تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ قال ابن مالك التزم حذف الفعل فى المنصوب على المدح إشعارا بأنه إنشاء كما فى المنادى وحذف المبتدأ فى المرفوع إجراء للوجهين على سنن واحد وأما كونه مبتدأ خبره فلا تجعلوا كما قيل فيستدعى أن يكون مناط النهى ما فى حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلق من قبلهم مدخل فى ذلك مع كونه أعظم شأنا وجعل بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه وقيل هو بمعنى خلق وانتصاب الثانى على الحالية والظرف متعلق به على التقديرين وتقديمه على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين وللتشويق إليه لأن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار بمنفعته تبقى مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن أو لما فى المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ومعنى جعلها فراشا جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها وقرىء بساطا ومهادا. (وَالسَّماءَ بِناءً) عطف على المفعولين السابقين وتقديم حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر أى جعلها قبة مضروبة عليكم والسماء اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد أو جمع سماوة أو سماءة والبناء فى الأصل مصدر سمى به المبنى بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه قولهم بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأة ضربوا عليها خباء جديدا. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) عطف على جعل أى أنزل من جهتها أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض كما روى ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المراد بالسماء جهة العلو كما ينبئ عنه الإظهار فى موضع الإضمار وهو على الأولين لزيادة التقرير ومن لابتداء الغاية متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول أى كائنا من السماء قدم عليه لكونه نكرة وأما تقديم الظرف على الوجه الأول مع أن حقه التأخير عن المفعول الصريح فإما لأن السماء أصله ومبدؤه وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظام بينه وبين قوله تعالى (فَأَخْرَجَ بِهِ) أى بسبب الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) وذلك بأن أودع فى الماء قوة فاعلة وفى الأرض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما أصناف الثمار أو بأن أجرى عادته بإفاضة صور الثمار وكيفيتها المتخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثر فى الحقيقة قدرته تعالى ومشيئته فإنه تعالى قادر على أن يوجد جميع الأشياء بلا مباد ومواد كما أبدع نفوس المبادى والأسباب لكن له عزوجل فى إنشائها متقلبة فى الأحوال ومتبدلة فى الأطوار من بدائع حكم باهرة تجدد لأولى الأبصار عبرا ومزيد طمأنينة إلى عظيم قدرته ولطيف حكمته ما ليس فى إبداعها بغتة ومن للتبعيض لقوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) ولوقوعها بين منكرين أعنى ماء ورزقا كأنه قيل وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا أخرج من الأرض كل الثمرات ولا جعل كل المرزوق ثمارا أو للتبيين ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ومن الثمرات بيان له أو حال منه كقولك أنفقت من الدراهم ألفا ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولا ورزقا حالا منه أو مصدرا من أخرج لأنه بمعنى رزق وإنما شاع ورود الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضع

٦١

كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة فى قولك أدركت ثمرة بستانه ويؤيده القراءة على التوحيد أو لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض كقوله تعالى (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أو لأنها محلاة باللام خارجة عن حد القلة واللام متعلقة بمحذوف وقع صفة لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق أى زرقا كائنا لكم أو دعامة لتقوية عمل رزقا على تقدير كونه مصدرا كأنه قيل رزقا إياكم. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) إما متعلق بالأمر السابق مترتب عليه كأنه قيل إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكا وإنما قيل أندادا باعتبار الواقع لا لأن مدار النهى هو الجمعية وقرىء ندا وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات إثر تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التى عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وإما معطوف عليه كما فى قوله تعالى (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) والفاء للإشعار بعلية ما قبلها من الصفات المجراة عليه تعالى للنهى أو الانتهاء أو لأن مآل النهى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى المترتب على أصلها كأنه قيل اعبدوه فخصوها به والإظهار فى موضع الإضمار لما مر آنفا وقيل هو نفى منصوب بإضمار أن جوابا للأمر ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سببا للثانى ولا ريب فى أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذى هو أصلها ومبناها وقيل هو منصوب بلعل نصب فأطلع فى قوله تعالى (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه وحيث كان مدار هذا النصب تشبيه لعل فى بعد المرجو بليت كان فيه تنبيه على تقصيرهم بجعلهم المرجو القريب بمنزلة المتمنى البعيد وقيل هو متعلق بقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ) الخ على تقدير رفعه على المدح أى هو الذى حفكم بهذه الآيات العظام والدلائل النيرة فلا تتخذوا له شركاء وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلق أسلافهم بمعزل من مناطية النهى مع عراقتهما فيها وقيل هو خبر للموصول بتأويل مقول فى حقه وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش فى تنزيل الاسم الظاهر منزلة الضمير كما فى قولك زيد قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيته والند المثل المساوى من ند ندودا إذا نفر وناددته خالفته خص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوى بالمماثل فى المقدار وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى فى صفاته ولا أنها تخالفه فى أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله عزوجل وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى بهم من خير فتهكم بهم وشنع عليهم أن جعلوا أندادا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد وفى ذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمر وبن نفيل[أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور] [تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير] وقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهى من قبح المنهى عنه ووجوب الاجتناب عنه ومفعول تعلمون مطروح بالكلية كأنه قيل لا تجعلوا ذلك فإنه قبيح واجب الاجتناب عنه والحال إنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وإصابة الرأى أو مقدر حسبما يقتضيه المقام نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك أو تعلمون أنه لا يماثله شىء أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت أو

٦٢

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٣)

____________________________________

تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كما فى قوله تعالى (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) من يفعل من ذلكم من شىء أو غير ذلك وحاصله تنشيط المخاطبين وحثهم على الانتهاء عما نهوا عنه هذا هو الذى يستدعيه عموم الخطاب فى النهى بجعل المنهى عنه القدر المشترك المنتظم لإنشاء الانتهاء كما هو المطلوب من الكفرة وللثبات عليه كما هو شأن المؤمنين حسبما مر مثله فى الأمر وأما صرف التقييد إلى نفس النهى فيستدعى تخصيص الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصر النهى على حالة العلم ضرورة شمول التكليف للعالم والجاهل المتمكن من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة فى التوبيخ والتقريع بناء على أن تعاطى القبائح من العالمين بقبحها أقبح وذلك إنما يتصور فى حق الكفرة فمن صرف التقييد إلى نفس النهى مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضا فقد نأى عن التحقيق إن قلت أليس فى تخصيصه بالكفرة فى الأمر والنهى خلاص من أمثال ما مر من التكلفات وحسن انتظام بين السباق والسياق إذ لا محيد فى آية التحدى من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن جبر الانتظام فى سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر فى صدر السورة الكريمة مستغنون فى ذلك عن الأمر والنهى قلت بلى إنه وجه سرى ونهج سوى لا يضل من ذهب إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه فتأمل (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) شروع فى تحقيق أن الكتاب الكريم الذى من جملته ما تلى من الآيتين الكريمتين الناطقتين بوجوب العبادة والتوحيد منزل من عند الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينية الدالة على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافه بما ذكر فى مطلع السورة الشريفة من النعوت الجليلة التى من جملتها نزاهته عن أن يعتريه ريب ما والتعبير عن اعتقادهم فى حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يعرب عنه قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا فى غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب فى شأنه وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ونهاية قوتها وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ لما أشير إليه فيما سلف من المبالغة فى تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه حسبما نطق به قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته العالية واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافى اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ومن فى مما ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لريب وحملها على السببية ربما يوهم كونه محلا للريب فى الجملة وحاشاه ذلك وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه وليس معنى كونهم

٦٣

فى ريب منه ارتيابهم فى استقامة معانيه وصحة أحكامه بل فى نفس كونه وحيا منزلا من عند الله عزوجل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلق الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم وبناء التحدى عليه إرخاء للعنان وتوسيعا للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزوله منجما وسيلة إلى إنكاره فجعل ذلك من مبادى الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم فى شأن ما نزلناه على مهل وتدريج فهاتوا أنتم مثل نوبة فذة من نوبه ونجم فرد من نجومه فإنه أيسر عليكم من أن ينزل جملة واحدة ويتحدى بالكل وهذا كما ترى غاية ما يكون فى التبكيت وإزاحة العلل وفى ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عزوجل وانقياده لأوامره تعالى ما لا يخفى وقرىء على عبادنا والمراد هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته أو جميع الأنبياء عليهم‌السلام ففيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه والأمر فى قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) من باب التعجيز وإلقام الحجر كما فى قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) والفاء للجواب وسببية الارتياب للأمر أو الإتيان بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارة عن جزمهم المذكور فإنه سبب للأول مطلقا وللثانى على تقدير الصدق كأنه قيل إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر بنى نوعكم والسورة الطائفة من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاث آيات وواوها أصلية منقولة من سور البلد لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها أو محتوية على فنون رائقة من العلوم احتواء سور المدينة على ما فيها أو من السورة التى هى الرتبة قال[ولرهط حراب وقذ سورة فى المجد ليس غرابها بمطار] فإن سور القرآن مع كونها فى أنفسها رتبا من حيث الفضل والشرف أو من حيث الطول والقصر فهى من حيث انتظامها مع أخواتها فى المصحف مراتب يرتقى إليها القارىء شيئا فشيئا وقيل واوها مبدلة من الهمزة فمعناها البقية من الشىء ولا يخفى ما فيه ومن فى قوله تعالى (مِنْ مِثْلِهِ) بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسورة والضمير لما نزلنا أى بسورة كائنة من مثله فى علو الرتبة وسمو الطبقة والنظم الرائق والبيان البديع وحيازة سائر نعوت الإعجاز وجعلها تبعيضية يوهم أن له مثلا محققا قد أريد تعجيزهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعض ما هو مثل له فلا يفهم منه كون المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلا عن كونها مدارا للعجز مع أنه المراد وبناء الأمر على المجاراة معهم بحسب حسبانهم حيث كانوا يقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلة الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفه ولو بغير جد وقيل هى زائدة على ما هو رأى الأخفش بدليل قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) بعشر سور مثله وقيل هى ابتدائية فالضمير حينئذ للمنزل عليه حتما لما أن رجوعه إلى المنزل يوهم أن له مثلا محققا قدورد الأمر التعجيزى بالإتيان بشىء منه وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعه إلى المنزل عليه فإن تحقق مثله عليه‌السلام فى البشرية والعربية والأمية يهون الخطب فى الجملة خلا أن تخصيص التحدى يفرد يشاركه عليه‌السلام فيما ذكر من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدل على عجز من ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتهم على ذلك فى الجملة فرادى أو مجتمعين مع أنه يستدعى عراء المنزل عما فصل من النعوت الموجبة لاستحالة وجود مثله فأين هذا من تحدى أمة جمة وأمرهم بأن يحتشدوا فى حلبة المعارضة

٦٤

بخيلهم ورجلهم حسبما ينطق به قوله تعالى (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل فى صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر ومعنى دون أدنى مكان من شىء يقال هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا ثم استعير للتفاوت فى الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمر وأى فى الفضل والرتبة ثم اتسع فاستعمل فى كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم من غير ملاحظة انحطاط أحدهما عن الآخر فجرى مجرى أداة الاستثناء وكلمة من إما متعلقة بادعوا فتكون لابتداء الغاية والظرف مستقر والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى للاستظهار من حضركم كائنا من كان أو الحاضرين فى مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم فى الملمات وتعولون عليهم فى المهمات أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم من أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة أو القائمين بنصرتكم حقيقة أو زعما من الإنس والجن ليعينوكم وإخراجه سبحانه وتعالى من حكم الدعاء فى الأول مع اندراجه فى الحضور لتأكيد تناوله لجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وأما فى سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم فى عدوة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه والالتفات لإدخال الروعة وتربية المهابة وقيل المعنى ادعوا من دون أولياء الله شهداءكم الذين هم وجوه الناس وفرسان المقالة والمناقلة ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله إيذانا بأنهم يأبون أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة ما هو بين الفساد وجلى الاستحالة وفيه أنه يؤذن بعدم شمول التحدى لأولئك الرؤساء وقيل المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين الله يشهد أن ما ندعيه حق فإن ذلك ديدن المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدعون حقية ما هم عليه من الدين الباطل فلا مساس له بمقام التحدى وإن أريد مثلية ما أتوا به للمتحدى به فمع عدم ملاءمته لابتداء التحدى يوهم أنهم قد تصدوا للمعارضة وأتوا بشىء مشتبه الحال متردد بين المثلية وعدمها وأنهم ادعوها مستشهدين فى ذلك بالله سبحانه إذ عند ذلك تمس الحاجة إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهى عن الاستشهاد به تعالى وأنى لهم ذلك وما نبض لهم عرق ولا نبسوا ببنت شفة وإما متعلقة بشهداءكم والمراد بهم الأصنام ودون بمعنى التجاوز على أنها ظرف مستقر وقع حالا من ضمير المخاطبين والعامل ما دل عليه شهداءكم أى ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة متجاوزين الله تعالى فى اتخاذها كذلك وكلمة من ابتدائية فإن الاتخاذ ابتداء من التجاوز والتعبير عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدار الاستظهار بها بتذكير ما زعموا من أنها بمكان من الله تعالى وأنها تنفعهم بشهادتها لهم أنهم على الحق فإن ما هذا شانه يجب أن يكون ملاذا لهم فى كل أمر مهم وملجأ يأوون إليه فى كل خطب ملم كأنه قيل أولئك عدتكم فادعوهم لهذه الداهية التى دهمتكم فوجه الالتفات الإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال عبادة مالا أحقر منه وقيل لفظة دون مستعارة من معناها الوضعى الذى هو أدنى مكان من شىء لقدامه كما فى قول الأعشى [تريك القذى من دونها وهى دونه] أى تريك القذى قدامها وهى قدام القذى فتكون ظرفا لغوا معمولا لشهداءكم لكفاية رائحة الفعل فيه من غير حاجة إلى

٦٥

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٢٤)

____________________________________

اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون أى ادعوا شهداءكم الذين يشهدون لكم بين يدى الله تعالى ليعينوكم فى المعارضة وإيرادها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناط الاستعانة بها ووجه الالتفات تربية المهابة وترشيح ذلك المعنى فإن ما يقوم بهذا الأمر فى ذلك المقام الخطير حقه أن يستعان به فى كل مرام وفى أمرهم على الوجهين بأن يستظهروا فى معارضة القرآن الذى أخرس كل منطيق بالجماد من التهكم بهم ما لا يوصف وكلمة من ههنا تبعيضية لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفه بمعنى فى لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل إنما يقع فى بعض تينك الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل وقد يقال كلمة من الداخلة على دون فى جميع المواقع بمعنى فى كما فى سائر الظروف التى لا تتصرف وتكون منصوبة على الظرفية أبدا ولا تنجر إلا بمن خاصة وقيل المراد بالشهداء مداره القوم ووجوه المحافل والمحاضر ودون ظرف مستقر ومن ابتدائية أى ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثله متجاوزين فى ذلك أولياء الله ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذانا بأنهم أيضا لا يشهدون بذلك وإنما قدر المضاف إلى الله تعالى رعاية للمقابلة فإن أولياء الله تعالى يقابلون أولياء الأصنام كما أن ذكر الله تعالى يقابل ذكر الأصنام والمقصود بهذا الأمر إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل تركنا إلزامكم بشهداء لا ميل لهم إلى أحد الجانبين كما هو المعتاد واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذرا من اللائمة وأنفة من الشهادة البينة البطلان كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل قطعا وفيه ما مر من عدم الملاءمة لابتداء التحدى وعدم تناوله لأولئك الشهداء وإيهام أنهم تعرضوا للمعارضة وأتوا بشىء احتاجوا فى إثبات مثليته للمتحدى به إلى الشهادة وشتان بينهم وبين ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى زعمكم أنه من كلامه عليه‌السلام وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه أى إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ واستلزام المقدم للتالى من حيث أن صدقهم فى ذلك الزعم يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه‌السلام فى البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزوالة لأساليب النظم والنثر والمبالغة فى حفظ الوقائع والأيام لا سيما عند المظاهرة والتعاون ولا ريب فى أن القدرة على الشىء من موجبات الإتيان به ودواعى الأمر به (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أى ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم فى السعى غاية المجهود وجاوزتم فى الجد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وإنما لم يصرح به إيذانا بعدم الحاجة إليه بناء على كمال ظهور تهالكهم على ذلك وإنما أورد فى حين الشرط مطلق الفعل وجعل مصدر الفعل المأمور به مفعولا له للإيجاز البديع المغنى عن التطويل والتكرير مع سرسرى استقل به المقام وهو الإيذان بأن المقصود بالتكليف هو إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا لتحصيل المفعول أى المأتى به ضرورة استحالته وأن مناط الجواب فى الشرطية أعنى الأمر باتقاء النار هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المفعول فإن مدلول لفظ

٦٦

الفعل هو أنفس الأفعال الخاصة لازمة كانت أو متعدية من غير اعتبار تعلقاتها بمفعولاتها الخاصة فإذا علق بفعل خاص متعد فإنما يقصد به إيقاع نفس ذلك الفعل وإخراجه من القوة إلى الفعل وأما تعلقه بمفعوله المخصوص فهو خارج عن مدلول الفعل المطلق وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعال المتعدية عن مفعولاتها وتنزيلها منزلة الأفعال اللازمة فيقولون مثلا معنى فلان يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع يرشدك إلى هذا قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) بعد قوله تعالى (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) فإنه لما كان مقصود يوسف عليه‌السلام بالأمر ومرمى غرضه بالتكليف منه استحضار بنيامين لم يكتف فى الشرطية الداعية لهم إلى الجد فى الامتثال والسعى فى تحقيق المأمور به بالإشارة الإجمالية إلى الفعل الذى ورد به الأمر بأن يقول فإن لم تفعلوا بل أعاده بعينه متعلقا بمفعوله تحقيقا لمطلبه وإعرابا عن مقصده هذا وقد قيل أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرار أو على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال فتدبر وإيثار كلمة إن المفيدة للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلهم مجاراة معهم بحسب حسبانهم قبل التجربة أو النهكم بهم (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كلمة لن لنفى المستقبل كلا خلا أن فى لن زيادة تأكيد وتشديد وأصلها عند الخليل لا أن وعند الفراء لا أبدلت ألفها نونا وعند سيبويه حرف مقتضب للمعنى المذكور وهى إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراض بين جزأى الشرطية مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به عزوجل وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشىء يدانيه فى الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف (فَاتَّقُوا النَّارَ) جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد إذ بذلك يتحقق تسببه عنه وترتبه عليه كأنه قيل فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقرر فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه فإنه مستوجب للعقاب بالنار لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها للمبالغة فى تهويل شأنه وتفظيع أمره وإظهار كمال العناية بتحذير المخاطبين منه وتنفيرهم عنه وحثهم على الجد فى تحقيق المكنى عنه وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى حيث كان الأصل فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد وترككم الإيمان به سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار فاحترزوا منه واتقوا النار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة أعاذنا الله من ذلك والوقود ما يوقد به النار وترفع من الحطب وقرىء بضم الواو وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمس شيئا من رطب أو يابس إلا أحرقته لا كنيران الدنيا تفتقر فى الالتهاب إلى وقود من حطب أو حشيش وإنما جعل هذا الوصف صلة للموصول مقتضية لكون انتسابها إلى ما نسبت هى إليه معلوم للمخاطب بناء على أنهم سمعوه من أهل الكتاب قبل ذلك أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سمعوا قبل هذه الآية المدنية قوله تعالى (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فأشير ههنا إلى ما سمعوه أولا وكون سورة التحريم مدنية لا يستلزم كون

٦٧

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

____________________________________

جميع آياتها كذلك كما هو المشهور وأما أن الصفة أيضا يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب فالخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بالحجارة الأصنام وبالناس أنفسهم حسبما ورد فى قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أى هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم والمراد إما جنس الكفار والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا وإماهم خاصة ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وقرىء اعتدت من العتاد بمعنى العدة وفيه دلالة على أن النار مخلوقة موجودة الآن والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مقررة لمضمون ما قبلها ومؤكدة لإيجاب العمل به ومبينة لمن أريد بالناس دافعة لاحتمال العموم وقيل حال بإضمار قد من النار لا من ضميرها فى وقودها لما فى ذلك من الفصل بينهما بالخبر وقيل صلة بعد صلة أو عطف على الصلة بترك العاطف (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بأنه منزل من عند الله عزوجل وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصود عطف نفس الأمر حتى يطلب له مشاكل يصح عطفه عليه بل على أنه عطف قصة المؤمنين بالقرآن ووصف ثوابهم على قصة الكافرين به وكيفية عقابهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد وكان تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين وقرىء وبشر على صيغة الفعل مبنيا للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما فى حين الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما فإنهما لا يكافئان النعم السابقة فضلا من أن يقتضيا ثوابا فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل لكل من يتأتى منه التبشير كما فى قوله عليه‌السلام بشر المشائين إلى المساجد فى ظلم الليالى بالنور التام يوم القيامة فإنه عليه‌السلام لم يأمر بذلك واحدا بعينه بل كل أحد ممن يتأتى منه ذلك وفيه رمز إلى أن الأمر لعظمه وفخامة شأنه حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه والبشارة الخبر السار الذى يظهر به أثر السرور فى البشرة وتباشير الصبح أوائل ضوئه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الصالحة كالحسنة فى الجريان مجرى الاسم وهى كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل واللام للجنس والجمع لإفادة أن المراد بها جملة من الأعمال الصالحة التى أشير إلى أمهاتها فى مطلع السورة الكريمة وطائفة منها متفاوتة حسب تفاوت حال المكلفين فى مواجب التكليف وفى عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما وإشعار بأن مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين فإن الإيمان أساس والعمل الصالح كالبناء عليه ولاغناء بأساس لا بناء به (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره مثل الله لأفعلن والجنة هى المرة من مصدر

٦٨

جنه إذا ستره تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير[كأن عينى فى غربى مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا] أى نخلا طوالا كأنها لفرط تكاثفها والتفافها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفس السترة وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم فحق المصدر حينئذ أن يكون مأخوذا من الفعل المبنى للمفعول وإنما سميت دار الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور لما أنها مناط نعيمها ومعظم ملاذها وجمعها مع التنكير لأنها سبع على ما ذكره ابن عباس رضى الله عنهما جنة الفردوس وجنة عدن وجنة النعيم ودار الخلد وجنة المأوى ودار السلام وعليون وفى كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فى حين النصب على أنه صفة جنات فإن أريد بها الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضاف أى من تحت أشجارها وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل عن مسروق إن أنهار الجنة تجرى فى غير أخدود واللام فى الأنهار للجنس كما فى قولك لفلان بستان فيه الماء الجارى والتين والعنب أو عوض عن المضاف إليه كما فى قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أو للعهد والإشارة إلى ما ذكر فى قوله عز وعلا (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية والنهر بفتح الهاء وسكونها المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات والتركيب للسعة والمراد بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوى أو المجارى أنفسها وقد أسند إليها الجريان مجازا عقليا كما فى سال الميزاب (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) صفة أخرى لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها وهذا وصف لها باعتبار أهلها المتنعمين بها أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة كأنه حين وصفت الجنات بما ذكر من الصفة وقع فى ذهن السامع أثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وكلما نصب على الظرفية ورزقا مفعول به ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال كأنه قيل كل وقت رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة على أن الرزق مقيد بكونه مبتدأ من الجنات وابتداؤه منها مقيد بكونه مبتدأ من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الثانية ضميره المستكن فى الحال ويجوز كون من ثمرة بيانا قدم على المبين كما فى قولك رأيت منك أسدا وهذا إشارة إلى ما رزقوا وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيرا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع فإنك إن أشرت إلى ما تعاينه بحسب الظاهر لكنك إنما تعنى بذلك النوع المعلوم المستمر فالمعنى هذا مثل الذى رزقناه من قبل أى من قبل هذا فى الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وإنما جعل ثمر الجنة كثمار الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غير معروف وليتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه إذ لو كان جنسا غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثل الذى رزقناه من قبل فى الجنة لأن طعامها متشابه الصور كما يحكى عن الحسن رضى الله عنه إن أحدهم يؤتى الصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال والذى نفسى بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى واصلة إلى فيه حتى يبدل

٦٩

الله تعالى مكانها مثلها والأول أنسب لمحافظة عموم كلما فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا لا فيما عدا المرة الأولى يظهرون بذلك التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة مع اتحادهما فى الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عين ما رزقناه فى الدنيا فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه ليس فى الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن والهيئة لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعى قطعا هذا وقد فسرت الآية الكريمة بأن مستلذات أهل الجنة بمقابلة ما رزقوه فى الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة الحال فيجوز أن يريدوا هذا ثواب الذى رزقناه فى الدنيا من الطاعات ولا يساعده تخصيص ذلك بالثمرات فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) اعتراض مقرر لما قبله والضمير المجرور على الأول راجع إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا فى الدارين كما فى قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير وعلى الثانى إلى الرزق (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أى مما فى نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق فإن التطهر يستعمل فى الأجسام والأخلاق والأفعال وقرىء مطهرات وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال[وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت] فالجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة وقرىء مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطهرة أبلغ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بان مطهرا طهرهن وما هو إلا الله سبحانه وتعالى وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن والزوج يطلق على الذكر والأنثى وهو فى الأصل اسم لما له قرين من جنسه وليس فى مفهومه اعتبار التوالد الذى هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج أهل الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد كما أن المدارية لبقاء الفرد ليست بمعتبرة فى مفهوم اسم الرزق حتى يخل ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) أى دائمون والخلود فى الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم ولذلك قيل للأثافى والأحجار الخوالد وللجزء الذى يبقى من الإنسان على حاله خلد ولو كان وضعه الدوام لما قيد بالتأييد فى قوله عز وعلا (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ولما استعمل حيث لا دوام فيه لكن المراد ههنا الدوام قطعا لما يفضى به من الآيات والسنن وما قيل من أن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة فى الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك مداره قياس ذلك العالم الكامل بما يشاهد فى عالم الكون والفساد على أنه يجوز أن يعيدها الخالق تعالى بحيث لا يعتورها الاستحالة ولا يعتريها الانحلال قطعا بأن تجعل أجزاؤها متفاوتة فى الكيفيات متعادلة فى القوى بحيث لا يقوى شىء منها عند التفاعل على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض وتبقى هذه النسبة منحفظة فيما بينها أبدا لا يعتريها التغيير بالأكل والشرب والحركات وغير ذلك واعلم أن معظم اللذات الحسية لما كان مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقضى به الاستقراء وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات إذ كل نعمة وإن جلت حيت كانت فى شرف الزوال ومعرض الاضمحلال فإنها منغصة غير صافية من شوائب

٧٠

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

____________________________________

الألم بشر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور اللهم وفقنا لمراضيك وثبتنا على ما يؤدى إليها من العقد والعمل (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) شروع فى تنزيه ساحة التنزيل عن تعلق ريب خاص اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيان لحكمته وتحقيق للحق أثر تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدى وإلقام الحجر وإفحام كافة البلغاء من أهل المدر والوبر روى أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المنافقون طعنوا فى ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق وقالوا الله أجل وأعلى من ضرب الأمثال وروى عطاء رضى الله عنه أن هذا الطعن كان من المشركين وروى عنه أيضا أنه لما نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية وقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) الآية قالت اليهود أى قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله تعالى بهما الأمثال وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونه من عند الله تعالى مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تمييز أنه ليس مما يتصور فيه التردد فضلا عن النكير بل هو من أوضح أدلة كونه خارجا عن طوق البشر نازلا من عند خلاق القوى والقدر كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس إلا إبراز المعنى المقصود فى معرض الأمر المشهور وتحلية المعقول بحلية المحسوس وتصوير أو ابد المعانى بهيئة المأنوس لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل واستعصائه عليه فى إدراك الحقائق الخفية وفهم الدقائق الأبية كى يتابعه فيما يقتضيه ويشايعه إلى ما يرتضيه ولذلك شاعت الأمثال فى الكتب الإلهية والكلمات النبوية وذاعت فى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء ومن قضية وجوب التماثل بين الممثل والممثل به فى مناط التمثيل تمثيل العظيم بالعظيم والحقير بالحقير وقد مثل فى الإنجيل غل الصدر بالنخالة ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير وجاء فى عبارات البلغاء أجمع من ذرة وأجرأ من الذباب وأسمع من قراد وأضعف من بعوضة إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر والحياء تغير النفس وانقباضها عما يعاب به أو يذم عليه يقال حيى الرجل وهو حيى واشتقاقه من الحياة اشتقاق شظى وحشى ونسى من الشظى والنسى والحشى يقال شظى الفرس ونسى وحشى إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحيا تعتل قوته الحيوانية وتنتقص واستحيا بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال استحييته واستحييت منه والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر وقد يحذف منه إحدى الياءين ومنه قوله[ألا يستحى منا الملوك ويتقى محارمنا لا يبوء الدم بالدم] وقوله[إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت فى إناء من الورد] فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب فى مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يستحيى من ذى الشيبة المسلم أن يعذبه وقوله عليه‌السلام إن الله حيى كريم يستحيى إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا يراد به الترك الخاص على طريقة التمثيل حيث مثل فى

٧١

الحديثين الكريمين تركه تعذيب ذى الشيبة وتخييب العبد من عطائه بترك من يتركهما حياء كذلك إذا نفى عنه تعالى فى المواد الخاصة كما فى هذه الآية الشريفة وفى قوله تعالى (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) يراد به سلب ذلك الترك الخاص المضاهى لترك المستحى عنه لا سلب وصف الحياء عنه تعالى رأسا كما فى قولك إن الله لا يوصف بالحياء لأن تخصيص السلب ببعض المواد يوهم كون الإيجاب من شأنه تعالى فى الجملة فالمراد ههنا عدم ترك ضرب المثل المماثل لترك من يستحيى من ضربه وفيه رمز إلى تعاضد الدواعى إلى ضربه وتآخذ البواعث إليه إذ الاستحياء إنما يتصور فى الأفعال المقبولة للنفس المرضية عندها ويجوز أن يكون وروده على طريقة المشاكلة فإنهم كانوا يقولون أما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالأشياء المحقرة كما فى قول من قال[من مبلغ أفناء يعرب كلها أنى بنيت الجار قبل المنزل] وضرب المثل استعماله فى مضربه وتطبيقه به لاصنعه وإنشاؤه فى نفسه وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرة فى مواردها ضربا لها دون استعمالها بعد ذلك فى مضاربها لفقدان الإنشاء هناك والأمثال الواردة فى التنزيل وإن كان استعمالها فى مضاربها عين إنشائها فى أنفسها لكن التعبير عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار بل بالاعتبار الأول قطعا وهو مأخوذ إما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق فكما أن ضربه تطبيقه بقالبه كذلك استعمال الأمثال فى مضاربها تطبيقها بها كأن المضارب قوالب تضرب الأمثال على شاكلتها لكن لا بمعنى أنها تنشأ بحسبها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنها تورد منطبقة عليها سواء كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثال التنزيلية فإن مضاربها قوالبها أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة فإنها وإن كانت مصنوعة من قبل إلا أن تطبيقها أى إيرادها منطبقة على مضاربها إنما يحصل عند الضرب وإما من ضرب الطين على الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق كأن من يستعملها يلصقها بمضاربها ويجعلها ضربة لازب لا تنفك عنها لشدة تعلقها بها ومحل أن يضرب على تقدير تعدية يستحيى بنفسه النصب على المفعولية وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفض بإضمار من وعند سيبويه النصب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها ومثلا مفعول ليضرب وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاما وشياعا كما فى قولك أعطنى كتابا ما كأنه قيل مثلا ما من الأمثال أى مثل كان فهى صفة لما قبلها أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما فى قوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) وبعوضة بدل من مثلا أو عطف بيان عند من يجوزه فى النكرات أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليها لكونها نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو بعوضة والجملة على تقدير كون ما موصولة صلة لها محذوفة الصدر كما فى قوله تعالى (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) على قراءة الرفع وعلى تقدير كونها موصوفة صفة لها كذلك ومحل ما على الوجهين النصب على أنه بدل من مثلا أو على أنه مفعول ليضرب وعلى تقدير كونها إبهامية صفة لمثلا كذلك وأما على تقدير كونها استفهامية فهى خبر لها كأنه لما رد استبعادهم ضرب المثل قيل ما بعوضة وأى مانع فيها حتى لا يضرب بها المثل بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء والبعوض فعول من البعض وهو القطع كالبضع والعضب غلب على هذا النوع كالخموش فى لغة هذيل من الخمش وهو الخدش. (فَما فَوْقَها) عطف على بعوضة على

٧٢

تقدير نصبها على الوجوه المذكورة وما موصولة أو موصوفة صلتها أو صفتها الظرف وأما على تقدير رفعها فهو عطف على ما الأولى على تقدير كونها موصولة أو موصوفة وأما على تقدير كونها استفهامية فهو عطف على خبرها أعنى بعوضة لا على نفسها كما قيل والمعنى ما بعوضة فالذى فوقها أو فشىء فوقها حتى لا يضرب بها المثل وكذا على تقدير كونها صفة للنكرة أو زائدة وبعوضة خبر للمضمر وذكر البعوضة فما فوقها من بين أفراد المثل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص فلا يخل بالشيوع بل يقرره ويؤكده بطريق الأولوية والمراد بالفوقية إما الزيادة فى المعنى الذى أريد بالتمثيل أعنى الصغر والحقارة وإما الزيادة فى الحجم والجثة لكن لا بالغا ما بلغ بل فى الجملة كالذباب والعنكبوت وعلى التقدير الأول يجوز أن يكون ما الثانية خاصة استفهامية إنكارية والمعنى إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فأى شىء فوقها فى الصغر والحقارة فإذن له تعالى أن يمثل بكل ما يريد ونظيره فى احتمال الأمرين ما روى أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضى الله عنها حين ذكر لها ذلك سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة فى القلة كنخبة النملة بقوله عليه‌السلام ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكى من الحرور (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضربه فأما الذين الخ وتقديم بيان حال المؤمنين على ما حكى من الكفرة مما لا يفتقر إلى بيان السبب وفى تصدير الجملتين بأما من إحماد أمر المؤمنين وذم الكفرة ما لا يخفى وهو حرف متضمن لمعنى اسم الشرط وفعله بمنزلة مهما يكن من شىء ولذلك يجاب بالفاء وفائدته توكيد ما صدر به وتفصيل ما فى نفس المتكلم من الأقسام فقد تذكر جميعا وقد يقتصر على واحد منها كما فى قوله عز من قائل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الخ قال سيبويه أما زيد فذاهب معناه مهما يكن من شىء فهو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها الخبر وعوض المبتدأ عن الشرط لفظا والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتى فريق الكفرة لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى أى فأما المؤمنون. (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) كسائر ما ورد منه تعالى والحق هو الثابت الذى يحق ثبوته لا محالة بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابت مطلقا واللام للدلالة على أنه مشهود له بالحقية وأن له حكما ومصالح ومن لابتداء الغاية المجازية وعاملها محذوف وقع حالا من الضمير المستكن فى الحق أو من الضمير العائد إلى المثل أو إلى ضربه أى كائنا وصادرا من ربهم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم وللإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم والجملة سادة مسد مفعولى يعلمون عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثانى محذوف عند الأخفش أى فيعلمون حقيته ثابتة ولعل الاكتفاء بحكاية علمهم المذكور عن حكاية اعترافهم بموجبه كما فى قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهوره المغنى عن الذكر. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ممن حكيت

٧٣

أقوالهم وأحوالهم. (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهر قرينة دلالة على كمال غلوهم فى الكفر وترامى أمرهم فى العتو فإن مجرد عدم العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارها والاستهزاء به صريحا وتمهيدا لتعداد مانعى عليهم فى تضاعيف الجواب من الضلال والفسق ونقض العهد وغير ذلك من شنائعهم المترتبة على قولهم المذكور على أن عدم العلم بحقيته لا يعم جميعهم فإن منهم من يعلم بها وإنما يقول ما يقول مكابرة وعنادا وحمله على عدم الإذعان والقبول الشامل للجهل والعناد تعسف ظاهر هذا وقد قيل كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه ويقابل قسيمه لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه فتأمل وكن على الحق المبين وماذا إما مؤلفة من كلمة استفهام وقعت مبتدأ خبره ذا بمعنى الذى وصلته ما بعده والعائد محذوف فالأحسن أن يجىء جوابه مرفوعا وإما منزلة منزلة اسم واحد بمعنى أى شىء فالأحسن فى جوابه النصب والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها إليه أو القوة التى هى مبدؤه والأول مع الفعل والثانى قبله وكلاهما مما لا يتصور فى حقه تعالى ولذلك اختلفوا فى إرادته عزوجل فقيل إرادته تعالى لأفعاله كونه غير ساه فيه ولا مكره ولأفعال غيره أمره بها فلا تكون المعاصى بإرادته تعالى وقيل هى علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله والحق أنها عبارة عن ترجيح أحد طرفى المقدور على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه وهى أعم من الاختيار فإنه ترجيح مع تفضيل وفى كلمة هذا تحقير للمشار إليه واسترذال له ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كما فى قوله تعالى (ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وليس مرادهم بهذه العظيمة استفهام الحكمة فى ضرب المثل ولا القدح فى اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا بل غرضهم التنبيه بادعاء أنه من الدناءة والحقارة بحيث لا يليق بأن يتعلق به أمر من الأمور الداخلة تحت إرادته تعالى على استحالة أن يكون ضرب المثل به من عنده سبحانه فقوله عز من قائل. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جواب عن تلك المقالة الباطلة ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هى كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين فى الغواية فوضع الفعلان موضع الفعل الواقع فى الاستفهام مبالغة فى الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية فى سلك الإرادة لإيهامه تساويهما فى تعلقهما وليس كذلك فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكر والاهتداء كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ونظائره وأما الإضلال فهو أمر عارض مترتب على سوء اختيارهم وأوثر صيغة الاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار وقيل وضع الفعلان موضع مصدريهما كأنه قيل أراد إضلال كثير وهداية كثير وقدم الإضلال على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوءهم ويفت فى أعضادهم وهو السر فى تخصيص هذه الفائدة بالذكر وقيل هو بيان للجملتين المصدرتين بأما وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق وكثرة كل فريق إنما هى بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم فلا يقدح فى

٧٤

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)

____________________________________

البقرة ذلك أقلية أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلال حسبما نطق به قوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافية لتكميل فائدة ضرب المثل وتكثيرها ويجوز أن يرادفى الأولين الكثرة من حيث العدد وفى الآخرين من حيث الفضل والشرف كما فى قول من قال[إن الكرام كثير فى البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا] وإسناد الإضلال أى خلق الضلال إليه سبحانه مبنى على أن جميع الأشياء مخلوقة له تعالى وإن كان أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم وجعله من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريح بالسبب وقرىء يضل به كثير ويهدى به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقرير السببيه وتأكيدها. (وَما يُضِلُّ بِهِ) أى بالمثل أو بضربه. (إِلَّا الْفاسِقِينَ) عطف على ما قبله وتكملة للجواب والرد وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه وقرىء وما يضل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفسق فى اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة من جحرها أى خرجت قال رؤبة[يذهبن فى نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا] وفى الشريعة الخروج عن طاعة الله عزوجل بارتكاب الكبيرة التى من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث الأولى التغابى وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك فى تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذى عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) والمعتزلة لما ذهبوا إلى أن الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل والكفر عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسن لهم إدخال الفاسق فى أحدهما فجعلوه قسما بين قسمى المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما فى بعض أحكامه والمراد بالفاسقين ههنا العاتون الماردون فى الكفر الخارجون عن حدوده ممن حكى عنهم ما حكى من إنكار كلام الله تعالى والاستهزاء به وتخصيص الإضلال بهم مترتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذى أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر فى حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا. (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) صفة للفاسقين للذم وتقرير ما هم عليه من الفسق والنقض فسخ التركيب من المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما واستعماله فى إبطال العهد من حيث استعارة الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامى المتعاهدين بالآخر فإن شفع بالحبل وأريد به العهد كان ترشيحا للمجاز وإن قرن بالعهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وتنبيها على مكانه وأن المذكور قد استعير له كما يقال شجاع يفترس أقرانه

٧٥

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٨) ٢ البقرة

____________________________________

وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أنه أسد فى شجاعته وبحرفى إفاضته والعهد الموثق يقال عهد إليه كذا إذا وصاه به ووثقه عليه والمراد ههنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسوله عليه‌السلام وبه أول قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أو المعنى الظاهر منه أو المأخوذ من جهة الرسل عليهم‌السلام على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره وذكره فى الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه كما ينبئ عنه قوله عزوجل (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ونظائره وقيل عهود الله تعالى ثلاثة الأول ما أخذه على جميع ذرية آدم عليه‌السلام بأن يقروا على ربوبيته والثانى ما أخذه على الأنبياء عليهم‌السلام بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه والثالث ما أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه. (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الميثاق إما اسم لما يقع به الوثاقة والإحكام وإما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد فعلى الأول إن رجع الضمير إلى العهد كان المراد بالميثاق ما وثقوه به من القبول والالتزام وإن رجع إلى لفظ الجلالة يراد به آياته وكتبه وإنذار رسله عليهم‌السلام والمضاف محذوف على الوجهين أى من بعد تحقق ميثاقه وعلى الثانى إن رجع الضمير إلى العهد والميثاق مصدر من المبنى للفاعل فالمعنى من بعد أن وثقوه بالقبول والالتزام أو من بعد أن وثقه الله عزوجل بإنزال الكتب وإنذار الرسل وإن كان مصدرا من المبنى للمفعول فالمعنى من بعد كونه موثقا إما بتوثيقهم إياه بالقبول وإما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذار الرسل. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم‌السلام والكتب فى التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطى شر فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التى هى المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل مع العلو وقيل بالاستعلاء وبه سمى الأمر الذى هو واحد الأمور تسمية للمفعول بالمصدر فإنه مما يؤمر به كما يقال له شأن وهو القصد والطلب لما أنه أثر للشأن وكذا يقال له شىء وهو مصدر شاء لما أنه أثر للمشيئة ومحل أن يوصل إما النصب على أنه بدل من الموصول أو من ضميره والثانى أولى لفظا ومعنى. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التى عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه. (أُولئِكَ) إشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافهم بما فصل من الصفات القبيحة وفيه إيذان بأنهم متميزون بها أكمل تميز ومنتظمون بسبب ذلك فى سلك الأمور المحسوسة وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم فى الفساد. (هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن فى الآيات بالإيمان بها والتأمل فى حقائقها والاقتباس من أنوارها واشتراء النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والقطيعة بالصلة والعقاب بالثواب. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) التفات إلى خطاب المذكورين مبنى على إيراد ما عدد من

٧٦

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

____________________________________

قبائحهم السابقة لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع والاستفهام إنكارى لا بمعنى إنكار الوقوع كما فى قوله تعالى (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الخ بل بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه وفيه من المبالغة ما ليس فى توجيه الإنكار إلى نفس الكفر بأن يقال أتكفرون لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهانى وقوله عزوجل. (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى آخر الآية حال من ضمير الخطاب فى تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما عدد فيها من الشئون العظيمة الداعية إلى الإيمان الرادعة عن الكفر من حيث كونها نعمة عامة ومن حيث دلالتها على قدرة تامة كقوله تعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) وكيف منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش أى فى أى حال أو على أى حال تكفرون به تعالى والحال إنكم كنتم أمواتا أى أجساما لا حياة لها عناصر وأغذية ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة والأموات جمع ميت كأقوال جمع قيل وإطلاقها على تلك الأجسام باعتبار عدم الحياة مطلقا كما فى قوله تعالى (بَلْدَةً مَيْتاً) وقوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ). (فَأَحْياكُمْ) بنفخ الأرواح فيكم والفاء للدلالة على التعقيب فإن الإحياء حاصل إثر كونهم أمواتا وإن توارد عليهم فى تلك الحالة أطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما أشير إليه آنفا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أى عند انقضاء آجالكم وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التى هى الحيوان والنعمة العظمى والتراخى المستفاد من كلمة ثم بالنسبة إلى زمان الإحياء دون زمان الحياة فإن زمان الإماتة غير متراخ عنه. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم ينفخ فى الصور أو للسؤال فى القبور وأياما كان فهو متراخ من زمان الإماتة وإن كان أثر زمان الموت المستمر. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الحشر لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر أو إليه تنشرون من قبوركم للحساب وهذه الأفعال وإن كان بعضها ماضيا وبعضها مستقبلا لا يتسنى مقارنة شىء منها لما هو حال منه فى الزمان لكن الحال فى الحقيقة هو العلم المتعلق بها كأنه قيل كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعة منه ومآله التعجيب من وقوعه مع تحقق ما ينفيه وإنما نظم ما ينكرونه من الإحياء الأخير والرجع فى سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة تنزيلا لتمكنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعة منزلة العلم بذلك بالفعل فى إزاحة العلل والأعذار والحياة حقيقة فى القوة الحساسة أو ما يقتضيها وبها سمى الحيوان حيوانا مجاز فى القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فيما يخص الإنسان من العقل والعلم والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها يطلق على ما يقابل كل مرتبة من تلك المراتب قال تعالى (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وعند وصفه تعالى بها يراد صحة اتصافه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى مقتض لذلك وقرىء ترجعون بفتح التاء والأول هو الأليق بالمقام (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ

٧٧

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) تقرير للإنكار وتأكيد له من الحيثيتين المذكورتين غير سبكه عن سبك ما قبله مع اتحادهما فى المقصود إبانة لما بينهما من التفاوت فإن ما يتعلق بذواتهم من الإحياء والإماتة والحشر أدخل فى الحث على الإيمان والكف عن الكفر مما يتعلق بمعايشهم وما يجرى مجراها وفى جعل الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كونه نافعا للمخاطبين وللتشويق إليه كما سلف أى خلق لأجلكم جميع ما فى الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها فى أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وأمور دينكم بالاستدلال بها على شئون الصانع تعالى شأنه والاستشهاد بكل واحد منها على ما يلائمه من لذات الآخرة وآلامها وما يعم جميع ما فى الأرض لا نفسها إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو نعم يعم كل جزء من أجزائها فإنه من جملة ما فيها ضرورة وجود الجزء فى الكل وجميعا حال من الموصول الثانى مؤكدة لما فيه من العموم فإن كل فرد من أفراد ما فى الأرض بل كل جزء من أجزاء العالم له مدخل فى استمراره على ما هو عليه من النظام اللائق الذى عليه يدور انتظام مصالح الناس أما من جهة المعاش فظاهر وأما من جهة الدين فلما أنه ليس فى العالم شىء مما يتعلق به النظر وما لا يتعلق به إلا وهو دليل على القادر الحكيم جل جلاله كما مر فى تفسير قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ) وإن لم يستدل به أحد بالفعل. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أى قصد إليها بإرادته ومشيئته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة خلق شىء آخر فى تضاعيف خلقها أو غير ذلك مأخوذ من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل وتخصيصه بالذكر ههنا إما لعدم تحققه فى خلق السفليات لما روى من تخلل خلق السموات بين خلق الأرض ودحوها عن الحسن رضى الله عنه خلق الله تعالى الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان يلتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر فى موضعها وبسط منها الأرضين وذلك قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) وإما لإظهار كمال العناية بإبداع العلويات وقيل استوى استولى وملك والأول هو الظاهر وكلمة ثم للإيذان بما فيه من المزية والفضل على خلق السفليات لا للتراخى الزمانى فإن تقدمه على خلق ما فى الأرض المتأخر عن دحوها مما لا مرية فيه لقوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولما روى عن الحسن والمراد بالسماء إما الأجرام العلوية فإن القصد إليها بالإرادة لا يستدعى سابقة الوجود وإما جهات العلو. (فَسَوَّاهُنَّ) أى أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونة عن العوج والفطور لا أنه تعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك ولا يخفى ما فى مقاربة التسوية والاستواء من حسن الموقع وفيه إشارة إلى أن لا تغيير فيهن بالنمو والذبول كما فى السفليات والضمير على الوجه الأول للسماء فإنها فى معنى الجنس وقيل هى جمع سماءة أو سماوة وعلى الوجه الثانى مهم يفسره قوله تعالى. (سَبْعَ سَماواتٍ) كما فى قولهم ربه رجلا وهو على الوجه الأول بدل من الضمير وتأخير ذكر هذا الصنع البديع عن ذكر خلق ما فى الأرض مع كونه أقوى منه فى الدلالة على كمال القدرة القاهرة كما نبه عليه لما أن المنافع المنوطة بما فى الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك أظهر وإن كان فى إبداع العلويات أيضا من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يحصى هذا ما قالوا وسيأتى فى حم السجدة مزيد تحقيق وتفصيل بإذن الله تعالى. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اعتراض تذييلى مقرر لما قبله

٧٨

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٠)

____________________________________

من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوى على الحكم الفائقة والمصالح اللائقة فإن علمه عزوجل بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها بارزها وكامنها وما يليق بكل واحد منها يستدعى أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق وقرىء وهو بسكون الهاء تشبيها له بعضد. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) بيان لأمر آخر من جنس الأمور المتقدمة المؤكدة للإنكار والاستبعاد فإن خلق آدم عليه‌السلام وما خصه به من الكرامات السنية المحكية من أجل النعم الداعية لذريته إلى الشكر والإيمان الناهية عن الكفر والعصيان وتقرير لمضمون ما قبله من قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وتوضيح لكيفية التصرف والانتفاع بما فيها وتلوين الخطاب بتوجيه إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة للإيذان بأن فحوى الكلام ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقل كالأمور المشاهدة التى نبه عليها الكفرة بطريق الخطاب بل إنما طريقه الوحى الخاص به عليه‌السلام وفى التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام من الإنباء عن تشريفه عليه‌السلام ما لا يخفى وإذ ظرف موضوع لزمان نسبة ماضية وقع فيه نسبة أخرى مثلها كما أن إذا موضوع لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى مثلها ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل وانتصابه بمضمر صرح بمثله فى قوله عزوجل (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا وقيل ليس انتصابه على المفعولية بل على تأويل اذكر الحادث فيه بحذف المظروف وإقامة الظرف مقامه وأياما كان فهو معطوف على مضمر آخر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه‌السلام غب ما أوحى إليه ما خوطب به الكفرة من الوحى الناطق بتفاصيل الأمور السابقة الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكرهم بذلك واذكر لهم هذه النعمة ليتنبهوا بذلك لبطلان ما هم فيه وينتهوا عنه وأما ما قيل من أن المقدر هو اشكر النعمة فى خلق السموات والأرض أو تدبر ذلك فغير سديد ضرورة أن مقتضى المقام تذكير المخلين بمواجب الشكر وتنبيههم على ما يقتضيه وأين ذاك من مقامه الجليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل انتصابه بقوله تعالى (قالُوا) ويأباه أنه يقتضى أن يكون هو المقصود بالذات دون سائر القصة وقيل بما سبق من قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا يخفى بعده وقيل بمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقكم إذ قال الخ ولا ريب فى أنه لا فائدة فى تقييد بدء الخلق بذلك الوقت وقيل بخلقكم أو بأحياكم مضمرا وفيه ما فيه وقيل إذ زائدة ويعزى ذلك إلى أبى عبيد ومعمر وقيل أنه بمعنى قد واللام فى قوله عز قائلا. (لِلْمَلائِكَةِ) للتبليغ وتقديم الجار والمجرور فى هذا الباب مطرد لما فى المقول من الطول غالبا مع ما فيه من

٧٩

الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر كما مر مرارا والملائكة جمع ملك باعتبار أصله الذى هو ملأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل فى جمع شمأل والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة واشتقاقه من ملك لما فيه من معنى الشدة والقوة وقيل على أنه مقلوب من مألك من الألوكة وهى الرسالة أى موضع الرسالة أو مرسل على أنه مصدر بمعنى المفعول فإنهم وسائط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسله عزوجل أو بمنزلة رسله عليهم‌السلام واختلفت العقلاء فى حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المتكلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك عليهم‌السلام وذهب الحكماء إلى أنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة فى الحقيقة وأنها أكمل منها قوة وأكثر علما تجرى منها مجرى الشمس من الأضواء منقسمة إلى قسمين قسم شأنهم الاستغراق فى معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره كما نعتهم الله عزوجل بقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم العليون المقربون وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلم القضاء والقدر وهم المدبرات أمرا فمنهم سماوية ومنهم أرضية وقالت طائفة من النصارى هى النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان ونقل فى شرح كثرتهم أنه عليه‌السلام قال أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع وروى أن بنى آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كل أولئك فى مقابلة ملائكة الكرسى نزر قليل ثم جميع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التى عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء فى مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة فى البحر ثم ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه‌السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه‌السلام لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفيات عباداتهم إلا بارئهم العليم الخبير على ما قال تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وروى أنه عليه‌السلام حين عرج به إلى السماء رأى ملائكة فى موضع بمنزلة شرف يمشى بعضهم تجاه بعض فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام إلى أين يذهبون فقال جبريل لا أدرى إلا أنى أراهم منذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحدا منهم منذكم خلقت فقال لا أدرى غير أن الله عزوجل يخلق فى كل أربعمائة ألف سنة كوكبا وقد خلق منذ خلقنى أربعمائة ألف كوكب فسبحانه من إله ما أعظم قدره وما أوسع ملكوته واختلف فى الملائكة الذين قيل لهم ما قيل فقيل هم ملائكة الأرض وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم المختارون مع إبليس حين بعثه الله عزوجل لمحاربة الجن حيث كانوا سكان الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء فقتلوهم إلا قليلا قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحار وقلل الجبال وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة فكان يعبد الله تعالى تارة فى الأرض

٨٠