تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

أحواله عليه‌السلام إثر ما أشير إلى طرف منها بطريق النقل عن الملائكة والفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملائكة وخروجه من القوة إلى الفعل حسبما شرحته كما فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) بعد قوله تعالى (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) كأنه قيل فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت وإنما لم يذكر اكتفاء بحكاية الملائكة وإيذانا بعدم الخلف وثقة بما فصل فى المواضع الأخر وأما عدم نظم بقية أحواله عليه الصلاة والسلام فى سلك النقل فإما للاعتناء بأمرها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر مقاساته عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناته للمكايد والمراد بالإحساس الإدراك القوى الجارى مجرى المشاهدة وبالكفر إصرارهم عليه وعتوهم ومكابرتهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة والسلام كما ينبئ عنه الإحساس فإنه إنما يستعمل فى أمثال هذه المواقع عند كون متعلقه أمرا محذورا مكروها كما فى قوله عزوجل (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) وكلمة من متعلقة بأحس والضمير المجرور لبنى إسرائيل أى ابتدأ الإحساس من جهتهم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقة بمحذوف وقع حالا من الكفر (قالَ) أى لخلص أصحابه لا لجميع بنى إسرائيل لقوله تعالى (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) الآية وقوله تعالى (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) ليس بنص فى توجيه الخطاب إلى الكل بل يكفى فيه بلوغ الدعوة إليهم (مَنْ أَنْصارِي) الأنصار جمع نصير كأشراف جمع شريف (إِلَى اللهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء أى من أنصارى متوجها إلى الله ملتجئا إليه أو بأنصارى متضمنا معنى الإضافة كأنه قيل من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله عزوجل ينصرونى كما ينصرنى وقيل إلى بمعنى فى أى فى سبيل الله وقيل بمعنى اللام وقيل بمعنى مع (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قالوا فى جوابه عليه الصلاة والسلام فقيل قال (الْحَوارِيُّونَ) جمع حوارى يقال فلان حوارى فلان أى صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن ونقائهن سمى به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وقيل لما عليهم من آثار العبادة وأنوارها وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعة لا يزال يأكل منها ولا تنقص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له من أنت قال عيسى ابن مريم فترك ملكه وتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون وقيل كانوا صيادين يصطادون السمك يلبسون الثياب البيض فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتمونى صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية قالوا من أنت قال عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها فى الماء مرة أخرى ففعل فاجتمع فى الشبكة من السمك ما كادت تتمزق واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه‌السلام وقيل كانوا اثنى عشر رجلا آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا

٤١

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤)

____________________________________

عطشنا فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا قال عليه الصلاة والسلام أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة فسموا حواريين وقيل إن أمه سلمته إلى صباغ فأراد الصباغ يوما أن يشتغل ببعض مهماته فقال له عليه الصلاة والسلام ههنا ثياب مختلفة قد جعلت لكل واحد منها علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان فغاب فجعل عليه الصلاة والسلام كلها فى جب واحد وقال كونى بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فسأله فأخبره بما صنع فقال أفسدت على الثياب قال قم فانظر فجعل يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر إلى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسبما كان يريد فتعجب منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثنى عشر من الملوك وبعضهم من صيادى السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانه والمخلصين فى طاعته ومحبته (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أى أنصار دينه ورسوله (آمَنَّا بِاللهِ) استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) مخلصون فى الإيمان منقادون لما تريد منا من نصرتك طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم يشهد الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم وعليهم إيذانا بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) تضرع إلى الله عزوجل وعرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة فى إظهار أمرهم (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أى فى كل ما يأتى ويذر من أمور الدين فيدخل فيه الاتباع فى النصرة دخولا أوليا (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أى مع الذين يشهدون بوحدنيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا (وَمَكَرُوا) أى الذين علم عيسى عليه الصلاة والسلام كفرهم من اليهود بأن وكلوا به من يقتله غيلة (وَمَكَرَ اللهُ) بأن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل والمكر من حيث إنه فى الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يمكن إسناده إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن ملك بنى إسرائيل لما قصد قتله عليه الصلاة والسلام أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فاقتله فدخل البيت فألقى الله عزوجل شبهه عليه فخرج يخبرهم أنه ليس فى البيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع الحواريين ليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بى أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعنى بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فنافق أحدهم فقال لهم ما تجعلون لى إن دللتكم على المسيح فجعلوا

٤٢

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥)

____________________________________

له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عزوجل عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافق وهو يقول أنا دليلكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم قتال عظيم وقيل لما صلب المصلوب جاءت مريم ومعها امرأة أبرأهما الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال علام تبكيان فقالتا عليك فقال إن الله تعالى رفعنى ولم يصبنى إلا خير وإن هذا شىء شبه لهم قال محمد بن إسحق إن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلا من بنى إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل وفعل فقال لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بنى إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية فى الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له ططيوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك فى مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز قال أهل التواريخ حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهى بنت ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أورشليم لمضى خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب وإظهار الجلالة فى موقع الإضمار لتربية المهابة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله (إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لمكر الله أو لمضمر نحو وقع ذلك (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أى مستوفى أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما لك من قتلهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالى أو متوفيك نائما إذ روى أنه رفع وهو نائم وقيل مميتك فى وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن أو مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت وقيل أماته الله تعالى سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى. قال القرطبى والصحيح أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبرى وهو الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما وأصل القصة أن اليهود لما عزموا على قتله عليه الصلاة والسلام اجتمع الحواريون وهم اثنا عشر رجلا فى غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جميع اليهود فركب

٤٣

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٥٦)

____________________________________

منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معى فى الجنة فقال واحد منهم أنا يا نبى الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازة وألقى عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فكساه الله الريش والنور وألبسه النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب وذلك قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية وقالت فرقة أخرى كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهم النسطورية وقالت فرقة أخرى منهم كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرتعليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أى إلى محل كرامتى ومقر ملائكتى (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) قال قتادة والربيع والشعبى ومقاتل والكلبى هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من النصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم الذين مكروا به عليه الصلاة والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهل الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة وقيل هم الحواريون فينبغى أن تحمل فوقيتهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحاد فى الإسلام والتوحيد وقيل هم الروم وقيل هم النصارى فالمراد بالاتباع مجرد الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرة بمعزل من اتباعه عليه الصلاة والسلام (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية للجعل أو للاستقرار المقدر فى الظرف لا على معنى أن الجعل أو الفوقية تنتهى حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أى رجوعكم بالبعث وثم للتراخى وتقديم الجار والمجرور للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيره من المتبعين له والكافرين به على تغليب المخاطب على الغائب فى ضمن الالتفات فإنه أبلغ فى التبشير والإنذار (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يومئذ إثر رجوعكم إلى (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين وفيه متعلق بتختلفون وتقديمه عليه لرعاية الفواصل (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تفسير للحكم الواقع بين الفريقين وتفصيل لكيفيته والبداية ببيان حال الكفرة لما أن مساق الكلام لتهديدهم وزجرهم عما هم عليه من الكفر والعناد وقوله تعالى (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) متعلق بأعذبهم لا بمعنى إيقاع كل واحد من التعذيب فى الدنيا والتعذيب فى الآخرة وإحداثهما يوم القيامة بل بمعنى إتمام مجموعهما يومئذ وقيل إن المرجع أعم من الدنيوى والأخروى وقوله تعالى (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية للفوقية لا للجعل والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود لا عن الفوقية المحدودة على نهج قولك سأعيرك سكنى هذا البيت شهرا ثم أخلع عليك خلعة فيلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا عن الشهر (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونهم من عذاب الله تعالى فى الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع أى

٤٤

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٦٠)

____________________________________

ليس لواحد منهم ناصر واحد. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بما أرسلت به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كما هو ديدن المؤمنين (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أى يعطيهم إياها كاملة ولعل الالتفات إلى الغيبة للإيذان بما بين مصدرى التعذيب والإثابة من الاختلاف من حيث الجلال والجمال وقرىء فنوفيهم جريا على سنن العظمة والكبرياء (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أى يبغضهم فإن هذه الكناية فاشية فى جميع اللغات جارية مجرى الحقيقة وإيراد الظلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدون متجاوزون عن الحدود واضعون للكفر مكان الشكر والإيمان والجملة تذييل لما قبله مقرر لمضمونه (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته فى الشرف وعلى كونه فى ظهور الأمر ونباهة الشأن بمنزلة المشاهد المعاين وهو مبتدأ وقوله عزوجل (نَتْلُوهُ) خبره وقوله تعالى (عَلَيْكَ) متعلق بنتلوه وقوله تعالى (مِنَ الْآياتِ) حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الإشارة أو ذلك خبر لمبتدأ مضمر أى الأمر ذلك ونتلوه حال كما مر وصيغة الاستقبال إما لاستحضار الصورة أو على معناها إذ التلاوة لم تتم بعد (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أى المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع من تطرق الخلل إليه والمراد به القرآن فمن تبعيضية أو بعض مخصوص منه فمن بيانية وقيل هو اللوح المحفوظ فمن ابتدائية (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) أى شأنه البديع المنتظم لغرابته فى سلك الأمثال (عِنْدَ اللهِ) أى فى تقديره وحكمه (كَمَثَلِ آدَمَ) أى كحاله العجيبة التى لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) تفسير لما أبهم فى المثل وتفصيل لما أجمل فيه وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وحسم لمادة شبه الخصوم فإن إنكار خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه الصلاة والسلام بغير أب وأم مما لا يكاد يصح والمعنى خلق قالبه من تراب (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أى أنشأه بشرا كما فى قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه ويجوز كون ثم لتراخى الإخبار لا لتراخى المخبر به (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضيه روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك تشتم صاحبنا قال وما أقول قالوا تقول إنه عبد قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب فحيث سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله فقال عليه الصلاة والسلام إن آدم عليه الصلاة والسلام ما كان له أب ولا أم ولم يلزم من ذلك كونه ابنا لله سبحانه وتعالى فكذا حال عيسى عليه الصلاة والسلام (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف أى هو الحق أى ما قصصنا عليك من نبأ عيسى من عليه الصلاة والسلام

٤٥

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١)

____________________________________

وأمه والظرف إما حال أى كائنا من ربك أو خبر ثان أى كائن منه تعالى وقيل هما مبتدأ وخبر أى الحق المذكور من الله تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذان بأن تنزيل هذه الآيات الحقة الناطقة بكنه الأمر تربية له عليه الصلاة والسلام ولطف به (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) فى ذلك والخطاب إما للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة الإلهاب والتهييج لزيادة التثبيت والإشعار بأن الامتراء فى المحذورية بحيث ينبغى أن ينهى عنه من لا يكاد يمكن صدوره عنه فكيف بمن هو بصدد الامتراء وإما لكل من له صلاحية الخطاب (فَمَنْ حَاجَّكَ) أى من النصارى إذ هم المتصدون للمحاجة (فِيهِ) أى فى شأن عيسى عليه‌السلام وأمه زعما منهم أنه ليس على الشأن المحكى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى ما يوجبه إيجابا قطعيا من الآيات البينات وسمعوا ذلك منك فلم يرعو واعماهم عليه من الغى والضلال (فَقُلْ) لهم (تَعالَوْا) أى هلموا بالرأى والعزيمة (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) اكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم أعز منهن وأما النساء فتعلقهن من جهة أخرى (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أى ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحملهم عليها وتقديمهم على النفس فى أثناء المباهلة التى هى من باب المهالك ومظان التلف مع أن الرجل يخاطر لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنه عليه الصلاة والسلام وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه بأنه لن يصيبهم فى ذلك شائبة مكروه أصلا وهو السر فى تقديم جانبه عليه‌السلام على جانب المخاطبين فى كل من المقدم والمؤخر مع رعاية الأصل فى الصيغة فإن غير المتكلم تبع (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أى نتباهل بأن نلعن الكاذب منا والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصلها الترك له فى الإسناد من قولهم بهلت الناقة أى تركتها بلا صرار (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) عطف على نبتهل مبين لمعناه روى أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذار أيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى خلفها رضى الله عنهم أجمعين وهو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إنى لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا قال عليه الصلاة والسلام فإنى أنا جزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدى إليك كل عام ألفى حلة

٤٦

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

____________________________________

ألفا فى صفر وألفا فى رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذى نفسى بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادى نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رءوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا (إِنَّ هذا) أى ما قص من نبأ عيسى وأمه عليهما‌السلام (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) دون ما عداه من أكاذيب النصارى فهو ضمير الفصل دخلته اللام لكونه أقرب إلى المبتدأ من الخبر وأصلها أن تدخل المبتدأ وقرىء لهو بسكون الهاء والقصص خبر إن والحق صفته أو هو مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر لإن (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) صرح فيه بمن الاستغراقية تأكيد للرد على النصارى فى تثليثهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر على جميع المقدورات (الْحَكِيمُ) المحيط بالمعلومات لا أحد يشاركه فى القدرة والحكمة ليشاركه فى الألوهية (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد وقبول الحق الذى قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج النيرة والبراهين الساطعة (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أى بهم وإنما وضع موضعه ما وضع للإيذان بأن الإعراض عن التوحيد والحق الذى لا محيد عنه بعد ما قامت به الحجج إفساد للعالم وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أمر بخطاب أهل الكتابين وقيل بخطاب وفد نجران وقيل بخطاب يهود المدينة (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لا يختلف فيها الرسل والكتب وهى (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أى نوحده بالعبادة ونخلص فيها (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) ولا نجعل غيره شريكا له فى استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) بأن نقول عزير ابن الله والمسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روى أنه لما نزلت اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال عليه‌السلام أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال عليه‌السلام هو ذاك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما دعوتهم إليه من التوحيد وترك الإشراك (فَقُولُوا) أى قل لهم أنت والمؤمنون (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أى لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم‌السلام ـ تنبيه ـ انظر إلى ما روعى فى هذه القصة من المبالغة فى الإرشاد وحسن التدرج فى المحاجة حيث بين أولا أحوال عيسى عليه‌السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافية للإلهية ثم ذكر كيفية دعوته للناس إلى التوحيد والإسلام فلما ظهر عنادهم دعوا إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد دعوا إلى ما اتفق

٤٧

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦٩)

____________________________________

عليه عيسى عليه‌السلام والإنجيل وسائر الأنبياء عليهم‌السلام والكتب ثم لما ظهر عدم إجدائه أيضا أمر بأن يقال لهم اشهدوا بأنا مسلمون (يا أَهْلَ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أى فى ملته وشريعته. تنازعت اليهود والنصارى فى إبراهيم عليه‌السلام وزعم كل منهم أنه عليه‌السلام منهم وترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه‌السلام كان منكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى عليه الصلاة والسلام (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى عليه الصلاة والسلام (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) حيث كان بينه وبين موسى عليهما‌السلام ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما‌السلام ألفا سنة فكيف يمكن أن يتفوه به عاقل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستأنفة إشعارا بكمال غفلتهم أى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى حيث (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فى الجملة حيث وجدتموه فى التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أصل إذ لا ذكر لدين إبراهيم فى أحد الكتابين قطعا وقيل هؤلاء بمعنى الذى وحاججتم صلته وقيل هأنتم أصله أأنتم على على الاستفهام للتعجب قلبت الهمزة هاء (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما حاججتم فيه أو كل شىء فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أى محل النزاع أو شيئا من الأشياء التى من جملتها ذلك (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) تصريح بما نطق به البرهان المقرر (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) أى مائلا عن العقائد الزائغة كلها (مُسْلِماً) أى منقادا لله تعالى وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام وإلا لاشترك الإلزام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأنهم مشركون بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله ورد لا دعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) أى أقربهم إليه وأخصهم به (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أى فى زمانه (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لموافقتهم له فى أكثر ما شرع لهم على الأصالة وقرىء والنبى بالنصب عطفا على الضمير فى اتبعوه وبالجر عطفا على إبراهيم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم وتخصيص المؤمنين بالذكر ليثبت الحكم فى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلالة النص (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ

٤٨

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٧٣)

____________________________________

أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) نزلت فى اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعادا إلى اليهودية ولو بمعنى أن (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) جملة حالية جىء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم أى وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنه يضاعف به عذابهم وقيل وما يضلون إلا أمثالهم ويأباه قوله تعالى (وَما يَشْعُرُونَ) أى باختصاص وباله وضرره بهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أى بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أى والحال أنكم تشهدون أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته فى الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) بتحريفكم وإبراز الباطل فى صورته أو بالتقصير فى التمييز بينهما وقرىء تلبسون بالتشديد وتلبسون بفتح الباء أى تلبسون الحق مع الباطل كما فى قوله عليه‌السلام كلابس ثوبى زور (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أى نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى حقيته (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم رؤساؤهم ومفسدوهم لأعقابهم (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أى أظهروا الإيمان بالقرآن المنزل عليهم (وَجْهَ النَّهارِ) أى أوله (وَاكْفُرُوا) أى اظهروا ما أنتم عليه من الكفر به (آخِرَهُ) مرائين لهم إنكم آمنتم به بادىء الرأى من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الأول فرجعتم عنه (لَعَلَّهُمْ) أى المؤمنين (يَرْجِعُونَ) عماهم عليه من الإيمان به كما رجعتم والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون وقيل هم اثنا عشر رجلا من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا فى الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا فى كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا بالنعت الذى ورد فى التوراة لعل أصحابه يشكون فيه (وَلا تُؤْمِنُوا) أى لا تقروا بتصديق قلبى (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أى لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم من قبل فإن رجوعهم أرجى وأهم (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) يهدى به من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) متعلق بمحذوف أى

٤٩

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥)

____________________________________

دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو بلا تؤمنوا أى ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراض مفيد لكون كيدهم غير مجد لطائل أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى وقرىء أأن يؤتى على الاستفهام التقريعى وهو مؤيد للوجه الأول أى ألأن يؤتى أحد الخ دبرتم وقرىء أن على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على أن يؤتى على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربكم فيد حضوا حجتكم والواو ضمير أحد لأنه فى معنى الجع إذ المراد به غير أتباعهم (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) رد لهم وإبطال لما زعموه بالحجة الباهرة (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) أى يجعل رحمته مقصورة على (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) كلاهما تذييل لما قبله مقرر لمضمونه (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) شروع فى بيان خيانتهم فى المال بعد بيان خيانتهم فى الدين والجار والمجرور فى محل الرفع على الابتداء حسبما مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) الخ خبره قوله تعالى (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) على أن المقصود بيان اتصافهم بمضمون الجملة الشرطية لا كونهم ذوات المذكورين كأنه قيل بعض أهل الكتاب بحيث إن تأمنه بقنطار أى بمال كثير يؤده إليك كعبد الله بن سلام استودعه قرشى ألفا ومائتى أوقية ذهبا فأداه إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشى آخر دينارا فجحده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة والخائنون فى القليل اليهود إذ الغالب فيهم الخيانة (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات أى لا يؤده إليك فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا فى حال دوام قيامك أو فى وقت دوام قيامك على رأسه مبالغا فى مطالبته بالتقاضى وإقامة البينة (ذلِكَ) إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى (لا يُؤَدِّهِ) وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال غلوهم فى الشر والفساد (بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) أى فى شأن من ليس من أهل الكتاب (سَبِيلٌ) أى عتاب ومؤاخذة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعائهم ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل فى التوراة فى حقهم حرمة وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك فى كتابهم وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند نزولها كذب أعداء الله

٥٠

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨)

____________________________________

ما من شىء فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمى إلا الأمانة فإنها مؤادة إلى البر والفاجر (بَلى) إثبات لما نفوه أى بلى عليهم فيهم سبيل وقوله تعالى (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) استئناف مقرر للجملة التى سد بلى مسدها والضمير المجرور لمن أو لله تعالى وعموم المتقين نائب مناب الراجع من الجزاء إلى من ومشعر بأن التقوى ملاك الأمر عام للوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن الماهى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) أى يستبدلون ويأخذون (بِعَهْدِ اللهِ) أى بدل ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوفاء بالأمانات (وَأَيْمانِهِمْ) وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه (ثَمَناً قَلِيلاً) هو حطام الدنيا (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات القبيحة (لا خَلاقَ) لا نصيب (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) من نعيمها (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أى بما يسرهم أو بشىء أصلا وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخ والتقريع فى أثناء الحساب من الملائكة عليهم‌السلام أولا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته والظاهر أنه كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإنه مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم متفرع على الكناية فى حق من يجوز عليه النظر لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرد المعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ويوم القيامة متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أى لا يثنى عليهم أو لا يطهرهم من أوضار الأوزار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ما فعلوه من المعاصى قيل إنها نزلت فى أبى رافع ولبابة بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذوا الرشوة على ذلك وقيل نزلت فى فى الأشعت بن قيس حيث كان بينه وبين رجل نزاع فى بئر فاختصما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له شاهداك أو يمينه فقال الأشعث إذن يحلف ولا يبالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان وقيل فى رجل أقام سلعة فى السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أى من اليهود المحرفين (لَفَرِيقاً) ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أى يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف أو يعطفونها بشبه الكتاب وقرىء يلوون بالتشديد ويلون بقلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها

٥١

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩)

____________________________________

من الساكن (لِتَحْسَبُوهُ) أى المحرف المدلول عليه بقوله تعالى (يَلْوُونَ) الخ وقرىء بالياء والضمير للمسلمين (مِنَ الْكِتابِ) أى من جملته وقوله تعالى (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) حال من الضمير المنصوب أى والحال أنه ليس منه فى نفس الأمر وفى اعتقادهم أيضا (وَيَقُولُونَ) مع ما ذكر من اللى والتحريف على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض (هُوَ) أى المحرف (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى منزل من عند الله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) حال من ضمير المبتدأ فى الخبر أى والحال أنه ليس من عنده تعالى فى اعتقادهم أيضا وفيه من المبالغة فى تشنيعهم وتقبيح أمرهم وكمال جراءتهم ما لا يخفى وإظهار الاسم الجليل والكتاب فى محل الاضمار لتهويل ما أقدموا عليه من القول (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون ومفترون على الله تعالى وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمد فيه وعن ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذى عندهم (ما كانَ لِبَشَرٍ) بيان لافترائهم على الأنبياء عليهم‌السلام حيث قال نصارى نجران إن عيسى عليه‌السلام أمرنا أن نتخذه ربا حاشاه عليه‌السلام وإبطال له إثر بيان افترائهم على الله سبحانه وإبطاله أى ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل لبشر إشعارا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذى أسنده الكفرة إليهم (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهى عن الإشراك (وَالْحُكْمَ) الفهم والعلم أو الحكمة وهى السنة والنبوة (ثُمَّ يَقُولَ) ذلك البشر بعد ما شرفه الله عزوجل بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق وأطلعه على شئونه العالية (لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) الجار متعلق بمحذوف هو صفة عبادا أى عبادا كائنين (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل أو صفة ثانية له ويحتمل الحالية لتخصيص النكرة بالوصف أى متجاوزين الله تعالى سواء كان ذلك استقلالا أو اشتراكا فإن التجاوز متحقق فيهما حتما قيل إن أبا رافع القرظى والسيد النجرانى قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال عليه‌السلام معاذ الله أن يعبد غير الله تعالى وأن نأمر بعبادة غيره تعالى فما بذلك بعثنى ولا بذلك أمرنى فنزلت وقيل قال رجل من المسلمين يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال عليه‌السلام لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله تعالى ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله (وَلكِنْ كُونُوا) أى ولكن يقول كونوا (رَبَّانِيِّينَ) الربانى منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحيانى والرقبانى وهو الكامل فى العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة الله عزوجل ودينه (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أى بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته أى قراءته فإن جعل خبر كان مضارعا لإفادة الاستمرار التجددى وتكرير بما كنتم للإيذان باستقلال كل من استمرار التعليم واستمرار

٥٢

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١)

____________________________________

القراءة بالفضل وتحصيل الربانية وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم والثانى لمن دونهم وقرىء تعلمون بمعنى عالمين وتدرسون من التدريس وتدرسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرم ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير بما تدرسونه على الناس (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) بالنصب عطفا على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله تعالى (ما كانَ لِبَشَرٍ) أى ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا وتوسيط الاستدراك بين المعطوفين للمسارعة إلى تحقيق الحق ببيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه إثر تنزيهه عما لا يليق بشأنه ويمتنع صدوره عنه وأما ما قيل من أنها غير مزيدة على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضى بفساده ما ذكر من توسيط الاستدراك بين الجملتين المتعاطفتين ضرورة أنهما حينئذ فى حكم جملة واحدة وكذا قوله تعالى (أَيَأْمُرُكُمْ) (بِالْكُفْرِ) فإنه صريح فى أن المراد بيان انتفاء كلا الأمرين قصدا لا بيان انتفاء الأول لانتفاء الثانى ويعضده قراءة الرفع على الاستئناف وتجويز الحالية بتقدير المبتدأ أى وهو لا يأمركم إلى آخره بين الفساد لما عرفته آنفا وقوله تعالى (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يدل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه‌السلام(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) منصوب بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى اذكر وقت أخذه تعالى ميثاقهم (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) قيل هو على ظاهره وإذا كان هذا حكم الأنبياء عليهم‌السلام كان الأمم بذلك أولى وأحرى وقيل معناه أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكرهم وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذى وثقه الأنبياء على أممهم وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا واللام فى لما موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرىء لما بالكسر على أن ما مصدرية أى لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب ثم لمجىء رسول مصدق أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه أو موصولة والمعنى أخذه للذى آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له وقرىء لما بمعنى حين آتيتكم أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالا (قالَ) أى الله تعالى بعد ما أخذ الميثاق (أَأَقْرَرْتُمْ) بما ذكر (وَأَخَذْتُمْ

٥٣

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤)

____________________________________

عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أى عهدى سمى به لأنه يؤصر أى يشد وقرىء بضم الهمزة إمالغة كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به (قالُوا) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (أَقْرَرْنا) وإنما لم يذكر أخذهم الإصر اكتفاء بذلك (قالَ) تعالى (فَاشْهَدُوا) أى فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وقيل الخطاب فيه للملائكة (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أى وأنا أيضا على إقراركم ذلك وتشاهدكم شاهد وإدخال مع على المخاطبين لما أنهم المباشرون للشهادة حقيقة وفيه من التأكيد والتحذير ما لا يخفى (فَمَنْ تَوَلَّى) أى أعرض عما ذكر (بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة فمعنى البعد فى اسم الإشارة لتفخيم الميثاق (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد فى تولى باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم فى السوء وبعد منزلتهم فى الشر والفساد أى فأولئك المتولون المتصفون بالصفات القبيحة (هُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون الخارجون عن الطاعة من الكفرة فإن الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزا عن الحد (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) عطف على مقدر أى أيتولون فيبغون غير دين الله وتقديم المفعول لأنه المقصود إنكاره أو على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار وقرىء بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حالية مفيدة لو كادة الإنكار (طَوْعاً وَكَرْهاً) أى طائعين بالنظر واتباع الحجة وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون على الامتناع عما قضى عليهم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أى من فيهما والجمع باعتبار المعنى وقرىء بتاء الخطاب والجملة إما معطوفة على ما قبلها منصوبة على الحالية وإما مستأنفة سيقت للتهديد والوعيد (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخبر عن نفسه ومن معه من المؤمنين بالإيمان بما ذكر وجمع الضمير فى قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن لما أنه منزل عليهم أيضا بتوسط تبليغه إليهم أو لأن المنسوب إلى واحد من الجماعة قد ينسب إلى الكل أو عن نفسه فقط وهو الأنسب بما بعده والجمع لإظهار جلالة قدره عليه‌السلام ورفعة محله بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك ويجوز أن يكون الأمر عاما والإفراد لتشريفه عليه‌السلام والإيذان بأنه عليه‌السلام أصل فى ذلك كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) من الصحف والنزول كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من

٥٤

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦)

____________________________________

فوق ومن رام الفرق بأن على لكون الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يرى إلى قوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الخ وقوله (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الخ وإنما قدم المنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أنزل على سائر الرسل عليهم‌السلام مع تقدمه عليه نزولا لأنه المعرف له والعيار عليه والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه‌السلام وأبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم عليه‌السلام (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى (وَالنَّبِيُّونَ) عطف على موسى وعيسى عليهما‌السلام أى وما أوتى النبيون من المذكورين وغيرهم (مِنْ رَبِّهِمْ) من الكتب والمعجزات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة نبوة كل منهم وبحقية ما أنزل إليهم فى زمانهم وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وقد مر تفصيله فى تفسير قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وهمزة أحد إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما فى مثل المال بين الناس وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه فى حيز النفى وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أى بين أحد منهم وغيره كما فى قول النابغة[فما كان بين الخير إذ جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل] أى بين الخير وبينى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أى منقادون أو مخلصون له تعالى أنفسنا لا نجعل له شريكا فيها وفيه تعريض بإيمان أهل الكتاب فإنه بمعزل من ذلك (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) أى غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحا والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين (دِيناً) ينتحل إليه وهو نصب على أنه مفعول ليبتغ وغير الإسلام حال منه لما أنه كان صفة له فلما قدمت عليه انتصبت حالا أو هو المفعول ودينا تمييز لما فيه من الإبهام أو بدل من غير الإسلام (فَلَنْ يُقْبَلَ) ذلك (مِنْهُ) أبدا بل يرد أشد رد وأقبحه وقوله تعالى (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) إما حال من الضمير المجرور أو استئناف لا محل له من الإعراب أى من الواقعين فى الخسران والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع فى الخسران بإبطال الفطرة السليمة التى فطر الناس عليها وفى ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك أفظع وأقبح واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل والجواب أنه ينفى قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) إلى الحق

٥٥

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠)

____________________________________

(قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعد ما آمنوا ولحقوا بمكة وقيل هم يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) استبعاد لأن يهديهم الله تعالى فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك فى الضلال بعيد عن الرشاد وقيل نفى وإنكار له وذلك يقتضى أن لا تقبل توبة المرتد وقوله تعالى (وَشَهِدُوا) عطف على (إِيمانِهِمْ) باعتبار انحلاله إلى جملة فعليه كما فى قوله تعالى (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) الخ فإنه فى قوة أن يقال بعد أن آمنوا أو حال من ضمير كفروا بإضمار قد وهو دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه والجملة اعتراضية أو حالية (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا وهو مبتدأ وقوله تعالى (جَزاؤُهُمْ) مبتدأ ثان وقوله تعالى (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) خبره والجملة خبر لأولئك وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم وبمفهومه ينفى جواز لعن غيرهم ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون عن الهدى آيسون من الرحمة رأسا بخلاف غيرهم والمراد بالناس المؤمنون أو الكل فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه (خالِدِينَ فِيها) فى اللعنة أو العقوبة أو النار وإن لم تذكر لدلالة الكلام عليها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أى يمهلون (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا) أى ما أفسدوا أو دخلوا فى الصلاح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وهو تعليل لما دل عليه الاستثناء وقيل نزلت فى الحرث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لى من توبة فأرسل إليه أخوه الحلاس الآية فرجع إلى المدينة فتاب (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كاليهود كفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل بعد الإيمان بموسى عليه‌السلام والتوراة ثم ازدادوا كفرا حيث كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن أو كفروا به عليه‌السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار عليه والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص به ريب المنون أو نرجع إليه فننافقه بإظهار الإيمان (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأتهم لا يتوبون إلا عند إشرافهم على الهلاك فكنى عن

٥٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)

____________________________________

عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا فى شأنهم وإبرازا لحالهم فى صورة حال الآيسين من الرحمة أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا ولذلك لم تدخل فيه الفاء (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الثابتون على الضلال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية زيدت الفاء ههنا للإشعار به وملء الشىء ما يملأ به وذهبا تمييز وقرىء بالرفع على أنه بدل من ملء أو خبر لمحذوف ولو افتدى محمول على المعنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به فى الدنيا ولو افتدى به من العذاب فى الآخرة أو المراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين فى حكم شىء واحد (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبره ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذاب أليم على الفاعلية (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) فى دفع العذاب عنهم أو فى تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير أى ليس لواحد منهم ناصر واحد (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) من ناله نيلا إذا أصابه والخطاب للمؤمنين وهو كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم أى لن تبلغوا حقيقة البر الذى يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمزة الأبرار أو لن تنالوا برا لله تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته (حَتَّى تُنْفِقُوا) أى فى سبيل الله عزوجل رغبة فيما عنده ومن فى قوله تعالى (مِمَّا تُحِبُّونَ) تبعيضية ويؤيده قراءة من قرأ بعض ما تحبون وقيل بيانية وما موصولة أو موصوفة أى مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبها إليكم كما فى قوله تعالى (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أو مما يعمها وغيرها من الأعمال والمهجة على أن المراد بالإنفاق مطلق البذل وفيه من الإيذان بعزة منال البر ما لا يخفى وكان السلف رضى الله عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله عزوجل وروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول الله إن أحب أموالى إلى بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال عليه‌السلام بخ بخ ذاك مال رايح أو رابح وإنى أرى أن تجعلها فى الأقربين فقسمها فى أقاربه وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال هذه فى سبيل الله فحمل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد فكأن زيدا وجد فى نفسه وقال إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما إن الله تعالى قد قبلها منك. قيل وفيه دلالة على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى أن يشترى له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى فلما جاءت إليه أعجبته

٥٧

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣)

____________________________________

فقال إن الله تعالى يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها. وروى أن عمر بن عبد العزيز كانت لزوجته جارية بارعة الجمال وكان عمر راغبا فيها وكان قد طلبها منها مرارا فلم تعطها إياه ثم لما ولى الخلافة زينتها وأرسلها إليه فقالت قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك قال من أين ملكتها قالت جئت بها من بيت أبى عبد الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها فقيل إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفى أخذت من تركته ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعا بإعطاء المال ثم توجه إلى الجارية وكان يهواها هوى شديدا فقال أنت حرة لوجه الله تعالى فقالت لم يا أمير المؤمنين وقد أزحت عن أمرها كل شبهة قال لست إذن ممن نهى النفس عن الهوى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) ما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوف هو صفة لاسم الشرط أى أى شىء تنفقوا كائنا من الأشياء فإن المفرد فى مثل هذا الموضع واقع موقع الجمع وقيل محل الجار والمجرور النصب على التمييز أى أى شىء تنفقوا طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أى فمجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عليم بكل شىء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شىء من ذاته وصفاته وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وفيه من الترغيب فى إنفاق الجيد والتحذير عن إنفاق الردىء ما لا يخفى (كُلُّ الطَّعامِ) أى كل أفراد المطعوم أو كل أنواعه (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أى حلالا لهم فإن الحل مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما فى قوله تعالى (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) استثناء متصل من اسم كان أى كان كل المطعومات حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل أى يعقوب عليه‌السلام على نفسه وهو لحوم الإبل وألبانها قيل كان به وجع النسا فنذر لئن شفى لا يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه وقيل فعل ذلك للتداوى بإشارة الأطباء واحتج به من جوز للنبى الاجتهاد وللمانع أن يقول كان ذلك بأذن من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداء (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) متعلق بقوله تعالى (كانَ حِلًّا) ولا ضير فى توسيط الاستثناء بينهما وقيل متعلق بحرم وفيه أن تقييد تحريمه عليه‌السلام بقبلية تنزيل التوراة ليس فيه مزيد فائدة أى كان ما عدا المستثنى حلالا لهم قبل أن تنزل التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة لهم وتشديدا وهو رد على اليهود فى دعواهم البراءة عما نعى عليهم قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآيتين بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وتبكيت لهم فى منع النسخ والطعن فى دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقته لإبراهيم عليه‌السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ

٥٨

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦)

____________________________________

فَاتْلُوها) أمر عليه‌السلام بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بأن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث مترتب على ظلمهم وبغيهم كلما ارتكبوا معصية من المعاصى التى اقترفوها حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم ويكلفهم إخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى دعواكم أنه تحريم قديم وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أى إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدقكم مما يدعوكم إلى ذلك البتة. روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفى ذلك من الحجة النيرة على صدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجواز النسخ الذى يجحدونه ما لا يخفى والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) اى اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بنى إسرائيل ومن تقدمهم من الأمم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ما ذكر من أمرهم بإحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزام والتقييد به للدلالة على كمال القبح (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد فى الصلة باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الضلال والطغيان أى فأولئك المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال وضاقت عليهم حلبة المحاجة والجدال (هُمُ الظَّالِمُونَ) المفرطون فى الظلم والعدوان المبعدون فيهما والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة من جهته تعالى لبيان كمال عتوهم وقيل هى فى محل النصب داخلة تحت القول عطفا على قوله تعالى (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ) (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أى ظهر وثبت صدقه تعالى فيما أنزل فى شأن التحريم وقيل فى قوله تعالى (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) الخ أو صدق فى كل شأن من الشئون وهو داخل فى ذلك دخولا أوليا وفيه تعريض بكذبهم الصريح (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أى ملة الإسلام التى هى فى الأصل ملة إبراهيم عليه‌السلام فإنكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون أو فاتبعوا مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التى اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة وتلفيق الأكاذيب لتسوية الأغراض الدنيئة الدنيوية وألزمتكم تحريم طيبات محللة لإبراهيم عليه‌السلام ومن تبعه والفاء للدلالة على أن ظهور صدقه تعالى موجب للاتباع وترك ما كانوا عليه (حَنِيفاً) أى مائلا عن الأديان الزائغة كلها (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أى فى أمر من أمور دينه أصلا وفرعا وفيه تعريض بإشراك اليهود وتصريح بأنه عليه‌السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دين إبراهيم عليه‌السلام فى الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سواه سبحانه وتعالى والجملة تذييل لما قبلها (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) شروع فى بيان كفرهم ببعض آخر

٥٩

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

____________________________________

من شعائر ملته عليه‌السلام إثر بيان كفرهم بكون كل المطعومات حلاله عليه‌السلام روى أنهم قالوا بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفى الأرض المقدسة وقال المسلمين بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت أى إن أول بيت وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم والواضع هو الله تعالى ويؤيده القراءة على البناء للفاعل وقوله تعالى (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) خبر لأن وإنما أخبر بالمعرفة مع كون اسمها نكرة لتخصصها بسببين الإضافة والوصف بالجملة بعدها أى للبيت الذى ببكة أى فيها وفى ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى وبكة لغة فى مكة فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما فى قولهم ضربة لازب ولازم والنميط والنبيط فى اسم موضع بالدهناء وقولهم أمر راتب وراتم وسبد رأسه وسمدها وأغبطت الحمى وأغمطت وهى علم للبلد الحرام من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيه وعن قتادة يبك الناس بعضهم بعضا أولأنها تبك أعناق الجبابرة أى تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله عزوجل وقيل بكة اسم لبطن مكة وقيل لموضع البيت وقيل للمسجد نفسه ومكة اسم للبلد كله وأيد هذا بأن التباك وهو الازدحام إنما يقع عند الطواف وقيل مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم للبلد لقوله تعالى (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) روى أنه عليه‌السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة وقيل أول من بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقيل آدم عليه‌السلام وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل فى سورة البقرة وقيل أول بيت وضع بالشرف لا بالزمان (مُبارَكاً) كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب وهو حال من المستكن فى الظرف لأن التقدير للذى ببكة هو والعامل فيه ما قدر فى الظرف من فعل الاستقرار (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأن فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته تعالى وبالغ حكمته كما قال (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ومخالطة ضوارى السباع الصيود فى الحرم من غير تعرض لها وقهر الله تعالى لكل جبار قصده بسوء كأصحاب الفيل والجملة مفسرة للهدى أو حال أخرى (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أى أثر قدميه عليه‌السلام السلام فى الصخرة التى كان عليه‌السلام يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه أو عند غسل رأسه على ما روى أنه عليه‌السلام جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسمعيل عليه‌السلام انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الإيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فقى أثر قدميه عليه وهو إما مبتدأ حذف خبره أى منها مقام إبراهيم أو بدل من آيات بدل البعض من الكل أو عطف بيان إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه

٦٠