تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)

____________________________________

تعليلا لعدم الاستواء مسوقا لإثباته وفيه تعكيس ظاهر فإن الذى يحق أن يكون مقصودا بالذات إنما هو بيان تفاضل الفريقين على درجات متفاوته. وأما عدم استوائهما فقصارى أمره أن يكون توطئة لذكره ولام المجاهدين والقاعدين للعهد فقيد كون الجهاد فى سبيل الله معتبر فى الأول كما أن قيد عدم الضرر معتبر فى الثانى ودرجة نصب على المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل أى فضل الله تفضيلة أو على نزع الخافض أى بدرجة وقيل على التمييز وقيل على الحالية من المجاهدين أى ذوى درجة وتنوينها للتفخيم وقوله تعالى (وَكُلًّا) مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد أى كل واحد من المجاهدين والقاعدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهى الجنة لا أحدهما فقط كما فى قوله تعالى (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) على أن اللام متعلقة برسولا والجملة اعتراض جىء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله عزوجل (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) عطف على قوله تعالى (فَضَّلَ اللهُ) الخ واللام فى الفريقين مغنية لهما عن ذكر القيود التى تركت على سبيل التدريج وقوله تعالى (أَجْراً عَظِيماً) مصدر مؤكد لفضل على أنه بمعنى أجر وإيثاره على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعول ثان له بتضمينه معنى الإعطاء أى أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما وقيل هو منصوب بنزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم وقوله تعالى (دَرَجاتٍ) بدل من أجرا بدل الكل مبين لكمية التفضيل وقوله تعالى (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها أى درجات كائنة منه تعالى قال ابن محيريز هى سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا وقال السدى هى سبعمائة درجة وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين فى سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما فى قولك ضربه أسواطا أى ضربات كأنه قيل فضلهم تفضيلات وقوله تعالى (وَمَغْفِرَةً) بدل من أجرا بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أى مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التى لا يسترها سائر الحسنات التى يأتى بها القاعدون أيضا حتى تعد من خصائصهم وقوله تعالى (وَرَحْمَةً) بدل الكل من أجرا مثل درجات ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما أى غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما فى قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) كأنه قيل فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وحيث كان تحقق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده

٢٢١

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧)

____________________________________

التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثانى ما أنعم به فى الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثانى وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل وفضلهم عليهم فى الدنيا درجة واحدة وفى الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما فى الذكر ما هو متوسط بينهما فى الوجود أعنى الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول والله سبحانه أعلم. هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غير أولى الضرر وأما أولوا الضرر فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفة وبأن الاستثناء من النفى إثبات وأما عند من لا يقول بذلك فلا دلالة لعبارة النص عليه وقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد خلفتم فى المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره وبعبارة أخرى إن فى المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قذ ذكرت فى قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) إلى قوله (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والثانى غيرهم وفيه من تفكيك النظم الكريم ما لا يخفى ولا ريب فى أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما لا ريب فى أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجة الدنيوية (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان حال القاعدين عن الجهاد وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قراءة من قرأ توفتهم وأن يكون مضارعا قد حذف منه إحدى التاءين وأصله تتوفاهم على حكاية الحال الماضية والقصد إلى استحضار صورتها ويعضده قراءة من قرأ توفاهم على مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال من ضمير توفاهم فإنه وإن كان مضافا إلى المعرفة إلا أنه نكرة فى الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولا فى اللفظ كما فى قوله تعالى (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) و (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) و (ثانِيَ عِطْفِهِ) أى محلين الصيد وبالغا الكعبة وثانيا عطفه كأنه قيل ظالمين أنفسهم وذلك بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإنها نزلت فى ناس من مكة قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة (قالُوا) أى الملائكة للمتوفين تقريرا لهم بتقصيرهم فى إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك (فِيمَ كُنْتُمْ) أى فى أى شىء كنتم من أمور دينكم (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشا من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل فماذا قالوا فى الجواب فقيل قالوا متجانفين عن الإقرار

٢٢٢

(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٩٩)

____________________________________

الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أى فى أرض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين أهلها (قالُوا) إبطالا لتعللهم وتبكيتا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) إلى قطر آخر منها تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حمل تعللهم على إظهار العجز عن الهجرة وجعل جواب الملائكة تكذيبا لهم فى ذلك فيرده أن سبب العجز عنها لا ينحصر فى فقدان دار الهجرة بل قد يكون لعدم الاستطاعة للخروج بسبب الفقر أو لعدم تمكين الكفرة منه فلا يكون بيان سعة الأرض تكذيبا لهم وردا عليهم بل لابد من بيان استطاعتهم أيضا حتى يتم التبكيت وقيل كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدر منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعا وتوبيخا لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وانتظامهم فى عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللا بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوهم كارهين فرد عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنين من المهاجرة (فَأُولئِكَ) الذين حكيت أحوالهم الفظيعة (مَأْواهُمْ) أى فى الآخرة (جَهَنَّمُ) كما أن مأواهم فى الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة المحتومة فمأواهم مبتدأ وجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملة خبر إن والفاء فيه لتضمن اسمها معنى الشرط وقوله تعالى (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) حال من (الْمَلائِكَةُ) بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبر والعائد منه محذوف أى قالوا لهم والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما فى حيزه (وَساءَتْ مَصِيراً) أى مصيرهم أى جهنم وفى الآية الكريمة إرشاد إلى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل من إقامة أمور دينه بأى سبب كان وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) استثناء منقطع لعدم دخولهم فى الموصول وضميره والإشارة إليه ومن فى قوله تعالى (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من المستضعفين أى كائنين منهم وذكر الولدان إن أريد بهم المماليك أو المراهقون ظاهر وأما إن أريد بهم الأطفال فللمبالغة فى أمر الهجرة وإيهام أنها بحيث لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والإشعار بأنهم لا محيص لهم عنها البتة تجب عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) صفة للمستضعفين فإن ما فيه من اللام ليس للتعريف أو حال منه أو من الضمير المستكن فيه وقيل تفسير لنفس المستضعفين لكثرة وجوه الاستضعاف واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة ومباديها واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر إليه بنفسه أو بدليل (فَأُولئِكَ)

٢٢٣

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١)

____________________________________

إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) جىء بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن الهجرة من تأكد الوجوب بحيث ينبغى أن يعد تركها ممن تحقق عدم وجوبها عليه ذنبا يجب طلب العفو عنه رجاء وطمعا لا جزما وقطعا (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) تذييل مقرر لما قبله (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) ترغيب فى المهاجرة وتأنيس لها أى يجد فيها متحولا ومهاجرا وإنما عبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحول بحيث يصل فيه المهاجر من الخير والنعمة إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقا يراغم بسلوكه قومه أى يفارقهم على رغم أنوفهم (وَسَعَةً) أى من الرزق (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أى قبل أن يصل إلى المقصد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثار الخروج من بيته على المهاجرة وهو عطف على فعل الشرط وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل هو حركة الهاء نقلت إلى الكاف على نية الوقف كما فى قوله[من عنزى سبنى لم أضربه عجبت والدهر كثير عجبه] وقرىء بالنصب على إضمار أن كما فى قوله [وألحق بالحجاز فأستريحا] (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أى ثبت ذلك عنده تعالى ثبوت الأمر الواجب. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث بالآيات المتقدمة إلى مسلمى مكة قال جندب بن ضمرة لبنيه وكان شيخا كبيرا احملونى فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا فنزلت. قالوا كل هجرة فى غرض دينى من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهى هجرة إلى الله عزوجل وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) مبالغا فى المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التى من جملتها القعود من الهجرة إلى وقت لخروج (رَحِيماً) مبالغا فى الرحمة فيرحمه بإكمال ثواب هجرته (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) شروع فى بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على المهاجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أى إذا سافرتم أى مسافرة كانت ولذلك لم يقيد بما قيد به المهاجرة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أى حرج فلا إثم؟؟؟ (أَنْ تَقْصُرُوا) أى فى أن تقصروا والقصر خلاف المد يقال قصرت الشىء أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقية إنما هو ذلك الشىء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر وعلى هذا فقوله تعالى

٢٢٤

(مِنَ الصَّلاةِ) ينبغى أن يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الأخفش وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا كما هو رأى سيبويه أى شيئا من الصلاة فينبغى أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل أو يراد بالقصر معنى الحبس يقال قصرت الشىء إذا حبسته أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصور بعضا منها وهى الرباعيات أى فليس عليكم جناح فى أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها وقرىء تقصروا من الإقصار وتقصروا من التقصير والكل بمعنى وأدنى مدة السفر الذى يتعلق به القصر عند أبى حنيفة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الأقدام بالاقتصاد وعند الشافعى مسيرة يومين وظاهر الآية الكريمة التخيير وأفضلية الإتمام وبه تعلق الشافعى وبما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتم فى السفر وعن عائشة رضى الله عنها أنها أتمت تارة وقصرت أخرى وعن عثمان رضى الله عنه أنه كان يتم ويقصر وعندنا يجب القصر لا محالة خلا ان بعض مشايخا سماه عزيمة وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة ترفيه إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل وهو قول عمر وعلى وابن عباس وابن عمر وجابر رضوان الله عليهم وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وقد روى عن عمر رضى الله عنه صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أنس رضى الله عنه خرجنا مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن عمران بن حصين رضى الله عنه ما رأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى فى السفر إلا ركعتين وصلى بمكة ركعتين ثم قال أتموا فإنا قوم سفر وحين سمع بن مسعود أن عثمان رضى الله عنه صلى بمنى أربع ركعات استرجع ثم قال صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبى بكر رضى الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضى الله عنه بمنى ركعتين فليت حظى من أربع ركعات ركعتان متقبلتان وقد اعتذر عثمان رضى الله عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة وعن الزهرى أنه إنما أتم لأنه أزمع الإقامة بمكة وعن عائشة رضى الله عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت فى السفر وزيدت فى الحضر وفى صحيح البخارى أنها قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد فى صلاة الحضر وأما ما روى عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهى دارى وإنما ورد ذلك بنفى الجناح لما أنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا فى القصر فصرح بنفى الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا إليه كما فى قوله تعالى (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعى وقوله تعالى (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أى إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح الخ وهو شرط معتبر فى شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة وأما فى حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاوى فى شرح الآثار مسندا إلى يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه إنما قال الله فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد

٢٢٥

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢)

____________________________________

أمن الناس فقال عمر رضى الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وفيه دليل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد كما حقق فى موضعه ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه وناهيك بما سمعت من الأدلة الواضحة وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفى الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدة أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما فى قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بل نقول إن الآية الكريمة مجملة فى حق مقدار القصر وكيفيته وفى حق ما يتعلق به من الصلوات وفى مقدار مدة الضرب الذى نيط به القصر فكل ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصر فى حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب فى المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب وقد قيل إن قوله تعالى (إِنْ خِفْتُمْ) الخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله فإنه روى عن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه أنه قال نزل قوله تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد حول فنزل إن خفتم الخ أى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح الخ وقد قرىء من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام كأنه قيل شرع لكم ذلك كراهة أن يفتنكم الخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتدارهم على إيقاع الفتنة وقوله تعالى (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر أو لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال عداوتهم للمؤمنين من موجبات التعرض لهم بسوء وقوله تعالى (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) بيان لما قبله من النص المجمل الوارد فى مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة وتخصيص البيان بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنة لمزيد حاجتها إليه لما فيها من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية ومن ههنا ظهر لك أن مورد النص الشريف على المقصورة وحكم ما عداها مستفاد من حكمها والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التجريد وبظاهره يتعلق من لا يرى صلاة الخوف بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يخفى أن الأئمة بعده نوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) وقد روى أن سعيد بن العاص لما أراد

٢٢٦

أن يصلى بطبرستان صلاة الخوف قال من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام حذيفة بن اليمان رضى الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصف وكان ذلك بحضرة الصحابة رضى الله عنهم فلم ينكره أحد فحل محل الإجماع وروى فى السنن أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة بابل فصلى بهم صلاة الخوف (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أى أردت أن تقيم بهم الصلاة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم وإنما لم يصرح به لظهوره (وَلْيَأْخُذُوا) أى الطائفة القائمة معك (أَسْلِحَتَهُمْ) أى لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء (فَإِذا سَجَدُوا) أى القائمون معك وأتموا الركعة (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أى فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) بعد وهى الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة وإنما لم تعرف لما أنها لم تذكر فيما قبل (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) الركعة الباقية ولم يبين فى الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضى الله عنهم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما فى الآية الكريمة ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخيرة بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان (وَلْيَأْخُذُوا) أى هذه الطائفة (حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) لعل زيادة الأمر بالحذر فى هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شغل شاغل وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدو كما ينطق به قوله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) فإنه استئناف مسوق لتعليل الأمر المذكور والخطاب للفريقين بطريق الالتفات أى تمنوا أن ينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به فى الحرب لا مطلقا وهذا الأمر للوجوب لقوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) حيث رخص لهم فى وضعها إذا ثقل عليهم استصحابها بسبب مطر أو مرض وأمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط فقيل (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لئلا يهجم العدو عليكم غيلة روى الكلبى عن أبى صالح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا محاربا وبنى أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادى والسماء ترش فحال الوادى بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبصر به غورث بن الحرث المحاربى فقال قتلنى الله إن لم أقتلك ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل سيفه من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الآن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله عزوجل ثم قال اللهم اكفنى غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضر به فأكب لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذه ثم قال يا غورث من يمنعك منى الآن قال لا أحد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا

٢٢٧

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤)

____________________________________

فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفه فقال غورث والله لأنت خير منى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقص عليهم قصته فآمن بعضهم قال وسكن الوادى فقطع عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) تعليل للأمر بأخذ الحذر أعد لهم عذابا مهينا بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا فى مباشرة الأسباب كى يحل بهم عذابه بأيديكم وقيل لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لتوقع غلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أى صلاة الخوف أى أديتموها على الوجه المبين وفرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أى فداوموا على ذكر الله تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه فى جميع الأحوال حتى فى حال المسايفة والقتال كما فى قوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحرب أوزارها (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أى الصلاة التى دخل وقتها حينئذ أى أدوها بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها وقيل المراد بالذكر فى الأحوال الثلاثة الصلاة فيها أى فإذا أردتم أداء الصلاة فصلوا قياما عند المسايفة وقعودا جاثين على الركب عند المراماة وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح فإذا اطمأننتم فى الجملة فاقضوا ما صليتم فى تلك الأحوال التى هى أحوال القلق والانزعاج وهو رأى الشافعى رحمه‌الله وفيه من البعد ما لا يخفى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أى فرضا موقتا قال مجاهد وقته الله عليهم فلا بد من إقامتها فى حالة الخوف أيضا على الوجه المشروح وقيل مفروضا مقدرا فى الحضر أربع ركعات وفى السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى فى كل وقت حسبما قدر فيه (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أى لا تضعفوا ولا تتوانوا فى طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بالحراب وقوله تعالى (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) تعليل للنهى وتشجيع لهم أى ليس ما تقاسونه من الآلام مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم لا تصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب فى الآخرة ما لا يخطر ببالهم وقرىء أن تكونوا بفتح الهمزة أى لا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ) تعليل للنهى عن الوهن لأجله والآية نزلت فى بدر الصغرى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا فى العلم فيعلم أعمالكم وضمائركم (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى فجدوا فى الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة

٢٢٨

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨)

____________________________________

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) روى أن رجلا من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان فى جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودى فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودى فهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل فنزلت وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله وقيل نزل على رجل من بنى سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع الدخول ولا الخروج فأخذ ليقتل فقيل دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكة فالتحق بتجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقى فى البحر (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أى بما عرفك وأوحى به إليك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) أى لأجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته (خَصِيماً) مخاصما للبرآء أى لا تخاصم اليهود لأجلهم والنهى معطوف على أمر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما هممت به تعويلا على شهادتهم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) مبالغا فى المغفرة والرحمة لمن يستغفره (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أى يخونونها بالمعصية كقوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم والمراد بالموصول إما طعمة وأمثاله وإما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له فى الإثم والخيانة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) مفرطا فى الخيانة مصرا عليها (أَثِيماً) منهمكا فيه وتعليق عدم المحبة الذى هو كناية عن البغض والسخط بالمبالغ فى الخيانة والإثم ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراط طعمة وقومه فيهما (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) أى لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحق بأن يستحيا منه ويخاف من عقابه (وَهُوَ مَعَهُمْ) عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى

٢٢٩

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢)

الاستخفاء منه سوى ترك ما يستقبحه ويؤاخذ به (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون ويزورون (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من رمى البرىء والحلف الكاذب وشهادة الزور (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والخافية (مُحِيطاً) لا يعزب عنه شىء منها ولا يفوت (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) تلوين للخطاب وتوجيه له إليهم بطريق الالتفات إيذانا بأن تعديد جنايتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع والجملة مبتدأ وخبر وقوله تعالى (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادلة أشد المخاصمة والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله فى الدنيا (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيهم وعقابهم (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودى (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به كالحلف الكاذب وقيل السوء ما دون الشرك والظلم الشرك وقيل هما الصغيرة والكبيرة (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة الصادفة (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لذنوبه كائنة ما كانت (رَحِيماً) متفضلا عليه وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه فى التوبة والاستغفار لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة كما مر (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) من الآثام (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) حيث لا يتعدى ضرره ووباله إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذاب عاجلا وآجلا (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا فى العلم (حَكِيماً) مراعيا للحكمة فى كل ما قدر وقضى ولذلك لا يحمل وازرة وزر أخرى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب وقرىء ومن يكسب بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب (أَوْ إِثْماً) كبيرة أو ما كان عن عمد (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أى يقذف به ويسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجع لمكان أو وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرىء يرم بهما وقيل الضمير للكسب المدلول عليه بقوله تعالى (يَكْسِبْ) وثم للتراخى فى الرتبة (بَرِيئاً) أى مما رماه به ليحمله عقوبته العاجلة كما فعله طعمة بزيد (فَقَدِ احْتَمَلَ) أى بما فعل من تحميل جريرته على البرىء (بُهْتاناً) وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته وهو له وقيل هو الكذب الذى يتحير فى عظمه (وَإِثْماً مُبِيناً) أى بينا فاحشا وهو صفة لإثما وقد اكتفى فى بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمى

٢٣٠

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣)

____________________________________

كأنه قيل بهتانا لا يقادر قدره وإثما مبينا على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمى البرىء بجناية نفسه قد عبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمى به للرامى فإن رمى البرىء بجناية ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم فى نفسه أما كونه بهتانا فظاهر وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البرىء منه أيضا كذلك بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم فى جميع الأديان فهو فى نفسه بهتان وإثم لا محالة وبكون تلك الجناية للرامى يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمى البرىء وإلا لكان الرمى بغير جناية مثله فى العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمى بغير جناية مع تبرئة نفسه كذلك فى العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البرىء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمى البرىء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بإعلامك ما هم عليه بالوحى وتنبيهك على الحق وقيل بالنبوة والعصمة (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أى من بنى ظفر وهم الذابون عن طعمة وقد جوز أن يكون المراد بالطائفة كلهم ويكون الضمير راجعا إلى الناس وقيل هم وفد بنى ثقيف قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا فردهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ يُضِلُّوكَ) أى بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكنه الأمر والجملة جواب لو لا وإنما نفى همهم مع أن المنفى إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية وقيل المراد هو الهم المؤثر ولا ريب فى انتفائه حقيقة وقيل الجواب محذوف أى لأضلوك وقوله تعالى (لَهَمَّتْ) جملة مستأنفة أى لقد همت طائفة الخ (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لاقتصار وبال مكرهم عليهم من غير أن يصيبك منه شىء والجملة اعتراض وقوله تعالى (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) عطف عليه ومحل الجار والمجرور النصب على المصدرية أى وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أى القرآن الجامع بين العنوانين وقيل المراد بالحكمة السنة (وَعَلَّمَكَ) بالوحى من خفيات الأمور التى من جملتها وجوه إبطال كيد المنافقين أو من أمور الدين وأحكام الشرع (ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ذلك إلى وقت التعليم (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) إذ لا فضل أعظم من النبوة العامة والرياسة التامة.

٢٣١

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥)

____________________________________

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أى فى كثير من تناجى الناس (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) أى إلا فى نجوى من أمر (بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) وقيل المراد بالنجوى المتناجون بطريق المجاز وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرمانى وأياما كان فالاستثناء متصل ويجوز الانقطاع أيضا على معنى لكن من أمر بصدقة الخ ففى نجواه الخير والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم أصناف الجميل وفنون أعمال البر وقد فسر ههنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع على أن المراد بالصدقة الصدقة الواجبة (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) عند وقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوز فى ذلك حدود الشرع الشريف وبين إما متعلق بنفس إصلاح يقال أصلحت بين القوم أو بمحذوف هو صفة له أى كائن بين الناس عن أبى أيوب الأنصارى رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم فقال بلى يا رسول الله قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السر فى إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدى إلى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال وإليه الإشارة بقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف وأما دفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إشارة إلى الأمور المذكورة أعنى الصدقة والمعروف والإصلاح فإنه يشار به إلى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بها للإيذان ببعد منزلتها ورفعة شأنها وترتيب الوعد على فعلها إثر بيان خيرية الأمر بها لما أن المقصود الأصلى هو الترغيب فى الفعل وبيان خيرية الأمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدار حسن الأمر وقبحه حسن المأمور به وقبحه فحيث ثبت خيريه الأمر بالأمور المذكورة فخيرية فعلها أثبت وفيه تحريض للآمر بها على فعلها أو إشارة إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمر بها والكلام فى ترتيب الوعد على فعلها كالذى مر فى الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيم إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعه له أولى وأحق (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) علة للفعل والتقييد به لأن الأعمال بالنيات وأن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بنون العظمة على الالتفات وقرىء بالياء (أَجْراً عَظِيماً) يقصر عنه الوصف (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) التعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه من المشاقة والمخالفة وتعليل الحكم الآتى بذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نيوته (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أى غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم (نُوَلِّهِ

٢٣٢

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١١٨)

____________________________________

ما تَوَلَّى) أى نجعله واليا لما تولاه من الضلال ونخذله بأن نخلى بينه وبين ما اختاره (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أى ندخله إياها وقرىء بفتح النون من صلاه (وَساءَتْ مَصِيراً) أى جهنم وفيها دلالة على حجية الإجماع وحرمة مخالفته (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قد مر تفسيره فيما سبق وهو تكرير للتأكيد والتشديد أو لقصة طعمة وقد مر موته كافرا. وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنى شيخ منهمك فى الذنوب إلا أنى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصى جراءة على الله تعالى وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا وإنى لنادم تائب مستغفر فما ترى حالى عند الله تعالى فنزلت (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء فى هذه الشرطية فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثما عظيما حسبما يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أى ما يعبدون من دونه عزوجل (إِلَّا إِناثاً) يعنى اللات والعزى ومناة ونحوها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العرب حى إلا كان لهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان قيل لأنهم كانوا يقولون فى أصنامهم هن بنات الله وقيل لأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلى ويزينونها على هيآت النسوان وقيل المراد الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله وقيل تسميتها إناثا لتأنيث أسمائها أو لأنها فى الأصل جماد والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لانفعالها وإيرادها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقة عبدتها وتناهى جهلهم والإناث جمع أنثى كرباب وربى وقرىء على التوحيد وأنثا أيضا على أنه جمع أنيث كقليب وقلب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرىء وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلب الواو ألفا نحو أجوه فى وجوه (وَإِنْ يَدْعُونَ) وما يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) إذ هو الذى أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو الذى لا يعلق بخير وأصل التركيب للملاسة ومنه صرح ممرد وشجرة مرداء للتى تناثر ورقها (لَعَنَهُ اللهُ) صفة ثانية لشيطانا (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف على الجملة المتقدمة أى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا

٢٣٣

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١٢١)

____________________________________

يفعل فعلا اختياريا وذلك ينافى الألوهية غاية المنافاة ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة الأول أنه منهمك فى الغى لا يكاد يعلق بشىء من الخير والهدى فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق والثانى أنه ملعون لضلاله فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال والثالث أنه فى غاية السعى فى إهلاكهم وإضلالهم فموالاة من هذا شأنه غابة الضلال فضلا عن عبادته والمفروض المقطوع أى نصيبا قدر لى وفرض من قولهم فرض له فى العطاء (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأمانى الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أى فليقطعنها بموجب أمرى ويشقنها من غير تلعثم فى ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله بالبحائر والسوائب (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ) ممتثلين به (خَلْقَ اللهِ) عن نهجه صورة أو صفة وينتظم فيه ما قيل من فقء عين الحامى وخصاء العبيد والوشم والوشر ونحو ذلك وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء رخصوا فى البهائم لمكان الحاجة وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا وما فيها من اللامات كلها للقسم والمأمور به فى الموضعين محذوف ثقة بدلالة النظم عليه (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثار ما يدعوا إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) لأنه ضيع رأس ماله بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانه من النار (يَعِدُهُمْ) أى ما لا يكاد ينجزه (وَيُمَنِّيهِمْ) أى الأمانى الفارغة أو يفعل لهم الوعد والتمنية على طريقة فلان يعطى ويمنع والضميران لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فى يتخذ وخسر باعتبار لفظها (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بإلقاء الخواطر الفاسدة أو بألسنة أوليائه وغرورا إما مفعول ثان للوعد أو مفعول لأجله أو نعت لمصدر محذوف أى وعدا ذا غرور أو مصدر على غير لفظ المصدر لأن يعدهم فى قوة يغرهم بوعده والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها باب من الوعد (أُولئِكَ) إشارة إلى أولياء الشيطان وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الخسران وهو مبتدأ وقوله تعالى (مَأْواهُمْ) مبتدأ ثان وقوله تعالى (جَهَنَّمُ) خبر للثانى والجملة خبر للأول (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أى معدلا ومهربا من حاص الحمار إذا عدل وقيل خلص ونجا وقيل الحيص هو الروغان بنفور وعنها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا أى كائنا عنها ولا مساغ لتعلقه بمحيصا أما إذا كان اسم مكان فظاهر وأما إذا كان مصدرا فلأنه لا يعمل فيما قبله.

٢٣٤

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣)

____________________________________

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ خبره قوله تعالى (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قرن وعيد الكفرة بوعد المؤمنين زيادة لمسرة هؤلاء ومساءة أولئك (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أى وعده وعدا وحق ذلك حقا فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الاسمية وعدو الثانى مؤكد لغيره ويجوز أن ينتصب الموصول بمضمر يفسره ما بعده وينتصب (وَعْدَ اللهِ) بقوله تعالى (سَنُدْخِلُهُمْ) لأنه فى معنى نعدهم إدخال جنات الخ وحقا على أنه حال من المصدر (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) جملة مؤكدة بليغة والمقصود من الآية معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه والمبالغة فى تأكيده ترغيبا للعباد فى تحصيله والقيل مصدر كالقول والقال وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ونصبه على التمييز وقرىء بإشمام الصاد وكذا كل صاد ساكنة بعدها دال (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أى ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأمانى أهل الكتاب وإنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح ولعل نظم أمانى أهل الكتاب فى سلك أمانى المسلمين مع ظهور حالها للإيذان بعدم إجداء أمانى المسلمين أصلا كما فى قوله تعالى (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) كما سلف وعن الحسن ليس الإيمان بالتمنى ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل وقيل إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله تعالى منكم فقال المسلمون نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضى على الكتب المتقدمة فنزلت وقيل الخطاب للمشركين ويؤيده تقدم ذكرهم أى ليس الأمر بأمانى المشركين وهو قولهم لا جنة ولا نار وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا وقولهم لأوتين مالا وولدا ولا أمانى أهل الكتاب وهو قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ثم قرر ذلك بقوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا أو آجلا لما روى أنه لما نزلت قال أبو بكر رضى الله تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما تحزن أو تمرض أو يصيبك البلاء قال بلى يا رسول الله قال هو ذاك (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أى مجاوزا لموالاة الله ونصرته (وَلِيًّا) يواليه (وَلا نَصِيراً) ينصره فى دفع العذاب عنه.

٢٣٥

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥)

____________________________________

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أى بعضها أو شيئا منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فى موضع الحال من المستكن فى يعمل ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أى كائنة من ذكر الخ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال شرط اقتران العمل بها فى استدعاء الثواب المذكور تنبيها على أنه لا اعتداد به دونه (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالإيمان والعمل الصالح والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الإشعار بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته فى الشرف (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وقرىء يدخلون مبنيا للمفعول من الإدخال (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أى لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم فإن النقير علم فى القلة والحقارة وإذا لم ينقص ثواب المطيع فلأن لا يزاد عقاب العاصى أولى وأحرى كيف لا والمجازى أرحم الراحمين وهو السر فى الاقتصار على ذكره عقيب الثواب (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أى أخلص نفسه له تعالى لا يعرف له ربا سواه وقيل بذل وجهه له فى السجود وقيل أخلص عمله له عزوجل وقيل فوض أمره إليه تعالى وهذا إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أحسن دينا ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يرشدك إليه العرف المطرد والاستعمال الفاشى فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وعليه مساق قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) ونظائره ودينا نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ فالتفضيل فى الحقيقة جار بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيه على أن ذلك أقصى ما تنتهى إليه القوة البشرية (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أى آت بالحسنات تارك للسيئات أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذى هو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى وقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة حال من فاعل أسلم (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقه لدين الإسلام المتفق عل صحتها وقبولها (حَنِيفاً) مائلا عن الأديان الزائغة وهو حال من فاعل اتبع أو من إبراهيم (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) اصطفاه وخصه بكرامات تشبه كرامات الخليل عند خليله وإظهاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مواقع الإضمار لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر أو من الخل وهو الطريق فى الرمل فإنهما يتوافقان فى الطريقة أو من الخلة

٢٣٦

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧)

____________________________________

بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان فى الخصال وفائدة الاعتراض جمة من جملتها الترغيب فى اتباع ملته عليه‌السلام فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا حقيق بأن يكون اتباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم قيل إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر فى أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكنه يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة فرجع غلمانه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وألقوها فيه وتفرقوا وجاء أحدهم فأخبر إبراهيم بالقصة فاغتم لذلك غما شديدا لا سيما لاجتماع الناس ببابه رجاء الطعام فغلبه عيناه وعمدت سارة إلى الغرائر فإذا فيها أجود ما يكون من الحوارى فاختبزت وفى رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه‌السلام فاشتم رائحة الخبز فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المصرى فقال بل من عند خليلى الله عزوجل فسماه الله تعالى خليلا (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة مبتدأة سيقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرض ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج عن ملكوته شىء منها فيجازى كلا بموجب أعماله خيرا وشرا وقيل لبيان أن اتخاذه عزوجل لإبراهيم عليه‌السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك فى شأن من شئونه كما هو دأب الآدميين فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض فى مصالحهم بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه‌السلام وقيل لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية وقيل لبيان أن اصطفاءه عليه‌السلام للخلة بمحض مشيئته تعالى أى له تعالى ما فيهما جميعا يختار منهما ما يشاء لمن يشاء وقوله عزوجل (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) تذييل مقرر لمضمون ما قبله على الوجوه المذكورة فإن إحاطته تعالى علما وقدرة بجميع الأشياء التى من جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالهم مما يقرر ذلك أكمل تقرير (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أى فى حقهن على الإطلاق كما ينبىء عنه الأحكام الآتية لا فى حق ميراثهن خاصة فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سئل عن أحوال كثيرة مما يتعلق بهن فما بين حكمه فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد فى ذلك من الكتاب وما لم يبين حكمه بعد بين ههنا وذلك قوله تعالى (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) بإسناد الإفتاء الذى هو تبيين المبهم وتوضيح المشكل إليه تعالى وإلى ما تلى من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولك أغنانى زيد وعطاؤه بعطف ما على المبتدأ أو ضميره فى الخبر لمكان الفصل بالمفعول والجار

٢٣٧

والمجرور وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها وفى الكتاب إما متعلق بيتلى أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أى يتلى كائنا فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأ وفى الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو عليهم وأن العدل فى الحقوق المبينة فيه من عظائم الأمور التى تجب مراعاتها والمحافظة عليها فما يتلى حينئذ متناول لما تلى وما سيتلى ويجوز أن يكون مجرورا على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفيخيمه كأنه قيل قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم فى الكتاب فالمراد بقوله تعالى (يُفْتِيكُمْ) بيانه السابق واللاحق ولا مساغ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظا ومعنى وقوله تعالى (فِي يَتامَى النِّساءِ) على الوجه الأول وهو الأظهر متعلق بيتلى أى ما يتلى عليكم فى شأنهن وعلى الأخيرين بدل من فيهن وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشىء إلى جنسه وقرىء ييامى على قلب همزة أيامى ياء (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) أى ما فرض لهن من الميراث وغيره (وَتَرْغَبُونَ) عطف على الصلة عطف جملة مثبتة على جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ولا ريب فى أنه لا يظهر لتقييد عدم الإيتاء بذلك فائدة إلا إذا أريد بما كتب لهن صداقهن (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أى فى أن تنكحوهن لا لأجل التمتع بهن بل لأكل ما لهن أو فى أن تنكحوهن بغير إكمال الصداق وذلك ما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها من أنها اليتيمة تكون فى حجر وليها هو وليها فيرغب فى مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فى إكمال الصداق أو عن أن تنكحوهن وذلك ما روى عنها رضى الله عنها أنها يتيمة يرغب وليها عن نكاحها ولا ينكحها فيعظلها طعما فى ميراثها وفى رواية عنها رضى الله عنها هو الرجل يكون عنده يتيمة ووارثها وشريكها فى المال حتى فى العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه فى ماله بما شركته فيعضلها فالمراد بما كتب لهن على الوجه الأول والأخير ميراثهن وبما يتلى فى حقهن قوله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوها) ونحوهما من النصوص الدالة على عدم التعرض لأموالهم وعلى الوجه الثانى صداقهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الآية (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على يتامى النساء وما يتلى فى حقهم قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ) الخ وقد كانوا فى الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال القوام بالأمور. روى أن عيينة بن حصن الفزارى جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أخبرنا بأنك تعطى الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك أمرت (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) بالجر عطف على ما قبله وما يتلى فى حقهم قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقدير كون فى يتامى النساء متعلقا بيتلى وأما على تقدير كونه بدلا من فيهن فالوجه نصبه عطفا على موضع فيهن أى يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبه بإضمار فعل أى ويأمركم وهو خطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء (وَما تَفْعَلُوا) فى حقوق المذكورين (مِنْ خَيْرٍ) حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق فيندرج فيه ما يتعلق بهم اندارجا أوليا (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) فيجازيكم بحسبه.

٢٣٨

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨)

____________________________________

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) شروع فى بيان ما لم يبين فيما سلف من الأحكام أى إن توقعت امرأة (مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أى تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها (أَوْ إِعْراضاً) بأن يقل محادثتها ومؤانستها لما يقتضى ذلك من الدواعى والأسباب (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) حينئذ (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أى فى أن يصلحا بينهما بأن تحط له المهر أو بعضه أو القسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوهبت يومها لعائشة رضى الله عنها أو بأن تهب له شيئا تستميله وقرىء يصالحا من يتصالحا ويصلحا من يصطلحا ويصالحا من المفاعلة وصلحا إما منصوب بالفعل المذكور على كل تقدير على أنه مصدر منه بحذف الزوائد وقد يعبر عنه باسم المصدر كأنه قيل إصلاحا أو تصلحا أو إصطلاحا حسبما قرىء الفعل أو بفعل مترتب على المذكور أى فيصلح حالهما صلحا وبينهما ظرف للفعل أو حال من صلحا والتعرض لنفى الجناح عنهما مع أنه ليس من جانبها الأخذ الذى هو المظنة للجناح لبيان أن هذا الصلح ليس من قبيل الرشوة المحرمة للمعطى والآخذ (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أى من الفرقة أو من سوء العشرة أو من الخصومة فاللام للعهد أو هو خير من الخيور فاللام للجنس والجملة اعتراض مقرر لما قبله وكذا قوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أى جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبدا فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يجود بحسن المعاشرة مع دمامتها فإن فيه تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل منهما عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعى التمادى فى المماكسة والشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشىء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح (وَإِنْ تُحْسِنُوا) فى العشرة (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك مراعاة لحقوق الصحبة ولم تضطروهن إلى بذل شىء من حقوقهن (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) أى من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعا فيدخل ذلك فيه دخولا أوليا (خَبِيراً) فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتة لاستحالة أن يضيع أجر المحسنين وفى خطاب الأزواج بطريق الالتفات والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه وترتيب الوعد الكريم عليه من لطف الاستمالة والترغيب فى حسن المعاملة ما لا يخفى روى أنها نزلت فى عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهى شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكت إليه ذلك وقيل نزلت فى أبى السائب كانت له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقنى ودعنى على أولادى فاقسم لى من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لى فقال إن كان

٢٣٩

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١)

____________________________________

يصلح ذلك فهو أحب إلى فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك فنزلت (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أى محال أن تقدروا على أن تعدلوا بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن فى شأن من الشئون البتة وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذنى فيما تملك ولا أملك وفى رواية وأنت أعلم بما لا أملك يعنى فرط محبته لعائشة رضى الله عنها (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أى على إقامة العدل وبالغتم فى ذلك (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أى فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل إنما يصحح عدم تكليفكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلة تحت استطاعتكم (فَتَذَرُوها) أى التى ملتم عنها (كَالْمُعَلَّقَةِ) التى ليست ذات بعل أو مطلقة وقرىء كالمسجونة وفى الحديث من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما كنتم تفسدون من أمورهن (وَتَتَّقُوا) الميل فيما يستقبل (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر لكم ما فرط منكم من الميل (رَحِيماً) يتفضل عليكم برحمته (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) وقرىء يتفارقا أى وإن يفارق كل منهما صاحبه بأن لم يتفق بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما أى يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه مهماته (مِنْ سَعَتِهِ) من غناه وقدرته وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) مقتدرا متقنا فى أفعاله وأحكامه وقوله تعالى (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى من الموجودات كائنا ما كان من الخلاتق وأرزاقهم وغير ذلك جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أى أمرناهم فى كتابهم وهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم واللام فى الكتاب للجنس ومن متعلقة بوصينا أو بأوتوا (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الموصول (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أى وصينا كلا منكم ومنهم بأن اتقوا الله على أن أن مصدرية حذف عنها الجار ويجوز أن تكون مفسرة لأن التوصية فى معنى القول فقوله تعالى (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) حينئذ من تتمة القول المحكى أى ولقد قلنا لهم ولكم (اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا) إلى آخر الآية وعلى تقدير كون أن مصدرية مبنى الكلام إرادة القول أى أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم (إِنْ تَكْفُرُوا) الآية وقيل هى جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وأيماما كان فالمترتب على كفرهم ليس مضمون قوله تعالى (فَإِنَّ لِلَّهِ) الآية بل هو الأمر بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلموا أن لله ما فى السموات وما فى الأرض

٢٤٠