تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

الصلاة والسلام كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة فإن كل واحد من أثر قدميه فى صخرة صماء وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخور دون بعض وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم‌السلام وحفظه مع كثرة الأعداء ألوف سنة آية مستقلة ويؤيده القراءة على التوحيد وإما بما يفهم من قوله عزوجل (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية لكنها فى قوة أن يقال وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل معطوفة على مقام إبراهيم ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما فى قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وكان الرجل لوجر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب وعن عمر رضى الله عنه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ولذلك قال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى من لزمه القتل فى الحل بقصاص أوردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وقيل أمنه من النار وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مات فى أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا وعنه عليه الصلاة والسلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران فى الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود رضى الله عنه وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم فى سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتى عام (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جملة من مبتدأ هو حج البيت وخبر هو لله وقوله تعالى (عَلَى النَّاسِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن فى الجار والعامل فيه ذلك الاستقرار ويجوز أن يكون (عَلَى النَّاسِ) هو الخبر (وَلِلَّهِ) متعلق بما تعلق به الخبر ولا سبيل إلى أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير المستكن فى (عَلَى النَّاسِ) لاستلزامه تقديم الحال على العامل المعنوى وذلك مما لا مساغ له عند الجمهور وقد جوزه ابن مالك إذا كانت هى ظرفا أو حرف جر وعاملها كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوى واللام فى البيت للعهد وحجه قصده للزيارة على الوجه المخصوص المعهود وكسر الحاء لغة نجد وقيل هو اسم للمصدر وقرىء بفتحها (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فى محل الجر على أنه بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص لعمومه فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف أى من استطاع منهم وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع فلا حاجة إلى الضمير وقيل فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أى هم من استطاع الخ وقيل فى حيز النصب بتقدير أعنى وقيل كلمة من شرطية والجزاء محذوف لدلالة المذكور عليه وكذا العائد إلى الناس أى من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه حج البيت وقد رجح هذا بكون ما بعده شرطية والضمير المجرور فى إليه راجع إلى البيت أو إلى حج والجار متعلق بالسبيل قدم عليه اهتماما بشأنه كما فى قوله عزوجل (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) و (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) لما فيه من معنى

٦١

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨)

____________________________________

الإفضاء والإيصال كيف لا وهو عبارة عن الوسيلة من مال أو غيره فإنه قد روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال السبيل الزاد والراحلة وروى ابن عمر رضى الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة وهو المراد بما روى أنه عليه‌السلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وهكذا روى عن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم وعليه أكثر العلماء خلا أن الشافعى أخذ بظاهره فأوجب الاستنابة على الزمن القادر على أجرة من ينوب عنه والظاهر أن عدم تعرضه عليه‌السلام لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر فى الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة وعن ابن الزبير أنه على قدر القوة ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه وعنه ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد وعن الضحاك أنه إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع (وَمَنْ كَفَرَ) وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ولذلك قال عليه‌السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه عليه‌السلام قال فى خطبته أيها الناس إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أى حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا أوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقق أو برزت فى صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه فى ذمم الناس لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال ثم التفصيل لما فى ذلك من مزيد تحقيق وتقرير وعبر عن تركه بالكفر الذى لا قبيح وراءه وجعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدة المقت وعظم السخط لا عن تاركه فقط فإنه قد ضرب عنه صفحا إسقاطا له عن درجة الاعتبار واستهجانا بذكره بل عن جميع العالمين ممن فعل وترك ليدل على نهاية شدة الغضب. هذا وقال ابن عباس والحسن وعطاء رضى الله عنهم ومن كفر أى جحد فرض الحج وزعم أنه ليس بواجب وعن سعيد بن المسيب نزلت فى اليهود فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب وروى أنه لما نزل قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه فنزل ومن كفر وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع إلى السماء فى الثالثة وروى حجوا قبل أن يمنع البر جانبه وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل أن ينبت فى البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت وعن عمر رضى الله عنه لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) هم اليهود والنصارى

٦٢

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩)

____________________________________

وإنما خوطبوا بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه من القرآن العظيم مبالغة فى تقبيح حالهم فى كفرهم بها وقوله عزوجل (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) توبيخ وإنكار لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التى من جملتها ما تلى فى شأن الحج وغيره وما فى التوراة والإنجيل من شواهد نبوته عليه‌السلام وقوله تعالى (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) حال من فاعل تكفرون مفيدة لتشديد التوبيخ وتأكيد الإنكار وإظهار الجلالة فى موقع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب وصيغة المبالغة فى شهيد للتشديد فى الوعيد وكلمة ما إما عبارة عن كفرهم أو هى على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأى سبب تكفرون بآياته عزوجل والحال أنه تعالى مبالغ فى الاطلاع على جميع أعمالكم وفى مجازاتكم عليها ولا ريب فى أن ذلك يسد جميع أنحاء ما تأتونه ويقطع أسبابه بالكلية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أمر بتوبيخهم بالإضلال إثر توبيخهم بالضلال والتكرير للمبالغة فى حمله عليه‌السلام على تقريعهم وتوبيخهم وترك عطفه على الأمر السابق للإيذان باستقلالهم كما أن قطع قوله تعالى (لِمَ تَصُدُّونَ) عن قوله تعالى (لِمَ تَكْفُرُونَ) للإشعار بأن كل واحد من كفرهم وصدهم شناعة على حيالها مستقلة فى استتباع اللائمة والتقريع وتكرير الخطاب بعنوان أهلية الكتاب لتأكيد الاستقلال وتشديد التشنيع فإن ذلك العنوان كما يستدعى الإيمان بما هو مصدق لما معهم يستدعى ترغيب الناس فيه فصدهم عنه فى أقصى مراتب القباحة ولكون صدهم فى بعض الصور بتحريف الكتاب والكفر بالآيات الدالة على نبوته عليه‌السلام وقرىء تصدون من أصده (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو التوحيد وملة الإسلام (مَنْ آمَنَ) مفعول لتصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به. كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون إن صفته عليه‌السلام ليست فى كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم وقيل أنت اليهود الأوس والخزرج فدكروهم ما كان بينهم فى الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا إلى ما كانوا فيه (تَبْغُونَها) على إسقاط الجار وإيصال الفعل إلى الضمير كما فى قوله[فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا] بمعنى أصيد لكم أى تطلبون لسبيل الله التى هى أقوم السبل (عِوَجاً) اعوجاجا بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلا عن الحق بنفى النسخ وتغيير صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون وقيل من سبيل الله (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) حال من فاعل تصدون باعتبار تقييده بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أى والحال أنكم شهداء تشهدون بأنها سبيل الله لا يحوم حولها شائبة اعوجاج وأن الصد عنها إضلال قال ابن عباس رضى الله عنهما أى شهداء أن فى التوراة أن دين الله الذى لا يقبل غيره هو الإسلام أو وأنتم عدول فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم فى القضايا

٦٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (١٠٠)

____________________________________

وعظائم الأمور (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) اعتراض تذييلى فيه تهديد ووعيد شديد قيل لما كان صدهم للمؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم كما أن كفرهم بآيات الله تعالى لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين تحذيرا لهم عن طاعة أهل الكتاب والافتتان بفتنتهم إثر توبيخهم بالإغواء والإضلال ردعا لهم عن ذلك وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة فى التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية فإنه فى قوة أن يقال لا تطيعوا فريقا الخ كما أن تعميم التوبيخ فيما قبله للمبالغة فى الزجر أو للمحافظة على سبب النزول فإنه روى أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودى وكان عظيم الكفر شديد الحسد للمسلمين فغاظه ما رأى منهم من تألف القلوب واتحاد الكلمة واجتماع الرأى بعد ما كان بينهم ما كان من العداوة والشنآن فأمر شابا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيان وكان الظفر فيه للأوس وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخر القوم وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فعند ذلك جاءهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقال أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الإمام الواحدى اصطفوا للقتال فنزلت الآية إلى قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فجاء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون وقوله تعالى (كافِرِينَ) إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير كما فى قوله[رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا] [فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا] أو حال من مفعوله والأول أدخل فى تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورة سبق الخطاب بعنوان المؤمنين واستحاله تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارف العاقل عن مباشرته أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى.

٦٤

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢)

____________________________________

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام إنكارى بمعنى إنكار الوقوع كما فى قوله تعالى (كَيْفَ) يكون للمشركين عهد الخ لا بمعنى إنكار الواقع كما فى قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) الخ وفى توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر من المبالغة ما ليس فى توجيهه إلى نفسه بأن يقال أتكفرون لأن كل موجود لابد أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا أنكر ونفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده بالكلية على الطريق البرهانى وقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) جملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين فى تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما فيها من الشئون الداعية إلى الثبات على الإيمان الوازعة عن الكفر وقوله تعالى (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) معطوف عليها داخل فى حكمها فإن تلاوة آيات الله تعالى عليهم وكون رسوله عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه من أقوى الزواجر عن الكفر وعدم إسناد التلاوة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيذان باستقلال كل منهما فى الباب (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أى ومن يتمسك بدينه الحق الذى بينه بآياته على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وهو الإسلام والتوحيد المعبر عنه فيما نسبق بسبيل الله (فَقَدْ هُدِيَ) جواب للشرط وقد لإفادة معنى التحقيق كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع فيه ظاهر فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للندى (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى المطلوب والتنوين للتفخيم والوصف بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا وهذا وإن كان هو دينه الحق فى الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز فى معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تكرير الخطاب بعنوان الإيمان تشريف إثر تشريف (اتَّقُوا اللهَ) الاتقاء افتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة (حَقَّ تُقاتِهِ) أى حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع فى القيام بالموجب والاجتناب عن المحارم كما فى قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وعن ابن مسعود رضى الله عنه هو أن يطاع ولا يعصى ويذكر ولا ينسى ويشكر ولا يكفر وقد روى مرفوعا إليه عليه‌السلام وقيل هو أن لا تأخذه فى الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه وقيل هو أن ينزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة وقد مر تحقيق الحق فى ذلك عند قوله عزوجل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأدو أصلها وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما فى تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أى مخلصون نفوسكم

٦٥

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣)

____________________________________

لله تعالى لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا كما فى قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى لا تموتن على حال من الأحوال إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما ينبئ عنه الجملة الاسمية ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها والعامل فى الحال ما قبل إلا بعد النقض وظاهر النظم الكريم وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد هو الكون على أى حال من غير حال الإسلام لكن المقصود هو النهى عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذى هو الكون على حال الإسلام حينئذ وحيث كان الخطاب للمؤمنين كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت وتوجيهه النهى إلى الموت للمبالغة فى النهى عن قيده المذكور فإن النهى عن المقيد فى أمثاله نهى عن القيد ورفع له من أصله بالكلية مفيد لما لا يفيده النهى عن نفس القيد فإن قولك لا تصل إلا وأنت خاشع يفيد من المبالغة فى إيجاب الخشوع فى الصلاة ما لا يفيده قولك لا تترك الخشوع فى الصلاة لما أن هذا نهى عن ترك الخشوع فقط وذاك نهى عنه وعما يقارنه ومفيد لكون الخشوع هو العمدة فى الصلاة وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل وفيه نوع تحذير عما وراء الموت وقوله عزوجل (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) أى بدين الإسلام أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام القرآن حبل الله المتين لا تنقضى عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم إما تمثيل للحالة الحاصلة من استظهارهم به ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلى من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز فى المفردات وإما استعارة للحبل لما ذكر من الدين أو الكتاب والاعتصام ترشيح لها أو مستعار للوثوق به والاعتماد عليه (جَمِيعاً) حال من فاعل اعتصموا أى مجتمعين فى الاعتصام (وَلا تَفَرَّقُوا) أى لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين فى الجاهلية يحارب بعضكم بعضا أو لا تحدثوا ما يوجب التفريق ويزيل الألفة التى أنتم عليها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) مصدر مضاف إلى الفاعل وقوله تعالى (عَلَيْكُمْ) متعلق به أو بمحذوف وقع حالا منه وقوله تعالى (إِذْ كُنْتُمْ) ظرف له أو للاستقرار فى عليكم أى اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا إنعامه مستقرا عليكم وقت كونكم (أَعْداءً) فى الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة وقيل هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بين أولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب فيما بينهم مائة وعشرين سنة (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بتوفيقكم للإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ) أى فصرتم (بِنِعْمَتِهِ) التى هى ذلك التأليف (إِخْواناً) خبر أصبحتم أى إخوانا متحابين مجتمعين على الأخوة فى الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق وقيل معنى فأصبحتم فدخلتم فى الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أى فأصبحتم

٦٦

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤)

____________________________________

ملتبسين حال كونكم إخوانا (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) شفا الحفرة وشفتها حرفها أى كنتم مشرفين على الوقوع فى نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها (فَأَنْقَذَكُمْ) بأن هداكم للإسلام (مِنْها) الضمير للحفرة أو للنار أو للشفا والتأنيث للمضاف إليه كما فى قوله [كما شرقت صدر القتاة من الدم] أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها جانبها كالجانب والجانبة وأصله شفو قلبت الواو ألفا فى المذكر وحذفت فى المؤنث (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذى بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وكمال تميزه به عما عداه وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها النصب على أنها صفة لمصدر محذوف أى مثل ذلك التبيين الواضح (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أى دلائله (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) طلبا لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشاده إثر أمرهم بتكميل النفس وتهذيبها بما قبله من الأوامر والنواهى تثبيتا للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بأن يقوم بعضهم بمواجبها ويحافظ على حقوقها وحدودها ويذكرها الناس كافة ويردعهم عن الإخلال بها والجمهور على إسكان لام الأمر وقرىء بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومن تبعيضية متعلقة بالأمر أو بمحذوف وقع حالا من الفاعل وهو أمة ويدعون صفتها أى لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير والأمة هى الجماعة التى يؤمها فرق الناس أى يقصدونها ويقتدون بها أو من الناقصة وأمة اسمها ويدعون خبرها أى لتكن منكم أمة داعين إلى الخير وأيا ما كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكل أثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قوله عزوجل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية ولأنها من عظائم الأمور وعزائمها التى لا يتولاها إلا العلماء بأحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها فإن من لا يعلمها يوشك أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف ويغلظ فى مقام اللين ويلين فى مقام الغلظة وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا التمادى والإصرار وقيل من بيانية كما فى قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) الآية والأمر من كان الناقصة والمعنى كونوا أمة يدعون الآية كقوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة والدعاء إلى الخير عبارة عن الدعاء إلى ما فيه صلاح دينى أو دنيوى فعطف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عليه بقوله تعالى (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مع اندراجهما فيه من باب عطف الخاص على العام لإظهار فضلهما وإنافتهما على سائر الخيرات كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم‌السلام وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهوره أى يدعون الناس ويأمرونهم وينهونهم

٦٧

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥)

____________________________________

وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل كما فى قولك فلان يعطى ويمنع أى يفعلون الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (وَأُولئِكَ) إشارة إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الفاضلة وكمال تميزهم بذلك عمن عداهم وانتظامهم بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم فى الفضل والإفراد فى كاف الخطاب إما لأن المخاطب كل من يصلح للخطاب وإما لأن التعيين غير مقصود أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكاملة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى هم الأخصاء بكمال الفلاح وهم ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين. روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن خير الناس فقال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم وعنه عليه‌السلام من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله فى أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه وعنه عليه‌السلام والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم وعن على رضى الله عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له والأمر بالمعروف فى الوجوب والندب تابع للمأمور به وأما النهى عن المنكر فواجب كله فإن جميع ما أنكره الشرع حرام والعاصى يجب عليه النهى عما ارتكبه إذ يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شىء منهما والتوبيخ فى قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) هم أهل الكتابين حيث تفرقت اليهود فرقا والنصارى فرقا (وَاخْتَلَفُوا) باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما أخلدوا إليه من حطام الدنيا الدنيئة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أى الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة فالنهى متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة وإلى أعقابهم تبعا ويجوز تعميم الموصول للمختلفين من الأمم السالفة المشار إليهم بقوله عزوجل (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة وقيل هم الحرورية وعلى كل تقدير فالمنهى عنه إنما هو الاختلاف فى الأصول دون الفروع إلا أن يكون مخالفا للنصوص البينة أو الإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام اختلاف أمتى رحمة وقوله عليه‌السلام من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد (وَأُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما فى حيز الصلة وهو مبتدأ وقوله تعالى (لَهُمْ) خبره وقوله تعالى (عَذابٌ عَظِيمٌ) مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول وفيه من التأكيد والمبالغة فى وعيد المتفرقين والتشديد فى تهديد المشبهين بهم ما لا يخفى

٦٨

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (١٠٨)

____________________________________

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) أى وجوه كثيرة وقرىء تبياض (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) كثيرة وقرىء تسواد وعن عطاء تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بنى قريظة والنضير ويوم منصوب على أنه ظرف للاستقرار فى لهم أى لثبوت العذاب العظيم لهم أو على أنه مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفريق بعد مجىء البينات وترغيبا فى الاتفاق على التمسك بالدين أى اذكروا يوم تبيض الخ وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعى النور بين يديه وبيمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على إرادة القول أى فيقال لهم ذلك والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم والظاهر أنهم أهل الكتابين وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمان أسلافهم أو إيمان أنفسهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام أو جميع الكفرة حيث كفروا بعد ما أقروا بالتوحيد يوم الميثاق أو بعد ما تمكنوا من الإيمان بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة وقيل المرتدون وقيل أهل البدع والأهواء والفاء فى قوله عز وعلا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أى العذاب المعهود الموصوف بالعظم للدلالة على أن الأمر بذوق العذاب على طريق الإهانة مترتب على كفرهم المذكور كما أن قوله تعالى (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) صريح فى أن نفس الذوق معلل بذلك والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه فى الدنيا (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أعنى الجنة والنعيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره فى طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى وقرىء ابياضت كما قرىء اسوادت (هُمْ فِيها خالِدُونَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون وتقديم الظرف للمحافظة على رءوس الآى (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار ومعنى البعد للإيذان بعلو شأنها وسمو مكانها فى الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى (آياتُ اللهِ) خبره وقوله تعالى (نَتْلُوها) جملة حالية من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة أو هى الخبر و (آياتُ اللهِ) بدل من اسم الإشارة والالتفات إلى التكلم

٦٩

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠)

____________________________________

بنون العظمة مع كون التلاوة على لسان جبريل عليه‌السلام لإبراز كمال العناية بالتلاوة وقرىء يتلوها على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى وقوله تعالى (عَلَيْكَ) متعلق بنتلوها وقوله تعالى (بِالْحَقِّ) حال مؤكدة من فاعل نتلوها أو من مفعوله أى ملتبسين أو ملتبسة بالحق والعدل ليس فى حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن أو بزيادة عقاب المسىء أو بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم بأعمالهم بموجب الوعد والوعيد وقوله تعالى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله على أبلغ وجه وآكده فإن تنكير الظلم وتوجيه النفى إلى إرادته بصيغة المضارع دون نفسه وتعليق الحكم بآحاد الجمع المعرف والالتفات إلى الاسم الجليل إشعارا بعلة الحكم بيان لكمال نزاهته عزوجل عن الظلم بما لا مزيد عليه أى ما يريد فردا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين فى وقت من الأوقات فضلا عن أن يظلمهم فإن المضارع كما يفيد الاستمرار فى الإثبات يفيده فى النفى بحسب المقام كما أن الجملة الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت وعند دخول حرف النفى تدل على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام وفى سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد كما فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى له تعالى وحده من غير شركة أصلا ما فيهما من المخلوقات الفائنة للحصر ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وإيراد كلمة ما إما لتغليب غير العقلاء على العقلاء وإما لتنزيلهم منزلة غيرهم إظهارا لحقارتهم فى مقام بيان عظمته تعالى (وَإِلَى اللهِ) أى إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أى أمورهم فيجازى كلا منهم بما وعد له وأوعده من غير دخل فى ذلك لأحد قط فالجملة مقررة لمضمون ما ورد فى جزاء الفريقين وقيل هى معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه فإن كون العالمين عبيده تعالى ومخلوقه ومرزوقه يستدعى إرادة الخير بهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير وكنتم من كان الناقصة التى تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق كما فى قوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) وقيل كنتم كذلك فى علم الله تعالى أو فى اللوح أو فيما بين الأمم السالفة وقيل معناه أنتم خير أمة (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) صفة لأمة واللام متعلقة بأخرجت أى أظهرت لهم وقيل بخير أمة أى كنتم خير الناس للناس فهو صريح فى أن الخيرية بمعنى النفع للناس وإن فهم ذلك من الإخراج لهم أيضا أى أخرجت لأجلهم ومصلحتهم قال أبو هريرة رضى الله عنه معناه كنتم خير الناس للناس تأتون بهم فى السلاسل فتدخلونهم فى الإسلام وقال قتادة هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر نبى

٧٠

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١١١)

____________________________________

قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم فى الإسلام فهم خير أمة للناس (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) استئناف مبين لكونهم خير أمة كما يقال زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار وخطاب المشافهة وإن كان خاصا بمن شاهد الوحى من المؤمنين لكن حكمه عام للكل قال ابن عباس رضى الله عنهما يريد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الزجاج أصل هذا الخطاب لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعم سائر أمته وروى الترمذى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فى قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى وظاهر أن المراد بكل أمة أوائلهم وأواخرهم لا أوائلهم فقط فلا بد أن تكون أعقاب هذه الأمة أيضا داخلة فى الحكم وكذا الحال فيما روى أن مالك بن الصيف ووهب ابن يهوذا اليهوديين مرا بنفر من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ابن مسعود وأبى بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة رضوان الله عليهم فقالا لهم نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما كنتم خير أمة الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وروى عن الضحاك أنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أى إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذى يؤمن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة وأن ما خلا عن شىء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى فى شىء قال تعالى (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به قوله تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أى لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين وقيل مما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هى باعتبار زعمهم وفيه ضرب تهكم بهم وإنما لم يتعرض للمؤمن به أصلا للإشعار بظهور أنه الذى يطلق عليه اسم الإيمان لا يذهب الوهم إلى غيره ولو فصل المؤمن به ههنا أو فيما قبل لربما فهم أن لأهل الكتاب أيضا إيمانا فى الجملة لكن إيمان المؤمنين خير منه وهيهات ذلك (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) جملة مستأنفة سيقت جوابا عما نشأ من الشرطية الدالة على انتفاء الخيرية لانتفاء الإيمان عنهم كأنه قيل هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون فى الكفر الخارجون عن الحدود (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) استثناء مفرغ من المصدر العام أى لن يضروكم أبدا ضررا ما إلا ضرر أذى لا يبالى به من طعن وتهديد لا أثر له (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أى ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئا من قتل أو أسر (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف

٧١

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (١١٣)

____________________________________

على الشرطية وثم للتراخى فى الرتبة أى لا ينصرون من جهة أحد ولا يمنعون منكم قتلا وأخذا وفيه تثبيت لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بأنهم لا يقدرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يعبأ به مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأن عاقبة أمرهم الخذلان والذل وإنما لم يعطف نفى منصوريتهم على الجزاء لأن المقصود هو الوعد بنفى النصر مطلقا ولو عطف عليه لكان مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وكم بين الوعدين كأنه قيل ثم شأنهم الذى أخبركم عنه وأبشركم به أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعد ذلك بجناح ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم أمر وكان كذلك حيث لقى بنو قريظة والنضير وبنو قينقاع ويهود خيبر مالقوا (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أى هدر النفس والمال والأهل أوذل التمسك بالباطل (أَيْنَما ثُقِفُوا) أى وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) استثناء من أعم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هى عليه فى جميع الأحوال إلا حال كونهم معتصمين بذمة الله أو كتابه الذى أتاهم وذمة المسلمين أو بذمة الإسلام واتباع سبيل المؤمنين (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أى رجعوا مستوجبين له والتنكير للتفخيم والتهويل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لغضب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والهول أى كائن من الله عزوجل (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهى محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود كذلك فى غالب الحال مساكين تحت أيدى المسلمين والنصارى (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أى ذلك الذى ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات الله الناطقة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحريفهم لها وبسائر الآيات القرآنية (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أى فى اعتقادهم أيضا وإسناد القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم لرضاهم به كما أن التحريف مع كونه من أفعال أحبارهم ينسب إلى كل من يسير بسيرتهم (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الكفر والقتل (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أى كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرار على الصغائر يفضى إلى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدى إلى الكفر وقيل معناه أن ضرب الذلة والمسكنة فى الدنيا واستيجاب الغضب فى الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث أنهم مخاطبون بالفروع من حيث المؤاخذة (لَيْسُوا سَواءً) جملة مستأنفة سيقت تمهيدا لتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب وتذكيرا لقوله تعالى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) والضمير فى (لَيْسُوا) لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسم ليس وخبره سواء وإنما أفرد لأنه فى الأصل مصدر

٧٢

والمراد بنفى المساواة نفى المشاركة فى أصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفى المساواة فى مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة فى أصل الاتصاف بها أى ليس جميع أهل الكتاب متشاركين فى الاتصاف بما ذكر من القبائح والابتلاء بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم ومزيل لما فيه من الإبهام كما أن ما سبق من قوله تعالى (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية مبين لقوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الخ ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين والإيذان بأن تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أرذالهم والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم وقيل هم أربعون رجلا من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا عليهما الصلاة والسلام وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة ابن أنس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفية حتى بعث الله النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم فصدقوه ونصروه وقوله تعالى (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) فى محل الرفع على أنه صفة أخرى لأمة وقيل فى محل النصب على أنه حال منها لتخصصها بالنعت والعامل فيه الاستقرار الذى يتضمنه الجار أو من ضميرها فى قائمة أو من المستكن فى الجار لوقوعه خبرا لأمة والمراد بآيات الله القرآن وقوله تعالى (آناءَ اللَّيْلِ) ظرف ليتلون أى فى ساعاته جمع أنى بزنة عصا أو أنى بزنة معى أو أنى بزنة ظبى أو أنى بزنة نحى أو أنو بزنة جرو (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أى يصلون إذ لا تلاوة فى السجود قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا إنى نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا وتخصيص السجود بالذكر من بين سائر أركان الصلاة لكونه أدل على كمال الخضوع والتصريح بتلاوتهم آيات الله فى الصلاة مع أنها مشتملة عليها قطعا لزيادة تحقيق المخالفة وتوضيح عدم المساواة بينهم وبين الذين وصفوا آنفا بالكفر بها وهو السر فى تقديم هذا النعت على نعت الإيمان والمراد بصلاتهم التهجد إذ هو أدخل فى مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فإنها فى المكتوبة وظيفة الإمام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلاة المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة وقيل صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرها ليلة ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم وقرأ هذه الآية وإيراد الجملة اسمية للدلالة على الاستمرار وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والجملة حال من فاعل يتولون وقيل هى مستأنفة والمعنى أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون فى الصلاة من الخضوع لله عزوجل كما فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) وقيل المراد بالسجود هو الخضوع كما فى قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

٧٣

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٥)

____________________________________

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صفة أخرى لأمة مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى أى يؤمنون بها على الوجه الذى نطق به الشرع والإطلاق للإيذان بالغنى عن التقييد لظهور أنه الذى يطلق عليه الإيمان بهما لا يذهب الوهم إلى غيره وللتعريض بأن إيمان اليهود بهما مع قولهم عزير ابن الله وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الإيمان بهما فى شىء أصلا ولو قيد بما ذكر لربما توهم أن المنتفى عنهم هو القيد المذكور مع جواز إطلاق الإيمان على إيمانهم بالأصل وهيهات (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) صفتان أخريان لأمة أجريتا عليهم تحقيقا لمخالفتهم اليهود فى الفضائل المتعلقة بتكميل الغير إثر بيان مباينتهم لهم فى الخصائص المتعلقة بتكميل النفس وتعريضا بمداهنتهم فى الاحتساب بل بتعكيسهم فى الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله فإنه أمر بالمنكر ونهى عن المعروف (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) صفة أخرى لأمة جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير. والمسارعة فى الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب فى الأمر سارع فى توليه والقيام به وآثر الفور على التراخى أى يبادرون مع كمال الرغبة فى فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها بل بمبادتهم إلى الشرور وإيثار كلمة فى على ما وقع فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) الخ للإيذان بأنهم مستقرون فى أصل الخير متقلبون فى فنونه المترتبة فى طبقات الفضل لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها (وَأُولئِكَ) إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافهم بما فصل من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم فى الفضل وإيثاره على الضمير للإشعار بعلة الحكم والمدح أى أولئك المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب اتصافهم بها (مِنَ الصَّالِحِينَ) أى من جملة من صلحت أحوالهم عند الله عزوجل واستحقوا رضاه وثناءه (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) كائنا ما كان مما ذكر أو لم يذكر (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أى لن يعدموا ثوابه البتة عبر عنه بذلك كما عبر عن توفية الثواب بالشكر إظهارا لكمال تنزهه سبحانه وتعالى عن ترك إثابتهم بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وتعديته إلى مفعولين بتضمين معنى الحرمان وإيثار صيغة البناء للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرىء الفعلان على صيغة الخطاب (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن علمه تعالى بأحوالهم يستدعى توفية أجورهم لا محالة والمراد بالمتقين إما الأمة المعهودة وضع موضع الضمير العائد إليهم مدحا لهم وتعيينا لعنوان تعلق العلم بهم وإشعارا بمناط إثابتهم وهو التقوى المنطوى على الخصائص السالفة وأما جنس المنقين عموما وهم مندرجون تحت حكمه اندارجا أوليا.

٧٤

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى بما يجب أن يؤمن به. قال ابن عباس رضى الله عنهما هم بنو قريظة والنضير فإن معاندتهم كانت لأجل المال وقيل هم مشركو قريش فإن ابا جهل كان كثير الافتخار بماله وقيل ابو سفيان واصحابه فإنه انفق مالا كثيرا على الكفار يوم بدر واحد وقيل هم الكفار كافة فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فرد الله عزوجل عليهم وقال (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أى لن تدفع عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أى من عذابه تعالى (شَيْئاً) أى شيئا يسيرا منه أو شيئا من الإغناء (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أى مصاحبوها على الدوام وملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أبدا (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) بيان لكيفية عدم إغناء أموالهم التى كانوا يعولون عليها فى جلب المنافع ودفع المضار ويعلقون بها أطماعهم الفارغة وما موصولة اسمية حذف عائدها أى حال ما ينفقه الكفرة قربة أو مفاخرة وسمعة أو المنافقون رياء وخوفا وقصته العجيبة التى تجرى مجرى المثل فى الغرابة (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أى برد شديد فإنه فى الأصل مصدر وإن شاع إطلاقه على الريح الباردة كالصرصر وقيل كلمة فى تجريدية كما فى قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصى (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) وإنما وصفوا بذلك لأن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم ولم تدع منه أثرا ولا عثيرا والمراد تشبيه ما أنفقوا فى ضياعه وذهابه بالكلية من غير أن يعود إليهم نفع ما بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما بوجه من الوجوه وهو من التشبيه المركب الذى مر تفصيله فى تفسير قوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرىء تنفقون (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغى وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص إذ الكلام فى الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول أى ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقد جوز أن يكون المعنى وما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ويأباه أنه قد مر التعرض له تصريحا وإشعارا وقرىء ولكن بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ويظلمون خبرها والعائد محذوف للفاصلة أى ولكن أنفسهم يظلمونها وأما تقدير ضمير الشأن فلا سبيل إليه لاختصاصه بالشعر ضرورة كما فى قوله [ولكن من يبصر جفونك يعشق]

٧٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) بطانة الرجل ووليجته من يعرفه أسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار شعار والناس دثار قال ابن عباس رضى الله عنهما كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مجاهد نزلت فى قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهوا عن ذلك ويؤيده قوله تعالى (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) وهى صفة المنافق وأيا ما كان فالحكم عام للكفرة كافة (مِنْ دُونِكُمْ) أى من دون المسلمين وهو متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة أى كائنة من دونكم مجاوزة لكم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى الاجتناب عنهم أو صفة بطانة يقال ألا فى الأمر إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى المفعولين فى قولهم لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع والنقص والخبال الفساد أى لا يقصرون لكم فى الفساد (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أى تمنوا عنتكم أى مشقتكم وشدة ضرركم وهو أيضا استئناف مؤكد للنهى موجب لزيادة الاجتناب عن المنهى عنه (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) استئناف آخر مفيد لمزيد الاجتناب عن المنهى عنه أى قد ظهرت البغضاء فى كلامهم لما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم فى ضبط أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين وقرىء قد بدا البغضاء والأفواه جمع فم وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه وتصغيره على فويه والنسبة إليه فوهى (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على وجوب الإخلاص فى الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أى إن كنتم من أهل العقل أو إن كنتم تعقلون ما بين لكم من الآيات والجواب محذوف لدلالة المذكور عليه (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه إظهارا لكمال العناية بمضمونها أى أنتم أولاء المخطئون فى موالاتهم وقوله تعالى (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بيان لخطئهم فى ذلك وهو خبر ثان لأنتم أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك أنت زيد تحبه أو صلة له أو حال والعامل معنى الإشارة ويجوز أن ينتصب أولاء بفعل يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أى بجنس الكتب جميعا وهو حال من ضمير المفعول فى لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بأنهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أى من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا إلى التشفى سبيلا (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بدوام الغيظ

٧٦

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٢١)

____________________________________

وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله إلى أن يهلكوا به أو باشتداده إلى أن يهلكهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما فى صدوركم من العداوة والبغضاء والحنق وهو يحتمل أن يكون من المقول أى وقل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل عيظا وأن يكون خارجا عنه بمعنى لا تتعجب من إطلاعى إياك على أسرارهم فإنى عليم بذات الصدور وقيل هو أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول كأنه قيل حدث نفسك بذلك (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) بيان لتناهى عداوتهم إلى حد حسد وامانا لهم من خير ومنفعة وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة وذكر المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة إما للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة وإما لأن المس مستعار لمعنى الإصابة (وَإِنْ تَصْبِرُوا) أى على عتاتهم أو على مشاق التكاليف (وَتَتَّقُوا) ما حرم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) مكرهم وحيلتهم التى دبروها لأجلكم وقرىء لا يضركم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره وضمة الراء فى القراءة المشهورة للاتباع كضمة مد (شَيْئاً) نصب على المصدرية أى لا يضركم شيئا من الضرر بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد فى الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئا على الخصم (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) فى عدواتكم من الكيد (مُحِيطٌ) علما فيعاقبهم على ذلك وقرىء بالتاء الفوقانية أى بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله (وَإِذْ غَدَوْتَ) كلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة من مضرة كيد الأعداء وإذ نصب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة مع عموم الخطاب فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمون الكلام به عليه‌السلام أى واذكر لهم وقت غدوك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلموا أنهم إن لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها واستحضار الحادثة بتفاصيلها كما سلف بيانه فى تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) الخ والمراد به خروجه عليه‌السلام إلى أحد وكان ذلك من منزل عائشة رضى الله عنها وهو المراد بقوله تعالى (مِنْ أَهْلِكَ) أى من عند أهلك (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أى تنزلهم أو تهيئ وتسوى لهم (مَقاعِدَ) ويؤيد قراءة من قرأ تبوئ للمؤمنين والجملة حال من فاعل غدوت لكن لا على أنها حال مقدرة أى ناويا وقاصدا للتبوئة كما قيل

٧٧

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

____________________________________

بل على أن المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة وإنما عبر عنه بالغدو الذى هو الخروج غدوة مع كون خروجه عليه‌السلام بعد صلاة الجمعة كما ستعرفه إذ حينئذ وقعت التبوئة التى هى العمدة فى الباب إذ المقصود بتذكير الوقت تذكير مخالفتهم لأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتزايلهم عن أحيازهم المعينة لهم عند التبوئة وعدم صبرهم وبهذا يتبين خلل رأى من احتج به على جواز أداء صلاة الجمعة قبل الزوال واللام فى قوله تعالى (لِلْقِتالِ) إما متعلقة بتبوئ أى لأجل القتال وإما بمحذوف وقع صفة لمقاعد أى كائنة ومقاعد القتال أما كنه ومواقفه فإن استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان اتساعا شائع ذائع كما فى قوله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) وقوله تعالى (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعا فاستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبى بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينافدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم النساء والصببان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى قد رأيت فى منامى بقرا مذبحة حولى فأولتها خيرا ورأيت فى ذباب سيفى ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة فتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ اخرج بنا إلى أعدائنا وقال النعمان بن مالك الأنصارى رضى الله عنه يا رسول الله لا تحرمنى الجنة فو الذى بعثك بالحق لأدخلن الجنة ثم قال بقولى أشهد أن لا إله إلا وأنى لا أفر من الزحف فلم يزالوا به عليه‌السلام حتى دخل فلبس لأمته فلما رأوه كذلك ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحى يأتيه وقالوا اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال ما ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال لسنة ثلاث من الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال تأخر وكان نزوله فى عدوة الوادى وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرحوا من مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم والجملة اعتراض للإيذان بأنه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال ما لا ينبغى صدوره عنهم. (إِذْ هَمَّتْ) بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) مبين لما هو المقصود بالتذكير أو ظرف ل (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) على معنى أنه تعالى جامع بين سماع الأقوال والعلم بالضمائر فى ذلك الوقت إذ لا وجه لتقييد كونه تعالى سميعا عليما بذلك الوقت. قال الفراء معنى قولك ضربت وأكرمت زيدا أن زيدا منصوب بهما وأنهما تسلطا عليه معا (طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) متعلق بهمت والباء محذوفة أى بأن تفشلا أى تجبنا وتضعفا وهما حيان من

٧٨

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (١٢٤)

____________________________________

الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا ألف رجل وقيل تسعمائة وخمسين وعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفتح إن صبروا فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل عبد الله بن أبى بثلث الناس فقال يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم عمرو بن حزم الأنصارى فقال أنشدكم الله فى نبيكم وأنفسكم فقال عبد الله لو نعلم قتالا لا تبعناكم فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله تعالى فمضوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن ابن عباس رضى الله عنهما أضمروا أن يرجعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس قلما تخلوا النفس عنه عند الشدائد (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أى عاصمهما عن اتباع تلك الخطرة والجملة اعتراض ويجوز أن تكون حالا من فاعل همت أو من ضميره فى تفشلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما به مع كونهما فى ولاية الله تعالى وقرىء والله وليهم كما فى قوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (وَعَلَى اللهِ) وحده دون ما عداه مطلقا استقلالا أو اشتراكا (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى جميع أمورهم فإنه حسبهم وإظهار الاسم الجليل للتبرك والتعليل فإن الألوهية من موجبات التوكل عليه تعالى واللام فى المؤمنين للجنس فيدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا وفيه إشعار بأن وصف الإيمان من دواعى التوكل وموجباته (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) جملة مستأنفة سيقت لإيجاب الصبر والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر إثر تذكير ما ترتب على عدمهما من الضرر وقيل لإيجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه وبدر اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر بن كلدة فسمى بأسمه وقيل سمى به لصفائه كالبدر واستدارته وقيل هو اسم الموضع أو الوادى وكانت وقعة بدر فى السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حال من مفعول نصركم وأذلة جمع ذليل وإنما جمع جمع قلة للإيذان باتصافهم حينئذ بوصفى القلة والذلة إذ كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وكان ضعف حالهم فى الغاية خرجوا على النواضح يتعقب النفر منهم على البعير الواحد ولم يكن فى العسكر إلا فرس واحد وقيل فرسان للمقداد ومرثد وتسعون بعيرا وست أدرع وثمانية سيوف وكان العدو زهاء ألف ومعهم مائة فرس وشكة وشوكة (فَاتَّقُوا اللهَ) اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعا بالصبر فيما سبق وما لحق للإشعار بإصالته وكون الصبر من مباديه اللازمة له ولذلك قدم عليه فى الذكر وفى ترتيب الأمر بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذان بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم أى إدا كان الأمر كذلك فاتقوا الله كما اتقيتم يومئذ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أى راجين أن تشكروا ما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبل أو لعلكم ينعم الله عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل فوضع الشكر موضع سببه الذى هو الإنعام (إِذْ تَقُولُ) تلوين للخطاب بتخصيصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتشريفه والإيذان بأن وقوع النصر كان ببشارته عليه‌السلام وإذ ظرف لنصركم قدم عليه الأمر

٧٩

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥)

____________________________________

بالتقوى لإظهار كمال العناية به والمراد به الوقت الممتد الذى وقع فيه ما ذكر بعده وما طوى ذكره تعويلا على شهادة الحال مما يتعلق به وجود النصر وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها أى نصركم وقت قولك (لِلْمُؤْمِنِينَ) حين أظهروا العجز عن المقاتلة قال الشعبى بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر الحنفى يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكى ههنا (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ) الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر والإمداد فى الأصل إعطاء الشىء حالا بعد حال قال المفضل ما كان منه بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه مده يمده مدا ومنه والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وقيل المد فى الشر كما فى قوله تعالى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وقوله (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) والإمداد فى الخير كما فى قوله تعالى (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) والتعرض لعنوان الربوبية ههنا وفيما سيأتى مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العناية بهم والإشعار بعلة الإمداد والمعنى إنكار عدم كفاية الإمداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة لن للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم (مِنَ الْمَلائِكَةِ) بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه أى كائنين من الملائكة (مُنْزَلِينَ) صفة لثلاثة آلاف وقيل حال من الملائكة وقرىء منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج قيل أمدهم الله تعالى أولا بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف وقرىء مبنيا للفاعل من الصيغتين أى منزلين النصر (بَلى) إيجاب لما بعد لن وتحقيق له أى بلى يكفيكم ذلك ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقالى (إِنْ تَصْبِرُوا) على لقاء العدو ومناهضتهم (وَتَتَّقُوا) معصية الله ومخالفة نبيه عليه الصلاة والسلام (وَيَأْتُوكُمْ) أى المشركين (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أى من ساعتهم هذه وهو فى الأصل مصدر فارت القدر أى اشتد غليانها ثم استعير للسرعة ثم أطلق على كل حالة لا ريث فيها أصلا ووصفه بهذا لتأكيد السرعة بزيادة تعيينه وتقريبه ونظم إتيانهم بسرعة فى سلك شرطى الإمداد المستتبعين له وجودا وعدما أعنى الصبر والتقوى مع تحقق الإمداد لا محالة سواء أسرعوا أو أبطئوا لتحقيق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله أو لبيان تحققه على أى حال فرض على أبلغ وجه وآكده بتعليقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالطريق الأولى فإن هجوم الأعداء وإتيانهم بسرعة من مظان عدم لحوق المدد عادة فعلق به تحقق الإمداد إيذانا بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادة فلأن يتحقق بدونه أولى وأحرى كما إذا أردت وصف درع بغاية الحصانة تقول إن لبستها وبارزت بها الأعداء فضربوك يأيد شداد وسيوف حداد لم تتأثر منها قطعا (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) من التسويم الذى هو إظهار سيما الشىء أى معلمين أنفسهم أو خيلهم فقد روى أنهم كانوا بعمائم بيض إلا جبريل عليه‌السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام وروى

٨٠