تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥)

____________________________________

بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض وسط بين الفعل ومفعوله الذى هو (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) لئلا يفهم من مطلع كلامه أن تمنيه لمعية المؤمنين لنصرتهم ومظاهرتهم حسبما يقتضيه ما فى البين من المودة بل هو للحرص على المال كما ينطق به آخره وليس إثبات المودة فى البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم وقيل الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أى ليقولن مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه وقيل هى داخلة فى المقول أى ليقولن المثبط لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة حيث لم يستصحبكم فى الغزو حتى تفوزوا بما فاز يا ليتنى كنت معهم وغرضه إلقاء العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدها وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف وقرىء لم يكن بالياء والمنادى فى يا ليتنى محذوف أى يا قوم وقيل يا أطلق للتنبيه على الاتساع وقوله تعالى (فَأَفُوزَ) نصب على جواب التمنى وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى فأنا أفوز فى ذلك الوقت أو على أنه معطوف على كنت داخل معه تحت التمنى (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) قدم الظرف على الفاعل للاهتمام به (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أى يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاء جواب شرط مقدر أى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم فى طلب الآخرة أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون فالفاء للتعقيب أى ليتركوا ما كانوا عليه من التثبط والنفاق وليعقبوه بالقتال فى سبيل الله (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بنون العظمة التفاتا (أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره وتعقيب القتال بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهد حقه أن يوطن نفسه بإحدى الحسنيين ولا يخطر بباله القسم الثالث أصلا وتقديم القتل للإيذان بتقدمه فى استتباع الأجر. روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تكفل الله تعالى لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة (وَما لَكُمْ) خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة فى التحريض عليه وتأكيدا لوجوبه وهو مبتدأ وخبر وقوله عزوجل (لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال عاملها ما فى الظرف من معنى الفعل والاستفهام للإنكار والنفى أى أى شىء لكم غير مقاتلين أى لا عذر لكم فى ترك المقاتلة (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على اسم الله أى فى سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضاف أى فى

٢٠١

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

____________________________________

خلاص المستضعفين ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله يعم أبواب الخير وتخليص ضعفة المؤمنين من أيدى الكفرة أعظمها وأخصها (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين أو حال منهم وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتهنين وإنما ذكر الولدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيها على تناهى ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان لإرغام آبائهم وأمهاتهم وإيذانا بإجابة الدعاء الآتى واقتراب زمان الخلاص ببيان شركتهم فى التضرع إلى الله تعالى كل ذلك للمبالغة فى الحث على القتال وقيل المراد بالولدان العبيد والإماء إذ يقال لهما الوليد والوليدة وقد غلب الذكور على الإناث فأطلق الولدان على الولائد أيضا (الَّذِينَ) محله الجر على أنه صفة للمستضعفين أو لما فى حيز البيان أو النصب على الاختصاص (يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) بالشرك الذى هو ظلم عظيم وبأذية المسلمين وهى مكة والظالم صفتها وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجرى على غير من هو له كان كالفعل فى التذكير والتأنيث بحسب ما عمل فيه (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) كلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنييهما وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة فى المؤخر بتقديم أحواله فإن تأخير ما حقه التقديم عما هو من أحواله المرغبة فيه كما يورث شوق السامع إلى وروده ينبئ عن كمال رغبة المتكلم فيه واعتنائه بحصوله لا محالة وتقديم اللام على من للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم ويجوز أن تتعلق كلمة من بمحذوف وقع حالا من وليا قدمت عليه لكونه نكرة وكذا الكلام فى قوله تعالى (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) قال ابن عباس رضى الله عنهما أى ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عزوجل دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقى منهم خير ولى وأعز ناصر ففتح مكة على يدى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتولاهم أى تول ونصرهم آية نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها وقيل المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أى كن أنت ولينا وناصرنا وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة فى التضرع والابتهال (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) كلام مبتدأ سيق لترغيب المؤمنين فى القتال وتشجيعهم ببيان كمال قوتهم بإمداد الله تعالى ونصرته وغاية ضعف أعدائهم أى المؤمنون إنما يقاتلون فى دين الله الحق الموصل لهم إلى الله عزوجل وفى إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أى فيما يوصلهم إلى الشيطان فلا ناصر لهم سواه والفاء فى قوله تعالى (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) لبيان استتباع ما قبلها لما بعدها وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم فى سبيل الشيطان والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى لما أن قتالهم فى سبيله وكل

٢٠٢

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧)

____________________________________

ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين فى القتال وتقوية عزائمهم عليه فإن ولاية الله تعالى علم فى العزة والقوة كما أن ولاية الشيطان مثل فى الذلة والضعف كأنه قيل إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان ثم صرح بالتعليل فقيل (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أى فى حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها قالوا فائدة إدخال كان فى أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى إن كيد الشيطان منذ كان كان موصوفا بالضعف (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حراصا عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبىء عنه الأمر بكف الأيدى فإن ذلك مشعر بكونهم بصدد بسطها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم قال الكلبى إن جماعة من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف الزهرى والمقداد بن الأسود الكندى وقدامة بن مظعون الجمحى وسعد بن أبى وقاص الزهرى رضى الله تعالى عنهم كانوا يلقون من مشركى مكه قبل الهجرة أذى شديدا فيشكون ذلك إلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون ائذن لنافى قتالهم ويقول لهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفوا أيديكم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فإنى لم أومر بقتالهم وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصود بالذات والمعتبر فى التعجيب إنما هو كمال رغبتهم فى القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهى عنه وإنما ذكر فى حيز الصلة الأمر بكف الأيدى لتحقيقه وتصويره على طريقة الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض وكانوا فى مدة إقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأمروا بالقتال فى وقعة بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لا شكا فى الدين ولا رغبة عنه بل نفورا عن الأخطار بالأرواح وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) الخ وهو عطف على قيل لهم كفوا أيديكم باعتبار مدلوله الكنائى إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولى المعطوفين وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه بعضهم وقوله تعالى (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) جواب لما على أن فريق مبتدأ ومنهم متعلق بمحذوف وقع صفة له ويخشون خبره وتصديره بإذا المفاجأة لبيان مسارعتهم إلى الخشية آثر ذى أثير من غير تلعثم وتردد أى فاجأ فريق منهم أن يخشوا الكفار أن يقتلوهم ولعل توجيه التعجيب إلى الكل مع صدور الخشية عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغى أن يصدر عن أحدهم ما ينافى حالتهم الأولى وقوله تعالى (كَخَشْيَةِ اللهِ) مصدر مضاف إلى المفعول محله النصب على أنه حال من فاعل يخشون أى يخشونهم مشبهين لأهل خشية الله تعالى وقوله تعالى (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه بمعنى أو أشد خشية من أهل

٢٠٣

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨)

____________________________________

خشية الله أو على أنه مصدر مؤكد على جعل الخشية ذات خشية مبالغة كما فى جد جده أى يخشونهم خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله وأيا ما كان فكلمة أو إما للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها وإما للإبهام على السامع وهو قريب مما فى قوله تعالى (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) يعنى أن من يبصرهم يقول إنهم مائة ألف أو يزيدون (وَقالُوا) عطف على جواب لما أى فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) فى هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والإنكار لإيجابه بل على طريق تمنى التخفيف (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) استزادة فى مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر حذرا من الموت وقد جوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا (قُلْ) أى تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفانى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقى (مَتاعُ الدُّنْيا) أى ما يتمتع وينتفع به فى الدنيا (قَلِيلٌ) سريع التقضى وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك الأجل (وَالْآخِرَةُ) أى ثوابها الذى من جملته الثواب المنوط بالقتال (خَيْرٌ) أى لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وإنما قيل (لِمَنِ اتَّقى) حثالهم على اتقاء العصيان والإخلال بمواجب التكليف (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى تجزون فيها ولا تنقصون أدنى شىء من أجور أعمالكم التى من جملتها مسعاكم فى شأن القتال فلا ترغبوا عنه والفتيل ما فى شق النواة من الخيط يضرب به المثل فى القلة والحقارة وقرىء يظلمون بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) كلام مبتدأ مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المخاطبين اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وعلو شأن الآخرة بواسطتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا محل له من الإعراب أو فى محل النصب داخل تحت القول المأمور به أى أينما تكونوا فى الحضر والسفر يدرككم الموت الذى لأجله تكرهون القتال زعما منكم أنه من مظانه وتحبون القعود عنه على زعم أنه منجاة منه وفى لفظ الإدراك إشعار بأنهم فى الهرب من الموت وهو مجد فى طلبهم وقرىء بالرفع على حذف الفاء كما فى قوله [من يفعل الحسنات الله يشكرها] أو على اعتبار وقوع أينما كنتم فى موقع أينما تكونوا أو على أنه كلام مبتدأ وأينما تكونوا متصل بلا تظلمون أى لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا فى ملاحم الحروب ومعارك الخطوب (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) فى حصون رفيعة أو قصور محصنة وقال السدى وقتادة بروج السماء يقال شاد البناء وأشاده وشيده رفعه وقرىء مشيدة بكسر الياء وصفالها بفعل فاعلها مجازا كما فى قصيدة شاعرة ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وجواب لو محذوف اعتمادا على دلالة

٢٠٤

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩)

____________________________________

ما قبله عليه أى ولو كنتم فى بروج مشيدة يدرككم الموت والجملة معطوفة على أخرى مثلها أى لو لم تكونوا فى بروج مشيدة ولو كنتم الخ وقد اطرد حذفها لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة فإن الشىء إذا تحقق عند وجود المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما فى لو الوصلية من التأكيد والمبالغة وقد مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) كلام مبتدأ جىء به عقيب ما حكى عن المسلمين لما بينهما من المناسبة فى اشتمالهما على إسناد ما يكرهونه إلى بعض الأمور وكراهتهم له بسبب ذلك والضمير لليهود والمنافقين. روى أنه كان قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم هذا الرجل وأصحابه وذلك قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أى وإن تصبهم نعمة ورخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك كما حكى عن أسلافهم بقوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) فأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمر الله عزوجل حيث قيل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شىء منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتى بيانه فهذا الجواب المجمل فى معنى ما قيل ردا على أسلافهم من قوله تعالى (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أى إنما سبب خيرهم وشرهم أو سبب إصابة السيئة التى هى ذنوبهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يسندوها إليه ويطيروا به وقوله تعالى (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) الخ كلام معترض بين المبين وبيانه مسوق من جهته تعالى لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم والفاء لترتيبه على ما قبله وقوله تعالى (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) حال من هؤلاء والعامل فيها ما فى الظرف من معنى الاستقرار أى وحيث كان الأمر كذلك فأى شىء حصل لهم حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثا أو استئناف مبنى على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيل ما بالهم وما ذا يصنعون حتى يتعجب منه أو يسأل عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثا من الأحاديث أصلا فيقولون ما يقولون إذ لو فقهوا شيئا من ذلك لفهموا هذا النص وما فى معناه وما هو أوضح منه من النصوص القرآنية الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد لا سيما النص الوارد عليهم فى صحف موسى وإبراهيم الذى وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى ولم يسندوا جناية أنفسهم إلى غيرهم وقوله تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) الخ بيان للجواب المجمل المأمور به واجراؤه

٢٠٥

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠)

____________________________________

على لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم سوق البيان من جهته عزوجل بطريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى كل واحد من الناس والالتفات لمزيد الاعتناء به والاهتمام برد مقالتهم الباطلة والإيذان بأن مضمونه مبنى على حكمة دقيقة حقيقة بأن يتولى بيانها علام الغيوب وتوجيه الخطاب إلى كل واحد منهم دون كلهم كما فى قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) للمبالغة فى التحقيق بقطع احتمال سببية معصية بعضهم لعقوبة الآخرين أى ما أصابك من نعمة من النعم (فَمِنَ اللهِ) أى فهى منه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وأن كل ما يفعله المرء من الطاعات التى يفرض كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهى بحيث لا تكاد تكافئ نعمة حياته المقارنة لأدائها ولا نعمة إقداره تعالى إياه على أدائها فضلا عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أى بلية من البلايا (فَمِنْ نَفْسِكَ) أى فهى منها بسبب اقترافها المعاصى الموجبة لها وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة كقوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وعن عائشة رضى الله عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وقيل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قبله وما بعده لكن لا لبيان حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بيان لجلالة منصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكانته عند الله عزوجل بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء على جهلهم بشأنه الجليل وتعريف الناس للاستغراق والجار إما متعلق برسولا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أى مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما فى قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) وإما بالفعل فرسولا حال مؤكدة وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما فى قوله[لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول] أى بإرسال بمعنى رسالة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أى على رسالتك بنصب المعجزات التى من جملتها هذا النص الناطق والوحى الصادق والالتفات لتربية المهابة وتقوية الشهادة والجملة اعتراض تذييلى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) بيان لأحكام رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان تحققها وثبوتها وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهى فى الحقيقة هو الله تعالى وإنما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبلغ لأمره ونهيه فمرجع الطاعة وعدمها هو لله سبحانه. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله فقال المنافقون ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير الله ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت. والتعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسول دون الخطاب للإيذان بأن مناط كون طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة له تعالى ليس خصوصية ذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل من حيثية رسالته وإظهار الجلالة لتربية المهابة وتأكيد وجوب الطاعة بذكر عنوان الألوهية وحمل الرسول على الجنس المنتظم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظاما أوليا يأباه تخصيص الخطاب

٢٠٦

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢)

____________________________________

به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له أى ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها وحفيظا حال من الكاف وعليهم متعلق به قدم عليه رعاية للفاصلة وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى تولى باعتبار لفظه (وَيَقُولُونَ) شروع فى بيان معاملتهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بيان وجوب طاعته أى يقولون إذا أمرتهم بشىء (طاعَةٌ) أى أمرنا وشأننا طاعة أو منا طاعة والأصل النصب على المصدر والرفع للدلالة على الثبات كسلام (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أى خرجوا من مجلسك (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أى من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أى زورت طائفة منهم وسوت خلاف ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة لأنهم مصرون على الرد والعصيان وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق أو خلاف ما قلت لها والتبييت إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل يقال هذا أمر بيت بليل وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسوبه وتذكير الفعل لأن تأنيث الطائفة غير حقيقى وقرىء بإدغام التاء فى الطاء لقرب المخرج وإسناده إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم فى ذلك لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أى يكتبه فى جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن مكرهم يخفى عليكم فيجدوا بذلك إلى الإضرار بكم سبيلا أو يثبته فى صحائفهم فيجازيهم عليه وأيا ما كان فالجملة اعتراضية (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أى لا تبال بهم وبما صنعوا أو تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فى كل ما تأتى وما تذر لا سيما فى شأنهم وإظهار الجلالة فى مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فيكفيك معرنهم وينتقم لك منهم والإظهار ههنا أيضا لما مر والتنبيه على استقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان وتدبر الشىء تأمله والنظر فى أدباره وما يؤول إليه فى عاقبته ومنتهاه ثم استعمل فى كل تفكر ونظر والفاء للعطف على مقدر أى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التى من جملتها هذا الوحى الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكى على ما هو عليه (وَلَوْ كانَ) أى القرآن (مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما يزعمون (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم بالأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره سبحانه وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى. قال الزجاج ولو لا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا بعضه حق وبعضه

٢٠٧

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٣)

____________________________________

باطل لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وقال أبو بكر الأصم إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطؤون فى السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر وكان الله تعالى يطلع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ويخبره بها مفصلة فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه ولوقع فيه الاختلاف فلما لم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى هذا هو الذى يستدعيه جزالة النظم الكريم وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم فى البلاغة بأن كان بعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى وبعضه على معنى فاسد غير ملتئم وبعضه بالغا حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته كما جنح إليه الجمهور فمما لا يساعده السباق ولا السياق ومن رام التقريب وقال لعل ذكره ههنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض فى الحكم بل لاختلاف فى الحكم والمصالح المقتضية لذلك فقد أبعد عن الحق بمراحل (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) يقال أذاع السر وأذاع به أى أشاعه وأفشاه وقيل معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه وهو كلام مسوق لدفع ما عسى يتوهم فى بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشألتوهم الاختلاف فنعى عليهم ذلك وقيل (وَلَوْ رَدُّوهُ) أى ذلك الأمر الذى جاءهم (إِلَى الرَّسُولِ) أى عرضوه على رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستكشفين لمعناه وما ينبغى له من التدبير والالتفات لما أن عنوان الرسالة من موجبات الرد والمراجعة إلى رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم كبراء الصحابة البصراء فى الأمور رضى الله تعالى عنهم (لَعَلِمَهُ) أى لعلم الرادون معناه وتدبيره وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول فقيل (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) للإيذان بأنه ينبغى أن يكون قصدهم برده إليهم استكشاف معناه واستيضاح فحواه أى لعلمه أولئك الرادون الذين يستنبطونه أى يتلقونه ويستخرجون علمه وتدبيره منهم أى من جهة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولى الأمر من صحابته رضوان الله عليهم أجمعين ولما فعلوا فى حقه ما فعلوا فلم يقع فيه ما وقع من الاشتباه وتوهم الاختلاف وقيل لعلمه الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها فكلمة من فى منهم بيانية وقيل إنهم كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به وكانت إذاعتهم مفسدة ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أولى الأمر لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أى يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها وقيل

٢٠٨

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٨٤)

____________________________________

كانوا يقفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون فيه وقيل كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه فيعود ذلك وبالاعلى المؤمنين ولو ردوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم فمساق النظم الكريم حينئذ لبيان جناية تلك الطائفة وسوء تدبيرهم إثر بيان جناية المنافقين ومكرهم والخطاب فى قوله تعالى (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) للطائفة المذكورة على طريقة الالتفات أى لو لا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرشادكم إلى طريق الحق الذى هو المراجعة فى مظان الاشتباه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولى الأمر (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) وعملتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سنن الصواب (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أولو الأمر الواقفون على أسرار الكتاب الراسخون فى معرفة أحكامه فالاستثناء منقطع وقيل ولو لا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لا تبعتم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة إلا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحق والصواب وعصمه من متابعة الشيطان كقس ابن ساعدة الأيادى وزيد بن عمر وبن نفيل وورقة بن نوفل وأضرابهم فالخطاب للكل والاستثناء متصل وقيل المراد بالفضل والرحمة النصرة والظفر بالأعداء أى ولو لا حصول النصر والظفر على التواتر والتتابع لا تبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا قليلا منكم وهم أولوا البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم الماضية من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقية الدين البالغين إلى درجة حق اليقين المستغنين عن مشاهدة آثار حقيته من الفتح والظفر وقيل إلا اتباعا قليلا (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أى إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين فى مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا وقوله تعالى (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أى إلا فعل نفسك استئناف مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده وفيه دلالة على أن ما فعلوا من التثبط لا يضره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يؤاخذ به وقيل هو حال من فاعل قاتل أى فقاتل غير مكلف إلا نفسك وقرىء لا تكلف بالجزم على النهى وقيل على جواب الأمر وقرىء بنون العظمة أى لا نكلفك إلا فعل نفسك لا على معنى لا نكلف أحدا إلا نفسك (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على الأمر السابق داخل فى حكمه فإن كون حال الطائفتين كما

٢٠٩

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦)

____________________________________

حكى سبب للأمر بالقتال وحده وبتحربض خلص المؤمنين والتحريض على الشىء الحث عليه والترغيب فيه قال الراغب كأنه فى الأصل إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به أى رغبهم فى القتال ولا تعنف بهم وإنما لم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره وقوله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكرهم فإن ما صدر بلعل وعسى مقرر الوقوع من جهته عزوجل وقد كان كذلك حيث روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى فى ذى القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سبعين راكبا ووافوا الموعد وألقى الله تعالى فى قلوب الذين كفروا الرعب فرجعوا من مر الظهران وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثمانى ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا وقد مر فى سورة آل عمران (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أى من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أى تعذيبا وعقوبة تنكل من يشاهدها عن مباشرة ما يؤدى إليها والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبلها وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة وتكرير الخبر لتأكيد التشديد وقوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أى من ثوابها جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا فإن الشفاعة هى التوسط بالقول فى وصول شخص إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية أو خلاصه من مضرة ما كذلك من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا والحسنة منها ما كانت فى أمر مشروع روعى بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى من غير أن يتضمن غرضا من الأغراض الدنيوية وأى منفعة أجل مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجهاد من المنافع الدنيوية والأخروية وأى مضرة أعظم مما تخلصوا منه بذلك من التثبط عنه ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله سبحانه وعليه مساق آية التحية الآتية روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وهذا بيان لمقدار النصيب الموعود (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) وهى ما كانت بخلاف الحسنة (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أى نصيب من وزرها مساولها فى المقدار من غير أن ينقص منه شىء (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أى مقتدرا من أقات على الشىء إذا اقتدر عليه أو شهيدا حفيظا واشتقاقه من القوت فإنه يقوى البدن ويحفظه والجملة تذييل مقرر لما قبلها على كلا المعنيين (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) ترغيب فى فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة وإرشاد إلى توفية حق الشفيع وكيفية أدائه فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه إلى الله تعالى والتحية مصدر حيى أصلها تحيية كتسمية من سمى

٢١٠

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

____________________________________

رأصل الأصل تحيى بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وأدغمت الأولى فى الثانية بعد نقل حركتها إلى الحاء قال الراغب أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت فى كل دعاء وكانت العرب إذا لقى بعضهم بعضا يقول حياك الله ثم استعملها الشرع فى السلام وهى تحية الإسلام قال تعالى (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) وقال (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) وقال (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) قالوا فى السلام مزية على التحية لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية وهى مستلزمة لطول الحياة وليس فى الدعاء بطول الحياة ذلك ولأن السلام من أسمائه تعالى فالبداءة بذكره مما لا ريب فى فضله ومزيته أى إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أى بتحية أحسن منها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله إن اقتصر المسلم على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعها المسلم وهى النهاية لانتظامها لجميع فنون المطالب التى هى السلامة عن المضار ونيل المنافع ودوامها ونماؤها (أَوْ رُدُّوها) أى أجيبوها بمثلها روى أن رجالا قال أحدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلام عليك فقال وعليك السلام ورحمة الله وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال وعليك فقال الرجل نقصتنى فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك لم تترك لى فضلا فرددت عليك مثله وجواب التسليم واجب وإنما التخيير بين الزيادة وتركها وعن النخعى أن السلام سنة والرد فريضة وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الرد واجب وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع الله منهم روح القدس وردت عليه الملائكة ولا يرد فى الخطبة وتلاوة القرآن جهرا ورواية الحديث وعند دراسة العلم والأذان والإقامة ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج والمغنى والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعارى فى الحمام وغيره قالوا ويسلم الرجل على امرأته لا على الأجنبية والسنة أن يسلم الماشى على القاعد والراكب على الماشى وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والقليل على الكثير وإذا التقيا ابتدرا وعن أبى حنيفة رضى الله عنه لا يجهر بالرد يعنى الجهر الكثير وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم أى وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضهم السام عليكم وروى لا تبدأ اليهودى بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك وعن الحسن أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام دون الزيادة وقيل التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على كل شىء من أعمالكم التى من جملتها ما أمرتم به من التحية فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر وقوله تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) جواب قسم محذوف أى والله ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة وقيل إلى بمعنى فى والجملة القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو خبر ثان للمبتدأ أو هى الخبر ولا إله إلا هو اعتراض وقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) أى فى يوم القيامة أو فى الجمع حال من اليوم أو صفة للمصدر أى جمعا لا ريب فيه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى فى وعده وسائر

٢١١

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨)

____________________________________

أخباره وبيان لاستحالته كيف لا والكذب محال عليه سبحانه دون غيره (فَما لَكُمْ) مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والنفى والخطاب لجميع المؤمنين لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم وقوله تعالى (فِي الْمُنافِقِينَ) متعلق إما بما تعلق به الخبر أى أى شىء كائن لكم فيهم أى فى أمرهم وشأنهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما بما يدل عليه قوله تعالى (فِئَتَيْنِ) من معنى الافتراق أى فمالكم تفترقون فى المنافقين وإما بمحذوف وقع حالا من فئتين أى كائنتين فى المنافقين لأنه فى الأصل صفة فلما قدمت انتصبت حالا كما هو شأن صفات النكرات على الإطلاق أو من الضمير فى تفترقون وانتصاب فئتين عند البصريين على الحالية من المخاطبين والعامل ما فى لكم من معنى الفعل كما فى قوله تعالى (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) وعند الكوفيين على خبرية كان مضمرة أى فما لكم فى المنافقين كنتم فئتين والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شىء مصحح لاختلافهم فى أمر المنافقين وبيان وجوب بت القول بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين بالكفر فى جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق. روى أنهم قوم من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة فمرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون فى أمرهم وقيل هم قوم هاجروا من مكة إلى المدينة ثم بدالهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا وقيل هم ناس أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة وقيل هم قوم خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ثم رجعوا ويأباه ما سيأتى من جعل هجرتهم غاية للنهى عن توليهم وقيل هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا راعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرده ما سيأتى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل فى أمرهم اختلاف المؤمنين (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) حال من المنافقين مفيدة لتأكيد الإنكار السابق واستبعاد وقوع المنكر ببيان وجود النافى بعد بيان عدم الداعى وقيل من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو أى أى شىء يدعوكم إلى الاختلاف فى كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقكم على كفرهم وهو أن الله تعالى قد ردهم فى الكفر كما كانوا (بِما كَسَبُوا) بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين والاحتيال على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والعائد إلى الموصول محذوف وقيل ما صدرية أى بكسبهم وقيل معنى أركسهم نكسهم بأن صيرهم للنار وأصل الركس رد الشىء مقلوبا وقرىء ركسهم مشددا وركسهم أيضا مخففا (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدى إلى محاولة المحال الذى هو هداية من أضله الله تعالى وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم وهم بمعزل من ذلك سعى فى هدايتهم وإرادة لها ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار

٢١٢

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠)

____________________________________

وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر فى حيز الصلة وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها بأن يقال أتهدون الخ للمبالغة فى إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادته فضلا عن إمكان نفسه وحمل الهداية والإضلال على الحكم بهما يأباه قوله تعالى (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أى ومن يخلق فيه الضلال كائنا من كان فلن تجد له سبيلا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالة ما ليس فى قوله تعالى (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ونظائره وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المخاطبين للإشعار بشمول عدم الوجدان للكل على طريق التفصيل والجملة إما حال من فاعل تريدون أو تهتدوا والرابط هو الواو أو اعتراض تذييلى مقرر للإنكار السابق ومؤكد لاستحالة الهداية فحينئذ يجوز أن يكون الخطاب لكل أحد ممن يصلح له من المخاطبين أولا ومن غيرهم (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم فى الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم فى أنفسهم وكلمة لو مصدرية غنية عن الجواب وهى مع ما بعدها نصب على المفعولية أى ودوا أن تكفروا وقوله تعالى (كَما كَفَرُوا) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى كفرا مثل كفرهم أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأى سيبويه وقوله تعالى (فَتَكُونُونَ سَواءً) عطف على تكفرون داخل فى حكمه أى ودوا أن تكفروا فتكونوا سواء مستوين فى الكفر والضلال وقيل كلمة لو على بابها وجوابها محذوف كمفعول ودوا لتقدير ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسروا بذلك (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) الفاء جواب شرط محذوف وجمع أولياء لمراعاة جمع المخاطبين فإن المراد نهى أن يتخذ واحد من المخاطبين وليا واحدا منهم أى إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا توالوهم (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أى حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بهجرة كائنة لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أى عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة (فَخُذُوهُمْ) أى إذا قدرتم عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أى جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) استثناء من قوله تعالى (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أى إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميون كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت

٢١٣

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١)

____________________________________

خروجه من مكة قد وادع هلال بن عويمر الأسلمى على أنه لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذى لهلال وقيل هم بنو بكر بن زيد مناة وقيل هم خزاعة (أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على الصلة أى أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين أو على صفة قوم كأنه قيل إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافين عن القتال لكم والقتال عليكم والأول هو الأظهر لما سيأتى من قوله تعالى (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) الخ فإنه صريح فى أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض لهم وقرىء جاءوكم بغير عاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار قد بدليل أنه قرىء حصرة صدورهم وحصرات صدورهم وحاصرات صدورهم وقيل صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أى أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم وقيل هو بيان لجاءوكم وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أى من أن يقاتلوكم أو لأن يقاتلوكم أو كراهة أن يقاتلوكم الخ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) جملة مبتدأة جارية مجرى التعليل لاستثناء الطائفة الأخيرة من حكم الأخذ والقتل ونظمهم فى سلك الطائفة الأولى الجارية مجرى المعاهدين مع عدم تعلقهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى أى ولو شاء الله لسلطهم عليكم ببسط صدورهم وتقوية قلوبهم وإزالة الرعب عنها (فَلَقاتَلُوكُمْ) عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير أو الإبدال من الأولى وقرىء فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) ولم يتعرضوا لكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عزوجل (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى الانقياد والاستسلام وقرىء بسكون اللام (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) طريقا بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومهم أيضا وإلقاءهم إليكم السلم وإن لم يعاهدوكم كافية فى استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكشوا عهودهم ليأمنوا قومهم وقيل هم بنو عبد الدار وكان ديدنهم ما ذكر (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أى دعوا إلى الكفر وقتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) بالكف عن التعرض لكم بوجه ما (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى لم يلقوا إليكم الصلح والعهد بل نبذوه إليكم (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أى لم يكفوها عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أى تمكنتم منهم (وَأُولئِكُمْ) الموصوفون بما عدد من

٢١٤

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢)

____________________________________

الصفات القبيحة (جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجة واضحة فى الإيقاع بهم قتلا وسبيا لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم فى الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم فى أخذهم وقتلهم (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) أى وما صح له ولا لاق بحاله (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حق فإن الإيمان زاجر عن ذلك (إِلَّا خَطَأً) فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية وانتصابه إما على أنه حال أى وما كان له أن يقتل مؤمنا فى حال من الأحوال إلا فى حال الخطأ أو على أنه مفعول له أى وما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفة للمصدر أى إلا قتلا خطأ وقيل إلا بمعنى ولا والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ وقيل ما كان نفى فى معنى النهى والاستثناء منقطع أى لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو إلى الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا أو لا يقصد به محظور كرمى مسلم فى صف الكفار مع الجهل بإسلامه وقرىء خطأ بالمدو خطا كعصا بتخفيف الهمزة. روى أن عياش بن أبى ربيعة وكان أخا أبى جهل لأمه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفا من أهله وذلك قبل هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه وهو فى أطم ففتل منه أبو جهل فى الذروة والغارب وقال أليس محمد يحثك على صلة الرحم انصرف وبر أمك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسحا من المدينة كتفاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة فقال للحرث هذا أخى فمن أنت يا حرث لله على إن وجدتك خاليا أن أقتلك وقدما به على أمه فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث وهاجر فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أى فعليه أو فموجبه تحرير رقبة أى إعتاق نسمة عبر عنها بها كما يعبر عنها بالرأس (مُؤْمِنَةٍ) أى محكوما بإسلامها وإن كانت صغيرة (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بن سفيان الكلابى كتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابى من عقل زوجها (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أى إلا أن يتصدق أهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل معروف صدقة وقرىء إلا أن يتصدقوا وهو متعلق بعليه أو بمسلمة أى تجب الدية أو يسلمها إلى أهله إلا وقت تصدقهم عليه فهو فى محل النصب على الظرفية أو إلا حال كونهم متصدقين عليه فهو حال من الأهل أو القاتل (فَإِنْ كانَ) أى المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) كفار محاربين (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه

٢١٥

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣)

____________________________________

بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهم من المهمات (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أى فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله لأنهم محاربون (وَإِنْ كانَ) أى المقتول المؤمن (مِنْ قَوْمٍ) كفرة (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أى عهد موقت أو مؤبد (فَدِيَةٌ) أى فعلى قاتله دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) من أهل الإسلام إن وجدوا ولعل تقديم هذا الحكم ههنا مع تأخيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كما هو حكم سائر المسلمين ولعل إفراده بالذكر مع اندراجه فى حكم ما سبق من قوله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه فيما بين المحاربين وقيل المراد بالمقتول الذمى أو المعاهد لئلا يلزم التكرار بلا فائدة ولا التوريث بين المسلم والكافر وقد عرفت عدم لزومهما (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أى رقبة ليحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن (فَصِيامُ) أى فعليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) لم يتخلل بين يومين من أيامهما إفطار (تَوْبَةً) نصب على أنه مفعول له أى شرع لكم ذلك توبة أى قبولا لها من تاب الله عليه إذا قبل توبته أو مصدر مؤكد لفعل محذوف أى تاب عليكم توبة وقيل على أنه حال من الضمير المجرور فى عليه بحذف المضاف أى فعليه صيام شهرين ذا توبة وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لتوبة أى كائنة منه تعالى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بجميع الأشياء التى من جملتها حاله (حَكِيماً) فى كل ما شرع وقضى من الشرائع والأحكام التى من جملتها ما شرعه فى شأنه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) لما بين حكم القتل خطأ وفصل أقسامه الثلاثة عقب ذلك ببيان القتل عمدا خلا أن حكمه الدنيوى لما بين فى سورة البقرة اقتصر ههنا على حكمه الأخروى. روى أن مقيس بن ضبابة الكنانى وكان قد أسلم هو وأخوه هشام وجد أخاه قتيلا فى بنى النجار فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر له القصة فأرسل عليه‌السلام معه زبير بن عياض الفهرى وكان من أصحاب بدر إلى بنى النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه فقالوا سمعا وطاعة لله تعالى ولرسوله عليه‌السلام ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدى ديته فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق أنى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال أتقبل دية أخيك فيكون مسبة عليك اقتل الذى معك فيكون نفسا بنفس وفضل الدية فتغفل الفهرى فرماه بصخرة فشدخه ثم ركب بعيرا من الإبل واستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وهو يقول [قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بنى النجار أصحاب قارع] [وأدركت ثأرى واضطجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع] فنزلت وهو الذى استثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح ممن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وقوله تعالى (مُتَعَمِّداً) حال من فاعل (يَقْتُلْ) وروى عن الكسائى سكون التاء كأنه فرمن توالى الحركات (فَجَزاؤُهُ) الذى يستحقه بجنايته

٢١٦

(جَهَنَّمُ) وقوله تعالى (خالِداً فِيها) حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها وقيل هو حال من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازاه وأيد ذلك بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة ولا يخفى أن ما يقدر للحال أو للعطف عليه حقه أن يكون مما يقتضيه المقام اقتضاء ظاهرا ويدل عليه الكلام دلالة بينة وظاهر أن كون جزائه ما ذكر لا يقتضى وقوع الجزاء البتة كما ستقف عليه حتى يقدر يجزاها أو جازاه بطريق الإخبار عن وقوعه وأما قوله تعالى (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) فعطف على مقدر يدل عليه الشرطية دلالة واضحة. كأنه قيل بطريق الاستئناف تقريرا وتأكيدا لمضمونها حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أى انتقم منه (وَلَعَنَهُ) أى أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر وقيل هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضى على معنى المستقبل كما فى قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ونظائره أى فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله عليه الخ (وَأَعَدَّ لَهُ) فى جهنم (عَذاباً عَظِيماً) لا يقادر قدره ولما ترى فى الآية الكريمة من التهديد الشديد والوعيد الأكيد وفنون الإبراق والإرعاد وقد تأيدت بما روى من الأخبار الشداد كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذى نفسى بيده لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مؤمن وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك فى دمه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارج والمعتزلة بها فى خلود من قتل المؤمن عمدا فى النار ولا متمسك لهم فيها إلا لما قيل من أنها فى حق المستحل كما هو رأى عكرمة وأضرابه بدليل أنها نزلت فى مقيس بن ضبابة الكنانى المرتد حسبما مرت حكايته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم وما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا وكذا ما روى عن سفيان أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا لا توبة له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى فى التشديد والتغليظ وعليه يحمل ما روى عن أنس رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة كيف لا وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا سأله ألقاتل المؤمن توبة قال لا وسأله آخر ألقاتل المؤمن توبة فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأول لم يقتل بعد فقلت ما قلت كيلا يقتل وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لثلا ييأس وقد روى عنه جواز المغفرة بلا توبة أيضا حيث قال فى قوله تعالى (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية هى جزاؤه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وروى مرفوعا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال هو جزاؤه أن جازاه وبه قال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا قال الواحدى والأصل فى ذلك أن الله عزوجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث أنس رضى الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع

٢١٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤)

____________________________________

ما نحن فيه على الأصل المذكور لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال الله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزى كل سيئة بمثلها لعارضه قوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إثر ما بين حكم القتل بقسميه وأن ما يتصور صدوره عن المؤمن إنما هو القتل خطأ شرع فى التحذير عما يؤدى إليه من قلة المبالاة فى الأمور (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى سافرتم فى الغزو ولما فى إذا من معنى الشرط صدر قوله تعالى (فَتَبَيَّنُوا) بالفاء أى فاطلبوا بيان الأمر فى كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية وقرىء فتثبتوا أى اطلبوا إثباته وقوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) نهى عما هو نتيجة لترك المأمور به وتعيين لمادة مهمة من المواد التى يجب فيها التبيين وقرىء السلم بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أى لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلام أو لمن ألقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد (لَسْتَ مُؤْمِناً) وإنما أظهرت ما أظهرت متعوذا بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرىء مؤمنا بالفتح أى مبذولا لك الأمان وهذا أنسب بالقراءتين الأخرتين والاقتصار على ذكر تحية الإسلام فى القراءة الأولى مع كونها مقرونة بكلمتى الشهادة كما سيأتى فى سبب النزول للمبالغة فى النهى والزجر والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن تحية الإسلام كانت كافية فى المكافة والانزجار عن التعرض لصاحبها فكيف وهى مقرونة بهما وقوله تعالى (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من فاعل لا تقولوا منبئ عما يحملهم على العجلة وترك التأنى لكن لا على أن يكون النهى راجعا إلى القيد فقط كما فى قولك لا تطلب العلم تبتغى به الجاه بل إليهما جميعا أى لا تقولوا له ذلك حال كونكم طالبين لماله الذى هو حطام سريع النفاد وقوله تعالى (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) تعليل للنهى عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمنى كأنه قيل لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقوله تعالى (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) تعليل للنهى عن القول المذكور ولعل تأخيره لما فيه من نوع تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به كما فى قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) الخ وتقديم خبر كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهة بين طرفى التشبيه وذلك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة والفاء فى فمن للعطف على كنتم أى مثل ذلك الذى ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا فى مبادى إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم والفاء فى قوله تعالى (فَتَبَيَّنُوا)

٢١٨

فصيحة أى إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم فى أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن هذا هو الذى تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن حسب أن المعنى أول ما دخلتم فى الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم فيه وإن صرتم أعلا ما فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين فى الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر الإسلام فى المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعد عن الحق لأن المراد كما عرفت بيان أن تحصين الدماء والأموال حكم مترتب على ما فيه المماثلة بينه وبينهم من مجرد التفوه بكلمة الشهادة وإظهار أن ترتبه عليه فى حقهم يقتضى ترتبه عليه فى حقه أيضا إلزاما لهم وإظهارا لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسير منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثله بتحصين دمائهم وأموالهم حسبما ذكر حتى يظهر عندهم وجوب تحصين دمه وماله أيضا بحكم المشاركه فيما يوجبه وحيث لم يفعل ذلك بل فسره بما فسره به لم يبق فى النظم الكريم ما يدل على ترتب تحصين دمائهم وأموالهم على ما ذكر فمن أين له أن يقول فحصنت دماءكم وأموالكم حتى يتأتى البيان وارتكاب تقديره بناء على اقتضاء ما ذكر فى تفسير المن إياه بناء على أساس واه كيف لا وإنما ذكره بصدد التفسير وإن كان أمرا متفرعا على ما فيه المماثلة مبنيا عليه فى حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته فى حقه بناء على ثبوته فى حقهم كالتحصين المذكور حتى يستحق أن يتعرض له ولا بأمر له دخل فى وجوب اعتبار ظاهر الإسلام من الداخلين فيه حتى يصح نظمه فى سلك ما فرع عليه قوله فعليكم أن تفعلوا الخ وحمل الكلام على معنى إنكم فى أول الأمر كنتم مثله فى قصور الرتبة فى الإسلام فمن الله عليكم وبلغتم هذه الرتبة العالية منه فلا تستقصروا حالته نظرا إلى حالتكم هذه بل اعتدوا بها نظرا إلى حالتكم السابقة يرده أن قتله لم يكن لاستقصار إسلامه بل لتوهم عدم مطابقة قلبه للسانه فإن الآية الكريمة نزلت فى شأن مرداس ابن نهيك من أهل فدك وكان قد أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم غالب ابن فضالة الليثى فهربوا وبقى مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فقال أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه وفى رواية إنما قالها خوفا من السلاح فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا شققت عن قلبه وفى رواية أفلا شققت عن قلبه ثم قرأ الآية على أسامة فقال يا رسول الله استغفر لى فقال كيف بلا إله إلا الله قال أسامة فما زال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفرلى وقال اعتق رقبة وقيل نزلت فى رجل قال يا رسول الله كنا نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى فقصدت رجلا فلما أحس بالسيف قال إنى مسلم فقتلته فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقتلت مسلما قال إنه كان متعوذا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفلا شققت عن قلبه (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها (خَبِيراً) فيجازيكم بحسبها إن خيرا فحير وإن شرا فشر فلا تتهاونوا فى القتل واحتاطوا فيه والجملة تعليل لما قبلها بطريق الاستئناف وقرىء بفتح

٢١٩

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٩٥)

____________________________________

أن على أنها معمولة لتبينوا أو على حذف لام التعليل (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم فى الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبة فى ارتفاع طبقته والمراد بهم الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون إليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول لا ما روى عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلفين يومئذ هذه الرخصة وقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق بمحذوف وقع حالا من القاعدين أى كائنين من المؤمنين وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتى من الحسنى (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) صفة للقاعدون لجريانه مجرىء النكرة حيث لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه وقرىء بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه والضرر المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها وفى معناه العجز عن الأهبة عن زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذى حتى خشيت أن ترضها ثم سرى عنه فقال اكتب فكتبت لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سرى عنه فقال اكتب لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر (وَالْمُجاهِدُونَ) إيرادهم بهذا العنوان دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه كما وقع فى عبارة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وكذا تقييد المجاهدة بكونها (فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل فى مقابلة القعود وتقديم القاعدين فى الذكر والإيذان من أول الأمر بأن القصور الذى ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر وعليه قوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) إلى غير ذلك وأما قوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول وقوله عزوجل (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) استئناف مسوق لتفصيل ما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم استوائهما إجمالا ببيان كيفيته وكميته مبنى على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل فضل الله الخ وأما تقدير ما لهم لا يستوون فإنما يليق بجعل الاستئناف

٢٢٠