تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

____________________________________

المعلومات التى من زمرتها نياتنا فى جميع أعمالنا والجملة تعليل لاستدعاء التقبل لا من حيث إن كونه تعالى سميعا لدعائهما عليما بنياتهما مصحح للتقبل فى الجملة بل من حيث إن علمه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصهما فى أعمالهما مستدع له بموجب الوعد تفضلا وتأكيد الجملة لغرض كمال قوة يقينهما بمضمونها وقصر نعتى السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاص دعائهما به تعالى وانقطاع رجائهما عما سواه بالكلية واعلم أن الظاهر أن أول ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاء وما يتبعه ثم دعاء البلدية والأمن وما يتعلق به ثم رفع قواعد البيت وما يتلوه ثم جعله مثابة للناس والأمر بتطهيره ولعل تغيير الترتيب الوقوعى فى الحكاية لنظم الشئون الصادرة عن جنابه تعالى فى سلك مستقل ونظم الأمور الواقعة من جهة إبراهيم وإسمعيل عليهما‌السلام من الأفعال والأقوال فى سلك آخر وأما قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) الخ فإنما وقع فى تضاعيف الأحوال المتعلقة بإبراهيم لاقتضاء المقام واستيجاب ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بد منه أصلا كما أن وقوع قولهعليه‌السلام ومن ذريتى فى خلال كلامه سبحانه لذلك (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) مخلصين لك أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد وأيا ما كان فالمطلوب الزيادة والثبات على ما كان عليه من الإخلاص والإذعان وقرىء مسلمين على صيغة الجمع بإدخال هاجر معهما فى الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أى واجعل بعض ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح الأتباع وإنما خصابه بعضهم لما علما أن منهم ظلمة وأن الحكمة الإلهية لا تقتضى اتفاق الكل على الإخلاص والإقبال الكلى على الله عزوجل فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لو لا الحمقى لخربت الدنيا وقيل أراد بالأمة المسلمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جوز أن يكون من مبينة قدمت على المبين وفصل بها بين العاطف والمعطوف كما فى قوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) والأصل وأمة مسلمة لك من ذريتنا (وَأَرِنا) من الرؤية بمعنى الإبصار أو بمعنى التعريف أى بصرنا أو عرفنا (مَناسِكَنا) أى متعبداتنا فى الحج أو مذابحنا والنسك فى الأصل غاية العبادة وشاع فى الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة وقرىء أرنا قياسا على فخذ فى فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها وقرىء بالاختلاس (وَتُبْ عَلَيْنا) استتابة لذريتهما وحكايتها عنهما لترغيب الكفرة فى التوبة والإيمان أو توبة لهما عما فرط منهما سهوا ولعلهما قالاه هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وهو تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له فليدع الله عزوجل بما يناسيه من أسمائه وصفاته (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أى فى الأمة المسلمة

١٦١

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

____________________________________

(رَسُولاً مِنْهُمْ) أى من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو الذى أجيب به دعوتهما عليهما‌السلام روى أنه قيل له قد استجيب لك وهو فى آخر الزمان قال عليه‌السلام أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمى وتخصيص إبراهيم عليه‌السلام بالاستجابة له لما أنه الأصل فى الدعاء وإسمعيل تبع له عليه‌السلام (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات (وَيُعَلِّمُهُمُ) بحسب قوتهم النظرية (الْكِتابَ) أى القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة (وَيُزَكِّيهِمْ) بحسب قوتهم العملية أى يطهرهم عن دنس الشرك وفنون المعاصى (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذى لا يقهر ولا يغلب على ما يريد (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تعليل للدعاء وإجابة المسئول فإن وصف الحكمة مقتض لإفاضة ما تقتضيه الحكمة من الأمور التى من جملتها بعث الرسول ووصف العزة مستدع لامتناع وجود المانع بالمرة (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إنكار واستبعاد لأن يكون فى العقلاء من يرغب عن ملته التى هى الحق الصريح والدين الصحيح أى لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أى أذلها واستمهنها واستخف بها وقيل خسر نفسه وقيل أوبق أو أهلك أو جهل نفسه قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ويشهد له ما ورد فى الخبر الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس وقيل معناه ضل من قبل نفسه وقيل أصله سفه نفسه بالرفع فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ونحو قوله [ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام] وقوله[وما قومى بثعلبة بن سعد ولا بفزارة الشعر الرقابا] ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحد من العقلاء فقد بالغ فى إذلال نفسه وإذالتها وإهانتها حيث خالف بها كل نفس عاقلة روى أن عبد الله بن سلام دعا ابنى أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمنا أن الله تعالى قال فى التوراة إنى باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبى مهاجر فنزلت (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أى اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذ صفوة الشىء كما أن أصل الاختيار اتخاذ خيره واللام لجواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أى وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أى من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح معطوف عليها داخل فى حيز القسم مؤكد لمضمونها مقرر لما تقرره ولا حاجة إلى جعله اعتراضا آخر أو حالا مقدرة فإن من كان صفوة للعباد فى الدنيا مشهودا له بالصلاح فى الآخرة كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عن ملته إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل وإيثار الاسمية لما أن انتظامه فى زمرة صالحى أهل الآخرة أمر مستمر فى الدارين لا أنه

١٦٢

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

____________________________________

يحدث فى الآخرة والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التى تشاهد آثارها وكلمة فى متعلقة بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر فى الظرف ما لا يغتفر فى غيره كما فى قوله[ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائى بالعصا أن أجلدا] أو بمحذوف من لفظه أى وأنه لصالح فى الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أى أعنى فى الآخرة نحو لك بعد رعيا وقيل هى متعلقة باصطفيناه على أن فى النظم الكريم تقديما وتأخيرا تقديره ولقد اصطفيناه فى الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين (إِذْ قالَ لَهُ) ظرف لاصطفيناه لما أن المتوسط ليس بأجنبى بل هو مقرر له لأن اصطفاءه فى الدنيا إنما هو للنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليل له أو منصوب باذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم وأنه مانال مانال إلا بالمبادرة إلى الإذعان والانقياد لما أمر به وإخلاص سره على أحسن ما يكون حين قال له (رَبُّهُ أَسْلِمْ) أى لربك (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وليس الأمر على حقيقته بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام من الكوكب والقمر والشمس وقيل أسلم أى أذعن وأطع وقيل اثبت على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاص أو استقم وفوض أمورك إلى الله تعالى فالأمر على حقيقته والالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه‌السلام لإظهار مزيد اللطف به والاعتناء بتربيته وإضافة الرب فى جوابه عليه الصلاة والسلام إلى العالمين للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أيقن حين النظر بشمول ربوبيته للعالمين قاطبة لا لنفسه وحده كما هو المأمور به (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) شروع فى بيان تكميله عليه‌السلام لغيره إثر بيان كماله فى نفسه وفيه توكيد لوجوب الرغبة فى ملته عليه‌السلام والتوصية التقدم إلى الغير بما فيه خير وصلاح للمسلمين من فعل أو قول وأصلها الوصلة يقال وصاه إذا وصله وفصاه إذا فصله كأن الموصى يصل فعله بفعل الوصى والضمير فى بها للملة أو قوله أسلمت لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فى قوله عزوجل (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) وقرىء أوصى والأول أبلغ (وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم أى وصى بها هو أيضا وقرىء بالنصب عطفا على بنيه (يا بَنِيَّ) على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصى عند الكوفيين لأنه فى معنى القول كما فى قوله[رجلان من ضبة أخبرانا أنا رأينا رجلا عريانا] فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذى هو فى معنى القول وقرىء أن يا بنى وبنو إبراهيم عليه‌السلام كانوا أربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان وقيل ثمانية وقيل أربعة وعشرين وكان بنو يعقوب اثنى عشر روبين وشمعون ولاوى ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا

١٦٣

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

____________________________________

وكوزا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه‌السلام (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) دين الإسلام الذى هو صفوة الأديان ولا دين غيره عنده تعالى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره النهى عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت أى فاثبتوا عليه ولا تفارقوه أبدا كقولك لا تصل إلا وأنت خاشع وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر ونظيره مت وأنت شهيد روى أن اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والخطاب لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيم وشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر وإذ ظرف لشهداء والمراد بحضور الموت حضور أسبابه وتقديم يعقوب عليه‌السلام للاهتمام به إذ المراد بيان كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالا ومعنى بل الإضراب والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم عليه‌السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوب عليه‌السلام باليهودية حسبما حكى عنهم وأما تعميم الافتراء ههنا لسائر الأنبياء عليهم‌السلام كما قيل فيأباه تخصيص يعقوب بالذكر وما سيأتى من قوله عزوجل (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) الخ ومعنى الهمزة إنكار وقوع الشهود عند احتضاره عليه‌السلام وقوله (لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أى أى شىء تعبدونه بعد موتى فمن أين لكم أن تدعوا عليه عليه‌السلام ما تدعون رجما بالغيب وعند هذا تم التوبيخ والإنكار والتبكيت ثم بين أن الأمر قد جرى حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه‌السلام أراد بسؤاله ذلك تقرير بنيه على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما إذ به يتم وصيته بقوله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وما يسأل به عن كل شىء ما لم يعرف فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن شىء بعينه وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب فقوله تعالى (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوب عليه‌السلام كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) حسبما كان مراد أبيهم بالسؤال أى نعبد الإله المتفق على وجوده وإلهيته ووجوب عبادته وعد إسمعيل من آبائه تغليبا للأب والجد لقوله عليه الصلاة والسلام عم الرجل صنو أبيه وقوله عليه‌السلام فى العباس هذا بقية آبائى وقرىء أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما فى قوله[فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا] وقد سقطت النون بالإضافة أو مفرد وإبراهيم عطف بيان له وإسمعيل وإسحق معطوفان على أبيك (إِلهاً واحِداً) بدل من إله آبائك كقوله تعالى (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشىء من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور أو نصب

١٦٤

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥)

____________________________________

على الاختصاص (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما معا ويحتمل أن يكون اعتراضا محققا لمضمون ما سبق (تِلْكَ أُمَّةٌ) مبتدأ وخبر والإشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين والأمة هى الجماعة التى تؤمها فرق الناس أى يقصدونها ويقتدون بها (قَدْ خَلَتْ) صفة للخبر أى مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصله صارت إلى الخلاء وهى الأرض التى لا أنيس بها (لَها ما كَسَبَتْ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو صفة أخرى لأمة أو حال من الضمير فى خلت وما موصولة أو موصوفة والعائد إليها محذوف أى لها ما كسبته من الأعمال الصالحة المحكية لا تتخطاها إلى غيرها فإن تقديم المسند يوجب قصر المسند إليه عليه كما هو المشهور (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على نظيرتها على الوجه الأول وجملة مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابط فيها ولا بد منه فى الصفة ولا مقارنة فى الزمان ولا بد منها فى الحال أى لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيركم فإن تقديم المسند قد يقصد به قصره على المسند إليه كما قيل فى قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أى ولى دينى لا دينكم وحمل الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقام إذ لا يتوهم متوهم انتفاعهم بكسب هؤلاء حتى يحتاج إلى بيان امتناعه وإنما الذى يتوهم انتفاع هؤلاء بكسبهم فبين امتناعه بأن أعمالهم الصالحة مخصوصة بهم لا تتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعهم انتسابهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعهم لهم فى الأعمال كما قال عليه‌السلام يا بنى هاشم لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) إن أجرى السؤال على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما مر من الجملتين تقريرا ظاهرا وإن أريد به مسببه أعنى الجزاء فهو تتميم لما سبق جار مجرى النتيجة له وأيا ما كان فالمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم الفارغة عن الانتفاع بحسنات الأمة الخالية وإنما أطلق العمل لإثبات الحكم بالطريق البرهانى فى ضمن قاعدة كلية هذا وقد جعل السؤال عبارة عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل أى لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ولا ريب فى أنه مما لا يليق بشأن التنزيل كيف لا وهم منزهون من كسب السيئات فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفاعه (وَقالُوا) شروع فى بيان فن آخر من فنون كفرهم وهو إضلالهم لغيرهم إثر بيان ضلالهم فى أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفات المؤذن باستيجاب حالهم لإبعادهم من مقام المخاطبة والإعراض عنهم وتعديد جناياتهم عند غيرهم أى قالوا للمؤمنين (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ليس هذا القول مقولا لكلهم أو لأى طائفة كانت من الطائفتين بل هو موزع عليهما على وجه خاص يقتضيه حالهما اقتضاء مغنيا عن التصريح به أى قالت اليهود كونوا هودا والنصارى كونوا نصارى ففعل بالنظم الكريم ما فعل بقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى اعتمادا على ظهور المرام (تَهْتَدُوا) جواب

١٦٥

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

____________________________________

للأمر أى إن تكونوا كذلك (قُلْ) خطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى قل لهم على سبيل الرد عليهم وبيان ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أى لا نكون كما تقولون بل نكون أهل ملته عليه‌السلام وقيل بل نتبع ملته عليه‌السلام وقد جوز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته عليه‌السلام أو كونوا أهل ملته وقرىء بالرفع أى بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أى أهل ملته (حَنِيفاً) أى مائلا عن الباطل إلى الحق وهو حال من المضاف إليه كما فى رأيت وجه هند قائمة أو المضاف كما فى قوله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) الخ (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بهم وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه‌السلام مع إشراكهم بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله (قُولُوا) خطاب للمؤمنين بعد خطابه عليه‌السلام برد مقالتهم الشنعاء على الإجمال وإرشاد لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضرب من التفصيل أى قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقا وإرشادا ضمنيا لهم إليه (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعنى القرآن قدم على سائر الكتب الإلهية مع تأخره عنها نزولا لاختصاصه بنا وكونه سببا للإيمان بها (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الصحف وإن كانت نازلة إلى إبراهيم عليه‌السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها جعلت منزلة إليهم كما جعل القرآن منزلا إلينا والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه‌السلام أو أبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحق (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فصل فى التنزيل الجليل وإيراد الإيتاء لما أشير إليه من التعميم وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) أى جملة المذكورين وغيرهم (مِنْ رَبِّهِمْ) من الآيات البينات والمعجزات الباهرات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتبروا عدم التفريق بينهم مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريق بين ما أوتوه وهمزة أحد إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما فى مثل المال بين الناس ومنه ما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحلت الغنائم لأحد سود الرءوس غيركم حيث وصف بالجمع وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه فى حيز النفى وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أى بين أحد منهم وبين غيره كما فى قول النابغة[فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل] أى بين الخير وبينى وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس فى أن يقال لا نفرق بينهم والجملة حال من الضمير فى آمنا وقوله عزوجل (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أى مخلصون له ومذعنون حال أخرى منه أو عطف على آمنا.

١٦٦

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣٧)

____________________________________

(فَإِنْ آمَنُوا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما تقدم من إيمان المخاطبين على الوجه المحرر مظنة لإيمان أهل الكتابين لما أنه مشتمل على ما هو مقبول عندهم (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) أى بما آمنتم به على الوجه الذى فصل على أن المثل مقحم كما فى قوله تعالى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أى عليه ويعضده قراءة ابن مسعود بما آمنتم به وقراءة أبى بالذى آمنتم به ويجوز أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمن به محذوف لظهوره بمروره آنفا أو على أن الفعل مجرى مجرى اللازم أى فإن آمنوا بما مر مفصلا أو فإن فعلوا الإيمان بشهادة مثل شهادتكم وأن تكون الأولى زائدة والثانية صلة لآمنتم وما مصدرية أى فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم بما ذكر مفصلا وأن تكون للملابسة أى فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيمانا ملتبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم‌السلام فإن ما وجد فيهم وصدر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثل ما للمؤمنين لا عينه بخلاف المؤمن به فإنه لا يتصور فيه التعدد (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحروا الإيمان بطريق يهدى إلى الحق مثل طريقكم فقد اهتدوا فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطريق فيأباه أن مقام تعيين طريق الحق وإرشادهم إليه بعينه لا يلائم تجويز أن يكون له طريق آخر وراءه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أى أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلوا بشىء من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو دينهم وديدنهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) المشاقة والشقاق من الشق كالمخالفة والخلاف من الخلف والمعاداة والعداء من العدوة أى الجانب فإن أحد المخالفين يعرض عن الآخر صورة أو معنى ويوليه خلفه ويأخذ فى شق غير شقه وعدوة غير عدوته والتنوين للتفخيم أى هم مستقرون فى خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون والجملة إما جواب الشرط كما هى على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليتهم عن الإيمان كجواب الشرطية الأولى وإنما أوثرت الجملة الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم فى ذلك وإما بتأويل فاعلموا إنما هم فى شقاق. هذا هو الذى يستدعيه فخامة شأن التنزيل الجليل وقد قيل قوله تعالى (فَإِنْ آمَنُوا) الخ من باب التعجيز والتبكيت على منهاج قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) والمعنى فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مماثلا له فى الصعة وانسداد فقد اهتدوا وإذ لا إمكان له فلا إمكان لاهتدائهم ولا ريب فى أنه مما لا يليق بحمل النظم الكريم عليه ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وأن ذلك مما يؤدى إلى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفريح المؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز وعبر بالسين الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) أى سيكفيك شقاقهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز عزوجل وعده الكريم بقتل بنى قريظة وسبيهم وإجلاء بنى

١٦٧

(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(١٣٩)

____________________________________

النضير وتلوين الخطاب بتجريده للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن ذلك كفاية منه سبحانه للكل لما أنه الأصل والعمدة فى ذلك وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المؤن والمشاق ومقاساة الشدائد فى مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى فى الكفاية والنصر فى حقه عليه‌السلام أتم وأكمل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما فى نيتك من إظهار الدين فيستحيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه فى قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين (صِبْغَةَ اللهِ) الصبغة من الصبغ كالجلسة من الجلوس وهى الحالة التى يقع عليها الصبغ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذى فصل لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثاره الجميلة ومتداخلا فى قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ويزعمون أنه تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم وإضافتها إلى الله عزوجل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريف والإيذان بأنها عطية منه سبحانه لا يستقل العبد بتحصيلها فهى إذن مصدر مؤكد لقوله تعالى (آمَنَّا) داخل معه فى حيز قولوا منتصب عنه انتصاب وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعله كأنه قيل صبغة الله صبغة وقيل هى منصوبة بفعل الإغراء أى ألزموا صبغة الله وإنما وسط بينهما الشرطيتان وما بعدهما اعتناء ببيان أنه الإيمان الحق وبه الاهتداء ومسارعة إلى تسليته عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر والإستفهام للإنكار والنفى وقوله تعالى (صِبْغَةَ) نصب على تمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغته تعالى فالتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أى لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنها أحسن من كل صبغة على ما أشير إليه فى قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ) الخ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم الحسن الحقيقى والفرضى المبنى على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون فى صبغة غيره تعالى حسن فى الجملة الجملة اعتراضية مقررة لما فى صبغة الله من معنى التبجح والابتهاج (وَنَحْنُ لَهُ) أى لله الذى أولانا تلك النعمة الجليلة (عابِدُونَ) شكرا لها ولسائر نعمه وتقديم الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل معه تحت الأمر وإيثار الاسمية للإشعار بدوام العبادة أو على فعل الإغراء بتقدير القول أى الزموا صبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) حينئذ يجرى مجرى التعليل للاغراء (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) تجريد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيب الكلام الداخل تحت الأمر الوارد بالخطاب العام لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام وقرىء بإدغام النون والهمزة للإنكار والتوبيخ أى أتجادلوننا (فِي اللهِ) أى فى دينه وتدعون أن دينه الحق هو اليهودية

١٦٨

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٤٠)

____________________________________

والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة كونوا هودا أو نصارى تهتدوا (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) جملة حالية وكذلك ما عطف عليها أى أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى ربنا أى مالك أمرنا وأمركم (وَلَنا أَعْمالُنا) الحسنة الموافقة لأمره (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) السيئة المخالفة لحكمه (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فى تلك الأعمال لا نبتغى بها إلا وجهه فأتى لكم المحاجة وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمع فى دخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه وكلمة أم فى قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ) إما معادلة للهمزة فى قوله تعالى (أَتُحَاجُّونَنا) داخلة فى حيز الأمر على معنى أى الأمرين تأتون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء وتقولون (إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) فنحن بهم مقتدون والمراد إنكار كلا الأمرين والتوبيخ عليهما وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام وقرىء أم يقولون على صيغة الغيبة فهى منقطعة لا غير غير داخلة تحت الأمر واردة من جهته تعالى توبيخا لهم وإنكارا عليهم لا من جهته عليه‌السلام على نهج الالتفات كما قيل هذا وأما ما قيل من أن المعنى أتحاجوننا فى شأن الله واصطفائه نبيا من العرب دونكم لما روى أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ومعنى قوله تعالى (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتجلى بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى فى إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون أى لا أنتم فمع عدم ملاءمته لسباق النظم الكريم وسياقه لا سيما على تقدير كون كلمة أم معادلة للهمزة غير صحيح فى نفسه لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب فى أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبنى على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال فى استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) إعادة الأمر ليست لمجرد تأكيد التوبيخ وتشديد الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلا بما قبله بل بينهما كلام للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبع لما لحق قد ضرب عنه الذكر صفحا لظهوره وهو تصريحهم بما وبخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام كما فى قوله عزوجل (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وقوله عز قائلا (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) فإن تكرير قال فى الموضعين وتوستطه بين قولى قائل واحد

١٦٩

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٤٢)

____________________________________

للإيذان بأن بينهما كلاما لصاحبه متعلقا بالأول والثانى بالتبعية والاستتباع كما حرر فى محله أى كذبهم فى ذلك وبكتهم قائلا إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد نفى عن إبراهيم عليه‌السلام كلا الأمرين حيث قال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا واحتج عليه بقوله تعالى (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وهؤلاء المعطوفون عليه عليه‌السلام أتباعه فى الدين وفاقا فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون (وَمَنْ أَظْلَمُ) إنكار لأن يكون أحد أظلم (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) ثابتة (عِنْدَهُ) كائنة (مِنَ اللهِ) وهى شهادته تعالى له عليه‌السلام بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفا فعنده صفة لشهادة وكذا من الله جىء بهما لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت الشهادة عنده وكونها من جناب الله عزوجل من أقوى الدواعى إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها وتقديم الأول مع أنه متأخر فى الوجود لمراعاة طريقة الترقى من الأدنى إلى الأعلى والمعنى أنه لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها فى الظلم خارجة عن دائرة البيان أولا أحد أظلم منا لو كتمناها فالمراد بكتمها عدم إقامتها فى مقام المحاجة وفيه تعريض بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه وفى إطلاق الشهادة مع أن المراد بها ما ذكر من الشهادة المعنية تعريض بكتمانهم شهادة الله عزوجل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة والإنجيل (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من فنون السيئات فيدخل فيها كتمانهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دخولا أوليا أى هو محيط بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب وقرىء عما يعملون على صيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى وإما لأهل الكتاب وقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) إلى آخر الآية مسوق من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلم وتهديدهم بالوعيد (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرير للمبالغة فى الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على أعمالهم وقيل الخطاب السابق لهم وهذا لنا تحذير عن الاقتداء بهم وقيل المراد بالأمة الأولى الأنبياء عليهم‌السلام وبالثانية أسلاف اليهود (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) أى الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقيل السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم وقيل الظلوم الجهول والمراد بالسفهاء هم اليهود على ما روى عن ابن عباس ومجاهد رضى الله عنهم قالوه إنكارا للنسخ وكراهة للتحويل حيث كانوا يأنسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم فى القبلة وقيل هم المنافقون وهو الأنسب بقوله عز وعلا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وإنما قالوه لمجرد الاستهزاء والطعن لا لاعتقادهم حقية القبلة الأولى وبطلان الثانية إذ ليس

١٧٠

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)

____________________________________

كلهم من اليهود وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكة بل طعنا فى الدين فإنهم كانوا يقولون رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وقيل هم القادحون فى التحويل منهم جميعا فيكون قوله تعالى (مِنَ النَّاسِ) أى الكفرة لبيان أن ذلك القول المحكى لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض فى فنون الفساد وهو الأظهر إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونهم من الناس مزيد فائدة وتخصيص سفهائهم بالذكر لا يقتضى تسليم الباقين للتحويل وارتضاءهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقا أو بالعبارة المحكية (ما وَلَّاهُمْ) أى أى شىء صرفهم والاستفهام للإنكار والنفى (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) القبلة فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهى الحال التى يقابل الشىء غيره عليها كالجلسة للحالة التى يقع عليها الجلوس يقال لا قبلة له ولا دبرة إذا لم يهتد لجهة أمره غلبت على الجهة التى يستقبلها الإنسان فى الصلاة والمراد بها ههنا بيت المقدس وإضافتها إلى ضمير المسلمين ووصفها بقوله تعالى (الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أى ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاص بالشىء والاستمرار عليه باعتقاد حقيته مما ينافى الانصراف عنه فإن أريد بالقائلين اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحويل عنها وزعمهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمداره مجرد القصد إلى الطعن فى الدين والقدح فى أحكامه وإظهار أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها واقع بغير داع إليه لا لكراهتهم الانصراف عنها أو التوجه إلى مكة وتعليق الإنكار بما يوليهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها مع تلازمهما فى الوجود لما أن ترك الدين القديم أبعد عند العقول وإنكار سببه أدخل لا للإيذان بأن المنكرين هم اليهود بناء على أن المنكر عندهم هو التحويل عن خصوصية بيت المقدس الذى هو القبلة الحقة عندهم لا التوجه إلى خصوصية قبلة أخرى أو هم المشركون بناء على أن المنكر عندهم ترك القبلة القديمة على وجه الطعن والقدح لا التوجه إلى الكعبة لأنه الحق عندهم فإنه بمعزل عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبار بذلك قبل الوقوع مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أخبر لتوطين النفوس وإعداد ما يبكتهم فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد والجواب العتيد لثغب الخصم الألد أرد وقوله عزوجل (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل الخ أى لله تعالى ناحيتا الأرض أى الجهات كلها ملكا وملكا وتصرفا فلا اختصاص لناحية منها لذاتها بكونها قبلة بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئته (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أن يهديه مشيئة تابعة للحكم الخفية التى لا يعلمها إلا هو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المقارنة لحكم أبية ومصالح خفية (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) توجيه للخطاب إلى المؤمنين

١٧١

بين الخطابين المختصين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتأييد ما فى مضمون الكلام من التشريف وذلك إشارة إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخر مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيد الكاف مع القصد إلى المؤمنين لما أن المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وكمال تميزه به وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها فى الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم أمة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أى ذلك الجعل البديع جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً) لا جعلا آخر أدنى منه والوسط فى الأصل اسم لما يستوى نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكن لا لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعواز والأوساط محمية محوطة كما قيل واستشهد عليه بقول ابن أوس الطائى[كانت هى الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث حتى أصحت طرفا فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار فى هذا المقام إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التى جعلت غاية للجعل المذكور بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفى الإفراط والتفريط كالعفة التى طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التى طرفاها الظهور والجبن وكالحكمة التى طرفاها الجريزة والبلادة وكالعدالة التى هى كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها وسوى فيه بين المفرد والجمع والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التى يوصف بها وقد روعيت ههنا نكتة رائقة هى أن الجعل المشار إليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى إلى الحق الذى عبر عنه بالصراط المستقيم الذى هو الطريق السوى الواقع فى وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع فى وسط تلك الخطوط المنحنية ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الأمة المهدية إليه أمة وسطا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أى متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الله عزوجل قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وذكروا فهل من مدكر وهى غاية للجعل المذكور مترتبة عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هى الكيفية المتشابهة المتألفة من العفة التى هى فضيلة القوة الشهوية البهيمية والشجاعة التى هى فضيلة القوة الغضبية السبعية والحكمة التى هى فضيلة القوة العقلية الملكية المشار إلى رتبتها بقوله عز وعلا (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) كأن المتصف بها واقفا على الحقائق المودعة فى الكتاب المبين المنطوى على أحكام الدين وأحوال الأمم أجمعين حاويا لشرائط الشهادة عليهم. روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين وزيادة لخزيهم بأن كذبهم من بعدهم من الأمم فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون فيقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بأخبار الله تعالى فى كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى عند ذلك بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله عز قائلا (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وكلمة

١٧٢

الاستعلاء لما فى الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن وقيل لتكونوا شهداء على الناس فى الدنيا فيما لا يقبل فيه الشهادة إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف للدلالة على اختصاص شهادته عليه‌السلام بهم (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) جرد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمزا إلى أن مضمون الكلام من الأسرار الحقيقة بأن يخص معرفته به عليه‌السلام وليس الموصول صفة للقبلة بل هو مفعول ثان للجعل وما قيل من أن الجعل تحويل الشىء من حالة إلى أخرى فالملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثانى كما فى قولك جعلت الطين خزفا فينبغى أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثانى هو القبلة فكلام صناعى ينساق إليه الذهن بحسب النظر الجليل ولكن التأمل اللائق يهدى إلى العكس فإن المقصود إفادته ليس جعل الجهة قبلة لا غير كما يفيده ما ذكر بل هو جعل القبلة المحققة الوجود هذه الجهة دون غيرها والمراد بالموصول هى الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلى إليها أولا ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود أو هى الصخرة لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أن قبلته عليه‌السلام بمكة كانت بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يراد بالقبلة الأولى الكعبة وأما الصخرة فيتأتى إرادتها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القبلة الجهة التى كنت عليها آثر ذى أثير وهى الكعبة وعلى الثانى وما جعلناها التى كنت عليها قبل هذا الوقت وهى الصخرة (إِلَّا لِنَعْلَمَ) استثناء مفرغ من أعم العلل أى وما جعلنا ذلك لشىء من الأشياء إلا لنمتحن الناس أى نعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فى التوجه إلى ما أمر به من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه‌السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباع (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) يرتد عن دين الإسلام أو لا يتوجه إلى القبلة الجديدة أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه وما كان لعارض يزول بزواله وعلى الأول ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابت على الإسلام والناكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه والمراد بالعلم ما يدور عليه فلك الجزاء من العلم الحالى أى ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل وقيل المراد علم الرسول عليه‌السلام والمؤمنين وإسناده إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز الذى هو مسبب عنه ويشهد له قراءة ليعلم على بناء المجهول من صيغة الغيبة والعلم إما بمعنى المعرفة أو متعلق بما فى من من معنى الاستفهام أو مفعوله الثانى ممن ينقلب الخ أى لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب على عقبيه (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أى شاقة ثقيلة وإن هى المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر واللام هى الفارقة بينها وبين النافية كما فى قوله تعالى (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) وزعم الكوفيون أنها نافية واللام بمعنى إلا أى ما كانت إلا كبيرة والضمير الذى هو اسم كان راجع إلى ما دل عليه قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أو القبلة وقرىء لكبيرة بالرفع على أن كان مزيدة كما فى قوله [وإخوان لنا كانوا كرام] وأصله وإن هى لكثيرة كقوله إن زيد لمنطلق (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أى إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا وتفصيلا وهم المهديون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباع الرسول عليه‌السلام (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى ما صح وما استقام له

١٧٣

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)

____________________________________

أن يضيع ثباتكم على الإيمان بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما روى أنه عليه‌السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف حال إخواننا الذين مضوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فنزلت واللام فى ليضيع إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أى ما كان الله مريدا أو متصديا لأن يضيع الخ ففى توجيه النفى إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليس فى توجهه إلى نفسه وإما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح فى ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر فى عملها وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تحقيق وتقرير للحكم وتعليل له فإن اتصافه عزوجل بهما يقتضى لا محالة أن لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمه على رحيم مع كونه أبلغ منه لما مر فى وجه تقديم الرحمن على الرحيم وقيل الرحمة أكثر من الرأفة فى الكمية والرأفة أقوى منها فى الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمة إيصال النعمة مطلقا وقد يكون مع الألم كقطع العضو المتآكل وقرىء رءوف بغير مدكندس (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أى تردده وتصرف نظرك فى جهتها تطلعا للوحى وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقع فى روعه ويتوقع من ربه عزوجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل بالوحى بالتحويل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) الفاء الدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها وهى فى الحقيقة داخلة على قسم محذوف يدل عليه اللام أى فو الله لنولينك أى لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا أى صيرته واليا له أو لنجعلنك تلى جهتها أو لنحولنك على أن نصب قبلة بحذف الجار أى إلى قبلة وقيل هو متعد إلى مفعولين (تَرْضاها) تحبها وتشتاق إليها لمقاصد دينية وافقت مشيئته تعالى وحكمته (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الفاء لتفريع الأمر بالتولية على الوعد الكريم وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره وقيل المراد به كل البدن أى فاصرفه (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أى نحوه وهو نصب على الظرفية من ول أو على نزع الخافض أو على أنه مفعول ثان له وقيل الشطر فى الأصل اسم لما انفصل من الشىء ودار شطور إذا كانت منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل كالقطر والحرام المحرم أى محرم فيه القتال أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا له وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة الجهة لأن فى مراعاة العين من البعيد حرجا عظيما بخلاف القريب. روى عن البراء بن عازب أن نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشرة شهرا ثم وجه إلى الكعبة وقيل كان ذلك فى رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى

١٧٤

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٤٥)

____________________________________

مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول فى الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمى المسجد مسجد القبلتين (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب تعظيما لجنابه وإيذان بإسعاف مرامه ثم عمم الخطاب للمؤمنين مع التعرض لاختلاف أما كنهم تأكيدا للحكم وتصريحا بعمومه لكافة العباد من كل حاضر وباد وحثا للأمة على المتابعة وحيثما شرطية وكنتم فى محل الجزم بها وقوله تعالى (فَوَلُّوا) جوابها وتكون هى منصوبة على الظرفية بكنتم نحو قوله تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من فريقى اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أى التحويل أو التوجه المفهوم من التولية (الْحَقُّ) لا غير لعلمهم بأن عادته سبحانه وتعالى جارية على تخصيص كل شريعة بقبلة ومعاينتهم لما هو مسطور فى كتبهم من أنه عليه الصلاة والسلام يصلى إلى القبلتين كما يشعر بذلك التعبير عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب وإن مع اسمها وخبرها ساد مسد مفعولى يعلمون أو مسد مفعوله الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة وقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الحق أى كائنا من ربهم أو صفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى الكائن من ربهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين والخطاب للكل تغليبا وقرىء على صيغة الغيبة فهو وعيد لأهل الكتاب (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وضع الموصول موضع المضمر للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما يرغمهم منه من الكتاب الناطق بحقية ما كابروا فى قبوله (بِكُلِّ آيَةٍ) أى حجة قطعية دالة على حقية التحويل واللام موطئة للقسم وقوله تعالى (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب للقسم المضمر ساد مسد جواب الشرط والمعنى أنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها الحجة وإنما خالفوك مكابرة وعنادا وتجريد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تعميمه للأمة لما أن المحاجة والإتيان بالآية من الوظائف الخاصة به عليه‌السلام وقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) جملة معطوفة على الجملة الشرطية لا على جوابها مسوقة لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذى ننتظره تغريرا له عليه الصلاة والسلام وطمعا فى رجوعه وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام مضمونها واستمراره وإفراد قبلتهم مع تعددها باعتبار اتحادها فى البطلان ومخالفة الحق ولئلا يتوهم أن مدار النفى هو التعدد وقرىء بتابع قبلتهم على الإضافة (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) الزائغة المتخالفة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ببطلانها وحقية ما أنت عليه وهذه الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والإلهاب للثبات على الحق أى ولئن اتبعت أهواءهم فرضا (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن

١٧٥

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)

____________________________________

متابعة الهوى فإن من ليس من شأنه ذلك إذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام فى سلك الراسخين فى الظلم فما ظن من ليس كذلك وإذن حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم إن وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقها أن تتقدم أو تتأخر فلم تتقدم لئلا يتوهم أنها لتقرير النسبة التى بين الشرط وجوابه المحذوف لأن المذكور جواب القسم ولم تتأخر لرعاية الفواصل ولقد بولغ فى التأكيد من وجوه تعظيما للحق المعلوم وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى واستعظاما لصدور الذنب من الأنبياء عليهم‌السلام (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أى علماءهم إذ هم العمدة فى إيتائه ووضع الموصول موضع المضمر مع قرب العهد للإشعار بعلية ما فى حيز الصلة للحكم والضمير المنصوب فى قوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه‌السلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر بل من حيث كونه مسطورا فى الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التى من جملتها أنه عليه‌السلام يصلى إلى القبلتين كأنه قيل الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه وبهذا يظهر جزالة النظم الكريم وقيل هو إضمار قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنه عليه الصلاة والسلام أنه علم معلوم بغير إعلام فتأمل وقيل الضمير للعلم أو سببه الذى هو الوحى أو القرآن أو التحويل ويؤيد الأول قوله عزوجل (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أى يعرفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة فى كتابهم ولا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكونهم أعرف عندهم منهن بسبب كونهم أحب إليهم عن عمر رضى الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضى الله عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أنا أعلم به منى بابنى قال ولم قال لأنى لست أشك فيه أنه نبى فأما ولدى فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه رضى الله عنهما (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هم الذين كابروا وعاندوا الحق والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يظهرون الحق ولا يكتمونه وأما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما فى تضاعيفه فما هم بصدد الإظهار ولا بصدد الكتم وإنما كفرهم على وجه التقليد (الْحَقُّ) بالرفع على أنه مبتدأ وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) خبره واللام للعهد والإشارة إلى ما عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى الحق الذى يكتمونه أو للجنس والمعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذى أنت عليه لا غيره كالذى عليه أهل الكتاب أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو الحق وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) إما حال أو خبر بعد خبر وقرىء بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون وفى التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهعليه‌السلام من إظهار اللطف به عليه‌السلام ما لا يخفى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أى الشاكين فى كتمانهم الحق عالمين به وقيل فى أنه من ربك وليس المراد به نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع

١٧٦

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٥٠)

____________________________________

منه عليه‌السلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ (وَلِكُلٍّ) أى ولكل أمة من الأمم على أن التنوين عوض من المضاف إليه (وِجْهَةٌ) أى قبلة وقد قرىء كذلك أو لكل قوم من المسلمين جانب من جوانب الكعبة (هُوَ مُوَلِّيها) أحد المفعولين محذوف أى موليها وجهه أو الله موليها إياه وقرىء ولكل وجهة بالإضافة والمعنى ولكل وجهة الله موليها أهلها واللام مزيدة للتأكيد وجبر ضعف العامل وقرىء مولاها أى مولى تلك الجهة قد وليها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أى تسابقوا إليها بنزع الجار كما فى قوله[ثنائى عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإنى مهتد غير مائل] وهو أبلغ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق والمراد بالخيرات جميع أنواعها من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين أو الفاضلات من الجهات وهى المسامتة للكعبة (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أى فى أى موضع تكونوا من موافق أو مخالف مجتمع الأجزاء أو متفرقها يحشركم الله تعالى إلى المحشر للجزاء أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم أو أينما تكونوا من الجهات المختلفة المتقابلة يجعل صلواتكم كأنها صلاة إلى جهة واحدة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع فهو تعليل للحكم السابق (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) تأكيد لحكم التحويل وتصريح بعدم تفاوت الأمر فى حالتى السفر والحضر ومن متعلقة بقوله تعالى (فَوَلِّ) أو بمحذوف عطف هو عليه أى من أى مكان خرجت إليه للسفر فول (وَجْهَكَ) عند صلاتك (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أو افعل ما أمرت به من أى مكان خرجت إليه فول الخ (وَإِنَّهُ) أى هذا الأمر (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى الثابت الموافق للحكمة (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو وعد للمؤمنين وقرىء يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) إليه فى أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الكلام فيه كما مر آنفا (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين حسبما يعرب عنه إيثار

١٧٧

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(١٥١)

____________________________________

كنتم على خرجتم فإن الخطاب عام لكافة المؤمنين المنتشرين فى الآفاق من الحاضرين والمسافرين فلو قيل وحيثما خرجتم لما تناول الخطاب المقيمين فى الأماكن المختلفة من حيث إقامتهم فيها (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) من محالكم (شَطْرَهُ) والتكرير لما أن القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة فبالحرى أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذكر فى كل مرة حكمة مستقلة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) متعلق بقوله تعالى (فَوَلُّوا) وقيل بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت فى التوراة من أوصافه أنه يحول إلى الكعبة واحتجاج المشركين بأنه يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم أهل مكة أى لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده أو بداله فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع أنها أفحش الأباطيل من قبيل ما فى قوله تعالى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة وقيل الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج وقيل الاستثناء للمبالغة فى نفى الحجة رأسا كالذى فى قوله[ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ضرورة أن لا حجة للظالم وقرىء ألا الذين بحرف التنبيه على أنه استئناف (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإن مطاعنهم لا تضركم شيئا (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا أمرى (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أى وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتى اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادة الدارين كما أشير إليه فى قوله عزوجل (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وفى التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجى على طريقة الاستعارة التبعية من الدلالة على كمال العناية بالهداية ما لا يخفى أو عطف على علة مقدرة أى واخشونى لأحفظكم عنهم وأتم الخ أو على قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ) الخ وتوسيط قوله تعالى (فَلا تَخْشَوْهُمْ) الخ بينهما للمسارعة إلى التسلية والتثبيت وفى الخبر تمام النعمة دخول الجنة وعن على رضى الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متصل بما قبله والظرف الأول متعلق بالفعل قدم على مفعوله الصريح لما فى صفاته من الطول والظرف الثانى متعلق بمضمر وقع صفة لرسولا مبينة لتمام النعمة أى ولأتم نعمتى عليكم فى أمر القبلة أو فى الآخرة إتماما كائنا كإتمامى لها بإرسال رسول كائن منكم فإن إرسال الرسول لا سيما المجانس لهم نعمة لا يكافئها نعمة قط وقيل متصل بما بعده أى كما ذكرتم بالإرسال فاذكرونى الخ وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد فيما قبله افتنان وجريان على سنن الكبرياء (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) صفة ثانية لرسول كاشفة لكمال النعمة (وَيُزَكِّيكُمْ) عطف على يتلو أى يحملكم على ما تصيرون به أزكياء (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) صفة أخرى مترتبة فى الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التى

١٧٨

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)

____________________________________

هى عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما فى قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر نظيره فى قصة البقرة وهو السر فى التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما فى تضاعيف الأحاديث الشريفة من الشرائع وقوله عزوجل (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) صريح فى ذلك فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم فى مقام يقتضيه كما فى قوله تعالى (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) عقيب قوله تعالى (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق فى الوحى (فَاذْكُرُونِي) الفاء للدلالة على ترتب الأمر على ما قبله من موجباته أى فاذكرونى بالطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب وهو تحريض على الذكر مع الإشعار بما يوجبه (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم من النعم (وَلا تَكْفُرُونِ) بجحدها وعصيان ما أمرتكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وصفهم بالإيمان إثر تعداد ما يوجبه ويقتضيه تنشيطا لهم وحثا على مراعاة ما يعقبه من الأمر (اسْتَعِينُوا) فى كل ما تأتون وما تذرون (بِالصَّبْرِ) على الأمور الشاقة على النفس التى من جملتها معاداة الكفرة ومقابلتهم المؤدية إلى مقاتلتهم (وَالصَّلاةِ) التى هى أم العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاج إلى التعليل وأما الصلاة فحيث كانت عند المؤمنين أجل المطالب كما ينبئ عنه قوله عليه‌السلام وجعلت قرة عينى فى الصلاة لم يفتقر الأمر بالاستعانة بها إلى التعليل ومعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة للنصرة وإجابة الدعوة ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية (وَلا تَقُولُوا) عطف على استعينوا الخ مسوق لبيان أن لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التى ربما يؤدى إليها الصبر حياة أبدية (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أى هم أموات (بَلْ أَحْياءٌ) أى بل هم أحياء (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) بحياتهم وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وإنما هى أمر روحانى لا يدرك بالعقل بل بالوحى وعن الحسن رحمه‌الله أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع قلت رأيت فى المنام سنة

١٧٩

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

____________________________________

تسع وثلاثين وتسعمائة أنى أزور قبور شهداء أحد رضى الله تعالى عنهم أجمعين وأنا أتلوا هذه الآية وما فى سورة آل عمران وأرددهما متفكرا فى أمرهم وفى نفسى أن حياتهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك إذ رأيت شابا منهم قاعدا فى قبره تام الجسد كامل الخلقة فى أحسن ما يكون من الهيئة والمنظر ليس عليه شىء من اللباس قد بدا منه ما فوق السرة والباقى فى القبر خلا أنى أعلم يقينا أن ذلك أيضا كما ظهر وإنما لا يظهر لكونه عورة فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظر إلى متبسما كأنه ينبهنى على أن الأمر بخلاف رأيى فسبحان من علت كلمته وجلت حكمته وقيل الآية نزلت فى شهداء بدر وكانوا أربعة عشر وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيص الشهداء بذلك لما يستدعيه مقام التحريض على مباشرة مبادى الشهادة ولاختصاصهم بمزيد القرب من الله عز وعلا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أى بقليل من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيب به معانديهم وإنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به وليعلموا أنه شىء يسير له عاقبة حميدة (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) عطف على شىء وقيل على الخوف وعن الشافعى رحمه‌الله الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان ونقص من الأموال الزكاة والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وعن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدى فيقولون نعم فيقول عزوجل أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول الله تعالى ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله عز وعلا ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة والمصيبة ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله عليه‌السلام كل شىء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق له وأنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون ذلك على نفسه ويستسلم والمبشر به محذوف دل عليه ما بعده (أُولئِكَ) إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت ومعنى البعد فيه للإيذان بعلور تبتهم (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ

١٨٠