تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦)

____________________________________

(ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من التولى والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (بِأَنَّهُمْ) أى حاصل بسبب أنهم (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) باقتراف الذنوب وركوب المعاصى (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وهى مقدار عبادتهم العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك وهو نوا عليهم الخطوب (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوب عليه‌السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح (فَكَيْفَ) رد لقولهم المذكور وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيد همهم وتهويل ما سيحيق بهم من الأهوال أى فكيف يكون حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) أى لجزاء يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أى فى وقوعه ووقوع ما فيه. روى أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود فيفضحهم الله عزوجل على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أى جزاء ما كسبت من غير نقص أصلا كما يزعمون وإنما وضع المكسوب موضع جزائه للإيذان بكمال الاتصال والتلازم بينهما كأنهما شىء واحد وفيه دلالة على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد فى النار لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون فى النار ولا قبل دخولها فإذن هى بعد الخلاص منها (وَهُمْ) أى كل الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) بزيادة عذاب أو بنقص ثواب بل يصيب كلا منهم مقدار ما كسبه (قُلِ اللهُمَّ) الميم عوض عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه وقيل أصله يا الله أمنا بخير أى أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته (مالِكَ الْمُلْكِ) أى مالك جنس الملك على الإطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية (تُؤْتِي الْمُلْكَ) بيان لبعض وجوه التصرف الدى تستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة وكون مالكية غيره بطريق المجاز كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء الذى هو مجرد الإعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة (مَنْ تَشاءُ) أى إيتاءه إياه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أى نزعه منه فالملك الأول حقيقى عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية وقيل الملك الأول عام والآخران بعضان منه فتأمل وقيل المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى آخرين (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) أن تعزه فى الدنيا أو فى الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أن تذله فى إحداهما أو فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تعريف الخير التعميم وتقديم الخبر للتخصيص أى بقدرتك الخير كله لا بقدرة أحد غيرك تتصرف

٢١

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

____________________________________

فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لما أنه مقضى بالذات وأما الشر فمقضى بالعرض إذ ما من شر جزئى إلا وهو متضمن لخير كلى أو لأن فى حصول الشر دخلا لصاحبه فى الجملة لأنه من أجزية أعماله وأما الخير ففضل محض أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة من أهل المدينة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالتل لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره فجاء عليه‌السلام وأخذ منه المعول فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال أضاءت لى منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لى قصور صنعاء وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة على كلها فأبشروا فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تيرزوا فنزلت (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لما سبق وتحقيق له (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أى تدخله فيه بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادة الثانى (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) على أحد الوجهين (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أى تنشىء الحيوانات من موادها أو من النطفة وقيل تخرج المؤمن من الكافر (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أى تخرج النطفة من الحيوان وقيل تخرج الكافر من المؤمن (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال أبو العباس المقرى ورد لفظ الحساب فى القرآن على ثلاثة أوجه بمعنى التعب قال تعالى (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وبمعنى العدد قال تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) وبمعنى المطالبة قال تعالى (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيل العظام المحيرة للعقول والأفهام فقدرته على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم أهون من كل هين. عن على رضى الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فاتحة الكتاب وآية الكرسى وآيتين من آل عمران (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى قوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إلى قوله (بِغَيْرِ حِسابٍ) معلقات ما بينهن وبين الله تعالى حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله تعالى إنى حلفت أنه لا يقرؤكن أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه واسكنته فى حظيرة القدس ونظرت إليه بعينى كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة وأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم وفى بعض الكتب أنا الله ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدى فإن العباد أطاعونى جعلتهم لهم رحمة وإن العباد عصونى جعلتهم عليهم عقوبة فلا

٢٢

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩)

____________________________________

تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم وهو معنى قوله عليه‌السلام كما تكونوا يول عليكم (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) نهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما فى قوله سبحانه يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء وقوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم إلا لله تعالى أو عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الأمور الدينية (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فى موضع الحال أى متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن فى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أى اتخاذهم أولياء والتعبير عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أى من ولايته تعالى (فِي شَيْءٍ) يصح أن يطلق عليه اسم الولاية فإن موالاة المتعاديين مما لا يكاد يدخل تحت الوقوع قال [تود عدوى ثم تزعم أننى صديقك ليس النوك عنك بعازب] والجملة اعتراضية وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فعل النهى معتبرا فيه الخطاب كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء ظاهرا أو باطنا فى حال من الأحوال إلا حال اتقائكم (مِنْهُمْ) أى من جهتهم (تُقاةً) أى انقاء أو شيئا يجب اتقاؤه على أن المصدر واقع موقع المفعول فإنه يجوز إظهار الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار ما فى الضمير كما قال عيسى عليه‌السلام كن وسطا وامش جانبا وأصل تقاة وقيه ثم أبدلت الواو تاء كتخمة وتهمة وقلبت الياء ألفا وقرىء تقية (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أى ذاته المقدسة فإن جواز إطلاق لفظ النفس مرادا به الذات عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعض محققى المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وفيه من التهديد ما لا يخفى عظمه وذكر النفس للإيذان بأن له عقابا هائلا لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) من الضمائر التى من جملتها ولاية الكفرة (أَوْ تُبْدُوهُ) فيما بينكم (يَعْلَمْهُ اللهُ) فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مر سره فى تفسير قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وقوله تعالى (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف غير معطوف على جواب الشرط وهو من باب إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وتهويل

٢٣

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١)

____________________________________

الخطب وهو تذييل لما قبله مبين لقوله تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) بأن ذاته المقدسة المتميزة عن سائر الذوات المتصفة مما لا يتصف به شىء منها من العلم الذاتى المتعلق بجميع المعلومات متصفة بالقدرة الذاتية الشاملة لجميع المقدورات بحيث لا يخرج من ملكوته شىء قط (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) أى من النفوس المكلفة (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس فى حاضرا (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) عطف على ما عملت والإحضار معتبر فيه أيضا إلا أنه خص بالذكر فى الخير للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية (تَوَدُّ) عامل فى الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائف أعمالها من الخير والشر أو أجزيتها محضرة (لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) أى بين ذلك اليوم (أَمَداً بَعِيداً) لغاية هو له وفى إسناد الودادة إلى كل نفس سواء كان لها عمل سىء أو لا بل كانت متمحضة فى الخير من الدلالة على كمال فظاعة ذلك اليوم وهول مطلعه ما لا يخفى اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصاب يوم على المفعولية بإضمار اذكروا وتود إما حال من كل نفس أو استئناف مبنى على السؤال أى اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادة أن بينها وبينه أمدا بعيدا أو كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم فماذا يكون إذ ذاك فقيل تودلو أن بينها الخ أو تجد مقصور على ما عملت من خير وتود خبر ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرىء ودت فحينئذ يجوز كونها شرطية لكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنها حكاية حال ماضية وأوفق للقراءة المشهورة (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عزوجل (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ورحمته الواسعة أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه وأن تحذيره ليس مبنيا على تناسى صفة الرأفة بل هو متحقق مع تحققها أيضا كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فالجملة على الأول اعتراض وعلى الثانى حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) المحبة ميل النفس إلى الشىء لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقى ليس إلا لله عزوجل وأن كل ما يراه كما لا من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله وفى الله وذلك مقتضى إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عبادته والحرص على مطاوعته (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أى يرض عنكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أى يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم فى جوار قدسه عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى لمن يتحبب إليه بطاعته ويتقرب إليه

٢٤

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣)

____________________________________

باتباع نبيه عليه الصلاة والسلام فهو تذييل مقرر لما قبله مع زيادة وعد الرحمة ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة. روى أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل نزلت فى وفد نجران لما قالوا إنا نعبد المسيح حبا لله تعالى وقيل فى أقوام زعموا على عهده عليه الصلاة والسلام أنهم يحبون الله تعالى فأمروا أن يجعلوا لقولهم مصداقا من العمل وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على قريش وهم فى المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا فى آذانها الشنوف فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا معشر قريش لقد خالفتم ملة إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة السلام فقالت قريش إنما نعبدها حبا لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله تعالى لنبيه عليه‌السلام والسلام قل إن كنتم تحبون الله تعالى وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فاتبعونى أى اتبعوا شريعتى وسنتى يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أى فى جميع الأوامر والنواهى فيدخل فى ذلك الطاعة فى اتباعه عليه الصلاة والسلام دخولا أوليا وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها فإن الإطاعة المأمور بها إطاعته عليه الصلاة والسلام من حيث إنه رسول الله لا من حيث ذاته ولا ريب فى أن عنوان الرسالة من موجبات الإطاعة ودواعيها (فَإِنْ تَوَلَّوْا) إما من تمام مقول القول فهى صيغة المضارع المخاطب بحذف إحدى التاءين أى تتولوا وإما كلام متفرع عليه مسوق من جهته تعالى فهى صيغة الماضى الغائب وفى ترك ذكر احتمال الإطاعة كما فى قوله تعالى (فَإِنْ أَسْلَمُوا) تلويح إلى أنه غير محتمل منهم (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) نفى المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم أى لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولى عن الطاعة كفر وبأن محبته عزوجل مخصوصة بالمؤمنين (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) لما بين الله تعالى أن الدين المرضى عنده هو الإسلام والتوحيد وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغى والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته شرع فى تحقيق رسالته وكونه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام كافة وأتبعه ذكر مبدأ أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه وكيفية دعوته للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين فى شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلان محاجتهم فى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى عبادة الله عزوجل وحده وطاعته منزهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة

٢٥

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

____________________________________

أنفسهم أو غيرهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه المصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل وتحتم الطاعة له حسبما سيأتى تفصيله وتخصيص آدم عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حال نوح عليه‌السلام فإنه آدم الثانى وأما ذكر آل إبراهيم فلترغيب المعترفين باصطفائهم فى الإيمان بنبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم مع ما مر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقا فى النبوة من زمرة المصطفين الأخيار وأما ذكر آل عمران مع اندراجهم فى آل إبراهيم فلإظهار مزيد الاعتناء بتحقيق أمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الخلاف فى شأنه فإن نسبة الاصطفاء إلى الأب الأقرب أدل على تحققه فى الآل وهو الداعى إلى إضافة الآل إلى إبراهيم دون نوح وآدم عليهم الصلاة والسلام والاصطفاء أخذ ما صفا من الشىء كالاستصفاء مثل به اختياره تعالى إياهم النفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة فى نفس المصطفى كما فى كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما فى مريم وقيل اصطفى آدم عليه الصلاة والسلام بأن خلقه بيده فى أحسن تقويم وبتعليم الأسماء وإسجاد الملائكة إياه وإسكان الجنة واصطفى نوحا عليه الصلاة والسلام بكونه أول من نسخ الشرائع إذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حراما وبإطالة عمره وجعل ذريته هم الباقين واستجابة دعوته فى حق الكفرة والمؤمنين وحمله على متن الماء والمراد بآل إبراهيم إسمعيل وإسحق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره فى الخلة وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام أنا دعوة أبى إبراهيم. وبآل عمران عيسى وأمه مريم ابنة عمران بن ماثان بن عازار بن أبى بور بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزيا هو بن يهورام بن يهو شافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وقيل موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه الصلاة والسلام حينئذ بالاندارج فى آل إبراهيم عليه‌السلام والأول هو الأظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام بالانتظام فى سلك آل إبراهيم عليه‌السلام انتظاما ظاهرا والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أى اصطفى كل واحد منهم على عالمى زمانه (ذُرِّيَّةً) نصب على البدلية من الآلين أو على الحالية منهما وقد مر بيان اشتقاقها فى قوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله

٢٦

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٥)

____________________________________

تعالى (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) فى محل النصب على أنه صفة لذرية أى اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض فى النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونه ذرية وقيل بعضها من بعض فى الدين فالاستمالة على الوجه الأول تقريبية وعلى الثانى برهانية (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بأعمالهم البادية والخافية فيصطفى من بينهم لخدمته من تظهر استقامته قولا وفعلا على نهج قوله تعالى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) فى حيز النصب على المفعولية بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران وبيان كيفيته أى اذكر لهم وقت قولها الخ وقد مر مرارا وجه توجيه التذكير إلى الأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث وقيل هو منصوب على الظرفية لما قبله أى سميع لقولها المحكى عليم بضميرها المنوى وقيل هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل واصطفى آل عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجمل على الجمل دون عطف المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل فى ذلك الوقت وامرأة عمران هى حنة بنت فاقوذا جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام فظن أن المراد زوجته وليس بذاك فإن قضية كفالة زكريا عليه الصلاة والسلام قاضية بأنها زوجة عمران بن ماثان لأنه عليه الصلاة والسلام كان معاصرا له وقد تزوج إيشاع أخت حنة أم يحيى عليه الصلاة والسلام وأما قوله عليه الصلاة والسلام فى شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما ابنا خالة فقيل تأويله أن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنى خالة وقيل كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب فى شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم روى أنها كانت عجوزا عاقرا فبينما هى ذات يوم فى ظل شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه خنت إلى الولد وتمنته وقالت اللهم إن لك على نذرا إن رزقتنى ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وكان هذا النذر مشروعا عندهم فى الغلمان ثم هلك عمران وهى حامل وحينئذ فقولها (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) لا بد من حمله على التكرير لتأكيد نذرها وإخراجه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته وتأكيد الجملة لإبراز وفور الرغبة فى مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به وإنما عبر عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء (مُحَرَّراً) أى معتقا لخدمة بيت المقدس لا يشغله شأن آخر أو مخلصا للعبادة ونصبه

٢٧

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦)

____________________________________

على الحالية من الموصول والعامل فيه نذرت وقيل من ضميره فى الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها فى قوة ما استقر فى بطنى ولا يخفى أن المراد تقييد فعلها بالتحرير ليحصل به التقرب إليه تعالى لا تقييد ما لا دخل لها فيه من الاستقرار فى بطنها (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أى ما نذرته والتقبل أخذ الشىء على وجه الرضا وهذا فى الحقيقة استدعاء للولد إذ لا يتصور القبول بدون تحقق المقبول بل الولد الذكر لعدم قبول الأنثى (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لجميع المسموعات التى من جملتها تضرعى ودعائى (الْعَلِيمُ) بكل المعلومات التى من زمرتها ما فى ضميرى لا غير وهو تعليل لاستدعاء القبول لا من حيث إن كونه تعالى سمعيا لدعائها عليما بما فى ضميرها مصحح للتقبل فى الجملة بل من حيث أن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا وتأكيد الجملة لعرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتى السمع والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائها به تعالى وانقطاع حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغة فى الضراعة والابتهال (فَلَمَّا وَضَعَتْها) أى ما فى بطنها وتأنيث الضمير العائد إليه لما أن المقام يستدعى ظهور أنوثته واعتباره فى حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب لما أعنى قوله تعالى (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) لا على وضع ولد ما كأنه قيل فلما وضعت بنتا قالت الخ وقيل تأنيثه لأن ما فى بطنها كان أنثى فى علم الله تعالى أو لأنه مؤول بالحبلة أو النفس أو النسمة وأنت خبير بأن اعتبار شىء مما ذكر فى حيز الشرط لا يكون مدارا لترتب الجواب عليه وقوله تعالى (أُنْثى) حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه وتأنيثه للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبلة أو النسمة فالحال حينئذ مبينة وإنما قالته تحزنا وتحسرا على خيبة رجائها وعكس تقديرها لما كانت ترجو أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة والتأكيد للرد على اعتقادها الباطل (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) تعظيم من جهته تعالى لموضوعها وتفخيم لشأنه وتجهيل لها بقدره أى والله أعلم بالشىء الذى وضعته وما علق به من عظائم الأمور وجعله وابنه آية للعالمين وهى غافلة عن ذلك والجملة اعتراضية وقرىء وضعت على خطاب الله تعالى لها أى إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما أودع الله فيه من علو الشأن وسمو المقدار وقرىء وضعت على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إظهارا لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذارا إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من السدانة أو تسلية لنفسها على معنى لعل لله تعالى فيه سرا وحكمة ولعل هذه الأنثى خير من الذكر فوجه الالتفات حينئذ ظاهر وقوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) اعتراض آخر مبين لما فى الأول من تعظيم الموضوع ورفع منزلته واللام فى الذكر والأنثى للعهد أى ليس الذكر الذى كانت تطلبه وتتخيل فيه كما لا قصاراه أن يكون كواحد من السدانة كالأنثى التى وهبت لها فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيه من جلائل الأمور هذا على القراءتين الأوليين وأما على التفسير الأخير للقراءة

٢٨

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

____________________________________

الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى فى الفضيلة بل أدنى منها وأما على التفسير الأول لها فمعناه تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى فى الفضيلة والمزية وصلاحية خدمة المتعبدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللام للجنس وقوله تعالى (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وغرضها من عرضها على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم فى لغتهم بمعنى العابدة قال القرطبى معناه خادم الرب وإظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) عطف على (إِنِّي سَمَّيْتُها) وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أى أجيرها بحفطك وقرىء بفتح ياء المتكلم فى المواضع التى بعدها همزة مضمومة إلا فى موضعين بعهدى أوف آتونى أفرغ (وَذُرِّيَّتَها) عطف على الضمير وتقديم الجار والمجرور عليه لإبراز كمال العناية به (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أى المطرود وأصل الرجم الرمى بالحجارة. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها ومعناه أن الشيطان يطمع فى إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله عصمهما ببركة هذه الاستعاذة (فَتَقَبَّلَها) أى أخذ مريم ورضى بها فى النذر مكان الذكر (رَبُّها) مالكها ومبلغها إلى كمالها اللائق وفيه من تشريفها ما لا يخفى (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) قيل الباء زائدة والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أى تقبلها قبولا حسنا وإنما عدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها فى حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته وقيل القبول ما يقبل به الشىء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد وهو اختصاصه تعالى إياها بإقامتها مقام الذكر فى النذر ولم تقبل قبلها أنثى أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. روى أن حنة حين ولدتها لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم فى بيت المقدس كالحجبة فى الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فإن بنى ماثان كانت رءوس بنى إسرائيل وملوكهم وقيل لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى عليه الصلاة والسلام فى الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام أنا أحق بها عندى خالتها فأبوا إلا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم ذكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها وقيل هو مصدر وفيه مضاف مقدر أى فتقبلها بذى قبول أى بأمر ذى قبول حسن وقيل تقبل بمعنى استقبل كتقصى بمعنى استقصى وتعجل بمعنى استعجل أى استقبلها فى أول أمرها حين ولدت بقبول حسن (وَأَنْبَتَها) مجاز عن

٢٩

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨)

____________________________________

تربيتها بما يصلحها فى جميع أحوالها (نَباتاً حَسَناً) مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل بل لفعل مضمر موافق له تقديره فنبتت نباتا حسنا (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أى جعله عليه الصلاة والسلام كافلا لها وضامنا لمصالحها قائما بتدبير أمورها لا على طريقة الوحى بل على ما ذكر من التفصيل فإن رغبته عليه الصلاة والسلام فى كفالتها وطفو قلمه ورسوب أقلامهم وغير ذلك من الأمور الجارية بينهم كلها من آثار قدرته تعالى وقرىء أكفلها وقرىء زكرياء بالنصب والمد وقرىء بتخفيف الفاء وكسرها ورفع زكرياء ممدودا وقرىء وتقبلها ربها وأنبتها وكفلها على صيغة الأمر فى الكل ونصب ربها على الدعاء أى فاقبلها يا ربها وربها تربية حسنة واجعل زكريا كافلا لها فهو تعيين لجهة التربية قيل بنى عليه الصلاة والسلام لها محرابا فى المسجد أى غرفة يصعد إليها بسلم وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت فى أشرف موضع من بيت المقدس وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب. روى أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وإذا خرج غلق عليها سبعة أبواب (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) تقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها ونصب المحراب على التوسع وكلمة كلما ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف والعامل فيها جوابها أى كل زمان دخوله عليها أو كل وقت دخل عليها فيه (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أى نوعا منه غير معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها فى الصيف فاكهة الشتاء وفى الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثديا قط (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة والصلام عند مشاهدة هذه الآية فقيل قال (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أى من أين يجىء لك هذا الذى لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء ومن أنكرها جعل هذا إرهاصا وتأسيسا لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام وأما جعله معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباه الأمر عليه عليه‌السلام وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزل من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيدة من عند الله تعالى بالعلم والقدرة (قالَتْ) استئناف كما قبله كأنه قيل فماذا صنعت مريم وهى صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب فقيل قالت (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا تعجب ولا تستبعد (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أن يرزقه (بِغَيْرِ حِسابٍ) أى بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند الله إما من تمام كلامهما فيكون فى محل النصب وإما من كلامه عزوجل فهو مستأنف روى أن فاطمة الزهراء رضى الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها فقال هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذى جعلك شبيهة بسيدة بنى إسرائيل ثم جمع عليا والحسن والحسين وجميع أهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها (هُنالِكَ) كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت فى تضاعيف

٣٠

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩)

____________________________________

حكاية مريم لما بينهما من قوة الارتباط وشدة الاشتباك مع ما فى إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عمران فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين وهنا ظرف مكان واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب أى فى ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم فى المحراب أو فى ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمة وحيث للزمان (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى رغب فى أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد حنة فى النجابة والكرامة على الله تعالى وإن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت حنة كذلك وقيل لما رأى الفواكه فى غير إبانها تنبه لجواز ولادة العجوز العاقر من الشيخ الفانى فأقبل على الدعاء من غير تأخير كما ينبئ عنه تقديم الظرف على الفعل لا على معنى أن ذلك كان هو الموجب للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءا أخيرا من العلة النامة التى من جملتها كبر سنه عليه الصلاة والسلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل فى سورة مريم (قالَ) تفسير للدعاء وبيان لكيفيته لا محل له من الإعراب (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف معنييهما فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا أى أعطنى من محض قدرتك من غير وسط معتاد (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كما وهبتها لحنة ويجوز أن يتعلق من بمحذوف وقع حالا من ذرية أى كائنة من لدنك والذرية النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد فالتأنيث فى الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما فى قول من قال [أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال] وهذا إذا لم يقصد به واحد معين أما إذا قصد به المعين امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال جاءت طلحة وذهبت حمزة (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أى مجيبه وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الإجابة (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) كان المنادى جبريل عليه الصلاة والسلام كما تفصح عنه قراءة من قرأ فناداه جبريل والجمع كما فى قولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله غير فرس وثوب قال الزجاج أى أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيما له وقيل الرئيس لا بد له من أتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادرا عنه خاصة وقرىء فناداه بالإمالة (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية من مفعول النداء مقرر لما أفاده الفاء من حصول البشارة عقيب الدعاء وقوله تعالى (يُصَلِّي) إما صفة لقائم أو خبر ثان عند من يرى تعدده عند كون الثانى جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حال من المستكن فى قائم وقوله تعالى (فِي الْمِحْرابِ) أى فى المسجد أو فى غرفة مريم متعلق بيصلى أو بقائم على تقدير كون يصلى حالا من ضمير قائم لأن العامل فيه وفى الحال حينئذ شىء واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبى كما يلزم على التقادير الباقية (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أى بأن الله وقرىء بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مجراه لكونه

٣١

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠)

____________________________________

نوعا منه وقرىء يبشرك من الإبشار ويبشرك من الثلاثى وأيا ما كان ينبغى أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارته عن الله عزوجل على منهاج قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) الآية كما يلوح به مراجعته عليه الصلاة والسلام فى الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدول عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع فى سورة مريم للجرى على سنن الكبرياء كما فى قول الخلفاء أمير المؤمنين يرسم لك بكذا وللإيذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بتوسط الملك بطريق الحكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحاد المعنى فى السورتين الكريمتين فتأمل ويحيى اسم أعجمى وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما إنما سمى يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقال قتادة لا نه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قال القرطبى كان اسمه فى الكتاب الأول حيا ولا بد من تقدير مضاف يعود إليه الحال أى بولادة يحيى فإن التبشير لا يتعلق بالأعيان (مُصَدِّقاً) حال مقدرة من يحيى (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أى بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما سمى كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات التى هى عالم الأمر ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أى بكلمة كائنة منه تعالى قيل هو أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروح منه وقال السدى لقيت أم يحيى أم عيسى فقالت يا مريم أشعرت بحبلى فقالت مريم وأنا أيضا حبلى قالت فإنى وجدت ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك فذلك قوله تعالى (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) الخ وقال ابن عباس رضى الله عنهما إن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر وقيل بثلاث سنين وقتل قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرة وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لما أن مريم ولدت وهى بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين وقيل بكلمة من الله أى بكتاب الله سمى كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته (وَسَيِّداً) عطف على مصدقا أى رئيسا يسود قومه ويفوقهم فى الشرف وكان فائقا للناس قاطبة فإنه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيالها من سيادة ما أسناها (وَحَصُوراً) عطف على ما قبله أى مبالغا فى حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة. روى أنه مر فى صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت (وَنَبِيًّا) عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة (مِنَ الصَّالِحِينَ) أى ناشئا منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائنا من جملة المشهورين بالصلاح كما فى قوله تعالى (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) والمراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذى لا بد منه فى منصب النبوة البتة من أقاصى مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه‌السلام وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال (رَبِّ) لم يخاطب الملك المنادى له بملابسة أنه المباشر للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى على نهج دعائه السابق مبالغة فى التضرع والمناجاة وجدا فى التبتل إليه تعالى واحترازا عما عسى يوهم

٣٢

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

____________________________________

خطاب الملك من توهم أن علمه سبحانه بما يصدر عنه يتوقف على توسطه كما يتوقف وقوف البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسطه فى عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه فى بعضها (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) فيه دلالة على أنه قد أخبر بكونه غلاما عند التبشير كما فى قوله تعالى (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أى كيف أو من أين يحدث لى غلام ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) حال من ياء المتكلم أى أدركنى كبر السن وأثر فى كقولهم أدركته السن وأخذته السن وفيه دلالة على أن كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للإنسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسع وتسعون سنة وقيل اثنتان وتسعون وقيل مائة وعشرون وقيل ستون وقيل خمس وستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون ولامرأته ثمان وتسعون (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أى ذات عقر وهو أيضا حال من ياء لى عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء بلغنى أى كيف يكون لى ذلك والحال أنى وامرأتى على حالة منافية له كل المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاما لقدرة الله سبحانه وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته عزوجل عليه فى ذلك لا استبعادا له وقيل بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسى دعاءه وهو بعيد وقيل كان ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه (قالَ) استئناف كما سلف (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر يفعل فى قوله عزوجل (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أى ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف فى محل النصب على أنها فى الأصل نعت لمصدر محذوف أى الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر فقدم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أو على أنها حال من ضمير المصدر المقدر معرفة أى يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو فى محل الرفع على أنها خبر والجلالة مبتدأ أى على نحو هذا الشأن البديع شأن الله تعالى ويفعل ما يشاء بيان لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبر لمبتدأ محذوف أى الأمر كذلك وقوله تعالى (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أى علامة تدلنى على تحقق المسئول ووقوع الحبل وإنما سألها لأن العلوق أمر خفى لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه الله تعالى عليه ليتلقى تلك النعمة الجليلة من حين حصولها بالشكر ولا

٣٣

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢)

____________________________________

يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سنى يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين لأن ظهور العلامة كان عقيب تعيينها لقوله تعالى فى سورة مريم (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) الآية اللهم إلا أن تكون المجاوبة بين زكريا ومريم فى حالة كبرها وقد عدت من جملة من تكلم فى الصغر بموجب قولها المحكى والجعل إبداعى واللام متعلقة به والتقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أو بمحذوف وقع حالا من آية وقيل هو بمعنى التصيير المستدعى لمفعولين أولهما آية وثانيهما لى والتقديم لأنه لا مسوغ لكون آية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أى أن لا تقدر على تكليمهم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أى متوالية لقوله تعالى فى سورة مريم (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء لحق النعمة كأنه قيل آية حصول المطلوب ووصول النعمة أن تحبس لسانك إلا عن شكرها وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال (إِلَّا رَمْزاً) أى إشارة بيد أو رأس أو نحوهما وأصله التحرك يقال ارتمز أى تحرك ومنه قيل للبحر الراموز وهو استثناء منقطع لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصل على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب فى كون الرمز من ذلك القبيل وقرىء رمزا بفتحتين على أنه جمع رامز كخدم وبضمتين على أنه جمع رموز كرسل على أنه حال منه ومن الناس معا بمعنى مترامزين كقوله[متى ما تلقنى فردين ترجف روانف أليتيك وتستطارا] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أى فى أيام الحبسة شكرا لحصول التفضل والإنعام كما يؤذن به التعرض لعنوان الربوبية (كَثِيراً) أى ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا (وَسَبِّحْ) أى سبحه تعالى أو افعل التسبيح (بِالْعَشِيِّ) أى من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى الضحى. قيل المراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما فى قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) وقيل الذكر اللسانى كما أن المراد بالذكر الذكر القلبى وقرىء الأبكار بفتح الهمزة على أنه جمع بكر كسحر وأسحار (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع فى شرح بقية أحكام اصطفاء آل عمران إثر الإشارة إلى نبذ من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقام إياهما حسبما أشير إليه وقرىء بتذكير الفعل والمراد بالملائكة جبريل عليه الصلاة والسلام وقد مر ما فيه من الكلام وإذ منصوب بمضمر معطوف على المضمر السابق عطف القصة على القصة وقيل معطوف على الظرف السابق أعنى قوله إذ قالت امرأة عمران منصوب بناصبه فتدبر أى واذكر أيضا من شواهد اصطفائهم وقت قول الملائكة عليهم الصلاة والسلام (يا مَرْيَمُ) وتكرير التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاء والتنبيه على استقلالها وانفرادها عن الأحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجسمانية اللائقة بحال صغر مريم وهذه من باب التربية

٣٤

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

____________________________________

الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها. قيل كلموها شفاها كرامة لها أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الإجماع على أنه تعالى لم يستنىء امرأة وقيل ألهموها (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أولا حيث تقبلك من أمك بقبول حسن ولم يتقبل غيرك أنثى ورباك فى حجر زكريا عليه‌السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية (وَطَهَّرَكِ) أى مما يستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهود بانطاق الطفل (وَاصْطَفاكِ) آخرا (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) بأن وهب لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آية للعالمين فعلى هذا ينبغى أن يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مرارا من التنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير ولو روعى الترتيب الخارجى لتبادر كون الكل شيئا واحدا وقيل المراد بالاصطفاءين واحد والتكرير للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكال فى ترتيب النظم الكريم إذ يحمل حينئذ الاصطفاء على ما ذكر أولا وتجعل هذه المقاولة قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام إيذانا بكونها قبل ذلك متوفرة على الطاعات والعبادات حسبما أمرت بها مجتهدة فيها مقبلة على الله تعالى متبتلة إليه تعالى منسلخة عن أحكام البشرية مستعدة لفيضان الروح عليها (يا مَرْيَمُ) تكرير النداء للإيذان بأن المقصود بالخطاب ما يرد بعده وأن ما قبله من تذكير النعم كان تمهيدا لذكره وترغيبا فى العمل بموجبه (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أى قومى فى الصلاة أو أطيلى القيام فيها له تعالى والتعرض لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوب الامتثال بالأمر (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغة فى إيجاب رعايتها وإيذانا بفضيلة كل منها وإصالته وتقديم السجود على الركوع إما لكون الترتيب فى شريعتهم كذلك وإما لكون السجود أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ولا يقتضى ذلك كون الترتيب الخارجى كذلك بل اللائق به الترقى من الأدنى إلى الأعلى وإما ليقترن اركعى بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوع فى صلاتهم ليسوا مصلين وأما ما قيل من أن الواو لا توجب الترتيب فغايته التصحيح لا الترجيح وتجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعات كما فى قوله تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) وبالسجود الصلاة لما مر من أنه أفضل أركانها وبالركوع الخشوع والإخبات. قيل لما أمرت بذلك قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من الأمور البديعة وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علو شأن المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أى من الأنباء المتعلقة بالغيب

٣٥

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥)

____________________________________

والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وقوله تعالى (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) جملة مستقلة مبينة للأولى وقيل الخبر هو الجملة الثانية ومن أنباء الغيب إما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أى نوحى من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحى لم ينقطع بعد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أى عند الذين اختلفوا وتنازعوا فى تربية مريم وهو تقرير وتحقيق لكونه وحيا على طريقة التهكم بمنكريه كما فى قوله تعالى (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) الآية (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) الآية فإن طريق معرفة أمثال هاتيك الحوادث والواقعات إما المشاهدة وإما السماع وعدمه محقق عندهم فبقى احتمال المعاينة المستحيلة ضرورة فنفيت تهكما بهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) ظرف للاستقرار العامل فى لديهم وأقلامهم أقداحهم التى اقترعوا بها وقيل اقترعوا بأقلامهم التى كانوا يكتبون بها التوراة تبركا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) متعلق بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم أى يلقونها ينظرون أو ليعلموا أيهم يكفلها (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أى فى شأنها تنافسا فى كفالتها حسبما ذكر فيما سبق وتكرير ما كنت لديهم مع تحقق المقصود بعطف إذ يختصمون على إذ يقولون كما فى قوله عزوجل (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) للدلالة على أن كل واحد من عدم حضوره عليه الصلاة والسلام عند إلقاء الأقلام وعدم حضوره عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته عليه الصلاة والسلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعهم قبل الاقتراع فإن تغيير الترتيب فى الذكر مؤكد له. (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع فى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو بدل من وإذ قالت الملائكة منصوب بناصبه وما بينهما اعتراض جىء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة وترك العطف بينهما بناء على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما فى الزمان وقيل منصوب بمضمر معطوف على ناصبه وقيل بدل من إذ يختصمون كأنه قيل وما كنت حاضرا فى ذلك الزمان المديد الذى وقع فى طرف منه الاختصام وفى طرف آخر هذا الخطاب إشعارا بإحاطته عليه الصلاة والسلام بتفاصيل أحوال مريم من أولها إلى آخرها والقائل جبريل عليه الصلاة والسلام وإيراد صيغة الجمع لما مر (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) من لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أى بكلمة كائنة منه عزوجل (اسْمُهُ) ذكر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر وهو مبتدأ خبره (الْمَسِيحُ) وقوله تعالى (عِيسَى) بدل منه أو عطف بيان وقيل خبر آخر وقيل خبر مبتدأ محذوف وقيل منصوب بإضمار أعنى مدحا وقوله تعالى (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة لعيسى وقيل المراد بالاسم ما به يتميز المسمى عمن سواه فالخبر حينئذ مجموع الثلاثة إذ هو المميز له عليه الصلاة والسلام تمييزا عن جميع من عداه والمسيح لقبه عليه الصلاة والسلام وهو من الألقاب

٣٦

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

____________________________________

المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وعيسى معرب من أيشوع والتصدى لاشتقاقهما من المسح والعيس وتعليله بأنه عليه الصلاة والسلام مسح بالبركة أو بما يطهره من الذنوب أو مسحه جبريل عليهما الصلاة والسلام أو مسح الأرض ولم يقم فى موضع أو كان عليه الصلاة والسلام يمسح ذا العاهة فيبرأ وبأنه كان فى لونه عيس أى بياض يعلوه حمرة من قبيل الرقم على الماء وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه وبذلك فضلت على نساء العالمين (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف وهو حال مقدرة من كلمة فإنها وإن كانت نكرة لكنها صالحة لأن ينتصب بها الحال وتذكيرها باعتبار المعنى والوجاهة فى الدنيا النبوة والتقدم على الناس وفى الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أى من الله عزوجل وقيل هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة وهو عطف على الحال الأولى وقد عطف عليه قوله تعالى (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أى يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت والمهد مصدر سمى به ما يمهد للصبى أى يسوى من مضجعه وقيل إنه شابا رفع والمراد وكهلا بعد نزوله وفى ذكر أحواله المختلفة المتنافية إشارة إلى أنه بمعزل من الألوهية (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) حال أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضمير فى يكلم (قالَتْ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قالت مريم حين قالت لها الملائكة ما قالت فقيل قالت متضرعة إلى ربها (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) أى كيف يكون أو من أين يكون (لِي وَلَدٌ) على وجه الاستبعاد العادى والتعجب واستعظام قدرة الله عزوجل وقيل على وجه الاستفهام والاستفسار بأنه بالتزوج أو بغيره ويكون إما تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتأخير الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من ولد إذ لو تأخر لكان صفة له وإما ناقصة واسمها ولد وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمضمر وقع حالا كما مر أو خبر وأنى نصب على الظرفية وقوله تعالى (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) جملة حالية محققة للاستبعاد أى والحال أنى على حالة منافية للولادة (قالَ) استئناف كما سلف والقائل هو الله تعالى أو جبريل عليه الصلاة والسلام (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الكلام فى إعرابه كما مر فى قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكان يفعل هناك لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشرأ بدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقب ببيان كيفيته فقيل (إِذا قَضى أَمْراً) من الأمور أى أراد شيئا كما فى قوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) وأصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشىء لإيجابها إياه

٣٧

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

____________________________________

البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) لا غير (فَيَكُونُ) من غير ريث وهو كما ترى تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فيها من طاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وبيان لأنه تعالى كما يقدر على خلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة إلى شىء من الأسباب والمواد (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أى الكتابة أو جنس الكتب الإلهية (وَالْحِكْمَةَ) أى العلوم وتهذيب الأخلاق (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما والجملة عطف على يبشرك أو على وجيها أو على يخلق أو هو كلام مبتدأ سيق تطييبا لقلبها وإزاحة لما أهمها من خوف اللائمة لما علمت أنها تلد من غير زوج وقرىء ونعلمه بالنون (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) منصوب بمضمر يعود إليه المعنى معطوف على يعلمه أى ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل أى كلهم وقال بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين ثم قيل كان رسولا حال الصبا وقيل بعد البلوغ وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه الصلاة والسلام وآخرهم عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل أولهم موسى وآخر عيسى عليهم الصلاة والسلام وقوله تعالى (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) معمول لرسولا لما فيه من معنى النطق أى رسولا ناطقا بأنى الخ وقيل منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على يعلمه أى ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جثتكم الخ وقيل معطوف على الأحوال السابقة ولا يقدح فيه كونها فى حكم الغيبة مع كون هذا فى حكم التكلم لما عرفت من أن فيه معنى النطق كأنه قيل حال كونه وجيها ورسولا ناطقا بأنى الخ وقرىء ورسول بالجر عطفا على كلمة والباء فى قوله تعالى (بِآيَةٍ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل على أنها للملابسة والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرىء بآيات ، أو بجئتكم على أنها للتعدية ومن فى قوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية أى قد جئتكم ملتبسا بآية عظيمة كائنة من ربكم أو أتيتكم بآية عظيمة كائنة منه تعالى والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال بما سيأتى من الأوامر وقوله تعالى (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) بدل من قوله تعالى (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) ومحله النصب على نزع الجار عند سيبويه والفراء والجر على رأى الخليل والكسائى أو بدل من آية وقيل منصوب بفعل مقدر أى أعنى أنى الخ وقيل مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هى أنى أخلق لكم وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف أى أقدر لكم أى لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياى من

٣٨

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠)

____________________________________

الطين شيئا مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف أى فى ذلك الشىء المماثل لهيئة الطير وقرىء فأنفخ فيها على أن الضمير للهيئة المقدرة أى أخلق لكم من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيها (فَيَكُونُ طَيْراً) حيا طيارا كسائر الطيور (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره تعالى أشار عليه الصلاة والسلام بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى لا منه. قيل لم يخلق غير الخفاش. روى أنه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق الخفاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير مادام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله تعالى قيل إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثديا وأسنانا وهى تحيض وتطهر وتلد كسائر الحيوان وتضحك كما يضحك الإنسان وتطير بغير ريش ولا تبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وإنما ترى فى ساعتين ساعة بعد الغروب وساعة بعد طلوع الفجر وقيل خلق أنواعا من الطير (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أى الذى ولد أعمى أو الممسوح العين (وَالْأَبْرَصَ) المبتلى بالبرص لم تكن العرب تنفر من شىء نفرنها منه ويقال له الوضح أيضا وتخصيص هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباء وكانوا فى غاية الحذاقة فى زمنه عليه الصلاة والسلام فأراهم الله تعالى المعجزة من ذلك الجنس روى أنه عليه الصلاة والسلام ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداويه إلا بالدعاء (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) كرره مبالغة فى دفع وهم من توهم فيه اللاهوتية. قال الكلبى كان عليه الصلاة والسلام يحيى الموتى بياحى يا قيوم. أحيا عازر وكان صديقا له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حيا ورجع إلى أهله وبقى وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا إنك تحيى من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح فقال دلونى على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عزوجل فقام من قبره وقد شاب رأسه فقال عليه‌السلام كيف شبت ولم يكن فى زمانكم شيب قال يا روح الله لما دعوتنى سمعت صوتا يقول أجب روح الله فظننت أن الساعة قد قامت فمن هول ذلك شبت فسأله عن النزع قال يا روح الله إن مرارته لم تذهب من حنجرتى وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة وقال للقوم صدقوه فإنه نبى الله فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا هذا سحر فأرنا آية فقال يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبىء لك كذا وذلك قوله تعالى (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أى بالمغيبات من أحوالكم التى لا تشكون فيها وقرىء تذخرون بالذال والتخفيف (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الأمور العظام (لَآيَةً) عظيمة وقرىء لآيات (لَكُمْ) دالة على صحة رسالتى دلالة واضحة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جواب الشرط محذوف لانصباب المعنى إليه أو دلالة المذكور عليه أى انتفعتم بها أو إن كنتم ممن يتأتى منهم الإيمان دلتكم على صحة رسالتى والإيمان بها (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

٣٩

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢)

____________________________________

يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) عطف على المضمر الذى تعلق به قوله تعالى (بِآيَةٍ) أى قد جئتكم ملتبسا بآية الخ (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) الخ أو على (رَسُولاً) على الأوجه الثلاثة فإن (مُصَدِّقاً) فيه معنى النطق كما فى (رَسُولاً) أى ويجعله مصدقا ناطقا بأنى أصدق الخ أو ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم الخ ومصدقا الخ أو حال كونه مصدقا ناطقا بأنى أصدق الخ أو منصوب بإضمار فعل دل عليه قد جئتكم أى وجئتكم مصدقا الخ وقوله من التوراة إما حال من الموصول والعامل مصدقا وإما من ضميره المستتر فى الظرف الواقع صلة والعامل الاستقرار المضمر فى الظرف أو نفس الظرف لقيامه مقام الفعل (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) معمول لمضمر دل عليه ما قبله أى وجئتكم لأحل الخ وقيل عطف على معنى مصدقا كقولهم جئته معتذرا ولأجتلب رضاه كأنه قيل قد جئتكم لأصدق ولأحل الخ وقيل عطف على بآية أى قد جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أى فى شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل فى السبت قيل أحل لهم من السمك والطير ما لا صئصئة له واختلف فى إحلال السبت وقرىء حرم على تسمية الفاعل وهو ما بين يدى أو الله عزوجل وقرىء حرم بوزن كرم وهذا يدل على أن شرعه كان ناسخا لبعض أحكام التوراة ولا يخل ذلك بكونه مصدقا لها لما أن النسخ فى الحقيقة بيان وتخصيص فى الأزمان وتأخير المفعول عن الجار والمجرور لما مر مرارا من المبادرة إلى ذكر ما يسر المخاطبين والتشويق إلى ما أخر (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتى وقرىء بآيات (فَاتَّقُوا اللهَ) فى عدم قبولها ومخالفة مدلولها (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هى قولى (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فإنه الحق الصريح الذى أجمع عليه الرسل قاطبة فيكون آية بينة على أنه عليه الصلاة والسلام من جملتهم وقرىء أن الله بالفتح بدلا من آية أو قد جئتكم بآية على أن الله ربى وربكم وقوله فاتقوا الله وأطيعون اعتراض والظاهر أنه تكرير لما سبق أى قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات ومن غيره من ولادتى بغير أب ومن كلامى فى المهد ومن غير ذلك والأول لتمهيد الحجة والثانى لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله فاتقوا الله أى لما جئتكم بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة فاتقوا الله فى المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه ومعنى قراءة من فتح ولأن الله ربى وربكم فاعبدوه كقوله تعالى (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) الخ ثم شرع فى الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذى غايته التوحيد وقال فاعبدوه إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه يلازم الطاعة التى هى الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهى ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام قل آمنت بالله ثم استقم (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) شروع فى بيان مآل

٤٠