تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤)

____________________________________

من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه فى الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين فحقه أن يطاع ولا يعصى ويتقى عقابه ويرجى ثوابه وقد قرر ذلك بقوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) أى عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) محمودا فى ذاته حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مبتدأ مسوق للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية غير داخل تحت القول المحكى أى له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإمانة (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فى تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) أى يفنكم ويستأصلكم بالمرة (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أى ويوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر أو خلقا آخرين مكان الإنس ومفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء أى إن يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم الخ يعنى أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم لا لعجزه سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) أى على إفناءكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم (قَدِيراً) بليغ القدرة وفيه لا سيما فى توسيط الخطاب بين الجزاء وما عطف عليه من تشديد التهديد ما لا يخفى وقيل هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب أى إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على ظهر سلمان وقال إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أى فعنده تعالى ثوابهما له إن أراده فماله يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة أو ليطلب أشرفهما فإن من جاهد خالصا لوجه الله تعالى لم تخطئه الغنيمة وله فى الآخرة ما هى فى جنبه كلا شىء أى فعند الله ثواب الدارين فيعطى كلا ما يريده كقوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الآية (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) عالما بجميع المسموعات والمبصرات فيندرج فيها ما صدر عنهم من الأقوال والأعمال المتعلقة بمراداتهم اندراجا أوليا.

٢٤١

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) (١٣٦)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) مبالغين فى العدل وإقامة القسط فى جميع الأمور مجتهدين فى ذلك حق الاجتهاد (شُهَداءَ لِلَّهِ) بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى وهو خبر ثان وقيل حال (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أى ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها على أن الشهادة عبارة عن الإخبار بحق الغير سواء كان ذلك عليه أو على ثالث بأن تكون الشهادة مستتبعة لضرر ينالكم من جهة المشهود عليه (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أى ولو كان على والديكم وأقاربكم (إِنْ يَكُنْ) أى المشهود عليه (غَنِيًّا) يبتغى فى العادة رضاه ويتقى سخطه (أَوْ فَقِيراً) يترحم عليه غالبا وقرىء إن يكن غنى أو فقير على أن كان تامة وجواب الشرط محذوف لدلالة قوله تعالى (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) عليه أى فلا تمتنعوا عنها طلبا لرضا الغنى أو ترحما على الفقير فإن الله تعالى أولى بجنسى الغنى والفقير المدلول عليهما بما ذكر ولو لا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها وقرىء أولى بهم (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أى مخافة أن تعدلوا عن الحق فإن اتباع الهوى من مظان الجور الذى حقه أن يخاف ويحذر وقيل كراهة أن تعدلوا بين الناس أو إرادة أن تعدلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا) أى ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرىء وإن تلوا من الولاية والتصدى أى وإن وليتم إقامة الشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) أى عن إقامتها رأسا (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من لى الألسنة والإعراض بالكلية أو من جميع الأعمال التى من جملتها ما ذكر (خَبِيراً) فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورة وعيد محض وعلى القراءة الأخيرة متضمن للوعيد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لكافة المسلمين فمعنى قوله تعالى (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقينا أو آمنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالى والمراد بالكتاب الثانى الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى (وَكُتُبِهِ) وبالإيمان به الإيمان بأن كل كتاب من تلك الكتب منزل منه تعالى على رسول معين لإرشاد أمته إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهى لكن لا على أن مدار الإيمان بكل واحد من تلك الكتب خصوصية ذلك الكتاب ولا على أن أحكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقى منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن الإيمان بالكل

٢٤٢

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨)

____________________________________

مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزل على رسوله وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل كما مر فى تفسير خاتمة سورة البقرة وقرىء نزل وأنزل على البناء للمفعول وقيل هو خطاب لمؤمنى أهل الكتاب لما أن عبد الله بن سلام وابن أخته سلامة وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا ابنى كعب وثعلبة بن قيس ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا كلهم فأمرهم بالإيمان بالكتاب المتناول للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبل ليس لكون المراد بالإيمان ما يعم إنشاءه والثبات عليه ولا لأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداها كأنه قيل آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمان بها فى ضمن الإيمان بالقرآن على الوجه الذى أشير إليه آنفا لا إيمانهم السابق ولأن فيه حملا لهم على التسوية بينها وبين سائر الكتب فى التصديق لاشتراك الكل فيما يوجبه وهو النزول من عند الله تعالى وقيل خطاب لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفة بالإيمان بكتابه فى ضمن الأمر بالإيمان بجنس الكتاب لما ذكر وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى بشىء من ذلك (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه وزيادة الملائكة واليوم الآخر فى جانب الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسايط بين الله عزوجل وبين الرسل فى إنزال الكتب (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) قال قتادة هم اليهود آمنوا بموسى (ثُمَّ كَفَرُوا) بعبادتهم العجل (ثُمَّ آمَنُوا) عند عوده إليهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بعيسى والإنجيل (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هم قرم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا فى الغى (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لما أنه يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان فإن قلوبهم قد ضربت بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أهون شىء وأدونه لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم وخبر كان محذوف أى مريدا ليغفر لهم وقوله عزوجل (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يدل على أن المراد بالمذكورين الذين آمنوا فى الظاهر نفاقا وكفروا فى السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا كفرا ونفاقا ووضع

٢٤٣

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً(١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠)

____________________________________

بشر موضع أنذرتهكما بهم (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فى محل النصب أو الرفع على الذم بمعنى أريد بهم الذين أوهم الذين وقيل نصب على أنه صفة للمنافقين وقوله تعالى (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حال من فاعل يتخذون أى يتخذون الكفرة أنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لا يتم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتولوا اليهود (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) إنكار لرأيهم وإبطال له وبيان لخيبة رجائهم وقطع لأطماعهم الفارغة والجملة معترضة مقررة لما قبلها أى أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة. قال الواحدى أصل العزة الشدة ومنه قيل للأرض الشديدة الصلبة عزاز وقوله تعالى (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكارى من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فإن انحصار جميع أفراد العزة فى جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يقضى ببطلان التعزز بغيره سبحانه وتعالى واستحالة الانتفاع به وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه قيل إن يبتغوا عندهم عزة فإن العزة لله وجميعا حال من المستكن فى قوله تعالى لله لاعتماده على المبتدأ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذى يستدعيه تعداد جناياتهم وقرىء مبنيا للمفعول من التنزيل والإنزال ونزل أيضا مخففا والجملة حال من ضمير يتخذون أيضا مفيدة لكمال قباحة حالهم ونهاية استعصائهم عليه سبحانه ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو ورود النهى الصريح عن مجالستهم المستلزم للنهى عن موالاتهم على أبلغ وجه وآكده إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة (فِي الْكِتابِ) أى القرآن الكريم (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك قوله تعالى (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية وهذا يقتضى الانزجار عن مجالستهم فى تلك الحالة القبيحة فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم وأن هى المخففة من أن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف والجملة الشرطية خبرها وقوله تعالى (يُكْفَرُ بِها) حال من آيات الله وقوله تعالى (وَيُسْتَهْزَأُ بِها) عطف عليه داخل فى حكم الحالية وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها أى نزل عليكم فى الكتاب أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورا بها ومستهزأ بها وفيه دلالة على أن المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم فى الآيات ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية

٢٤٤

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٤٢)

____________________________________

وأخرى بالسماع وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط والضمير فى معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله تعالى (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهى غير داخلة تحت التنزيل وإذن ملغاة عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر أى لا تقعدوا معهم فى ذلك الوقت إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم فى الكفر واستتباع العذاب وإفراد المثل لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرىء شاذا مثلهم بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كما فى قوله تعالى (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وقيل هو منصوب على الظرفية أى فى مثل حالهم وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) تعليل لكونهم مثلهم فى الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم فى العذاب والمراد بالمنافقين إما المخاطبون وقد وضع موضع ضميرهم المظهر تسجيلا بنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق وإما الجنس وهم داخلون تحته دخولا أوليا وتقديم المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيد على المخاطبين ونصب جميعا مثل ما قبله (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين بتعديد بعض آخر من جنايات المنافقين وقبائحهم وهو إما بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين أو مرفوع أو منصوب على الذم أى ينتظرون أمركم وما يحدث لكم من ظفر أو إخفاق والفاء فى قوله تعالى (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك كما أن نفس التربص يستدعى شيئا ينتظر المتربص وقوعه (قالُوا) أى لكم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أى مظاهرين لكم فأسهموا لنا فى الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) من الحرب فإنها سجال (قالُوا) أى للكفرة (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أى ألم نغلبكم ونتمكن من قتالكم وأسركم فأبقينا عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا فى قتالكم وتوانينا فى مظاهرتهم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم وتسمية ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرىء ونمنعكم بإضمار أن (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب وأما فى الدنيا فقد أجرى على من تفوه بكلمة الإسلام حكمه ولم يضع السيف على من تكلم بها نفاقا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) حينئذ كما قد يجعل ذلك فى الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج أو فى الدنيا على أن المراد بالسبيل الحجة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) كلام مبتدأ سيق لبيان طرف

٢٤٥

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤)

____________________________________

آخر من قبائح أعمالهم أى يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان نقيضه والله فاعل بهم ما يفعل الغالب فى الخداع حيث تركهم فى الدنيا معصومى الدماء والأموال وأعدلهم فى الآخرة الدرك الأسفل من النار وقد مر التحقيق فى صدر سورة البقرة وقيل يعطون على الصراط نورا كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) متثاقلين كالمكره على الفعل وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان (يُراؤُنَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين والمراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرائى يرى غيره عمله وهو يريه استحسانه والجملة إما استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فما ذا يريدون بقيامهم إليها كسالى فقيل يراءون الخ أو حال من ضمير قاموا (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) عطف على يراءون أى لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا وهو ذكرهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليل أو إلا زمانا قليلا أو لا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون إلا بمرأى من الناس وذلك قليل وقيل لا يذكرونه تعالى فى الصلاة إلا قليلا عند التكبير والتسليم (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) حال من فاعل يراءون أو منصوب على الذم وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليهما بمعونة المقام أى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى وقرىء بكسر الذال أى مذبذبين قلوبهم أو رأيهم أو دينهم أو هو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل بمعنى تصلصل وفى مصحف ابن مسعود رضى الله عنه متذبذبين وقرىء مدبدبين بالدال غير المعجمة وكأن المعنى أخذ بهم تارة فى دبة أى طريقة وأخرى فى أخرى (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أى لا منسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين فمحله النصب على أنه حال من ضمير مذبذبين أو على أنه بدل منه أو بيان وتفسير له (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) لعدم استعداده للهداية والتوفيق (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهوا عن موالاة الكفرة صريحا وإن كان فى بيان حال المنافقين مزجرة عن ذلك مبالغة فى الزجر والتحذير (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أى أتريدون بذلك أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة على أنكم منافقون فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق أو سلطانا يسلط عليكم عقابه وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال أتجعلون الخ للمبالغة فى إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه كما فى قوله عزوجل (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ).

٢٤٦

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (١٤٨)

____________________________________

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وهو الطبقة التى فى قعر جهنم وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة فى الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرىء بفتح الراء وهو لغة كالسطر والسطر ويعضده أن جمعه أدراك (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخلبصهم منه والخطاب كما سبق (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أى عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم فى الخبر (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم فى حال النفاق (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أى وثقوا به وتمسكوا بدينه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) أى جعلوه خالصا (بِاللهِ) لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضا مؤمنون أى معهم فى الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شىء آخر فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عن توبتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغ وجه وآكده أى أى شىء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعا أم يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هو أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَكانَ اللهُ شاكِراً) الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته (عَلِيماً) مبالغا فى العلم بجميع المعلومات التى من جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) عدم محبته تعالى لشىء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر ومن بمحذوف وقع حالا من السوء أى لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء كائنا من القول (إِلَّا مَنْ

٢٤٧

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١)

____________________________________

ظُلِمَ) أى إلا جهر من ظلم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه وقيل هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم ولمن انتصر بعد ظلمه الآية وقيل ضاف رجلا قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت وقرىء إلا من ظلم على البناء للفاعل فالاستثناء منقطع أى ولكن الظالم يرتكب ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم (عَلِيماً) بجميع المعلومات التى من جملتها حال المظلوم والظالم فالجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) أى خير كان من الأقوال والأفعال (أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) مع ما سوغ لكم من مؤاخذة المسىء والتنصيص عليه مع اندراجه فى إبداء الخير وإخفائه لما أنه الحقيق بالبيان وإنما ذكر إبداء الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قوله عزوجل (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فإن إيراده فى معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة هو العفو مع القدرة أى كان مبالغا فى العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وقال الكلبى هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم وقيل عفوا عمن عفا قديرا على إيصال الثواب إليه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أى يؤدى إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أى بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بأن يصرحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الاستلزام كما يحكيه قوله تعالى (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أى نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله تعالى ورسله فى الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم‌السلام وما من نبى من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يحتسب (وَيُرِيدُونَ) بقولهم ذلك (أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أى بين الإيمان والكفر (سَبِيلاً) يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا إذ الحق لا يختلف وماذا بعد الحق إلا الضلال (أُولئِكَ) الموصوفون بالصفات القبيحة (هُمُ الْكافِرُونَ) الكاملون فى الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا (حَقًّا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة أى حق ذلك أى كونهم كاملين فى الكفر حقا أو صفة لمصدر الكافرين أى هم الذين كفروا كفرا حقا أى

٢٤٨

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣)

____________________________________

ثابتا يقينا لا ريب فيه (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أى لهم وإنما وضع المظهر مكان المضمر ذما لهم وتذكيرا لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلون فى زمرتهم دخولا أوليا (عَذاباً مُهِيناً) سيذوقونه عند حلوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أى على الوجه الذى بين فى تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الآية (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة ودخول بين على أحد قد مر تحقيقه فى سورة البقرة بما لا مزيد عليه (أُولئِكَ) المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تراخى وقرىء نؤتيهم بنون العظمة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما فرط منهم (رَحِيماً) مبالغا فى الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) نزلت فى أحبار اليهود حين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام وقيل كتابا محررا بخط سماوى على اللوح كما نزلت التوراة أو كتابا نعاينه حين ينزل أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله وما كان مقصدهم بهذه العظيمة إلا التحكم والتعنت قال الحسن ولو سألوه لكى يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) جواب شرط مقدر أى إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى شيئا أكبر منه وقيل تعليل للجواب أى فلا تبال بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبر منه وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم فى كل ما يأتون وما يذرون أسندت إليهم والمعنى أن لهم فى ذلك عرقا راسخا وأن ما اقترحوا عليك ليس أول جهالاتهم (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أى أرناه نره جهرة أى عيانا أو مجاهرين معاينين له والفاء تفسيرية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أى النار التى جاءت من السماء فأهلكتهم وقرىء الصعقة (بِظُلْمِهِمْ) أى بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل فى تلك الحالة التى كانوا عليها وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أى المعجزات التى أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) ولم نستأصلهم وكانوا أحقاء به قيل هذا استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بأن يقتلوا

٢٤٩

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٥٥)

____________________________________

أنفسهم توبة عن معصيتهم (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) أى بسبب ميثاقهم ليعطوه على ما روى أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله تعالى عليهم الطور فقبلوها أو ليخافوا فلا ينقضوه على ما روى أنهم هموا بنقضه فرفع الله تعالى عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسب بما سيأتى من قوله عزوجل (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان موسى عليه‌السلام والطور مظل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ) قال قتادة كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس وقيل هو إيليا وقيل هو أريحا وقيل هو اسم قرية وقيل باب القبة التى كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس فى حياة موسىعليه‌السلام (سُجَّداً) أى متطامنين خاضعين (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) أى لا تظلموا باصطياد الحيتان (فِي السَّبْتِ) وقرىء لا تعتدوا ولا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاء فى الدال لتقاربهما فى المخرج بعد نقل حركتها إلى العين (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ) على الامتثال بما كلفوه (مِيثاقاً غَلِيظاً) مؤكدا وهو العهد الذى أخذه الله عليهم فى التوراة قيل إنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذبهم بأى أنواع العذاب أراد (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ما مزيدة للتأكيد أو نكرة تامة ونقضهم بدل منها والباء متعلقة بفعل محذوف أى فبسبب نقضهم ميثاقهم ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم أو على أعقابهم. روى أنهم اعتدوا فى السبت فى عهد داود عليه‌السلام فلعنوا ومسخوا قردة وقيل متعلقة بحرمنا على أن قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ) بدل من قوله تعالى (فَبِما) وما عطف عليه فيكون التحريم معللا بالكل ولا يخفى أن قولهم إنا قتلنا المسيح وقولهم على مريم البهتان متأخر عن التحريم ولا مساغ لتعلقها بما دل عليه قوله تعالى (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) لأنه رد لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فيكون من صلة قوله تعالى (وَقَوْلِهِمْ) المعطوف على المجرور فلا يعمل فى جاره (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أى بالقرآن أو بما فى كتابهم (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أى هى مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هو تخفيف غلف جمع غلاف أى هى أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبى يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان فى حديثك خير لوعته أيضا (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلام معترض بين المعطوفين جىء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد أى ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة بل الأمر بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموا بل هى مطبوع عليها

٢٥٠

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧)

____________________________________

بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه أو إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به (وَبِكُفْرِهِمْ) أى بعيسى عليه‌السلام وهو عطف على قولهم وإعادة الجار لطول ما بينهما بالاستطراد وقد جوز عطفه على بكفرهم فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله وتكرير ذكر الكفر للإيذان بتكرر كفرهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) لا يقادر قدره حيث نسبوها إلى ما هى عنه بألف منزل (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) نظم قولهم هذا فى سلك سائر جناياتهم التى نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبى عليه‌السلام والاستهزاء به فإن وصفهم له بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه‌السلام كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) الخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه‌السلام بالوجه القبيح على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح وقيل هو نعت له عليه‌السلام من جهته تعالى مدحا له ورفعا لمحله عليه‌السلام وإظهارا لغاية جراءتهم فى تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم فى افتخارهم بذلك (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) حال أو اعتراض (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) روى أن رهطا من اليهود سبوه عليه‌السلام وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير فأجمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم أنا فألقى الله تعالى عليه شبهه فقتل وصلب وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه‌السلام فلما أرادوا قتله قال أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسىعليه‌السلام فرفع عيسى عليه‌السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه‌السلام وقيل إن طيطانوس اليهودى دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده وألقى الله تعالى عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى عليه‌السلام فأخذ وقتل وأمثال هذه الخوارق لا تستبعد فى عصر النبوة وقيل إن اليهود لما هموا بقتله عليه‌السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيح وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطته عليه‌السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى عليه‌السلام والمقتول أو فى الأمر على قول من قال لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم مقتولا (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أى فى شأن عيسى عليه‌السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود إنه كان كاذبا فقتلناه حتما وتردد آخرون فقال بعضهم إن كان هذا عيسى

٢٥١

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

____________________________________

فأين صاحبنا وقال بعضهم الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه عليه‌السلام إن الله يرفعنى إلى السماء إنه رفع إلى السماء وقال قوم صلب الناسوت وصعد اللاهوت (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) لفى تردد والشك كما يطلق على ما لم يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) استثناء منقطع أى لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذى تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أى قتلا يقينا كما زعموا بقولهم إنا قتلنا المسيح وقيل معناه وما علموه يقينا كما فى قول من قال [كذاك تخبر عنها العالمات بها وقد قتلت بعلمى ذلكم يقنا] من قولهم قتلت الشىء علما ونحرته علما إذا تبالغ علمك فيه وفيه تهكم بهم لإشعاره بعلمهم فى الجملة وقد نفى ذلك عنهم بالكلية (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) رد وإنكار لقتله وإثبات لرفعه (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب فيما يريده (حَكِيماً) فى جميع أفعاله فيدخل فيها تدبيراته تعالى فى أمر عيسى عليه‌السلام دخولا أوليا (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أى من اليهود والنصارى وقوله تعالى (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) جملة قسمية وقعت صفة لموصوف محذوف إليه يرجع الضمير الثانى والأول لعيسى عليه‌السلام أى وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه‌السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله ورسوله ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف ويعضده أنه قرىء ليؤمنن به قبل موتهم بضم النون لما أن أحدا فى معنى الجمع وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه فسره كذلك فقال له عكرمة فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه قال فإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها فى الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به وعن شهر بن حوشب قال لى الحجاج آية ما قرأتها إلا تخالج فى نفسى شىء منها يعنى هذه الآية وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودى إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى عليه‌السلام نبيا فكذبت به فيقول آمنت أنه عبد نبى وتقول للنصرانى أتاك عيسى عليه‌السلام نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه قال وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إلى وقال ممن سمعت هذا قلت حدثنى محمد بن على بن الحنفية فأخذ ينكث الأرض بقضيبه ثم قال لقد أخذتها من عين صافية والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه‌السلام أحد إلا ليؤمنن به قبل موته. روى أنه عليه‌السلام ينزل من السماء فى آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهى ملة الإسلام ويهلك الله فى زمانه الدجال وتقع الأمنة

٢٥٢

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢)

____________________________________

حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات ويلبث فى الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه وقيل الضمير الأول يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أى عيسى عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) على أهل الكتاب (شَهِيداً) فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) لعل ذكرهم بهذا العنوان للإيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد ما هادوا أى تابوا من عبادة العجل مثل تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخع النفوس إثر بيان عظمه فى حد ذاته بالتنوين التفخيمى أى بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشباه والأشكال صادر عنهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ولمن قبلهم لا بشىء غيره كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصى التى اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التى كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله عزوجل فى مواقع كثيرة وبكتهم بقوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى ادعائكم أنه تحريم قديم. روى أنه عليه‌السلام لما كلفهم إخراج التوراة لم يجسر أحد على إخراجها لما أن كون التحريم بظلمهم كان مسطورا فيها فبهتوا وانقلبوا صاغرين (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أى ناسا كثيرا أو صدا كثيرا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا وفيه دليل على أن النهى يدل على حرمة المنهى عنه (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أى للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم (عَذاباً أَلِيماً) سيذوقونه فى الآخرة كما ذاقوا فى الدنيا عقوبة التحريم (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) استدراك من قوله تعالى (وَأَعْتَدْنا) الخ وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا أى لكن الثابتون فى العلم منهم المتقنون المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة والمراد بهم عبد الله بن سلام وأصحابه (وَالْمُؤْمِنُونَ) أى منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ فى العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين المعطوفين تنزيلا للاختلاف العنوانى منزلة الاختلاف الذاتى وقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) حال من المؤمنون مبينة لكيفية إيمانهم وقيل اعتراض مؤكد لما قبله وقوله عزوجل (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قيل نصب بإضمار

٢٥٣

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣)

____________________________________

فعل تقديره وأعنى المقيمين الصلاة على أن الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر وقيل هو عطف على ما أنزل إليك على أن المراد بهم الأنبياء عليهم‌السلام أى يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة قال مكى أى ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة لقوله تعالى (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) وقيل عطف على الكاف فى إليك أى يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة وهم الأنبياء وقيل على الضمير المجرور فى منهم أى لكن الراسخون فى العلم منهم ومن المقيمين الصلاة وقرىء بالرفع على أنه معطوف على المؤمنون بناء على ما مر من تنزيل التغاير العنوانى منزلة التغاير الذاتى وكذا الحال فيما سيأتى من المعطوفين فإن قوله تعالى (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على المؤمنون مع اتحاد الكل ذاتا وكذا الكلام فى قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب قد وصفوا أولا بكونهم راسخين فى علم الكتاب إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان حتما وأن من عداهم إنما بقوا مصرين على الكفر لعدم رسوخهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشرائع والأحكام واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه وإحاطتهم به من طرفيه وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقة فإنهم بقولهم عزير ابن الله مشركون بالله سبحانه وبقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة كافرون باليوم الآخر وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما عدد من الصفات الجميلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) خبره والجملة خبر للمبتدأ الذى هو الراسخون وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد وتنكير الأجر للتفخيم وهذا أنسب بتجاوب طرفى الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم كأنه قيل إثر قوله تعالى (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ألخ خبرا للمبتدأ ففى كمال السداد خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين وقرىء سيؤتيهم بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاح عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل وإنما شأنه فى حقيقة الإرسال وأصل الوحى كشأن سائر مشاهير الأنبياء الذين لا ريب لأحد فى نبوتهم والكاف فى محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو على أنه

٢٥٤

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤)

____________________________________

حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأى سيبويه أى أوحينا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا الخ ومن بعده متعلق بأوحينا وإنما بدىء بذكر نوح لأنه أبو البشر وأول نبى شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام وأول نبى عذبت أمته لردهم دعوته وقد أهلك الله بدعائه أهل الأرض (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) عطف على أوحينا إلى نوح داخل معه فى حكم التشبيه أى وكما أوحينا إلى إبراهيم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب عليهم‌السلام (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) خصوا بالذكر مع ظهور انتظامهم فى سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم كما فى قوله تعالى (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وتصريحا بمن ينتمى إليهم اليهود من الأنبياء وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحى (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) قال القرطبى كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هى حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى وقرىء بضم الزاء وهو جمع زبر بمعنى مزبور والجملة عطف على أوحينا داخل فى حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء أى وكما آتينا داود زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة فى أمر خاص هو إيتاء الكتاب بعد تحقيقها فى مطلق الإيحاء ثم أشير إلى تحقيقها فى أمر لازم لهما لزوما كليا وهو الإرسال فإن قوله تعالى (وَرُسُلاً) نصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوف عليه داخل معه فى حكم التشبيه كما قبله أى وكما أرسلنا رسلا لا بما يفسره قوله تعالى (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) أى وقصصنا رسلا كما قالوا وفرعوا عليه أن قوله تعالى (قَدْ قَصَصْناهُمْ) على الوجه الأول منصوب على أنه صفة لرسلا وعلى الوجه الثانى لا محل له من الإعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه وقرىء برفع رسل وقوله تعالى (مِنْ قَبْلُ) متعلق بقصصنا أى قصصنا من قبل هذه السورة أو اليوم (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) عطف على رسلا منصوب بناصبه وقيل كلاهما منصوب بنزع الخافض والتقدير كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل الخ. والحق أن يكون انتصابهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقا للمماثلة بين شأنه عليه الصلاة والسلام وبين شئوون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم‌السلام فى مطلق الإيحاء ثم فى إيتاء الكتاب ثم فى الإرسال فإن قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) منتظم لمعنى آتيناك وأرسلناك حتما كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود ذبورا وأرسلناك إرسالا مثل ما أرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا آخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بينك وبينهم فى حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم‌السلام ومن ههنا اتضح أن رسلا لا يمكن نصبه بقصصنا فإن ناصبه يجب أن يكون معطوفا على أوحينا داخلا معه فى حكم التشبيه الذى عليه يدور فلك الاحتجاج على الكفرة ولا ريب فى أن قصصنا لا تعلق له بشىء من الإيحاء والإيتاء حتى يمكن اعتباره فى ضمن

٢٥٥

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥)

____________________________________

قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ثم يعتبر بينه وبين المذكور مماثلة مصححة للتشبيه على أن تقديره فى رسلا الأول يقتضى تقدير نفيه فى الثانى وذلك أشد استحالة وأظهر بطلانا (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) برفع الجلالة ونصب موسى وقرىء على القلب وقول تعالى (تَكْلِيماً) مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز قال الفراء العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاما بأى طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام والجملة إما معطوفة على قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطف القصة على القصة لا على آتينا وما عطف عليه وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحى خص به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحا فى نبوة سائر الأنبياء عليهم‌السلام فكيف يتوهم كون نزول التوراة عليه عليه‌السلام جملة قادحا فى صحة نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور أن نزولها كذلك لحكم مقتضية لذلك من جملتها أن بنى إسرائيل كانوا فى العناد وشدة الشكيمة بحيث لو لم يكن نزولها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللئيا والتى وقد فضل الله تعالى نبينا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما كثيرا (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده أو على البدلية من رسلا الأول أى مبشرين لأهل الطاعة بالجنة ومنذرين للعصاة بالنار (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) أى معذرة يعتذرون بها قائلين لو لا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها كما فى قوله عزوجل (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) الآية وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة فى فعل من أفعاله بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء للتنبيه على أن المعذرة فى القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده بمنزلة الحجة القاطعة التى لا مرد لها ولذلك قال تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحد أغير من الله تعالى ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه وما أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب فاللام متعلقة بأرسلنا وقيل بقوله تعالى (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) وحجة اسم كان وللناس خبرها وعلى الله متعلق بمحذوف وقع حالا من حجة أى كائنة على الله أو هو الخبر وللناس حال على الوجه المذكور ويجوز أن يتعلق كل منهما بما تعلق به الآخر الذى هو الخبر ولا يجوز التعلق بحجة لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله تعالى (بَعْدَ الرُّسُلِ) أى بعد إرسالهم وتبليغ الشرائع إلى الأمم على ألسنتهم متعلق بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن الظروف يوصف بها الأحداث كما يخبر بها عنها نحو القتال يوم الجمعة (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب فى أمر من أموره ومن قضيته الامتناع عن الإجابة إلى مسألة المتعنتين (حَكِيماً) فى جميع أفعاله التى من جملتها إرسال الرسل وإنزال الكتب فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها فى كيفية النزول وتغايرها

٢٥٦

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨)

____________________________________

فى بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم فى الأحوال التى عليها يدور فلك التكليف فكما أنه سبحانه وتعالى برأهم على أنحاء شتى وأطوار متباينة حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية كذلك تعبدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالهم المتخالفة واستعداداتهم المتغايرة من الشرائع والأحكام حسبما تستدعيه الحكمة التشريعية وراعى فى إرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك من الأمور المتعلقة بمعاشهم ومعادهم ما فيه مصلحتهم فسؤال تنزيل الكتاب جملة اقتراح فاسد إذ حينئذ تتعاقم التكاليف فيثقل على المكلف قبولها والخروج عن عهدتها وأما التنزيل المنجم الواقع حسب الأمور الداعية إليه فهو أيسر قبولا وأسهل امتثالا (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بتخفيف النون ورفع الجلالة وقرىء بتشديد النون ونصب الجلالة وهو استدراك عما يفهم مما قبله كأنهم لما تعنتوا عليه بما سبق من السؤال واحتج عليهم بقوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا) الخ قيل إنهم لا يشهدون بذلك لكن الله يشهد (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول والباء صلة للشهادة أى يشهد بحقية ما أنزل إليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك وقيل لما نزل قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل لكن الله يشهد (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أى ملتبسا بعلمه الخاص الذى لا يعلمه غيره وهو تأليفه على نمط بديع يعجز عنه كل بليغ أو بعلمه بحال من أنزله عليه واستعداده لاقتباس الأنوار القدسية أو بعلمه الذى يحتاج إليه الناس فى معاشهم ومعادهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعول والجملة فى موقع التفسير لما قبلها وقرىء نزله وقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أى بذلك مبتدأ وخبر والجملة عطف على ما قبلها وقيل حال من مفعول أنزله أى أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججا ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى بما أنزل الله تعالى وشهد به أو بكل ما يجب الإيمان به وهو داخل فيه دخولا أوليا والمراد بهم اليهود حيث كفروا به (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو دين الإسلام من أراد سلوكه بقولهم ما نعرف صفة محمد فى كتابنا وقرىء صدوا مبنيا للمفعول (قَدْ ضَلُّوا) بما فعلوا من الكفر والصد عن طريق الحق (ضَلالاً بَعِيداً) لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أعرق فى الضلال وأبعد من الإقلاع عنه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى بما ذكر آنفا (وَظَلَمُوا) أى محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ووضع غيرها مكانها أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم فى المعاش والمعاد (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً).

٢٥٧

(إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧٠)

____________________________________

(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التى هى طريق الجنة والمراد بالهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة خلقه تعالى لأعمالهم السيئة المؤدية بهم إلى جهنم عند صرف قدرتهم واختيارهم إلى اكتسابها أو سوقهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكة والطريق على عمومه والاستثناء متصل وقيل خاص بطريق الحق والاستثناء منقطع (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير المنصوب والعامل فيها ما دل عليه الاستثناء دلالة واضحة كأنه قيل يدخلهم جهنم خالدين فيها الخ وقوله تعالى (أَبَداً) نصب على الظرفية رافع لاحتمال حمل الخلود على المكث الطويل (وَكانَ ذلِكَ) أى جعلهم خالدين فى جهنم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لاستحالة أن يتعذر عليه شىء من مراداته تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بعد ما حكى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ورد عليهم ذلك بتحقيق نبوته عليه الصلاة والسلام وتقرير رسالته ببيان أن شأنه عليه الصلاة والسلام فى أمر الوحى والإرسال كشئون من يعترفون بنبوته من مشاهير الأنبياء عليهم‌السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادة الملائكة أمر المكلفون كافة على طريق تلوين الخطاب بالإيمان بذلك أمرا مشفوعا بالوعد بالإجابة والوعيد على الرد تنبيها على أن الحجة قد لزمت ولم يبق بعد ذلك لأحد عذر فى عدم القبول وقوله عزوجل (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) تكرير للشهادة وتقرير لحقية المشهود به وتمهيد لما يعقبه من الأمر بالإيمان وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته والمراد بالحق هو القرآن الكريم والباء متعلقة بجاءكم فهى للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الرسول أى ملتبسا بالحق ومن أيضا متعلقة إما بالفعل وإما بمحذوف هو حال من الحق أى جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائنا من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم فى الامتثال بما بعده من الأمر والفاء فى قوله عزوجل (فَآمِنُوا) للدلالة على إيحاب ما قبلها لما بعدها أى فآمنوا به وبما جاء به من الحق وقوله تعالى (خَيْراً لَكُمْ) منصوب على أنه مفعول لفعل واجب الإضمار كما هو رأى الخليل وسيبويه أى اقصدوا أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعت لمصدر محذوف كما هو رأى الفراء أى آمنوا إيمانا خيرا لكم أو على أنه خبر كان المضمرة الواقعة جوابا للأمر لاجزاء للشرط الصناعى وهو رأى الكسائى وأبى عبيدة أى يكن الإيمان خيرا لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) أى إن تصروا وتستمروا على الكفر به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات سواء كانت داخلة فى حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم فيدخل فى جملتهم المخاطبون دخولا أوليا أى كلها له عزوجل

٢٥٨

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١)

____________________________________

خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته وقهره شىء منها فمن هذا شأنه فهو قادر على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غنى عنكم وعن غيركم لا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم وقيل فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا فى العلم فهو عالم بأحوال الكل فيدخل فى ذلك علمه تعالى بكفرهم دخولا أوليا (حَكِيماً) مراعيا للحكمة فى جميع أفعاله التى من جملتها تعذيبه تعالى إياهم بكفرهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ) تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) بالإفراط فى رفع شأن عيسى عليه‌السلام وادعاء ألوهيته وأما غلو اليهود فى حط رتبته عليه‌السلام ورميهم له بأنه ولد لغير رشدة فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أى لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) قد مر تفسيره فى سورة آل عمران وقرىء بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأ وقوله تعالى (عِيسَى) بدل منه أو عطف بيان له وقوله تعالى (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه عليه‌السلام به من بنوته لله تعالى وقوله تعالى (رَسُولُ اللهِ) خبر للمبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهى عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أعنى الحق أى أنه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها (وَكَلِمَتُهُ) عطف على رسول الله أى مكون بكلمته وأمره الذى هو كن من غير واسطة أب ولا نطفة (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أى أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه‌السلام وقيل أعلمها إياها وأخبرها بها بطريق البشارة وذلك قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وقيل الجملة حال من ضميره عليه‌السلام المستكن فيما دل عليه وكلمته من معنى المشتق الذى هو العامل فيها وقد مقدرة معها (وَرُوحٌ مِنْهُ) قيل هو الذى نفخ جبريل عليه‌السلام فى درع مريم فحملت بأذن الله تعالى سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح ومن لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى يحكى أن طبيبا حاذقا نصرانيا للرشيد ناظر على بن حسين الواقدى المروزى ذات يوم فقال له إن فى كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه‌السلام جزء منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقدى وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه فقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه تعالى علوا كبيرا فانقطع النصرانى فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل الواقدى بصلة فاخرة. وهى متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح أى كائنة من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل عليه‌السلام لكون النفخ بأمره سبحانه وقيل سمى روحا لإحيائه الأموات وقيل لإحيائه القلوب كما سمى به القرآن

٢٥٩

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢)

____________________________________

لذلك فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقيل أريد بالروح الوحى الذى أوحى إلى مريم بالبشارة وقيل جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شىء بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى عليه‌السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح وتقديم كونه عليه‌السلام رسول الله فى الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه فى الوجود لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل وتعيين مآل ما يحتمله وسد باب التأويل الزائع (فَآمِنُوا بِاللهِ) وخصوه بالألوهية (وَرُسُلِهِ) أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أى الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة (انْتَهُوا) أى عن التثليث (خَيْراً لَكُمْ) قد مر وجوه انتصابه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أى بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ وإله خبره وواحد نعت أى منفرد فى ألوهيته (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أى أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحا من ذلك فإنه إنما يتصور فيمن يماثله شىء ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله وقرىء أن يكون أى سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره اى له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شىء من الأشياء التى من جملتها عيسى عليه‌السلام فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إليه يكل كل الخلق أمورهم وهو غنى عن العالمين فأنى يتصور فى حقه اتخاذ الولد الذى هو شأن العجزة المحتاجين فى تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) استئناف مقرر لما سبق من التنزيه والاستنكاف الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نحيته عن وجهك بالأصبع أى لن يأنف ولن يترفع (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أى عن أن يكون عبدا له تعالى مستمرا على عبادته وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه‌السلام عنه مع أن شأنه عليه‌السلام المباهاة به كما يدل عليه أحواله ويفصح عنه أقواله أو لا يرى أن أول مقالة قالها للناس قوله إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا لوقوعه فى موقع الجواب عما قاله الكفرة. روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأى شىء أقول قالوا تقول إنه عبد الله قال إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله قالوا بلى فنزلت وهو السر فى جعل المستنكف عنه كونه عليه‌السلام عبدا له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحو ذلك مع إفادة فائدة جليلة هى كمال نزاهته عليه‌السلام عن الاستنكاف بالكلية فإن كونه عبدا له تعالى حالة مستمرة مستتبعة لدوام العبادة قطعا فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم الاستنكاف

٢٦٠