أى لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير طريق شرعى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع وعن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة أى إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض كما فى قوله [إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا] أى إذا كان اليوم يوما الخ أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة وقرىء تجارة بالرفع على أن كان تامة أى ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض أى وقوعها أو ولكن وجود تجارة عن تراض غير منهى عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائر أسباب الملك لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوفقها لذوى المروءات والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين فيما تعاقدا عليه فى حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الشافعى رحمه‌الله حالة الاقتراق عن مجلس العقد (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أى من كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلهم كنفس واحدة وعن الحسن لا تقتلوا إخوانكم والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة فى الزجر عن قتلهم بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل أو لا تهلكوا أنفسكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يفضى إليه فإنه القتل الحقيقى لها كما يشعر به إيراده عقيب النهى عن أكل الحرام فيكون مقررا للنهى السابق وقيل لا تقتلوا أنفسكم بالبخع كما يفعله بعض الجهلة أو بارتكاب ما يؤدى إلى القتل من الجنايات وقيل بإلقائها فى التهلكة وأيد بما روى عن عمرو بن العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء ولا تقتلوا يا لتشديد للتكثير وقد جمع فى التوصية بين حفظ النفس وحفظ المال لما أنه شقيقها من حيث أنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها وتقديم النهى عن التعرض له لكثرة وقوعه (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل للنهى بطريق الاستئناف أى مبالغا فى الرحمة والرأفة ولذلك نهاكم عما نهى فإن فى ذلك رحمة عظيمة لكم بالزجر عن المعاصى وللذين هم فى معرض التعرض لهم بحفظ أموالهم وأنفسهم وقيل معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما حيث أمر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم ولم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إشارة إلى القتل خاصة أو لما قبله من أكل الأموال وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهما فى الفساد (عُدْواناً وَظُلْماً) أى إفراطا فى التجاوز عن الحد وإتيانا بما لا يستحقه وقيل أريد بالعدوان التعدى على الغير وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ومحلهما النصب على الحالية أو على العلية أى معتديا وظالما أو للعدوان والظلم وقرىء عدوانا بكسر العين (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) جواب للشرط أى ندخله وقرىء بالتشديد من صلى وبفتح النون من صلاه يصليه ومنه شاة مصلية ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث إنه سبب للصلى (ناراً) أى نارا مخصوصة هائلة شديدة العذاب (وَكانَ ذلِكَ) أى إصلاؤه النار (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لتحقق الداعى وعدم الصارف وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلى

١٧٠

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢)

____________________________________

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) أى كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عنها مما ذكر ههنا ومالم يذكر وقرىء كبير على إرادة الجنس (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ) بنون العظمة على طريقة الالتفات وقرىء بالياء بالإسناد إليه تعالى والتكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة أى نغفر لكم (سَيِّئاتِكُمْ) صغائركم ونمحها عنكم. قال المفسرون الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر واختلف فى الكبائر والأقرب أن الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه وقيل ما علم حرمته بقاطع وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها سبع الإشراك بالله تعالى وقتل النفس التى حرمها الله تعالى وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وعقوق الوالدين وعن على رضى الله عنه التعقب بعد الهجرة مكان عقوق الوالدين وزاد ابن عمر رضى الله عنهما السحر واستحلال البيت الحرام وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا قال له الكبائر سبع قال هى إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع وروى عنه إلى سبعين إذ لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وقيل أريد به أنواع الشرك لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلها بل بحسب الأوقات والأماكن أيضا فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمران فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه لما استحق على اجتناب الأكبر من الثواب (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) بضم الميم اسم مكان هو الجنة (كَرِيماً) أى حسنا مرضيا أو مصدر ميمى أى ادخالا مع كرامة وقرىء بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر ونصبه على الثانى بفعل مقدر مطاوع للمذكور أى ندخلكم فتدخلون مدخلا أو دخولا كريما كما فى قوله[وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع من المال إلا مسحت أو مجلف] أى لم تدع فلم يبق إلا مسحت الخ (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) أى عليكم ولعل إيثار الإبهام عليه للتفادى عن المواجهة بما يشق عليهم. قال القفال لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهى عما يؤدى إليه من الطمع فى أموالهم وتمنيها وقيل نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهير أعمالهم الظاهرة والباطنة فالمعنى لا تتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضكم من الأمور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجرى فيه التنافس دونكم فإن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد مترتب على الإحاطة بجلائل شئونهم ودقائقها فعلى كل أحد من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما أنه معارضة لحكم القدر المؤسس على

١٧١

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣)

____________________________________

الحكم البالغة لا لأن عدمه خير له ولا لأنه لو كان خلافه لكان مفسدة له كما قيل إذ لا يساعده ما سيأتى من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطق بأن المنهى عنه تمنى نصيب الغير لا تمنى ما زاد على نصيبه مطلقا هذا وقد قيل لما جعل الله تعالى فى الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج أن يكون لناسهمان وللرجال سهم واحد لأناضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الأنسب بتعليل النهى بقوله عزوجل (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فإنه صريح فى جريان التمنى بين فريقى الرجال والنساء ولعل صيغة المذكر فى النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكل من الفريقين فى الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاء عن التمنى المذكور وقوله تعالى (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على النهى وتوسيط التعليل بينهما لتقرير الانتهاء مع ما فيه من الترغيب فى الامتثال بالأمر كأنه قيل لا تتمنوا ما يختص بغيركم من نصيبه المكتسب له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمه التى لا نفاد لها وحذف المفعول الثانى للتعميم أى واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكموه أو لكونه معلوما من السياق أى واسألوه مثله وقيل من زائدة والتقدير واسألوه فضله وقد جاء فى الحديث لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقنى اللهم أعطنى مثله وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وحمل النصيب على الأجر الأخروى وإبقاء الاكتساب على حقيقته بجعل سبب النزول ما روى أن أم سلمة رضى الله عنها قالت ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل مالهم على أن المعنى لكل من الفريقين نصيب خاص به من الأجر مترتب على عمله فللرجال أجر بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجر بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساء خصوصية أجر الرجال وليسألن من خزائن رحمته تعالى ما يلبق بحالهن من الأجر لا يساعده سياق النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ولذلك جعل الناس على طبقات ورفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) جملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ولكل مفعول ثان لجعلنا قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجهل بالبعض دون البعض كما فى قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أى ولكل تركة جعلنا ورثة متفاوتة فى الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم المنوط بما بينهم وبين المورث من العلاقة ومما ترك بيان لكل قد فصل بينهما بما عمل فيه

١٧٢

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤)

____________________________________

كما فصل فى قوله تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بين لفظ الجلالة وبين صفته بالعامل فيما أضيف إليه أعنى غير أو ولكل قوم جعلناهم موالى أى وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا موالى صفة لكل والضمير الراجع إليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر على طريقة قولك لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله أى حظ منه وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحد جعلنا موالى مما ترك أى وراثا منه على أن من صلة موالى لأنه فى معنى الوارث وفى ترك ضمير مستكن عائد إلى كل وقوله تعالى (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) استئناف مفسر للموالى كأنه قيل من هم فقيل الوالدان الخ ففيه تفكيك للنظم الكريم لأن ببيان الموالى بما ذكر يفوت الإبهام المصحح لاعتبار التفاوت بينهم وبه يتحقق الانتظام كما أشير إليه فى تقرير الوجهين الأولين مع ما فيه من خروج الأولاد من الموالى إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) هم موالى الموالاة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وعند أبى حنيفه رحمه‌الله إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا وإسناد العقد إلى الإيمان لأن المعتاد هو المماسحة بها عند العقد والمعنى عقدت أيمانكم عهودهم فحذف العهود وأقيم المضاف إليه مقامه وقرىء عقدت بالتشديد وعاقدت بمعنى عاقدتهم أيمانكم وما سحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر أعنى قوله تعالى (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك زيدا فاضربه أو مرفوع معطوف على الوالدان والأقربون وقوله تعالى (فَآتُوهُمْ) الخ جملة مبينة للجملة قبلها ومؤكدة لها والضمير للموالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها الإيتاء والمنع (شَهِيداً) ففيه وعد ووعيد (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة فى الميراث تفصيلا إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالا وإيراد الجملة اسمية والخبر على صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم فى الاتصاف بما أسند إليهم ورسوخهم فيه أى شأنهم القيام عليهن بالأمر والنهى قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبى وكسبى فقيل (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الباء سببية متعلقة بقوامون أو بمحذوف وقع حالا من ضميره وما مصدرية والضمير البارز لكلا الفريقين تغليبا أى قوامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضع البعض موضع الضميرين للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرح بما به التفضيل من صفات كماله التى هى كمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأى ومزيد القوة فى الأعمال والطاعات ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة فى جميع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك (وَبِما

١٧٣

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥)

____________________________________

أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) الباء متعلقة بما تعلقت به الأولى وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها من الصلة ومن تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف أى وبسبب إنفاقهم من أموالهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائنا من أموالهم وهو ما أنفقوه من المهر والنفقة روى أن سعد ابن الربيع أحد نقباء الأنصار رضى الله عنهم نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا فقال عليه‌السلام لتقتص منه فنزلت فقال عليه‌السلام أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذى أراده الله خير (فَالصَّالِحاتُ) شروع فى تفصيل أحوالهن وبيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن أى فالصالحات منهن (قانِتاتٌ) أى مطيعات لله تعالى قائمات بحقوق الأزواج (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أى لموجب الغيب أى لما يجب عليهن حفظه فى حال غيبة الأزواج من الفروج والأموال عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظك فى مالها ونفسها وتلا الآية وقيل لأسرارهم وإضافة المال إليها للإشعار بأن ماله فى حق التصرف فى حكم مالها كما فى قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية (بِما حَفِظَ اللهُ) ما مصدرية أى بحفظه تعالى إياهن بالأمر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له أو موصولة أى بالذى حفظ الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن وقرىء بما حفظ الله بالنصب على حذف المضاف أى بالأمر الذى حفظ حق الله تعالى وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن والخوف حالة تحصل فى القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند الظن أو العلم بحدوثه وقد يراد به أحدهما أى تظنون عصيانهن وترفعهن عن مطاوعتكم من النشز وهو المرتفع من الأرض (فَعِظُوهُنَّ) فانصحوهن بالترغيب والترهيب (وَاهْجُرُوهُنَّ) بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة (فِي الْمَضاجِعِ) أى فى المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون كناية عن الجمع وقيل المضاجع المبايت أى لا تبايتوهن وقرىء فى المضجع وفى المضطجع (وَاضْرِبُوهُنَّ) إن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهجران ضربا غير مبرح ولا شائن (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) بذلك كما هو الظاهر لأنه منتهى ما يعد زاجرا (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالتوبيخ والأذية أى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه فإنه تعالى أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم عند توبتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أو أنه يتعالى ويكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه وعدم التعرض لعدم إطاعتهن لهم للإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغى أن يتحقق أو يفرض تحققه وأن الذى يتوقع منهن ويليق بشأنهن لا سيما بعد ما كان ما كان من الزواجر هو الإطاعة ولذلك صدرت الشرطية بالفاء المنبئة عن سببية ما قبلها لما بعدها (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الحكام وارد على بناء

١٧٤

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦)

____________________________________

الأمر على التقدير المسكوت عنه أعنى عدم الإطاعة المؤدى إلى المخاصمة والمرافعة إليهم والشقاق المخالفة إما لأن كلا منهما يريد ما يشق على الآخر وإما لأن كلا منهما فى شق أى جانب غير شق الآخر والخوف ههنا بمعنى العلم قاله ابن عباس والجزم بوجود الشقاق لا ينافى بعث الحكمين لأنه لرجاء إزالته لا لتعرف وجوده بالفعل وقيل بمعنى الظن وضمير الثنية للزوجين وإن لم يجر لهما ذكر لجرى ما يدل عليها وإضافة الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى المفعول به كما فى قوله [يا سارق الليلة] أو مجرى الفاعل كما فى قولك نهاره صائم أى إن علمتم أو ظننتم تأكد المخالفة بحيث لا يقدر الزوج على إزالتها (فَابْعَثُوا) أى إلى الزوجهين لإصلاح ذات البين (حَكَماً) رجلا وسطا صالحا للحكومة والإصلاح (مِنْ أَهْلِهِ) من أهل الزوج (وَحَكَماً) آخر على صفة الأول (مِنْ أَهْلِها) فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز واختلف فى أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن على رضى الله عنه وبه قال الشعبى وعن الحسن يجمعان ولا يفرقان وقال مالك لهما أن يتخالعا إن كان الصلاح فيه (إِنْ يُرِيدا) أى الحكمان (إِصْلاحاً) أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) يوقع بين الزوجين الموافقة والألفة وألقى فى نفوسهما المودة والرأفة وعدم التعرض لذكر عدم إرادتهما الإصلاح لما ذكر من الإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغى أن يفرض صدوره عنهما وأن الذى يليق بشأنهما ويتوقع صدوره عنهما هو إرادة الإصلاح وفيه مزيد ترغيب للحكمين فى الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا ينسب اختلال الأمر إلى عدم إرادتهما فإن الشرطية الناطقة بدوران وجود التوفيق على وجود الإرادة منبئة عن دوران عدمه على عدمها. وقيل كلا الضميرين للحكمين أى إن قصد الإصلاح يوفق الله بينهما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وقيل كلاهما للزوجين أى إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه وفقه الله تعالى لمبتغاه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) كلام مبتدأ مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقارب ونحوهم أثر بيان الأحكام المتعلقة بحقوق الأزواج صدر بما يتعلق بحقوق الله عزوجل التى هى آكد الحقوق وأعظمها تنبيها على جلالة شأن حقوق الوالدين بنظمها فى سلكها كما فى سائر المواقع وشيئا نصب على أنه مفعول أى لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما أو غيره أو على أنه مصدر أى لا تشركوا به شيئا من الإشراك جليا أو خفيا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أى أحسنوا بهما إحسانا

١٧٥

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) (٣٨)

____________________________________

(وَبِذِي الْقُرْبى) أى بصاحب القرابة من أخ أو عم أو خال أو نحو ذلك (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) من الأجانب (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أى الذى قرب جواره وقيل الذى له مع الجوار قرب واتصال بنسب أودين وقرىء بالنصب على الاختصاص تعظيما لحق الجار ذى القربى (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أى البعيد أو الذى لا قرابة له وعنه عليه الصلاة والسلام الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد وهو حق الجوار وهو الجار من أهل الكتاب وقرىء والجار الجنب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) أى الرفيق فى أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك فى مسجد أو مجلس أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه وقيل هى المرأة (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر المنقطع به أو الضيف (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) أى متكبرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم (فَخُوراً) يتفاخر عليهم والجملة تعليل للآمر السابق (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بضم الباء وسكون الخاء وقرىء بفتح الأول وبفتحهما وبضمهما والموصول بدل من قوله تعالى (مَنْ كانَ) أو نصب على الذم أو رفع عليه أى هم الذين أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة (يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أى من المال والغنى أو من نعوته عليه‌السلام التى بينها لهم فى التوراة وهو أنسب بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارهم كانوا يكتمونها ويأمرون أعقابهم بكتمها (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء والآية نزلت فى طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحة لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر وقيل فى الذين كتموا نعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبلها (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) أى للفخار وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا لابتغاء وجه الله تعالى وهو عطف على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم فى الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذى هو الإنفاق فيما لا ينبغى من حيث أنهما طرفا تفريط وإفراط سواء فى القبح واستتباع اللائمة والذم ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفى مجرى التغاير الذاتى كما فى قوله[إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتائب فى المزدحم] أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه قوله تعالى (وَمَنْ يَكُنِ) الخ كأنه قيل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)

١٧٦

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠)

____________________________________

ليتحروا بالإنفاق مراضيه تعالى وثوابه وهم مشركو مكة المنفقون أموالهم فى عداوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل المنافقون (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أى فقرينهم الشيطان وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به والمراد به إبليس وأعوانه حيث حملوهم على تلك القبائح وزينوها لهم كما فى قوله تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم فى النار (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أى على من ذكر من الطوائف (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) أى ابتغاء لوجه الله تعالى وإنما لم يصرح به تعويلا على التفصيل السابق واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر فإنه يقتضى أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة أى وما الذى عليهم أو وأى تبعة ووبال عليهم فى الإيمان بالله والإنفاق فى سبيله وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد فى الشىء بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدى بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغى أن يجيب إليه احتياطا فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى وتقديم الإيمان بهما لأهميته فى نفسه ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه وأما تقديم إنفاقهم رئاء الناس على عدم إيمانهم بهما مع كون المؤخر أقبح من المقدم فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به (وَكانَ اللهُ بِهِمْ) وبأحوالهم المحققة (عَلِيماً) فهو وعيد لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر وانتصابه على أنه نعت للمفعول قائم مقامه سواء كان الظلم بمعنى النقص أو بمعنى وضع الشىء فى غير موضعه أى لا ينقص من الأجر ولا يزيد فى العقاب شيئا مقدار ذرة أو على أنه نعت للمصدر المحذوف نائب منابه أى لا يظلم ظلما مقدار ذرة وهى النملة الصغيرة أو كل جزء من أجزاء الهباء فى الكوة وهو الأنسب بمقام المبالغة فإن قلته فى الثقل أظهر من قلة النملة فيه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه أدخل يده فى التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) أى وإن تك مثقال ذرة حسنة أنث لتأنيث الخبر أو لإضافته إلى الذرة وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة وتخفيفا لكثرة الاستعمال وقرىء حسنة بالرفع على أن كان تامة (يُضاعِفْها) أى يضاعف ثوابها جعل ذلك مضاعفة لنفس الحسنة تنبيها على كمال الاتصال بينهما كأنهما شىء واحد وقرىء يضعفها وكلاهما بمعنى واحد وقرىء نضاعفها بنون العظمة على طريقة الالتفات. عن عثمان النهدى انه قال لأبى هريرة رضى الله عنه بلغنى عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن الله تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لا بل سمعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول

١٧٧

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢)

____________________________________

يعطيه ألفى الف حسنة ثم تلا هذه الآية الكريمة والمراد الكثرة لا التحديد (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) ويعط صاحبها من عنده على نهج التفضل زائدا على ما وعده فى مقابلة العمل (أَجْراً عَظِيماً) عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لكونه تابعا للأجر مزيدا عليه (فَكَيْفَ) محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال كما هو راى سيبويه أو على التشبيه بالظرف كما هو راى الأخفش أى فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم أو كيف يصنعون (إِذا جِئْنا) يوم القيامة (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (بِشَهِيدٍ) يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال وهو نبيهم كما فى قوله تعالى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) والعامل فى الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وعظم الشأن أو الفعل المقدر ومن متعلقة بجئنا (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (عَلى هؤُلاءِ) إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر (شَهِيداً) تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعك لمجامع قواعدهم وقيل إلى المكذبين المستفهم عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيان كما يشهد سائر الأنبياء على أممهم وقيل إلى المؤمنين كما فى قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) استئناف لبيان حالهم التى أشير إلى شدتها ونظاعتها بقوله تعالى (فَكَيْفَ) فإن أريد بهم المكذبون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالتعبير عنهم بالموصول لا سيما بعد الإشارة إليهم ب (هؤُلاءِ) لذمهم بما فى حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل وإيراده عليه‌السلام بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه فإن حق الرسول أن يؤمن به ويطاع لا أن يكفر به ويعصى وإن أريد بهم جنس الكفرة فهم داخلون فى زمرتهم دخولا أوليا والمراد بالرسول حينئذ الجنس المنتظم للنبى عليه‌السلام انتظاما أوليا وأيا ما كان ففيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما لا يقادر قدره وقوله تعالى (وَعَصَوُا) عطف على (كَفَرُوا) داخل معه فى الصلة والمراد معاصيهم المغايرة لكفرهم ففيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع فى حق المؤاخذة وقيل حال من ضمير كفروا وقيل صلة لموصول آخر أى يود فى ذلك اليوم الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول أو الذين كفروا وقد عصوا الرسول أو الذين كفروا والذين عصوا الرسول ولو فى قوله تعالى (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) إن جعلت مصدرية فالجملة مفعول ليود أى يودون أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى وقيل يودون أنهم لم يبعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرض سواء وقيل تصير البهائم ترابا فيودون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعول محذوف لدلالة الجملة عليه أى يودون تسوية الأرض بهم وجواب لو أيضا محذوف إيذانا بغاية ظهوره أى لسروا بذلك وقوله تعالى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) عطف على يود أى ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال

١٧٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

____________________________________

أى يودون أن يدفنوا فى الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين إذ روى أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وقرىء تسوى على أن أصله تتسوى فأدغم التاء فى السين وقرىء تسوى بحذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدى إليه من حيث لا يحتسبون فإنه روى أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه صنع طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فدعا نفرا من الصحابة رضى الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلى بهم فقرأ أعبد ما تعبدون فنزلت وتصدير الكلام بحر فى النداء والتنبيه للمبالغة فى حملهم على العمل بموجب النهى وتوجيه النهى إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهى عن إقامتها للمبالغة فى ذلك وقيل المراد النهى عن قربان المساجد لقوله عليه‌السلام جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ويأباه قوله تعالى (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فالمعنى لا تقيموها فى حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه إذ بتلك التجربة يظهر أنهم يعلمون ما سيقرءونه فى الصلاة وحمل ما تقولون على ما فى الصلاة يستدعى تقدم الشروع فيها على غاية النهى وحمل العلم على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرءون فى الصلاة تطويل بلا طائل لأن تلك الحيثية إنما تظهر بما ذكر من التجربة على أن إيثار ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعى وقيل المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم وأيا ما كان فليس مرجع النهى هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا كأنه قيل يأيها الذين آمنوا لا تسكروا فى أوقات الصلاة وقد روى أنهم كانوا بعد ما نزلت الآية لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون (وَلا جُنُباً) عطف على قوله تعالى (وَأَنْتُمْ سُكارى) فإنه فى حيز النصب كأنه قيل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا والجنب من أصابه الجنابة يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه فعل النهى أى لا تقربوا الصلاة جنبا فى حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أن فى حالة السفر ينتهى حكم النهى لكن لا بطريق شمول النفى لجميع صورها بل بطريق نفى الشمول فى الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفى ولا على بقاء خصوصية

١٧٩

البعض الباقى ولا على ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها فى المقامات الخطابية لا فى إثبات الأحكام الشرعية فإن ملاك الأمر فى ذلك إنما هو الدليل وقد ورد عقيبه على طريقة البيان وقيل هو صفة لجنبا على أن إلا بمعنى غير أى وإلا جنبا غير عابرى سبيل ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد وبه قال الشافعى رحمه‌الله وعندنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فى المسجد فرخص لهم ذلك (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية للنهى عن قربان الصلاة حالة الجنابة ولعل تقديم الاستثناء عليه للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهى فى هذه الصورة ليس على الإطلاق كما فى صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقرره فى الأذهان وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلى حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكى نفسه عما يدنسها ولا يكتفى بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) شروع فى تفصيل ما أجمل فى الاستثناء وبيان ما هو فى حكم المستثنى من الأعذار والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقى له فى حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المنبئ عن الضرورة التى عليها يدور أمر الرخصة كأنه قيل ولا جنبا إلا مضطرين وإليه مرجع ما قيل من أنه جعل عابرى سبيل كناية عن مطلق المعذورين والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان ذلك بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على (مَرْضى) أى أو كنتم على سفر ما طال أو قصر وإيراده صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعى عليه وبيان كيفيته فإن الاستثاء كما أشير إليه بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته وتقديم المرض عليه للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد فى غيره كالاشتداد باستعمال الماء ونحوه (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان الغائر المطمئن والمجىء منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليوارى شخصه عن أعين الناس وإسناد المجىء منه إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم للتفادى عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عزوجل (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) على التصريح بالجماع ونظمهما فى سلك سببى سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببى وجوبها ليس باعتبار انفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بل هو السبب فى الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر فى صورة المرض والسفر أيضا لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره إما لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم لا تقربوا الصلاة فى حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ وإما لما قيل من أن عموم إعواز الماء فى حق المسافر غالب والعجز عن استعمال الماء القائم مقام عدمه فى حق المريض مغن عن ذكره لفظا وما قيل من أن هذا القيد راجع إلى الكل وأن قيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجىء من الغائط والملامسة

١٨٠