تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٤٨)

____________________________________

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) توسيطه فيما بين قوليه المحكيين عنه عليه‌السلام للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للاحق كأنهم طلبوا منه عليه‌السلام آية تدل على أنه تعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم. روى أنهم قالوا ما آية ملكه فقال (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أى الصندوق وهو فعلوت من التوب الذى هو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت ورهبوت والمشهور أن يوقف على تائه من غير أن تقلب هاء ومنهم من يقلبها إياها والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه الله عزوجل بعد وفاة موسى عليه‌السلام سخطا على بنى إسرائيل لما عصوا واعتدوا فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال لهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فأتاهم كما وصف والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضى الله عنهما وقال أرباب الأخبار إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتا فيه تماثيل الأنبياء عليهم‌السلام من أولاده وكان من عود الشمشاد نحوا من ثلاثة أذرع فى ذراعين فكان عند آدم عليه‌السلام إلى أن توفى فتوارثه أولاده واحد بعد واحد إلى أن وصل إلى يعقوب عليه‌السلام ثم بقى فى أيدى بنى إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه‌السلام فكان عليه الصلاة والسلام يضع فيه التوراة وكان إذا قاتل قدمه فكانت تسكن إليه نفوس بنى إسرائيل وكان عنده إلى أن توفى ثم تداولته أيدى بنى إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا فى شىء تحاكموا إليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا إذا حضروا القتال يقدمونه بين أيديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه فى موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من بال عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبى إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت فى داره فلما وجدوه عنده أيقنوا بملكه (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أى فى إتيانه سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم أو فى التابوت ما تسكنون إليه وهو التوراة المودعة فيه بناء على ما مر من أن موسى عليه‌السلام إذا قاتل قدمه فتسكن إليه نفوس بنى إسرائيل وقيل السكينة صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهر وذنبه وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر وعن اعلى رضى الله عنه كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)

٢٤١

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)

____________________________________

هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه‌السلام وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما أو أنبياء بنى إسرائيل (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) حال من التابوت أى إن آية ملكه إتيانه حال كونه محمولا للملائكة وقد مر كيفية ذلك ولعل حمل الملائكة على الرواية الأخيرة عبارة عن سوقهم للثورين الحاملين له (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلام النبى عليه‌السلام لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء كلام من جهة الله تعالى جىء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية به وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيره كما سلف (لَآيَةً) عظيمة (لَكُمْ) دالة على ملك طالوت أو على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هى عليه من غير سماع من البشر (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى مصدقين بتمليكه عليكم أو بشىء من الآيات وإن شرطية والجواب محذوف ثقة بما قبله وقيل هى بمعنى إذ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) أى انفصل بهم عن بيت المقدس والأصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر كانفصل وقيل فصل فصولا وقد جوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدى بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وكصد صدودا وصده صدا ورجع رجوعا ورجعه رجعا والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من طالوت أى ملتبسا بهم ومصاحبا لهم روى أنه قال لقومه لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا أن يجرى الله تعالى لهم نهرا فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئته تعالى من جهة النبى عليه‌السلام أو بطريق الوحى عند من يقول بنبوته (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وقرىء بسكونها (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أى ابتدأ شربه من النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة (فَلَيْسَ مِنِّي) أى من جملتى وأشياعى المؤمنين وقيل ليس بمتصل بى ومتحد معى من قولهم فلان منى كأنه بعضه لكمال اختلاطهما (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أى لم يذقه من طعم الشىء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا أو غيرهما قال[وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا] أى نوما (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله تعالى (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) وإنما أخر عن الجملة الثانية لإبراز كمال العناية بها ومعناه الرخصة فى اغتراف الغرفة باليد دون الكروع والغرفة ما يغرف وقرىء بفتح الغين على أنها مصدر والباء متعلقة باغترف أو بمحذوف وقع صفة لغرفة أى غرفة كائنة بيده يروى أن الغرفة كانت

٢٤٢

تكفى الرجل لشربه وأدواته ودوابه وأما الذين شربوا منه فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش (فَشَرِبُوا مِنْهُ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أى فابتلوا به فشربوا منه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم المشار إليهم فيما سلف بالاستثناء من التولى وقرىء إلا قليل منهم ميلا إلى جانب المعنى وضربا عن عدوة اللفظ جانبا فإن قوله تعالى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) فى قوة أن يقال فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما فى قول الفرزدق[وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف] فإن قوله لم يدع فى حكم لم يبق (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أى النهر (هُوَ) أى طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل والظرف متعلق بجاوز لا بآمنوا وقيل الواو حالية والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا من الموصول كأنه قيل فلما جاوزه والحال أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليل وفيه إشارة إلى أن من عداهم بمعزل من الإيمان (قالُوا) أى بعض من معه من المؤمنين لبعض (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أى بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة. قيل كانوا مائة ألف مقاتل شاكى السلاح (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال مخاطبهم فقيل قال (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) قيل أى الخلص منهم الذين يتيقنون لقاء الله تعالى بالبعث ويتوقعون ثوابه وإفرادهم بذلك الوصف لا ينافى إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين فى التيقن والتوقع متفاوتة أو الذين يعلمون أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى وقيل الموصول عبارة عن المؤمنين كافة والضمير فى قالوا للمنخذلين عنهم كأنهم قالوه اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) أى فرقة وجماعة من الناس من فأوت رأسه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجع فوزنها على الأول فعة وعلى الثانى فلة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدة للتكثير وهى فى حيز الرفع بالابتداء خبرها غلبت أى كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة (بِإِذْنِ اللهِ) أى بحكمه وتيسيره فإن دوران كافة الأمور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وإن قل عدده ولا يعز من خذله وإن كثر أسبابه وعدده وقد روعى فى الجواب نكتة بديعة حيث لم يقل أطاقت بفئة كثيرة حسبما وقع فى كلام أصحابهم مبالغة فى رد مقالتهم وتسكين قلوبهم وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل فى ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث لا سيما بالاستشهاد فإن العلم به ربما يورث اليأس من الغلبة ولا لتوقع ثوابه تعالى ولا ريب فى أن ما ذكر فى حيز الصلة ينبغى أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول فلا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فلعل المراد بلقائه تعالى لقاء نصره وتأييده عبر عنه بذلك مبالغة كما عبر عن مقارنة نصره تعالى بمقارنته سبحانه حيث قيل (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فإن المراد به معية نصره وتوفيقه حتما وحملها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميما لجوابهم وتأييدا له بطريق الاعتراض التذييلى تشجيعا لأصحابهم وتثبيتا لهم على الصبر المؤدى إلى الغلبة ولا تعلق له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعا وكذا الحال إذا جعل ذلك ابتداء كلام من جهة الله تعالى جىء به تقريرا لكلامهم والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبى أو من جهة التابوت والسكينة أنهم ملاقو نصر الله العزيزكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضا نغلب جالوت وجنوده وإيراد خبر أن اسما مع أن اللقاء

٢٤٣

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)

____________________________________

مستقبل للدلالة على تقرره وتحققه (وَلَمَّا بَرَزُوا) أى ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض فى موطن الحرب (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وشاهدوا ما هم عليه من العدد والعدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين بهم عادة (قالُوا) أى جميعا عند تقوى قلوب الفريق الأول منهم بقول الفريق الثانى متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الصعبة الضيقة وفى التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال وإيثار الإفراغ المعرب عن الكثرة وتنكير الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) فى مداحض القتال ومزال النزال وثبات القدم عبارة عن كمال القوة والرسوخ عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرر فى حيز واحد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بقهرهم وهزمهم ووضع الكافرين فى موضع الضمير العائد إلى جالوت وجنوده للإشعار بعلة النصر عليهم ولقد راعوا فى الدعاء ترتيبا بديعا حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر الذى هو ملاك الأمر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر الذى هو الغاية القصوى (فَهَزَمُوهُمْ) أى كسروهم بلا مكث (بِإِذْنِ اللهِ) بنصره وتأييده إجابة لدعائهم وإيثار هذه الطريقة على طريقة قوله عزوجل (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) الخ للمحافظة على مضمون قولهم غلبت فئة كثيرة بإذن الله (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) كان أيشى أبو داود فى عسكر طالوت معه ستة من بنيه وكان داود عليه‌السلام سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذى يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر فى طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها احملنا فإنك بنا تقتل جالوت فحملها فى مخلاته قيل لما أبطأ على أبيه خبر إخوته فى المصاف أرسل داود إليهم ليأتيه بخبرهم فأتاهم وهم فى القراع وقد برز جالوت بنفسه إلى البراز ولا يكاد يبارزه أحد وكان ظله ميلا فقال داود لأخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف فزجروه فنحا ناحية أخرى ليس فيها إخوته وقد مر به طالوت وهو يحرض الناس على القتال فقال له داود ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف قال طالوت أنكحه بنتى وأعطيه شطر مملكتى فبرز له داود فرماه بما معه من الأحجار بالمقلاع فأصابه فى صدره فنفذ الأحجار منه وقتلت بعده ناسا كثيرا وقيل إنما كلمته الأحجار عند بروزه لجالوت فى المعركة فأنجز له طالوت ما وعده وقيل إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلى أن قتل وملك داود عليه‌السلام وأعطى النبوة وذلك قوله تعالى (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أى ملك بنى إسرائيل فى مشارق الأرض المقدسة ومغاربها (وَالْحِكْمَةَ) أى النبوة ولم يجتمع فى بنى إسرائيل الملك والنبوة قبله إلا له بل كان الملك فى سبط والبنوة فى سبط

٢٤٤

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(٢٥٣)

____________________________________

آخر وما اجتمعوا قبله على ملك قط (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) أى مما يشاء الله تعالى تعليمه إياه لا مما يشاء داود عليه‌السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطر ببال أحد ولا يقع فى أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته كالسرد بإلانة الحديد ومنطق الطير والدواب ونحو ذلك من الأمور الخفية (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ) الذين يباشرون الشر والفساد (بِبَعْضٍ) آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى من القتل كما فى القصة المحكية أو غيره وقرىء دفاع الله على أن صيغة المبالغة للمبالغة (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض ويصلحها وقيل لو لا أن الله ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بعيثهم وقتلهم المسلمين أو لو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض قاطبة (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ) عظيم لا يقادر قدره (عَلَى الْعالَمِينَ) كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائى مؤلف من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالى خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعنى كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى متفضل فى ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وتنتظم به مصالح العالم وتنصلح أحوال الأمم (تِلْكَ) إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وخبر طالوت على التفصيل المرقوم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه (آياتُ اللهِ) المنزلة من عنده تعالى والجملة مستأنفة وقوله تعالى (نَتْلُوها عَلَيْكَ) أى بواسطة جبريل عليه‌السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة وإما جملة مستقلة لا محل لها من الإعراب (بِالْحَقِّ) فى حيز النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أى ملتبسة باليقين الذى لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما فى كتهم أو من فاعله أى نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب أو من الضمير المجرور أى ملتبسا بالحق والصدق (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أى من جملة الذين أرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتنا وإجراء أوامرنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملة لا تجرى بيننا وبين غيرهم فهى شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة والسلام إثر بيان ما يستوجبها والتأكيد من مقتضيات مقام الجاحدين بها (تِلْكَ الرُّسُلُ) استئناف فيه رمز إلى أنه عليه الصلاة والسلام من

٢٤٥

أفاضل الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام إثر بيان كونه من جملتهم والإشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاللام فى المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم وقيل إلى الذين ذكرت قصصهم فى السورة وقيل إلى الذين ثبت علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فى مراتب الكمال بأن خصصناه حسبما تقتضيه مشيئتنا بمآثر جليلة خلا عنها غيره (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا أى فضله بأن كلمه تعالى بغير سفير وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمه تعالى ليلة الخيرة وفى الطور وقرىء كلم الله بالنصب وقرىء كالم الله من المكالمة فإنه كلم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه ويؤيده كليم الله بمعنى مكالمه وإيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة والرمز إلى ما بين التكليم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أى ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين فى معارج الفضل بدرجات قاصية ومراتب نائبة وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال فى درجات الشرف والظاهر أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه الإخبار بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك فى قوة بعضهم فإنه قد خص بالدعوة العامة والحجج الجمة والمعجزات المستمرة والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهور والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغنى عن التعيين وقيل إنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث خصه تعالى بكرامة الخلة وقيل إدريس عليه‌السلام حيث رفعه مكانا عليا وقيل أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل (وَأَيَّدْناهُ) أى قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بضم الدال وقرىء بسكونها أى بالروح المقدسة كقولك رجل صدق وهى روح عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه‌السلام لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل بالإنجيل كما مر وإفراده عليه‌السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين فى شأنه عليه‌السلام من التفريط والإفراط والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم‌السلام متفاوتة الأقدار فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى جاءوا من بعد الرسل من الأمم المختلفة أى لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة وقيل تقديره ولو شاء هدى الناس جميعا ما اقتتل الخ وليس بذاك (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من جهة أولئك الرسل (الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الإعراض عن سننهم المؤدى إلى الاقتتال فمن متعلقة باقتتل (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائى مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاءت به أولئك الرسل من البينات وعملوا به (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة

٢٤٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)

____________________________________

عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء أحوالهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة (مَا اقْتَتَلُوا) وما نبض منهم عرق التطاول والتعادى لما أن الكل تحت ملكوته تعالى فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجب لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه فى الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مخارفى ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عزوجل (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أى من الأمور الوجودية والعدمية التى من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضا من جملة الأفعال أى يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بين على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) فى سبيل الله (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أى شيئا مما رزقناكموه على أن ما موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) والمراد به الإنفاق الواجب بدلالة ما بعده من الوعيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) كلمة من متعلقة مما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية أى أنفقوا بعض ما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا تقدرون على تلافى ما فرطتم فيه إذ لا تبايع فيه حتى تتبايعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يسامحكم به أخلاؤكم أو يعينوكم عليه ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولا حتى تتوسلوا بشفعاء يشفعون لكم فى حط ما فى ذمتكم وإنما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنها فى التقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة وقرىء بفتح الكل (وَالْكافِرُونَ) أى والتاركون للزكاة وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد كما فى قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ (هُمُ الظَّالِمُونَ) أى الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال فى غير موضعه وصرفوه إلى غير وجهه (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر أى هو المستحق للمعبودية لا غير وفى إضمار خبر لا مثل فى الوجود أو يصح أن يوجد خلاف للنحاة معروف (الْحَيُّ) الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء وهو إما خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من لا إله إلا هو أو بدل من الله أو صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت (الْقَيُّومُ) فعول من قام بالأمر إذا حفظه أى دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه وقيل

٢٤٧

هو القائم بذاته المقيم لغيره (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة ما يتقدم النوم من الفتور قال عدى بن الرقاع العاملى[وسنان أقصده النعاس فرنقت فى عينه سنة وليس بنائم] والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف المشاعر الظاهرة عن الإحساس رأسا والمراد بيان انتفاء اعتراء شىء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقام التنزيه فلا سبيل إلى حمل النظم الكريم على طريقة المبالغة والترقى بناء على أن القادر على دفع السنة قد لا يقدر على دفع النوم القوى كما فى قولك فلان يقظ لا تغلبه سنة ولا نوم وإنما تأخير النوم للمحافظة على ترتيب الوجود الخارجى وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفى لكل منهما كما فى قوله عزوجل (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) الآية وأما التعبير عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عروض السنة والنوم لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذ والاستيلاء وقيل هو من باب التكميل والجملة تأكيد لما قبلها من كونه تعالى حيا قيوما فإن من يعتريه أحدهما يكون موقوف الحياة قاصرا فى الحفظ والتدبير وقيل استئناف مؤكد لما سبق وقيل حال مؤكدة من الضمير المستكن فى القيوم (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده فى الألوهية والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده شفاعة وضراعة فضلا عن أن يدافعه عنادا أو مناصبة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أى ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضى أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يحسونه وما يعقلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه والضمير لما فى السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذى من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أى من معلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلموه وعطفه على ما قبله لما أنهما جميعا دليل على تفرده تعالى بالعلم الذاتى التام الدال على وحدانيته (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الكرسى ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد وكأنه منسوب إلى الكرس الذى هو الملبد وليس ثمة كرسى ولا قاعد ولا قعود وإنما هو تمثيل لعظمة شأنه عزوجل وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة على طريقة قوله عز قائلا (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وقيل كرسيه مجاز عن علمه أخذا من كرسى العالم وقيل عن ملكه أخذا من كرسى الملك فإن الكرسى كلما كان أعظم تكون عظمة القاعد أكثر وأوفر فعبر عن شمول علمه أو عن بسطة ملكه وسلطانه بسعة كرسيه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل هو جسم بين يدى العرش محيط بالسموات السبع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما السموات السبع والأرضون السبع مع الكرسى إلا كحلقة فى فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ولعله الفلك الثامن وعن الحسن البصرى أنه العرش (وَلا يَؤُدُهُ) أى لا يثقله ولا يشق عليه (حِفْظُهُما) أى حفظ السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظتهما مستتبع لحفظه (وَهُوَ الْعَلِيُّ) المتعالى بذاته عن الأشباه والأنداد (الْعَظِيمُ)

٢٤٨

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)

____________________________________

الذى يستحقر بالنسبة إليه كل ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآية الكريمة على أمهات المسائل الإلهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الجلية فإنها ناطقة بأنه تعالى موجود متفرد بالإلهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجد لغيره لما أن القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعترى النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده إلا من أذن له فيه العالم وحده بجميع الأشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الأوهام عظيم لا تحدق به الأفهام تفردت بفضائل رائقة وخواص فائقة خلت عنها أخواتها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أعظم آية فى القرآن آية الكرسى من قرأها بعث الله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة وقال عليه الصلاة والسلام ما قرئت هذه الآية فى دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة يا على علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله تعالى على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله وقال عليه الصلاة والسلام سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن سورة البقرة وسيد البقرة آية الكرسى وتخصيص سيادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعرب بالذكر فى أثناء تعداد السيادات الخاصة لا يدل على نفى ما دلت عليه الأخبار المستفيضة وانعقد عليه الإجماع من سيادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع أفراد البشر. (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) جملة مستأنفة جاء بها إثر بيان تفرده سبحانه وتعالى بالشئون الجليلة الموجبة للإيمان به وحده إيذانا بأن من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم وقيل هو خبر فى معنى النهى أى لا تكرهوا فى الدين فقيل منسوخ بقوله تعالى (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقيل خاص بأهل الكتاب حيث حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروى أنه كان لأنصارى من بنى سالم بن عوف ابنان قد تنصرا قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فخلاهما (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) استئناف تعليلى صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه كما فى قوله عزوجل (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أى إذ قد تبين بما ذكر من نعوته تعالى التى يمتنع توهم اشتراك غيره فى شىء منهما الإيمان الذى هو الرشد الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذى هو الغى المؤدى إلى الشقاوة السرمدية (فَمَنْ يَكْفُرْ

٢٤٩

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

____________________________________

بِالطَّاغُوتِ) هو بناء مبالغة من الطغيان كالملكوت والجبروت قلب مكان عينه ولامه فقيل هو فى الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسى وقيل اسم جنس مفرد مذكر وإنما الجمع والتأنيث لإرادة الآلهة وهو رأى سيبويه وقيل هو جمع وهو مذهب المبرد وقيل يستوى فيه المفرد والجمع والتذكير والتأنيث أى فمن يعمل أثر ما تميز الحق من الباطل بموجب الحجج الواضحة والآيات البينة ويكفر بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عبد من دون الله تعالى أو صد عن عبادته تعالى لما تبين له كونه بمعزل من استحقاق العبادة (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) وحده لما شاهد من نعونه الجليلة المقتضية لاختصاص الألوهية به عزوجل الموجبة للإيمان والتوحيد وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخلية متقدمة على التحلية (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أى بالغ فى التمسك بها كأنه وهو ملتبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه (لَا انْفِصامَ لَها) الفصم الكسر بغير إبانة كما أن القصم هو الكسر بإبانة ونفى الأول يدل على انتفاء الثانى بالأولوية والجملة إما استئناف مقرر لما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة والعامل استمسك أو من الضمير المستتر فى الوثقى ولها فى حيز الخبر أى كائن لها والكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذى لا يحتمل النقيض أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة فى المفردات ويجوز أن تكون العروة الوثقى مستعارة للاعتقاد الحق الذى هو الإيمان والتوحيد لا للنطر الصحيح المؤدى إليه كما قيل فإنه غير مذكور فى حيز الشرط والاستمساك بها مستعارا لما ذكر من الملازمة أو ترشيحا للاستعارة الأولى (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالعزائم والعقائد والجملة اعتراض تذييلى حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى معينهم أو متولى أمورهم والمراد بهم الذين ثبت فى علمه تعالى إيمانهم فى الجملة مآلا أو حالا (يُخْرِجُهُمْ) تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير فى ولى (مِنَ الظُّلُماتِ) التى هى أعم من ظلمات الكفر والمعاصى وظلمات الشبه بل مما فى بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس إلى مراتبها القوية الجلية بل مما فى جميع مراتها بالنظر إلى مرتبة العيان كما ستعرفه (إِلَى النُّورِ) الذى يعم نور الإيمان ونور الإيقان بمراتبة ونور العيان أى يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التى وقع فيها إلى ما يقابلها من النور وإفراد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أى الذين ثبت فى علمه تعالى كفرهم (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أى الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق فالموصول مبتدأ وأولياؤهم مبتدأ ثان والطاغوت خبره والجملة خبر للأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطاغوت فى

٢٥٠

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢٥٨)

____________________________________

مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا (يُخْرِجُونَهُمْ) بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء (مِنَ النُّورِ) الفطرى الذى جبل عليه الناس كافة أو من نور البينات التى يشاهدونها من جهة النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها (إِلَى الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والانهماك فى الغى وقيل نزلت فى قوم ارتدوا عن الإسلام والجملة تفسير لولاية الطاغوت أو خبر ثان كما مر وإسناد الإخراج من حيث السببية إلى الطاغوت لا يقدح فى استناده من حيث الخلق إلى قدرته سبحانه (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما يتبعه من القبائح (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملابسوها وملازموها بسبب ما لهم من الجرائم (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ما كثون أبدا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير له على طريقة قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها وإنما بدىء بهذا لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة فى الله عزوجل وما أتى بها فى أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعددا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير فى تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه‌السلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاض حجة الكافر من آثار ولايته تعالى وهمزة الاستفهام لإنكار النفى وتقرير المنفى أى ألم تنظر أو ألم ينته علمك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أى قد تحققت الرؤية وتقررت بناء على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظ من الخطاب فظهر أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام تشريف له وإيذان بتأييده فى المحاجة (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أى لأن آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحمله على المحاجة أو حاجه لأجله وضعا للمحاجة التى هى أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر كما يقال عاديتنى لأن أحسنت إليك أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك للكافر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف لحاج أو بدل من آتاه على الوجه الأخير (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بفتح ياء ربى وقرىء بحذفها* روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال من ربك الذى تدعو إليه قال ربى الذى يحيى ويميت أى يخلق الحياة والموت فى الأجساد (قالَ) استتناف مبنى على السؤال كأنه قيل كيف حاجه فى هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) روى أنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر فقال ذلك (قالَ إِبْراهِيمُ) استئناف كما سلف كأنه قيل

٢٥١

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٥٩)

____________________________________

فماذا قال إبراهيم لمن فى هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه فقيل قال (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) حسبما تقتضيه مشيئته (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) إن كنت قادرا على مثل مقدوراته تعالى لم يلتفت عليه‌السلام إلى إبطال مقالة اللعين إيذانا بأن بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصدى لإبطالها من قبيل السعى فى تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالا للتمويه والتلبيس (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أى صار مبهوتا وقرىء على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أى فغلب إبراهيم الكافر وأسكته وإيراد الكفر فى حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفرا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله أى لا يهدى الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلال أو إلى سبيل النجاة أو إلى طريق الجنة يوم القيامة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) استشهاد على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير له معطوف على الموصول السابق وإيثار أو الفارقة على الواو الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر والكاف إما اسمية كما اختاره قوم جىء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما فى قولك الفعل الماضى مثل نصر وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى أو لم تر إلى مثل الذى أو إلى الذى مر على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود أى قد رأيت ذلك وشاهدته فإذن لا ريب فى أن الله ولى الذين آمنوا الخ. هذا وأما جعل الهمزة لمجرد التعجيب على أن يكون المعنى فى الأول ألم تنظر إلى الذى حاج الخ أى انظر إليه وتعجب من أمره وفى الثانى أو أرأيت مثل الذى مر الخ إيذانا بأن حاله وما جرى عليه فى الغرابة بحيث لا يرى له مثل كما استقر عليه رأى الجمهور فغير خليق بحزالة التنزيل وفخامة شأنه الجليل فتدبر والمار هو عزير بن شرخيا قاله قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن يزيد والضحاك والسدى رضى الله عنهم وقيل هو أرميا بن حلقيا من سبط هرون عليه‌السلام قاله وهب وعبيد الله بن عمير وقيل أرميا هو الخضر بعينه. قال مجاهد كان المار رجلا كافرا بالبعث وهو بعيد والقرية بيت المقدس قاله وهب وعكرمة والربيع وقيل هى دير هرقل على شط دجلة وقال الكلبى هى دير سابر آباد وقال السدى هى ديار سلماباد والأول هو الأظهر والأشهر روى أن بنى إسرائيل لما بالغوا فى تعاطى الشر والفساد وجاوزوا فى العتو والطغيان كل حد معتاد سلط الله تعالى عليهم بختنصر البابلى فسار إليهم فى ستمائة ألف راية حتى وطئ الشام وخرب بيت المقدس وجعل بنى إسرائيل أثلاثا ثلث منهم قتلهم وثلث منهم أقرهم بالشام وثلث منهم سباهم وكانوا مائة ألف

٢٥٢

غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على أفظع مرأى وأوحش منظر وذلك قوله عزوجل (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أى ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروش ثم الحيطان من خوى البيت إذا سقط أو من خوت الأرض أى تهدمت والجملة حال من ضمير مر أو من قرية عند من يجوز الحال من النكرة مطلقا (قالَ) أى تلهفا عليها وتشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) وهى على ما يرى من الحالة العجيبة المباينة للحياة وتقديمها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستبعاد ناشىء من جهتها لا من جهة الفاعل وأنى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يحيى وأيا ما كان فالمراد استبعاد عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيدى سبأ ومن غيرهم وإنما عبر عنها بالإحياء الذى هو علم فى البعد عن الوقوع عادة تهويلا للخطاب وتأكيدا للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل (بَعْدَ مَوْتِها) وحيث كان هذا التعبير معربا عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجه وآكده أراه الله عزوجل آثر ذى أثير أبعد الأمرين فى نفسه ثم فى غيره ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة فى إزاحة ما عسى يختلج فى خلده وأما حمل إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرض لحال القرية دون حالهم والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا وعظاما مع كونه أدخل فى الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستحيط به خبرا (فَأَماتَهُ اللهُ) وألبثه على الموت (مِائَةَ عامٍ) روى أنه لما دخل القرية ربط حماره فطاف بها ولم يربها أحدا فقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت فتناول من التين والعنب وشرب من عصيره ونام فأماته الله تعالى فى منامه وهو شاب وأمات حماره وبقية تينه وعنبه وعصيره عنده ثم أعمى الله تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد فلما مضى من موته سبعون سنة وجه الله عز وعلا ملكا عظيما من ملوك فارس يقال له يوشك إلى بيت المقدس ليعمره ومعه ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرونه وأهلك الله تعالى بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس وتراجع إليه من تفرق منهم فى الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه فلما تمت المائة من موت عزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثَهُ) وإيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على البارىء تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يوم موته عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال له بعد بعثه فقيل قال (كَمْ لَبِثْتَ) ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشئونه تعالى وأن إحياءه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم أنه هين فى الجملة بل بعد مدة طويلة وينحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع فى تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهرا طويلا من غير تغير ما وكم نصب على الظرفية مميزها محذوف أى كم وقتا لبثت والقائل هو الله تعالى أو ملك مأمور بذلك من قبله تعالى قيل نودى من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ

٢٥٣

بَعْضَ يَوْمٍ) قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه وأما ما يقال من أنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما فالتفت إليها فرأى منها بقية فقال أو بعض يوم على وجه الإضراب فبمعزل من التحقيق إذ لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله (قالَ) استئناف كما سلف (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) عطف على مقدر أى ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار (فَانْظُرْ) لتعاين أمرا آخر من دلائل قدرتنا (إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أى لم يتغير فى هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد. روى أنه وجد تينه وعنبه كما جنى وعصيره كما عصر والجملة المنفية حال بغير واو كقوله تعالى (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) إما من الطعام والشراب وإفراد الضمير لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء وإما من الأخير اكتفاء بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة من قرأ وهذا شرابك لم يتسن والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة لما أن لامها هاء أو واو وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فقلبت نونه حرف علة كما فى تقضى البازى وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنه لم يمر عليه السنون التى مرت لا حقيقة بل تشببها أى هو على حاله كأنه لم يلبث مائة عام وقرىء لم يسنه بإدغام التاء فى السين (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت أوصاله وتمزقت ليتبين لك ما ذكر من اللبث المديد وتطمئن به نفسك وقوله عزوجل (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق أى فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل ولنجعلك آية للناس الموجودين فى هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة كما سيأتى أو متعلق بفعل مقدر بعده أى ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك فرق بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وتكرير الأمر فى قوله تعالى (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) مع أن المراد عظام الحمار أيضا لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها أى وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء فى غيرك بعد ما شاهدت نفسه فى نفسك (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاى المعجمة أى نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فتركبها تركيبا لائقا بها وقال الكسائى نليها ونعظمها ولعل من فسره بنحييها أراد بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ ننشرها بالراء من أنشر الله تعالى الموتى أى أحياها لا معناه الحقيقى لقوله تعالى (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أى نسترها به كما يستر الجسد باللباس وأما من قرأ ننشرها بفتح النون وضم الشين فلعله أراد به ضد الطى كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسطها والجملة إما حال من العظام أى وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أى وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما أنها مما لا تقتضى الحكمة بيانه. روى أنه نودى أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعى فاجتمع كل جزء من أجزائها التى ذهب بها الطير والسباع وطارت بها الرياح من كل سهل وجبل فانضم بعضها إلى بعض والتصق كل عضو بما يليق به الضلع بالضلع والذراع بمحلها والرأس بموضعها ثم الأعصاب والعروق ثم انبسط عليه اللحم

٢٥٤

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٦٠)

____________________________________

ثم الجلد ثم خرجت منه الشعور ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أى ما دل عليه الأمر بالنظر إليه من كيفية الإحياء بمباديه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كما فى قوله عزوجل (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) بعد قوله (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) كأنه قيل فأنشزها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين له ذلك أى اتضح اتضاحا تاما (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها ما شاهده فى نفسه وفى غيره من تعاجيب الآثار (قَدِيرٌ) لا يستعصى عليه أمر من الأمور وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير ولم يتبدل بل إنما تبدل بالعيان وصفه وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادى واستعظاما للأمر وقد قيل فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم أى فلما تبين له أن الله على كل شىء قدير قال أعلم أن الله على كل شىء قدير فتدبر وقرىء تبين له على صيغة المجهول وقرىء قال اعلم على صيغة الأمر. روى أنه ركب حماره وأتى محلته وأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير قالت نعم وأين ذكرى عزير قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال فإنى عزير قالت سبحان الله أنى يكون ذلك قال قد أماتنى الله مائة عام ثم بعثنى قالت إن عزير أكان رجلا مستجاب الدعوة فادع الله لى يرد على بصرى حتى أراك فدعا ربه ومسح بيده عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال لها قومى بإذن الله فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بنى إسرائيل وهم فى أنديتهم وكان فى المجلس ابن لعزيز قد بلغ مائة وثمانى عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت انظروا فإنى بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فهض الناس فأقبلوا إليه فقال ابنه كان لأبى شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر ببيت المقدس من قراء التوراة أربعين ألف رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثنى أبى عن جدى أنه دفن التوراة يوم سبينا فى خابية فى كرم فإن أريتمونى كرم جدى أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير من ظهر القلب فما اختلفا فى حرف واحد فعند ذلك قالوا هو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور وإنما لم يسلك به مسلك

٢٥٥

الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذى قال رب الخ لجريان ذكره عليه‌السلام فى أثناء المحاجة ولأنه لا دخل لنفسه عليه‌السلام فى أصل الدليل كدأب عزير عليه‌السلام فإن ما جرى عليه من إحيائه بعد مائة عام من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته والظرف منتصب بمضمر صرح بمثله فى نحو قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أى واذكر وقت قوله عليه‌السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنع الله تعالى لتقف على ما مر من ولايته تعالى وهدايته وتوجيه الأمر بالذكر فى أمثال هذه المواقع إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذكر غير مرة من المبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها مفصلة فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها بحيث لا يشذ عنها شىء مما ذكر عند الحكاية أو لم يذكر كأنها مشاهدة عيانا (رَبِّ) كلمة استعطاف قدمت بين يدى الدعاء مبالغة فى استدعاء الإجابة (أَرِنِي) من الرؤية البصرية المتعدية إلى واحد وبدخول همزة النقل طلبت مفعولا آخر هو الجملة الاستفهامية المعلقة لها فإنها تعلق كما يعلق النظر البصرى أى اجعلنى مبصرا (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) بأن تحييها وأنا أنظر إليها وكيف فى محل نصب على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش والعامل فيها تحيى أى فى أى حال أو على أى حال تحيى قال القرطبى الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شىء متقرر الوجود عند السائل والمسئول فالاستفهام ههنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أى بصرنى كيفية إحيائك للموتى وإنما سأله عليه‌السلام ليتأيد إيقانه بالعيان ويزداد قلبه اطمئنانا على اطمئنان وأما ما قيل من أن نمرود لما قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم عليه‌السلام إن إحياء الله تعالى برد الأرواح إلى الأجساد فقال نمرود هل عاينته فلم يقدر على أن يقول نعم فانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ذلك فيأباه تعليل السؤال بالاطمئنان (قالَ) استئناف كما مر غير مرة (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) عطف على مقدر أى ألم تعلم ولم تؤمن بأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته قاله عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه‌السلام أثبت الناس إيمانا وأقواهم يقينا ليجيب بما أجاب به فيكون ذلك لطفا للسامعين (قالَ بَلى) علمت وآمنت بأنك قادر على الإحياء على أى كيفية شئت (وَلكِنْ) سألت ما سألت (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بمضامة العيان إلى الإيمان والإيقان وأزداد بصيرة بمشاهدته على كيفية معينة (قالَ فَخُذْ) الفاء لجواب شرط محذوف أى إن أردت ذلك فخذ (أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل هو اسم لجمع طائر كركب وسفر وقيل جمع له كتاجر وتجر وقيل هو مصدر سمى به الجنس وقيل هو تخفيف طير بمعنى طائر كهين فى هين ومن متعلقة بخذ أو بمحذوف وقع صفة لأربعة أى أربعة كائنة من الطير قيل هى طاوس وديك وغراب وحمامة وقيل نسر بدل الأخير وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتى ما يفعل به من التجزئة والتفريق وغير ذلك (فَصُرْهُنَّ) من صاره يصوره أى أماله وقرىء بكسر الصاد من صاره يصيره أى أملهن واضممهن وقرىء فصرهن بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وقرىء فصرهن من التصرية بمعنى الجمع أى اجمعهن (إِلَيْكَ) لتتأملها وتعرف شياتها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا. روى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق

٢٥٦

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٦٢)

____________________________________

أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ويمسك رءوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أى جزئهن وفرق أجزاءهن على ما بحضرتك من الجبال قيل كانت أربعة أجبل وقيل سبعة فجعل على كل جبل ربعا أو سبعا من كل طائر وقرىء جزؤا بضمتين وجزا بالتشديد بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ) فى حيز الجزم على أنه جواب الأمر ولكنه بنى لا تصاله بنون جمع مؤنث (سَعْياً) أى ساعيات مسرعات أو ذوات سعى طيرانا أو مشيا وإنما اقتصر على حكاية أوامره عزوجل من غير تعرض لامتثاله عليه‌السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثار قدرته تعالى كما روى أنه عليه‌السلام نادى فقال تعالين بإذن الله فجعل كل جزء منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رءوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل ويمن الضراعة فى الدعاء وحسن الأدب فى السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله فى الحال على أيسر ما يكون من الوجوه وأرى عزيرا ما أراه بعد ما اماته مائة عام (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه شىء عما يريده (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة فى أفاعيله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى فى وجوه الخيرات من الواجب والنفل (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) لابد من تقرير مضاف فى أحد الجانبين أى مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أى أخرجت ساقا تشعب منها سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كما يشاهد ذلك فى الذرة والدخن فى الأراضى المغلة بل أكثر من ذلك وإسناد الإنبات إلى الحبة مجازى كإسناده إلى الأرض والربيع وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها حاضرة بين يدى الناظر (وَاللهُ يُضاعِفُ) تلك المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى (لِمَنْ يَشاءُ) أن يضاعف له بفضله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال فى مقادير الثواب (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة (عَلِيمٌ) بنية المنفق ومقدار إنفاقه وكيفية تحصيل ما أنفقه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) جملة مبتدأة جىء بها لبيان كيفية الإنفاق الذى بين فضله بالتمثيل المذكور (ثُمَ

٢٥٧

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢٦٤)

____________________________________

لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) أى ما أنفقوه أو إنفاقهم (مَنًّا وَلا أَذىً) المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب بذلك عليه حقا والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا للدلالة على شمول النفى لا تباع كل واحد منهما وثم لإظهار علو رتبة المعطوف قيل نزلت فى عثمان رضى الله عنه حين جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن ابن عوف رضى الله عنه حين أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة ولم يكد يخطر ببالهما شىء من المن والأذى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أى حسبما وعدلهم فى ضمن التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفى تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وأما إيهام أنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقام الترغيب فى الفعل والحث عليه (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فى الدارين من لحوق مكروه من المكاره (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات مطلوب من المطالب قل أو جل أى لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن اصلا بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله وهيبته واستقصارا للجد والسعى فى إقامة حقوق العبودية من خواص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أى كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير إعطاء شىء (وَمَغْفِرَةٌ) أى ستر لما وقع من السائل من الإلحاف فى المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه وإنما صح الابتداء بالنكرة فى الأول لاختصاصها بالوصف وفى الثانى بالعطف أو بالصفة المقدرة أى ومغفرة كائنة من المسئول (خَيْرٌ) أى للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) لكونها مثوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأولين من الضرر والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المن والأذى وتفسير المغفرة بنيل مغفرة من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناء على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسئول يؤدى إلى أن يكون فى الصدقة الموصوفة بالنسبة إليه خير فى الجملة مع بطلانها بالمرة (وَاللهُ غَنِيٌّ) لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤنة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حَلِيمٌ) لا يعاجل أصحاب المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما والجملة تذييل لما قبلها مشتمل على الوعد والوعيد مقرر لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

٢٥٨

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)

____________________________________

أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة مبالغة فى إيجاب العمل بموجب النهى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أى لا تحبطوا أجرها بواحد منهما (كَالَّذِي) فى محل النصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذى (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) وإما على أنه حال من فاعل لا تبطلوا أى لا تبطلوها مشابهين الذى ينفق أى الذى يبطل إنفاقه بالرياء وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأى سيبويه وانتصاب رئاء إما على أنه علة لينفق أى لأجل رئائهم أو على أنه حال من فاعله أى ينفق ماله مرائيا والمراد به المنافق لقوله تعالى (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) حتى يرجوا ثوابا أو يخشى عقابا (فَمَثَلُهُ) الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أى فمثل المرائى فى الإنفاق وحالته العجيبة (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أى حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ) أى شىء يسير منه (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أى مطر عظيم القطر (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أملس ليس عليه شىء من الغبار أصلا (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا قطعا كقوله تعالى (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) والجملة استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل لا يقدرون الخ ومن ضرورة كون مثلهم كما ذكر كون مثل من يشههم وهم أصحاب المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما فى قوله عزوجل (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) لما أن المراد به الجنس أو الجمع أو الفريق كما أن الضمائر الأربعة السابقة له باعتبار اللفظ (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الخير والرشاد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من خصائص الكفار ولابد للمؤمنين أن يجتنبوها (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أى لطلب رضاه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى ولتثبيت بعض أنفسهم على الإيمان فمن تبعيضية كما فى قولهم هز من عطفه وحرك من نشاطه فإن المال شقيق الروح فمن بذل ما له لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها أو وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم فمن ابتدائية كما فى قوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة من قرأ وتبيينا من أنفسهم وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذى هو رأس كل خطيئة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الربوة بالحركات الثلاث وقد قرئت بها المكان المرتفع أى مثل نفقتهم فى الزكاء كمثل بستان كائن بمكان مرتفع مأمون من أن يصطلمه البرد للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فإن أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا وأما الأراضى المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة هوائها بركود الرياح وقرىء كمثل حبة (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها وقرىء بسكون الكاف تخفيفا (ضِعْفَيْنِ) أى مثلى ما كانت تثمر فى سائر الأوقات بسبب ما أصابها من

٢٥٩

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢٦٦)

____________________________________

الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل أربعة أمثال ونصبه على الحال من أكلها أى مضاعفا (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) أى فطل يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها وقيل فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر وقيل فالذى يصيبها طل والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال ويجوز أن يعتبر التمثيل بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير واليسير فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة فى زلفاهم وحسن حالهم عند الله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شىء منه وهو ترغيب فى الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الود حب الشىء مع تمنيه ولذلك يستعمل استعمالهما والهمزة لإنكار الوقوع كما فى قوله أأضرب أبى لا لإنكار الواقع كما فى قولك أتضرب أباك على أن مناط الإنكار ليس جميع ما تعلق به الود بل إنما هو إصابة الإعصار وما يتبعها من الاحتراق (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) وقرىء جنات (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أى كائنة منهما على أن يكون الأصل والركن فيها هذين الجنسين الشريفين الجامعين لفنون المنافع والباقى من المستتبعات لا على أن لا يكون فيها غيرهما كما ستعرفه والجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة قال زهير[كأن عينى فى غربى مفتلة من النواضح تسفى جنة سحقا] وعلى الأرض المشتملة عليها والأول هو الأنسب بقوله عزوجل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)؟؟؟ وعلى الثانى لابد من تقدير مضاف أى من تحت أشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما يأتى مجازيا والجملة فى محل الرفع على أنها صفة جنة كما أن قوله تعالى (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) كذلك أو فى محل النصب على أنها حال منها لأنّها موصوفة (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الظرف الأول خبر والثانى حال والثالث مبتدأ أى صفة للمبتدأ قائمة مقامه أى له رزق من كل الثمرات كما فى قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أى وما منا أحد إلا له الخ وليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو التكثير كما فى قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أى كبر السن الذى هو مظنة شدة الحاجة إلى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك أسباب المعاش والواو حالية أى وقد أصابه الكبر (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) حال من الضمير فى أصابه أى أصابه الكبر والحال أن له ذرية صغارا لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش وقرىء ضعاف (فَأَصابَها إِعْصارٌ) أى ريح عاصفة تستدير فى الأرض ثم تنعكس منها ساطعة إلى السماء على هيئة العمود (فِيهِ نارٌ) شديدة (فَاحْتَرَقَتْ) عطف على فأصابها وهذا كما ترى تمثيل لحال من يعمل أعمال البر والحسنات ويضم إليها ما يحبطها من القوادح ثم يجدها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباء منثورا فى التحسر

٢٦٠