تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا كرتهم وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنة فأخذهم النعاس. قال ابن عباس رضى الله عنهما أمنهم يومئذ بنعاس تغشاهم بعد خوف وإنما ينعس من أمن والخائف لا ينام وقال الزبير رضى الله عنه كنت مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الخوف فأنزل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ههنا وقال أبو طلحة رضى الله عنه رفعت رأسى يوم أحد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. قال وكنت ممن ألقى عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدى فآخذه ثم يسقط السوط من يدى فآخذه وفيه دلالة على أن من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله عزوجل (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار ولا يقدح ذلك فى عموم الإنزال للكل والجملة فى محل النصب على أنها صفة لنعاسا وقرىء بالتاء على أنها صفة لأمنة وفيه أن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أى أوقعتهم فى الهموم والأحزان أو ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها من قولهم همنى الشىء أى كان من همتى وقصدى والقصر مستفاد بمعونة المقام وطائفة مبتدأ وما بعدها إما خبرها وإنما جاز ذلك مع كونها نكرة لاعتمادها على واو الحال كما فى قوله[سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق] أو لوقوعها فى موضع التفصيل كما فى قوله[إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحول] وإما صفتها والخبر محذوف أى ومعكم طائفة أو وهناك طائفة وقيل تقديره ومنكم طائفة وفيه أنه يقتضى دخول المنافقين فى الخطاب بإنزال الأمنة وأيا ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة فى الخلاص عنه كما فى قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين وقوله عزوجل (يَظُنُّونَ بِاللهِ) حال من ضمير (أَهَمَّتْهُمْ) أو من (طائِفَةً) لتخصصها بالصفة أو صفة أخرى لها أو خبر بعد خبر أو استئناف مبين لما قبله وقوله تعالى (غَيْرَ الْحَقِّ) فى حكم المصدر أى يظنون به تعالى غير الظن الحق الذى يجب أن يظن به سبحانه وقوله تعالى (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية والإضافة كما فى حاتم الجود ورجل صدق وقوله تعالى (يَقُولُونَ) بدل من (يَظُنُّونَ) لما أن مسئلتهم كانت صادرة عن الظن أى يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة الاسترشاد (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أى من أمر الله تعالى ووعده من النصر والظفر (مِنْ شَيْءٍ) أى من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شىء وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أى الغلبة بالآخرة لله تعالى ولأوليائه (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أو إن التدبير كله لله فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى فى سابق قضائه فلا مرد له وقرىء كله بالرفع على الابتداء وقوله تعالى (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أى يضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية (ما لا يُبْدُونَ لَكَ) استئناف أو حال من ضمير (يَقُولُونَ) وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ) الخ اعتراض بين الحال وصاحبها

١٠١

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)

____________________________________

أى يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى (يَقُولُونَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل أى شىء يخفون فقيل يحدثون أنفسهم أو يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبة لله تعالى ولأوليائه وأن الأمر كله لله أو لو كان لنا من التدبير والرأى شىء (ما قُتِلْنا هاهُنا) أى ما غلبنا أو ما قتل من قتل منا فى هذه المعركة على أن النفى راجع إلى نفس القتل لا إلى وقوعه فيها فقط ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابن أبى ويؤيده تعيين مكان القتل وكذا قوله تعالى (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) أى لو لم تخرجوا إلى أحد وقعدتم بالمدينة كما تقولون (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) أى فى اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز (إِلى مَضاجِعِهِمْ) إلى مصارعهم التى قدر الله تعالى قتلهم فيها وقتلوا هنالك البتة ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعا فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب وفيه مبالغة فى رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل كما فى قوله عزوجل (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) بل عين مكانه أيضا ولا ريب فى تعين زمانه أيضا لقوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). روى أن ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة فلما قام قال الرجل من هذا فقال سليمان عليه‌السلام ملك الموت قال ارسلنى مع الريح إلى عالم آخر فإنى رأيت منه مرأى هائلا فأمرها عليه‌السلام فألقته فى قطر سحيق من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان عليه‌السلام فقال كنت أمرت بقبض روح ذلك الرجل فى هذه الساعة فى أرض كذا فلما وجدته فى مجلسك قلت متى يصل هذا إليها وقد أرسلته بالريح إلى ذلك المكان فوجدته هناك فقضى أمر الله عزوجل فى زمانه ومكانه من غير إخلال بشىء من ذلك وقرىء كتب على البناء للفاعل ونصب القتل وقرىء كتب عليهم القتال وقرىء لبرز بالتشديد على البناء للمفعول (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أى ليعاملكم معاملة من يبتلى ما فى صدوركم من الإخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلى الخ وجعلها عللا لبرز يأباه الذوق السليم فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض أو لفعل مقدر بعدها أى وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بأمر المؤمنين ونحو ذلك وتقدير الفعل مقدما خال عن هذه المزية (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من مخفيات الأمور ويكشفها أو يخلصها من الوساوس (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أى السرائر والضمائر الخفية التى لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها والجملة إما اعتراض للتنبيه على أن الله تعالى غنى عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين أو حال من متعلق الفعلين أى فعل ما فعل للابتلاء والتمحيص والحال أنه تعالى غنى عنهما محيط بخفيات الأمور وفيه وعد ووعيد (إِنَ

١٠٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦)

____________________________________

الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) وهم الذين انهزموا يوم أحد حسبما مرت حكايتهم (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أى إنما كان سبب انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب والمعاصى التى هى مخالفة أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة فحرموا التأييد وقوة القلب وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصى يجر بعضها إلى بعض كالطاعة وقيل استزلهم بذنوب سبقت منهم وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والجملة تعليل لما قبلها على سبيل التحقيق وفى إظهار الجلالة تربية للمهابة وتأكيد للتعليل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ههنا وإنما ذكر فى صدر الصلة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم أثر ذى أثير وقوله تعالى (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) تعيين لوجه الشبه والمماثلة التى نهوا عنها أى قالوا لأجلهم وفى حقهم ومعنى أخوتهم اتفاقهم نسبا أو مذهبا (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أى سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها وإيثار إذا المفيدة لمعنى الاستقبال على إذ المفيدة لمعنى المضى لحكاية الحال الماضية إذ المراد بها الزمان المستمر المنتظم للحال الذى عليه يدور أمر استحضار الصورة. قال الزجاج إذا ههنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعنى أنها لمجرد الوقت أو يقصد بها الاستمرار وظرفيتها لقولهم إنما هى باعتبار ما وقع فيها بل التحقيق أنها ظرف له لا لقولهم كأنه قيل قالوا لأجل ما أصاب إخوانهم حين ضربوا الخ (أَوْ كانُوا) أى إخوانهم (غُزًّى) جمع غاز كعفى جمع عاف قال [ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى لها قلب عفى الحياض أجون] وقرىء بتخفيف الزاى على حذف التاء من غزاة وإفراد كونهم غزاة بالذكر مع اندراجه تحت الضرب فى الأرض لأنه المقصود بيانه فى المقام وذكر الضرب فى الأرض توطئة له وتقديمه لكثرة وقوعه على أنه قد يوجد بدون الضرب فى الأرض إذ المراد به السفر البعيد وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو بانقضاء ذلك أى كانوا غزا فيما مضى وقوله تعالى (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) أى مقيمين (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) مفعول ل (قالُوا) ودليل على أن هناك مضمرا قد حذف ثقة به أى إذا ضربوا فى الأرض فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا وليس المقصود بالنهى عدم مماثلتهم فى النطق بهذا القول بل فى الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه كما أنه المنكر على قائليه ألا يرى إلى قوله عزوجل (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) فإنه الذى جعل حسرة فيها قطعا وإليه أشير بذلك كما نقل عن الزجاج أنه إشارة إلى ظنهم أنهم لو لم يحضروا القتال لم يقتلوا وتعلقه بقالوا ليس باعتبار نطقهم بذلك القول بل باعتبار ما فيه من الحكم والاعتقاد واللام

١٠٣

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨)

____________________________________

لام العاقبة كما فى قوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك أصلا وقيل هو تعليل للنهى بمعنى لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله تعالى حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم فذلك كما مر إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارة إلى ما دل عليه النهى أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة فى قلوبهم فإن مضادتكم لهم فى القول والاعتقاد مما يغمهم ويغيظهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) رد لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أى هو المؤثر فى الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل فى ذلك فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازى مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم وقرىء بالياء على أنه وعيد للذين كفروا وما يعملون عام متناول لقولهم المذكور ولمنشئه الذى هو اعتقادهم ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لتربية المهابة وإلقاء الروعة والمبالغة فى التهديد والتشديد فى الوعيد (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) شروع فى تحقيق أن ما يحذرون ترتبه على الغزو والسفر من القتل والموت فى سبيل الله تعالى ليس مما ينبغى أن يحذر بل مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون إثر إبطال ترتبه عليهما واللام هى الموطئة للقسم وما فى قوله تعالى (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) لام الابتداء والتنوين فى الموضعين للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة للمبتدأ وقد حذفت صفة رحمة لدلالة المذكور عليها والجملة جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط والمعنى أن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل أصلا ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أى الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم وعن ابن عباس رضى الله عنهما خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء وقرىء بالتاء أى مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا والاقتصار على بيان خيريتهما من ذلك بلا تعرض للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجة إليه بناء على استحالة التخييب منه تعالى بعد الأطماع وقد قيل لابد من حذف آخر أى لمغفرة لكم من الله الخ وحينئذ يكون أيضا إخراج المقدر مخرج الصفة دون الخبر لنحو ما ذكر من ادعاء الظهور والغنى عن الإخبار به وتغيير الترتيب الواقع فى قولهم ما ماتوا وما قتلوا المبنى على كثرة الوقوع وقلته للمبالغة فى الترغيب فى الجهاد ببيان زيادة مزية القتل فى سبيل الله وإنافته فى استجلاب المغفرة والرحمة وفيه دلالة واضحة على ما مر من أن المقصود بالنهى إنما هو عدم مماثلتهم فى الاعتقاد بمضمون القول المذكور والعمل بموجبه لا فى النطق به وإضلال الناس به (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) أى على أى وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية وقرىء متم بكسر الميم من مات

١٠٤

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠)

____________________________________

يمات (لَإِلَى اللهِ) أى إلى المعبود بالحق العظيم الشأن الواسع الرحمة الجزيل الإحسان (تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره فيوفيكم أجوركم ويجزل لكم عطاءكم والكلام فى لامى الجملة كما مر فى أختها (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاقهم اللائمة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته والباء متعلقة بلنت قدمت عليه للقصر وما مزيدة للتوكيد أو نكرة ورحمة بدل منها مبين لإبهامها والتنوين للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لرحمة أى فبرحمة عظيمة لهم كائنة من الله تعالى وهى ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الأخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بهم حيث اغتممت لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرك وإسلامك للعدو (وَلَوْ) لم تكن كذلك بل (كُنْتَ فَظًّا) جافيا فى المعاشرة قولا وفعلا وقال الراغب الفظ هو الكريه الخلق وقال الواحدى هو الغليظ الجانب السىء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه وقال الكلبى فظا فى القول غليظ القلب فى الفعل (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك وتردوا فى مهاوى الردى والفاء فى قوله عزوجل (فَاعْفُ عَنْهُمْ) لترتيب العفو أو الأمر به على ما قبله أى إذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبربهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أى فى أمر الحرب إذ هو المعهود أو فيه وفى أمثاله مما تجرى فيه المشاورة عادة استظهارا بآرائهم وتطييبا لقلوبهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة وقرىء وشاورهم فى بعض الأمر (فَإِذا عَزَمْتَ) أى عقيب المشاورة على شىء واطمأنت به نفسك (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فى إمضاء أمرك على ما هو أرشد لك وأصلح فإن علمه مختص به سبحانه وتعالى وقرىء فإذا عزمت على صيغة التكلم أى عزمت لك على شىء وأرشدتك إليه فتوكل على ولا تشاور بعد ذلك أحدا والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل أو الأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال مستدع للتوكل عليه تعالى أو الأمر به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح والجملة تعليل للتوكل عليه تعالى وقوله تعالى (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب توكلهم عليه تعالى وحثهم على اللجأ إليه وتحذيرهم عما يفضى إلى خذلانه أى إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفى الجنس المنتظم لنفى جميع أفراد الغالب ذاتا وصفة ولو قيل فلا يغلبكم أحد لدل على نفى الصفة فقط ثم المفهوم من ظاهر النظم

١٠٥

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١)

____________________________________

الكريم وإن كان نفى مغلوبيتهم من غير تعرض لنفى المساواة أيضا وهو الذى يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفى المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين فإذا قلت لا أكرم من فلان أو لا أفضل منه فالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد فى جميع اللغات ولا اختصاص له بالنفى الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكارى كما فى قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فى مواقع كثيرة من التنزيل ومما هو نص قاطع فيما ذكرنا ما وقع فى سورة هود حيث قيل بعده فى حقهم لا جرم أنهم فى الآخرة هم الأخسرون فإن كونهم أخسر من كل خاسر يستدعى قطعا كونهم أظلم من كل ظالم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما فعل يوم أحد وقرىء يخذلكم من أخذله إذا جعله مخذولا (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) استفهام إنكارى مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة بطريق المبالغة (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد خذلانه تعالى أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة قصره عليه تعالى والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما مر من غلبة المخاطبين على تقدير نصرته تعالى لهم ومغلوبيتهم على تقدير خذلانه تعالى إياهم فإن العلم بذلك مما يقتضى قصر التوكل عليه تعالى لا محالة والمراد بالمؤمنين إما الجنس والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا وإما هم خاصة بطريق الالتفات وأيا ما كان ففيه تشريف لهم بعنوان الإيمان اشتراكا أو استقلالا وتعليل لتحتم التوكل عليه تعالى فإن وصف الإيمان مما يوجبه قطعا (وَما كانَ لِنَبِيٍّ) أى وما صح لنبى من الأنبياء ولا استقام له (أَنْ يَغُلَّ) أى يخون فى المغنم فإن النبوة تنافيه منافاة بينة يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه خفية والمراد إما تنزيه ساحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز وأفاضوا فى الغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال عليه‌السلام بل ظنتم أنا نغل ولا نقسم بينكم وإما المبالغة فى النهى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما روى أنه بعث طلائع فغنم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدهم غنائم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيئا فنزلت. والمعنى ما كان لنبى أن يعطى قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظا وأما ما قيل من أن المراد تنزيهه عليه‌السلام عما تفوه به بعض المنافقين إذ روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها فبعيد جدا وقرىء على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجد غالا أو ينسب إلى الغلول (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يأت بالذى غله بعينه بحمله على عنقه كما ورد فى الحديث الشريف وروى أنه عليه‌السلام قال ألا لا أعرفن أحدكم يأتى ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء فينادى يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا فقد بلغتك أو يأت

١٠٦

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

____________________________________

بما احتمل من إثمه ووباله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أى تعطى وافيا جزاء ما كسبت خيرا أو شرا كثيرا أو يسيرا ووضع المكسوب موضع جزائه تحقيقا للعدل ببيان ما بينهما من تمام التناسب كما وكيفا كأنهما شىء واحد وفى إسناد التوفية إلى كل كاسب وتعليقها بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم وهول مطلعه والمبالغة فى بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه حيث وفى كل كاسب جزاء ما كسبه ولم ينقص منه شىء وإن كان جرمه فى غاية القلة والحقارة فلأن لا ينقص من جزاء الغال شىء وجرمه من أعظم الجرائم وأظهر وأجلى (وَهُمْ) أى كل الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) بزيادة عقاب أو بنقص ثواب (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أى سعى فى تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان بفعل الطاعات وترك المنكرات كالنبى ومن يسير بسيرته (كَمَنْ باءَ) أى رجع (بِسَخَطٍ) عظيم لا يقادر قدره كائن (مِنَ اللهِ) تعالى بسبب معاصيه كالغال ومن يدين بدينه والمراد تأكيد نفى الغلول عن النبى عليه الصلاة والسلام وتقريره بتحقيق المباينة الكلية بينه وبين الغال حيث وصف كل منهما بنقيض ما وصف به الآخر فقوبل رضوانه تعالى بسخطه والاتباع بالبوء والجمع بين الهمزة والفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة بينهما والحكم بها على ما ذكر من حال الغال كأنه قيل أبعد ظهور حاله يكون من ترقى إلى أعلى عليين كمن تردى إلى أسفل سافلين وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لإدخال الروعة وتربية المهابة (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) إما كلام مستأنف مسوق لبيان مآل أمر من باء بسخطه تعالى وإما معطوف على قوله تعالى (باءَ بِسَخَطٍ) عطف الصلة الاسمية على الفعلية وأيا ما كان فلا محل له من الإعراب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) اعتراض تذييلى والمخصوص بالذم محذوف أى وبئس المصير جهنم والفرق بينه وبين المرجع أن الأول يعتبر فيه الرجوع على خلاف الحالة الأولى بخلاف الثانى (هُمْ) راجع إلى الموصولين باعتبار المعنى (دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أى طبقات متفاوتة فى علمه تعالى وحكمه شبهوا فى تفاوت الأحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وإيذانا بأن بينهم تفاوتا ذاتيا كالدرجات أو ذو ودرجات (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) جواب قسم محذوف أى والله لقد من أى أنعم (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أى من قومه عليه‌السلام (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى من نسبهم أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله فى الصدق والأمانة مفتخرين به وفى ذلك شرف لهم عظيم قال الله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقرىء (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى أشرفهم فإنه عليه‌السلام

١٠٧

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥)

____________________________________

كان من أشرف قبائل العرب وبطونها وقرىء لمن من الله على المؤمنين إذ بعث الخ على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى منه إذ بعث الخ أو على أن إذ فى محل الرفع على الابتداء بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للأسود والأحمر لما مر من مزيد انتفاعهم بها وقوله تعالى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرسولا أى كائنا من أنفسهم وقوله تعالى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) صفة أخرى أى يتلو عليهم القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شىء من الوحى (وَيُزَكِّيهِمْ) عطف على يتلو أى يطهرهم من دنس الطبائع وسوء العقائد وأوضار الأوزار (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أى القرآن والسنة وهو صفة أخرى لرسولا مترتبة فى الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التى هى عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما فى قوله تعالى (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) لتبادر إلى الفهم عد الجميع نعمة واحدة وهو السر فى التعبير عن القرآن بالآيات تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فى ذلك شمول الحكمة لما فى مطاوى الأحاديث الكريمة من الشرائع كما سلف فى سورة البقرة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أى من قبل بعثته عليه‌السلام وتزكيته وتعليمه (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى بين لا ريب فى كونه ضلالا وإن هى المخففة من المثقلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية والظرف الأول لغو متعلق بكان والثانى خبرها وهى مع خبرها خبر لأن المخففة التى حذف اسمها أعنى ضمير الشأن وقيل هى نافية واللام بمعنى إلا أى وما كانوا من قبل إلا فى ضلال مبين وأيا ما كان فالجملة إما حال من الضمير المنصوب فى يعلمهم أو مستأنفة وعلى التقديرين فهى مبينة لكمال النعمة وتمامها (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما صدر عنهم من الظنون الفاسدة والأقاويل الباطلة الناشئة منها إثر إبطال بعض آخر منها والهمزة للتقريع والتقرير والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف إلى ما بعده وقد أصبتم فى محل الرفع على أنه صفة لمصيبة والمراد بها ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح فى غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا وقد تقدم الوعد بالنصر على توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم فى

١٠٨

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٩)

____________________________________

ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم ضعف مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلته قلتم أنى هذا على توجيه الإنكار إلى استبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها وتذكير اسم الإشارة فى أنى هذا مع كونه إشارة إلى المصيبة ليس لكونها عبارة عن القتل ونحوه بل لما أن إشارتهم ليست إلا إلى ما شاهدوه فى المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة وإنما هى عند الحكاية وقوله عزوجل (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب عن سؤالهم الفاسد إثر تحقيق فساده بالإنكار والتقريع ويبكتهم ببيان أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركز وحرصهم على الغنيمة وقيل باختيارهم الخروج من المدينة ويأباه أن الوعد بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) الآية وأن عمل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة وقيل بأخذهم الفداء يوم بدر قبل أن يؤذن لهم والأول هو الأظهر الأقوى وإنما يعضده توسيط خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الخطابين المتوجهين إلى المؤمنين وتفويض التبكيت إليه عليه‌السلام فإن توبيخ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشد تأثيرا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر (وَما أَصابَكُمْ) رجوع إلى خطاب المؤمنين إثر خطابه عليه‌السلام بسر يقتضيه وإرشاد لهم إلى طريق الحق فيما سألوا عنه وبيان لبعض ما فيه من الحكم والمصالح ودفع لما عسى أن يتوهم من قوله تعالى (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) من استقلالهم فى وقوع الحادثة والعدول عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادة التقرير ببيان وقته بقوله تعالى (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أى جمعكم وجمع المشركين (فَبِإِذْنِ اللهِ) أى فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سمى ذلك إذنا لكونها من لوازمه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على قوله تعالى (فَبِإِذْنِ اللهِ) عطف المسبب على السبب والمراد بالعلم التمييز والإظهار فيما بين الناس وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) عطف على ما قبله من مثله وإعادة الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام فى قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق وبالمنافقين على وجه جديد وهو السر فى إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث والمعنى وما

١٠٩

أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا داخل معه فى حيز الصلة أو كلام مبتدأ قال ابن عباس رضى الله عنهما هم عبد الله بن أبى وأصحابه حيث انصرفوا يوم أحد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) قال السدى ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقيل أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحريمكم إن لم تقاتلوا فى سبيل الله تعالى وترك العطف بين تعالوا وقاتلوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثانى وذكر الأول توطئة له وترغيب فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين فقيل قالوا (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أى لو نحسن قتالا ونقدر عليه وإنما قالوه دغلا واستهزاء وإنما عبر عن نفى القدرة على القتال بنفى العلم به لما أن القدرة على الأفعال الاختيارية مستلزمة للعلم بها أو لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلا وإنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة وفى جعلهم التالى مجرد الاتباع دون القتال الذى هو المقصود بالدعوة دليل على كمال تثبطهم عن القتال حيث لا ترضى نفوسهم بجعله تاليا لمقدم مستحيل الوقوع (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) الضمير مبتدأ وأقرب خبره واللام فى للكفر وللإيمان متعلقة به وكذا يومئذ ومنهم وعدم جواز تعلق حرفين متحدين لفظا ومعنى بعامل واحد بلا عطف أو بدلية إنما هو فيما عدا أفعل التفضيل من العوامل لاتحاد حيثية عملها وأما أفعل التفضيل فحيث دل على أصل الفعل وزيادته جرى مجرى عاملين كأنه قيل قربهم للكفر زائدة على قربهم للإيمان وقيل تعلق الجارين به لشبههما بالظرفين أى هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة مؤذنة بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليل سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين وقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها وذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر فى اللسان تارة وفى القلب أخرى فالمثبت والمنفى متحدان ذاتا وإن اختلفا مظهرا وإما القول الملفوظ فقط فالمنفى حينئذ منشؤه الذى لا ينفك عنه القول أصلا وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال أى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه فى قلوبهم أصلا من الأباطيل التى من جملتها ما حكى عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس فى قلوبهم شىء منهما أحدهما عدم العلم بالقتال والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد وقوله عزوجل (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوها عما يوافقها وصيغة التفضيل لما أن بعض ما يكتمونه من أحكام النفاق وذم المؤمنين وتخطئة آرائهم والشماتة بهم وغير ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال وأن تفاصيل ذلك

١١٠

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩)

____________________________________

وكيفياته مختصة بالعلم الإلهى (الَّذِينَ قالُوا) مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون أو خبر لمبتدأ محذوف وقيل مبتدأ خبره قل فادرؤا بحذف العائد تقديره قل لهم الخ أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا أو بدل منه وقيل مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم أو قلوبهم كما فى قوله [على جوده لضن بالماء حاتم] والمراد بهم عبد الله بن أبى وأصحابه (لِإِخْوانِهِمْ) أى لأجلهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعض الشهداء (وَقَعَدُوا) حال من ضمير قالوا بتقدير قد أى قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال (لَوْ أَطاعُونا) أى فيما أمرناهم به ووافقونا فى ذلك (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغووهم كما غووا وحمل القعود على ما استصوبه ابن أبى عند المشاورة من الإقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبى ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادى باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المشاورة (قُلْ) تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) جواب لشرط قد حذف تعويلا على ما بعده من قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة الجواب المذكور عليه أى إن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت الذى كتب عليكم معلقا بسبب خاص موقتا بوقت معين بدفع سببه فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم من إخوانكم وأمرها أهم لديكم من أمرهم والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل إليه بل قد يكون القتال سببا للنجاة والقعود مؤديا إلى الموت. روى أنه مات يوم قالوا ما قالوا سبعون منافقا وقيل أريد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى مضمون الشرطية والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين فقوله تعالى (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) حينئذ استهزاء بهم أى إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم فى زعمكم هذا السبب الخاص (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذى يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التى يتنافس فيها المتنافسون إثر بيان أن الحذر لا يجدى ولا يغنى وقرىء ولا تحسبن بكسر السين والمراد بهم شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطالب ومصعب بن عمير وعثمان بن شهاب وعبد الله بن جحش وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب وقرىء بالياء على

١١١

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠)

____________________________________

الإسناد إلى ضميره عليه‌السلام أو ضمير من يحسب وقيل إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه فى الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة والتقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا أى لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا على أن المراد من توجيه النهى إليهم تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يسلوا بذلك ويبشروا بالحياة الأبدية والكرامة السنية والنعيم المقيم لكن لا فى جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرىء قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين (بَلْ أَحْياءٌ) أى بل هم أحياء وقرىء منصوبا أى بل أحسبهم أحياء على أن الحسبان بمعنى اليقين كما فى قوله[حسبت التقى والمجد خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا] أو على أنه وارد على طريق المشاكلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فى محل الرفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو فى محل النصب على أنه حال من الضمير فى أحياء وقيل هو ظرف لأحياء أو للفعل بعده والمراد بالعندية التقرب والزلفى وفى التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم (يُرْزَقُونَ) أى من الجنة وفيه تأكيد لكونهم أحياء وتحقيق لمعنى حياتهم. قال الإمام الواحدى الأصح فى حياة الشهداء ما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن أرواحهم فى أجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون. وروى عنه عليه‌السلام أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طيور خضر تدور فى أنهار الجنة وروى ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش وفيه دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر وقيل المراد أنها تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والزلفى من الله عزوجل والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا (وَيَسْتَبْشِرُونَ) يسرون بالبشارة (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) أى بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد فى سبيل الله فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم أو بمحذوف وقع حالا من فاعل يلحقوا أى لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلفين عنهم باقين فى الدنيا (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم وأن هى المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وخبرها الجملة المنفية أى ويستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية لا يكدرها خوف وقوع محذور ولا حزن فوات مطلوب أو لا خوف عليهم فى الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التى يجب أن يرغب فيها فضلا

١١٢

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣)

____________________________________

عن أن تخاف وتحذر أى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمراد بيان دوام انتفاء الخوف والحزن لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا فإن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ) كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهى ثواب أعمالهم وقد جوز أن يكون الأول متعلقا بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم بيانا لبعض ما أجمل فى قوله تعالى (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى كائنة منه تعالى (وَفَضْلٍ) أى زيادة عظيمة كما فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) بفتح أن عطف على فضل منتظم معه فى سلك المستبشر به والمراد بالمؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطا لما نالوه من السعادة وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة فى الدين وقرىء بكسرها على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة لا أجر لها وفيه من الحث على الجهاد والترغيب فى الشهادة والبعث على ازدياد الطاعة وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) صفة مادحة للمؤمنين لا مخصصة أو نصب على المدح أو رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) بجملته ومن للبيان والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون. روى أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج فى طلب أبى سفيان وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهى من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر وألقى الله تعالى الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا فنزلت (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعنى الركب الذين

١١٣

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم) (١٧٤)

____________________________________

استبقلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعى وإطلاق الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) روى أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه‌السلام إن شاء الله تعالى فلما كان القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل مر الظهران فألقى الله تعالى فى قلبه الرعب وبداله أن يرجع فمر به ركب من بنى عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين وقيل لقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فسأله ذلك والتزم له عشرا من الإبل وضمنها منه سهيل بن عمرو فخرج نعيم ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم أتوكم فى دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففروا فقال عليه‌السلام والذى نفسى بيده لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد فخرج فى سبعين راكبا كلهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل. قيل هى الكلمة التى قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقى فى النار (فَزادَهُمْ إِيماناً) الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازداد اطمئنانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده وهو دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا فإن ازدياد اليقين بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج مما لا ريب فيه ويعضده قول ابن عمر رضى الله عنهما قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص قال نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أى محسبنا الله وكافيا من أحسبه إذا كفاه والدليل على أنه بمعنى المحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا فى قولك هذا رجل حسبك (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أى نعم الموكول إليه والمخصوص بالمدح محذوف أى الله عزوجل (فَانْقَلَبُوا) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى فخرجوا إليهم ووافوا الموعد. روى أنه عليه الصلاة والسلام وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثمانى ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا والباء فى قوله تعالى (بِنِعْمَةٍ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير فى فانقلبوا والتنوين للتفخيم أى فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله عزوجل (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها الذاتية التى يفيدها التنكير بالفخامة الإضافية أى كائنة من الله تعالى وهى العافية والثبات على الإيمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم (وَفَضْلٍ) أى ربح فى التجارة وتنكيره أيضا للتفخيم (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) حال أخرى من الضمير فى فانقلبوا أو من المستكن فى الحال كأنه قيل منعمين حال كونهم سالمين عن السوء والحال إذا كان مضارعا منفيا بلم وفيه ضمير ذى الحال جاز فيه دخول الواو كما فى قوله تعالى (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) وعدمه كما فى هذه الآية الكريمة وفى قوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً (وَاتَّبَعُوا) فى كل ما أتوا من قول وفعل (رِضْوانَ اللهِ) الذى هو مناط الفوز بخير الدارين (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) حيث تفضل عليهم

١١٤

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦)

____________________________________

بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب فى الدين وإظهار الجراءة على العدو وحفظهم عن كل ما يسوءهم مع إصابة النفع الجليل وفيه تحسير لمن تخلف عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروى أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم (إِنَّما ذلِكُمُ) إشارة إلى المثبط أو إلى من حمله على التثبيط والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ وقوله تعالى (الشَّيْطانُ) إما خبره وقوله تعالى (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة مبينة لشيطنته أو حال كما فى قوله تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) الخ وإما صفته والجملة خبره ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أى إنما ذلكم قول الشيطان أى إبليس والمستكن فى يخوف إما المقدر وإما الشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أى يخوف به والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه فالمفعول الأول محذوف أى يخوفكم أولياءه كما هو قراءة ابن عباس وابن مسعود ويؤيده قوله تعالى (فَلا تَخافُوهُمْ) أى أولياءه (وَخافُونِ) فى مخالفة أمرى وإما القاعدون فالمفعول الثانى محذوف أى يخوفهم الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والضمير البارز فى فلا تخافوهم للناس الثانى أى فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا وخافونى فجاهدوا مع رسولى وسارعوا إلى ما يأمركم به والخطاب لفريقى الخارجين والقاعدين والفاء لترتيب النهى أو الانتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا مما يوجب عدم الخوف والنهى عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضى إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره ويستدعى الأمن من شر الشيطان وأوليائه (وَلا يَحْزُنْكَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذان بأصالته فى تدبير أمور الدين والاهتمام بشئونه (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أى يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وإيثار كلمة فى على ما وقع فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) الآية للإشعار باستقرارهم فى الكفر ودوام ملابستهم له فى مبدأ المسارعة ومنتهاها كما فى قوله تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فإن ذلك مؤذن بملابستهم للخيرات وتقلبهم فى فنونها فى طرفى المسارعة وتضاعيفها وأما إيثار كلمة إلى فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) الخ فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والمراد بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفة من اليهود حسبما عين فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) وقيل قوم ارتدوا عن الإسلام والتعبير عنهم بذلك للإشارة بما فى حيز الصلة إلى مظنة وجود المنهى عنه واعترائه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى لا يحزنوك بمسارعتهم فى الكفر ومبادرتهم إلى تمشية أحكامه ومظاهرتهم لأهله وتوجيه النهى إلى جهتهم مع أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر منهم للمبالغة فى ذلك لما أن

١١٥

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧)

____________________________________

النهى عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما فى قولك لا أرينك ههنا وقرأ لا يحزنك من أحزن المنقول من حزن بكسر الزاى والمعنى واحد وقيل معنى حزنه جعل فيه حزنا كما فى دهنه أى جعل فيه دهنا ومعنى أحزنه جعله حزينا وقيل معنى حزنه أحدث له الحزن ومعنى أحزنه عرضه للحزن (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) تعليل للنهى وتكميل للتسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا أى لن يضروا بذلك أولياء الله البتة وتعليق نفى الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وفيه مزيد مبالغة فى التسلية وقوله تعالى (شَيْئاً) فى حيز النصب على المصدرية أى شيئا من الضرر والتنكير لتأكيد ما فيه من القلة والحقارة وقيل على نزع الجار أى بشىء ما أصلا وقيل المعنى لن ينقصوا بذلك من ملكه تعالى وسلطانه شيئا كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يقول الله تعالى لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ولو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا والأول هو الأنسب بمقام التسلية والتعليل (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) استئناف مبين لسرابتلائهم بما هم فيه من الانهماك فى الكفر وفى ذكر الارادة من الإيذان بكمال خلوص الداعى إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين ما لا يخفى وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها أى يريد الله بذلك أن لا يجعل لهم فى الآخرة حظا من الثواب ولذلك تركهم فى طغيانهم يعمهون إلى أن يهلكوا على الكفر (وَلَهُمْ) مع ذلك الحرمان الكلى (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره قيل لما دلت المسارعة فى الشىء على عظم شأنه وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته فى نفسه والجملة إما مبتدأة مبينة لحظهم من العقاب إثر بيان أن لا شىء لهم من الثواب وإما حال من الضمير فى لهم أى يريد الله حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أى أخذوه بدلا منه رغبة فيما أخذوه وإعراضا عما تركوه وقد مر تحقيق القول فى هذه الاستعارة فى تفسير قوله عزوجل (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) مستوفى (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تفسيره كما مر غير أن فيه تعريضا ظاهرا باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل وإنما يضرون أنفسهم فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله فى التوراة كما هو شأن اليهود ومنافقيهم فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر فى حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح فى لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا كيف لا وهو علم فى الخسران الكلى والحرمان الأبدى دال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأى ورصانة التدبير من مضارة حزب الله تعالى وهى أعز من الأبلق الفرد وأمنع من عقاب الجو وإن أجرى الموصول على

١١٦

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨)

____________________________________

عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له الحاصل بمشاهدة الوحى الناطق وملاحظة الدلائل المنصوبة فى الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام هذا وقد جوز كون الموصول الأول عاما للكفار والثانى خاصا بالمعهودين وأنت خبير بأنه مع خلوه عن النكت المذكورة مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة فى الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يفهم من النهى عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين فى الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم باعتبار كونها من مبادى حزنه عليه‌السلام مما لا وجه له وقوله تعالى (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه. قيل لما جرت العادة باغتباط المشترى بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) عطف على قوله تعالى (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ) الآية والفعل مسند إلى الموصول وأن بما فى حيزها سادة مسد مفعوليه عند سيبويه لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبى بالنسبة بين المبتدأ والخبر أو مسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها ووصلها فى الكتابة لاتباع الإمام أى لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم خير لأنفسهم أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم أو خيرية ما نمليه لهم ثابتة أو واقعة ومآله نهيهم عن السرور بظاهر إملائه تعالى لهم بناء على حسبان خيريته لهم وتحسيرهم ببيان أنه شربحت وضرر محض كما أن مآل المعطوف عليه نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن بظاهر حال الكفرة بناء على توهم الضرر من قبلهم وتسليته عليه‌السلام ببيان عجزهم عن ذلك بالكلية والمراد بالموصول إما جنس الكفرة فيندرج تحت حكمه الكلى أحكام المعهودين اندراجا أوليا وإما المعهودون خاصة فإيثار الإظهار على الإضمار لرعاية المقارنة الدائمة بين الصلة وبين الإملاء الذى هو عبارة عن إمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا فإن المقارن له دائما إنما هو الكفر المستمر لا المسارعة المذكورة ولا الاشتراء المذكور فإنهما من الأحوال المتجددة المنقضية فى تضاعيف الكفر المستمر وقرىء لا تحسبن بالتاء والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الأنسب بمقام التسلية أو لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم والموصول مفعول وإنما نملى لهم إما بدل منه وحيث كان التعويل على البدل وهو ساد مسد المفعولين كما فى قوله تعالى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) اقتصر على مفعول واحد كما فى قولك جعلت المتاع بعضه فوق بعض وإما مفعول ثان بتقدير مضاف إما فيه أى لا تحسبن

١١٧

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)

____________________________________

الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم أو فى المفعول الأول أى لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف مبين لحكمة الإملاء وما كافة واللام لام الإرادة وعند المعتزلة لام العاقبة وقرىء بفتح الهمزة ههنا على إيقاع الفعل عليه وكسرها فيما سبق على أنه اعتراض بين الفعل ومعموله مفيد لمزيد الاعتناء بإبطال الحسبان ورده على معنى لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم حسبما هو شأنهم بل إنما هو لتلافى ما فرط منهم بالتوبة والدخول فى الإيمان (وَلَهُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ مُهِينٌ) لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعى التعزز والتجبر وصف عذابهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا والجملة إما مبتدأة مبينة لحالهم فى الآخرة إثر بيان حالهم فى الدنيا وإما حال من الواو أى ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين على القراءة الأخيرة (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لوعده المؤمنين ووعيده المنافقين بالعقوبة الدنيوية التى هى الفضيحة والخزى إثر بيان عقوبتهم الأخروية والمراد بالمؤمنين المخلصون وأما الخطاب فقد قيل إنه لجمهور المصدقين من أهل الإخلاص وأهل النفاق ففيه التفات فى ضمن التلوين والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم بعضا واستواؤهم فى إجراء أحكام الإسلام عليهم إذ هو القدر المشترك بين الفريقين وقيل إنه للكفار والمنافقين وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبى وأكثر المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطف تفسيرى للكفار وإلا فلا شركة بين المؤمنين والمنافقين فى أمر من الأمور والمراد بما هم عليه ما مر من القدر المشترك فإنه كما يجوز نسبته إلى الفريقين معا يجوز نسبته إلى كل منهما لا الكفر والنفاق كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم فى ذلك حتى لا يتركوا عليه وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قول أكثر أهل المعانى ففيه تلوين والتفات كما مر والتعرض لإيمانهم قبل الخطاب للإشعار بعلة الحكم والمراد بما هم عليه ما مر غير مرة والأول هو الأقرب وإليه جنح المحققون من أهل التفسير لكونه صريحا فى كون المراد بما هم عليه ما ذكر من القدر المشترك بين الفريقين من حيث هو مشترك بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك كيف لا والمفهوم مما عليه المنافقين هو الكفر والنفاق ومما عليه المؤمنون هو الإيمان والإخلاص لا القدر المشترك بينهما ولئن فهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتساب إلى أحدهما لا من حيث الانتساب إليهما معا وعليه يدور أمر الاختلاط المحوج إلى الإفراز واللام فى ليذر إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أى ما كان الله مريدا أو متصديا لأن يذر المؤمنين الخ ففى توجيه النفى إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليست فى توجيهه إلى نفسه

١١٨

وإما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح فى ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر فى عملها وقوله عزوجل (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) غاية لما يفيده النفى المذكور كأنه قيل ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاط بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وفى التعبير عنهما بما ورد به النظم الكريم تسجيل على كل منهما بما يليق به وإشعار بعلة الحكم وإفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعنى المؤمنين بصيغة الجمع للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما كما فى مثل قوله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) ونظيره قوله تعالى (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم وتعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف فى المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه فى قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم وقرىء حتى يميز من التمييز وقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) تمهيد لبيان الميز الموعود على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم وقوله عزوجل (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وإظهار الاسم الجليل فى الموضعين لتربية المهابة فالمعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادئ حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما فى قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحى إلى رسوله عليه‌السلام فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهاد ويخلصكم من خسة الشركاء وسوء جوارهم والتعرض للاجتباء للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لإرشاهم وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم‌السلام للدلالة على أن شأنه عليه‌السلام فى هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل الخالية عليهم‌السلام وتعميم الأمر فى قوله تعالى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهانى والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته عليه الصلاة والسلام والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه عليه‌السلام فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا هذا هو الذى يقتضيه جزالة النظم الكريم وقد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التى لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم كبذل الأرواح فى الجهاد وإنفاق الأموال فى سبيل الله تعالى

١١٩

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

____________________________________

فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما فى قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به وأنت خيبر بأن الاستدارك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح فى أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحى لا بطريق التكليف بما يؤدى إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء وأقرب من ذلك حمل الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة فى إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم فالمعنى ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن لسر يقتضيه بل يفرز عنهم المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلى الكفرة وشأنهم فأبرز لهم صورة الغلبة فأظهر من فى قلوبهم مرض ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رءوس الأشهاد وقيل قال الكافرون إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أى بما ذكر حق الإيمان (وَتَتَّقُوا) أى عدم مراعاة حقوقه أو النفاق (فَلَكُمْ) بمقابلة ذلك الإيمان والتقوى (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يبلغ كنهه (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بيان لحال البخل ووخامة عاقبته وتخطئة لأهله فى توهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة فى بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله فى سببله كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) والفعل مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه وضمير الفصل راجع إليه أى لا يحسبن الباخلون بما آتاهم الله من فضله من غير أن يكون لهم مدخل فيه أو استحقاق له هو خيرا لهم من إنفاقه وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى ضمير من يحسب والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف والثانى ما ذكر كما هو كذلك على قراءة الخطاب أى ولا يحسبن بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) التنصيص على شريته لهم مع انفهامها من نفى خيريته للمبالغة فى ذلك والتنوين للتفخيم وقوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لكيفية شريته أى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله له شجاعا فى عنقه يوم القيامة وقيل يجعل ما بخل به من الزكاة حية فى عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول أنا مالك (وَلِلَّهِ) وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا (مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره من الرسالات التى يتوارثها أهل السموات والأرض فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه فى سبيله أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه فى سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من المنع والبخل (خَبِيرٌ) فيجازيكم على ذلك وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار

١٢٠