تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦٨)

____________________________________

والتأسف عليها (كَذلِكَ) توحيد الكاف مع كون المخاطب جمعا قد مر وجهه مرارا أى مثل ذلك البيان الواضح الجارى فى الظهور مجرى الأمور المحسوسة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) كى تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) بيان لحال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيه أى أنفقوا من حلال ما كسبتم وجياده لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أى من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادن فحذف لدلالة ما قبله عليه (وَلا تَيَمَّمُوا) بفتح التاء أصله ولا تتيمموا وقرىء بضمها وقرىء ولا تأمموا والكل بمعنى القصد أى لا تقصدوا (الْخَبِيثَ) أى الردىء الخسيس وهو كالطيب من الصفات الغالبة التى لا تذكر موصوفاتها (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا أى لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه أو من الخبيث أى مختصا به الإنفاق وأياما كان فالتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من إنفاق الخبيث خاصة لا لتسويغ إنفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه وقيل متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث والضمير للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولين على طريقة قوله [كأنه فى الجلد توليع البهق] أو للثانى وتخصيصه بذلك لما أن التفاوت فيه أكثر وتنفقون حال من الفاعل المذكور أى ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال أو مما كسبتم وما أخرجنا لكم أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) حال على كل حال من واو تنفقون أى والحال أنكم لا تأخذونه فى معاملاتكم فى وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أى إلا وقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم فيه وهو عبارة عن المسامحة بطريق الكناية أو الاستعارة يقال أغمض بصره إذا غضه وقرىء على البناء للمفعول على معنى إلا أن تحملوا على الإغماض وتدخلوا فيه أو توجدوا مغمضين وقرىء تغمضوا وتغمضوا بضم الميم وكسرها وقيل تم الكلام عند قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع منه تنفقون والحال أنكم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم فيه ومآله الاستفهام الإنكارى فكأنه قيل أمنه تنفقون الخ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لمنفعتكم وفى الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فإن إعطاء مثله إنما يكون عادة عند اعتقاد المعطى أن الآخذ محتاج إلى ما يعطيه بل مضطر إليه (حَمِيدٌ) مستحق للحمد على نعمه العظام وقيل حامد بقبول الجيد والإثابة عليه (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتبا

٢٦١

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٦٩)

____________________________________

على شىء من زمان أو غيره يستعمل فى الشر استعماله فى الخير قال تعالى (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى يعدكم فى الإنفاق الفقر ويقول إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغته فى الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله فى تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة بحسب إرادته أو لوقوعه فى مقابلة وعده تعالى على طريقة المشاكلة وقرىء بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أى بالخصلة الفحشاء أى ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور على فعل المأمور به والعرب تسمى البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد[أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدد] وقيل بالمعاصى والسيئات (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) أى فى الإنفاق (مَغْفِرَةً) لذنوبكم والجار فى قوله تعالى (مِنْهُ) متعلق بمحذوف هو صفة لمغفرة مؤكدة لفخامتها التى أفادها تنكيرها أى مغفرة أى مغفرة مغفرة كائنة منه عزوجل (وَفَضْلاً) صفته محذوفة لدلالة المذكور عليها كما فى قوله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) ونظائره أى وفضلا كائنا منه تعالى أى خلفا مما أنفقتم زائدا عليه فى الدنيا وفيه تكذيب للشيطان وقيل ثوابا فى الآخرة (وَاللهُ واسِعٌ) قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم فيعلم إنفاقكم فلا يكاد يضيع أجركم أو يعلم ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخلف فى الوعد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال مجاهد الحكمة هى القرآن والعلم والفقه روى عن ابن نجيح أنها الإصابة فى القول والعمل وعن إبراهيم النخعى أنها معرفة معانى الأشياء وفهمها وقيل هى معرفة حقائق الأشياء وقيل هى الإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعن مقاتل أنها تفسر فى القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسب بالمقام ما ينتطم الأحكام المييتة فى تضاعيف الآيات الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها أى يبينها ويوفق للعلم والعمل بها (مَنْ يَشاءُ) من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه فى ضمن الآى من الحكم البالغة التى يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها والموصول مفعول أول ليؤتى قدم عليه الثانى للعناية به والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) على بناء المفعول وقرىء على البناء للفاعل أى ومن يؤته الله الحكمة والإظهار فى مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها وللإشعار بعلة الحكم (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أى أى خير كثير فإنه قد خير له خير الدارين (وَما يَذَّكَّرُ) أى وما يتعظ بما أوتى من الحكمة أو وما يتفكر فيها (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أى العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى مشايعة الهوى وفيه من الترغيب فى المحافظة على الأحكام الواردة فى شأن الإنفاق ما لا يخفى والجملة إما حال أو اعتراض تذييلى

٢٦٢

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١)

____________________________________

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) بيان لحكم كلى شامل لجميع أفراد النفقات وما فى حكمها إثر بيان حكم ما كان منها فى سبيل الله وما إما شرطية أو موصولة حذف عائدها من الصلة أى وما أنفقتموه من نفقة أى أى نفقه كانت فى حق أو باطل فى سر أو علانية قليلة أو كثيرة (أَوْ نَذَرْتُمْ) النذر عقد الضمير على شىء والتزامه وفعله كضرب ونصر (مِنْ نَذْرٍ) أى نذر كان فى طاعة أو معصية بشرط أو بغير شرط متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام والصلاة ونحوهما (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) الفاء على الأول داخلة على الجواب وعلى الثانى مزيدة فى الخبر وتوحيد الضمير مع تعدد متعلق العلم لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو كما فى قولك زيد أو عمرو أكرمته ولا يقال أكرمتهما ولهذا صير إلى التأويل فى قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) بل يعاد الضمير تارة إلى المقدم رعاية للأولية كما فى قوله عز وعلا (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) وأخرى إلى المؤخر رعاية للقرب كما فى هذه الآية الكريمة وفى قوله تعالى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) وحمل النظم على تأويلهما بالمذكور ونظائره أو على حذف الأول ثقة بدلالة الثانى عليه كما فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله[نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف] ونحوهما مما عطف فيه بالواو الجامعة تعسف مستغنى عنه نعم يجوز إرجاع الضمير إلى ما على تقدير كونها موصولة وتصدير الجملة بأن لتأكيد مضمونها إفادة لتحقيق الجزاء أى فإنه تعالى يجازيكم عليه البتة إن خيرا فخير وإن شرا فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد (وَما لِلظَّالِمِينَ) بالإنفاق والنذر فى المعاصى أو بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيث أو بالرياء والمن والأذى وغير ذلك مما ينتظمه معنى الظلم الذى هو عبارة عن وضع الشىء فى غير موضعه الذى يحق أن يوضع فيه (مِنْ أَنْصارٍ) أى أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لا شفاعة ولا مدافعة وإيراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أى وما لظالم من الظالمين من نصير من الأنصار والجملة استئناف مقرر لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حال من يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعوان ورعاية الخلان (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) نوع تفصيل لبعض ما أجمل فى الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما أى إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وقرىء بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرىء بكسر النون وسكون العين وقرىء بكسر النون وإخفاء حركة العين وهذا فى الصدقات المفروضة وأما فى صدقة التطوع فالإخفاء أفضل وهى التى أريدت بقوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها) أى تعطوها خفية (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه واجب فى الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغنى ربما يدعى الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا

٢٦٣

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)

____________________________________

يفعل ذلك عند الناس (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أى فالإخفاء خير لكم من الإبداء وهذا فى التطوع ومن لم يعرف بالمال وأما فى الواجب فالأمر بالعكس لدفع التهمة. عن ابن عباس رضى الله عنهما صدقة السر فى التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أى والله يكفر أو الإخفاء ومن تبعيضية أى شيئا من سيئاتكم كما سترتموها وقيل مزيدة على رأى الأخفش وقرىء بالتاء مرفوعا ومجزوما على أن الفعل للصدقات وقرىء بالنون مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أى ونحن نكفر أو على أنها جملة مبتدأة من فعل وفاعل وقرىء مجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الإسرار والإعلان (خَبِيرٌ) فهو ترغيب فى الإسرار (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أى لا يجب عليك أن تجعلهم مهد بين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجب عليك الإرشاد إلى الخير والحث عليه والنهى عن الشر والردع عنه بما أوحى إليك من الآيات والذكر الحكيم (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما (مَنْ يَشاءُ) هدايته إلى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع الحق ويختار الخير والجملة معترضة جىء بها على تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغة فى حملهم على الامتثال فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كى تحملهم الحاجة على الدخول فى الإسلام فنزلت أى ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم فى الإسلام فلا التفات حينئذ فى الكلام وضمير الغيبة للمعهودين من فقراء المشركين بل فيه تلوين فقط وقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) على الأول التفات من الغيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزهم نحو الامتثال وعلى الثانى تلوين للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له أى أى شىء تنفقوا كائن من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) أى فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعه الدينى لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) استثناء من أعم العلل أو أعم الأحوال أى ليست نفقتكم لشىء من الأشياء إلا لابتغاء وجه الله أو ليست فى حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذى لا يوجد مثله إلى الله تعالى وقيل هو نفى فى معنى النهى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أى أجره وثوابه أضعافا مضاعفة حسبما فصل فيما قبل فلا عذر لكم فى أن ترغبوا عن إنفاقه

٢٦٤

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤)

____________________________________

على أحسن الوجوه وأجملها فهو تأكيد وبيان للشرطية السابقة أو يوف إليكم ما يخلفه وهو من نتائج دعائه عليه‌السلام بقوله اللهم اجعل للمنفق خلفا وللممسك تلفا وقيل حجت أسماء بنت أبى بكر فأتتها أمها تسألها وهى مشركة فأبت أن تعطيها وعن سعيد بن جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين وروى أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار فى اليهود ورضاع كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم فنزلت وهذا فى غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكافر وإن كان ذميا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون شيئا مما وعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلف (لِلْفُقَراءِ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام كما فى قوله عزوجل (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) أى اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بالغزو والجهاد (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أى ذهابا فيها للكسب والتجارة وقيل هم أهل الصفة كانوا رضى الله عنهم نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون فى كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أى من أجل تعففهم عن المسألة (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أى تعرف فقرهم واضطرارهم بما تعاين منهم من الضعف ورثاثة الحال والخطاب للرسول عليه‌السلام أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب مبالغة فى بيان وضوح فقرهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أى إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفنى من فضل لحافه أى أعطانى من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئا وإن سألوا لحاجة اضطرتهم إليه لم يلحوا وقيل هو نفى لكلا الأمرين جميعا على طريقة قوله [على لا حب لا يهتدى لمناره] أى لا منار ولا اهتداء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيب فى التصدق لا سيما على هؤلاء (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أى يعمون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة وقيل نزلت فى شأن الصديق رضى الله عنه حيث تصدق بأربعين ألف دينار عشرة آلاف منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سرا وعشرة علانية وقيل فى على رضى الله عنه حين لم يكن عنده إلا أربعة دراهم فتصدق بكل واحد منها على وجه من الوجوه المذكورة ولعل تقديم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار وقيل فى رباط الخيل والإنفاق عليها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر للموصول والفاء للدلالة على سبية ما قبلها لما بعدها وقيل للعطف والخبر محذوف أى ومنهم الذين الخ ولذلك جوز

٢٦٥

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧٥)

____________________________________

الوقف على علانية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أى يأخذونه والتعبير عنه بالأكل لما أنه معظم ما قصد به ولشيوعه فى المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيع لهم وهو الزيادة فى المقدار أو فى الأجل حسبما فصل فى كتب الفقه وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخم فى أمثالها وزيدت الألف تشبيها بواو الجمع (لا يَقُومُونَ) أى من قبورهم إذا بعثوا (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أى إلا قياما كقيام المصروع وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب بغير استواء خبط العشواء (مِنَ الْمَسِّ) أى الجنون وهذا أيضا من زعماتهم أن الجنى يمسه فيختلط عقله فلذلك يقال جن الرجل وهو متعلق بما قبله من الفعل المنفى أى لا يقومون من المس الذى بهم بسبب أكلهم الربا أو بيقوم أو بيتخبطه فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم بل لأن الله تعالى أربى فى بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشار إليه (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أى ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع فى سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه كاستحلاله وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين بل جعلوا الربا أصلا فى الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين فى الأول ضائع حتما وفى الثانى منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار من جهة الله تعالى لتسويتهم وإبطال للقياس لوقوعه فى مقابلة النص مع ما أشير إليه من عدم الاشتراك فى المناط والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أى فمن بلغه وعظ وزجر كالنهى عن الربا وقرىء جاءته (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجىء الموعظة للتربية (فَانْتَهى) عطف على جاءه أى فاتعظ بلا تراخ وتبع الهى (فَلَهُ ما سَلَفَ) أى ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترده منه وما مرتفع بالظرف إن جعلت من موصولة وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأى سيبويه لعدم اعتماد الظرف على ما قبله (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية وقيل يحكم فى شأنه ولا اعتراض لكم عليه (وَمَنْ عادَ) أى إلى تحليل الربا (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من عاد والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد فى عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الشر والفساد (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ما كثون فيها أبدا والجملة مقررة لما قبلها.

٢٦٦

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(٢٧٩)

____________________________________

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أى يذهب ببركته ويهلك المال الذى يدخل فيه (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذى أخرجت منه الصدقة. روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربى أحدكم مهره وعنه عليه الصلاة والسلام ما نقصت زكاة من مال قط (وَاللهُ لا يُحِبُّ) أى لا يرضى لأن الحب مختص بالتوابين (كُلَّ كَفَّارٍ) مصر على تحليل المحرمات (أَثِيمٍ) منهمك فى ارتكابه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وبما جاءهم به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما فى الصالحات لا نافتهما على سائر الأعمال الصالحة على طريقة ذكر جبريل وميكال عقيب الملائكة عليهم‌السلام (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) جملة من مبتدأ وخبر واقعة خبرا لأن أى لهم أجرهم الموعود لهم وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من أجرهم وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضميرهم مزيد لطف وتشريف لهم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكروه آت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من محبوب فات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أى قوا أنفسكم عقابه (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أى واتركوا بقايا ما شرطتم منه على الناس تركا كليا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) على الحقيقة فإن ذلك مستلزم لامتثال ما أمرتم به البتة وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله أى إن كنتم مؤمنين فاتقوا وذروه الخ. روى أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أى ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف بها (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أى فاعلموا بها من أذن بالشىء إذا علم به أما على الأول فكحرب المرتدين وأما على الثانى فكحرب البغاة. وقرىء فآذنوا أى فاعلموا غيركم قيل هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وقرىء فأيقنوا وهو مؤيد لقراءة العامة وتنكير حرب للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لفخامتها أى بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره كائن من عند الله ورسوله روى أنه لما نزلت قالت ثقيف لابد لنا بحرب الله ورسوله (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعد ما سمعتموه من الوعيد (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها كملا (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو حال من الضمير فى لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار (وَلا تُظْلَمُونَ) عطف على ما قبله أى لا تظلمون أنتم من قبلهم بالمطل

٢٦٧

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

____________________________________

والنقص ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم مرتدون ومالهم المكسوب فى حال الردة فىء للمسلمين عند أبى حنيفة رضى الله عنه وكذا سائر أموالهم عند الشافعى وعندنا هو لورثتهم ولا شىء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضى الله عنهما فإنه يقول من عامل الربا يستتاب وإلا ضرب عنقه وأما عند غيره فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم لا يمكنون من التصرفات أصلا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شىء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) أى إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة على أن كان تامة وقرىء ذا عسرة على أنها ناقصة (فَنَظِرَةٌ) أى فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة أو فلتكن نظرة وهى الإنظار والإمهال وقرىء فناظره أى فالمستحق ناظره أى منتظره أو فصاحب نظرته على طريق النسب وقرىء فناظره أمرا من المفاعلة أى فسامحه بالنظرة (إِلى مَيْسَرَةٍ) أى إلى يسار وقرىء بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشارقة وقرىء بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كما فى قوله [وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا](وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين وقرىء بتشديد الصاد أى وأن تتصدقوا على معسرى غرمائكم بالإبراء (خَيْرٌ لَكُمْ) أى أكثر ثوابا من الإنظار أو خير مما تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامه فهو ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم كلا أو بعضا على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقيل المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه‌السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف أى إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه

(وَاتَّقُوا يَوْماً) هو يوم القيامة وتنكيره للتفخيم والتهويل وتعليق الاتقاء به للمبالغة فى التحذير عما فيه من الشدائد والأهوال (تُرْجَعُونَ فِيهِ) على البناء للمفعول من الرجع وقرىء على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل فى التهويل وقرىء بالياء على طريق الالتفات وقرىء تردون وكذا تصيرون (إِلَى اللهِ) لمحاسبة أعمالكم (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس والتعميم للمبالغة فى تهويل اليوم أى تعطى كملا (ما كَسَبَتْ) أى جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حال من كل نفس تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين فى ذلك لما أنه من قبل أنفسهم وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أوفق بحال الكسب عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه‌السلام وقال ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاث ساعات.

٢٦٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) شروع فى بيان حال المداينة الواقعة فى تضاعيف المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالنقود بعد بيان حال الربا أى إذا داين بعضكم بعضا وعامله نسيئة معطيا أو آخذا وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة أو التنبيه على تنوعه إلى الحال والمؤجل وأنه الباعث على الكتبة وتعين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر (إِلى أَجَلٍ) متعلق بتداينتم أو بمحذوف وقع صفة لدين (مُسَمًّى) بالأيام أو الأشهر ونظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحصاد والدياس ونحوهما مما لا يرفعها (فَاكْتُبُوهُ) أى الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع للنزاع والجمهور على استحبابه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح فى السلف (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها إثر الأمر بها إجمالا وحذف المفعول إما لتعينه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل أى ليفعل الكتابة وقوله تعالى (بَيْنَكُمْ) للإيذان بأن الكاتب ينبغى أن يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفى بكلام أحدهما وقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) متعلق بمحذوف هو صفة لكاتب أى كاتب كائن بالعدل أى وليكن المتصدى للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجىء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع ويجوز أن يكون حالا منه أى ملتبسا بالعدل وقيل متعلق بالفعل أى وليكتب بالحق (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أى ولا يمتنع أحد من الكتاب (أَنْ يَكْتُبَ) كتاب الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) على طريقة ما علمه من كتبه الوثائق أو كما بينه بقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) أو (لا يَأْبَ) أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليم الكتابة كقوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ (فَلْيَكْتُبْ) تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهى عن إبائها تأكيدا لها ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر على أن يكون النهى عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي

٢٦٩

عَلَيْهِ الْحَقُّ) الإملال هو الإملاء أى وليكن المملى من عليه الحق لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة فى التحذير أى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) أى من الحق الذى يمليه على الكاتب (شَيْئاً) فإنه الذى يتوقع منه البخس خاصة وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهى عن كليهما وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل وإنما شدد فى تكليف المملى حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهى عن البخس لما فيه من الدواعى إلى المنهى عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما فى ذمته بما أمكن (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) صرح بذلك فى موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهى لغيره (سَفِيهاً) ناقص العقل مبذرا مجازفا (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أى غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أوعى أو جهل أو غير ذلك من العوارض (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أى الذى بلى أمره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم (بِالْعَدْلِ) أى من غير نقص ولا زيادة لم يكلف بعين ما كلف به من عليه الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أى اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكم من المداينة وتسميتهما شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق باستشهدوا ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفه لشهيدين ومن تبعيضية أى شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلام فى معاملاتهم فإن خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين فى موضعه وأما إذا كانت المداينة بين الكفرة أو كان من عليه الحق كافرا فيجوز استشهاد الكافر عندنا (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أى الشهيدان جميعا على طريقة نفى الشمول لا شمول النفى (رَجُلَيْنِ) إما لإعوازهما أو لسبب آخر من الأسباب (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أى فلبشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون وهذا فيما عدا الحدود والقصاص عندنا وفى الأموال خاصة عند الشافعى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أى كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره فى كل شهيد لقلة اتصاف النساء به وقيل نعت لشهيدين أى كائنين ممن ترضون ورد بأنه يلزم الفصل بينهما بالأجنبى وقيل بدل من رجالكم بتكرير العامل ورد بما ذكر من الفصل وقيل متعلق بقوله تعالى (فَاسْتَشْهِدُوا) فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عزوجل (مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول أى ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعد التهم وثقتكم بهم وإدراج النساء فى الشهداء بطريق التغليب (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) تعليل لاعتبار العدد فى النساء والعلة فى الحقيقة هى التذكير ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته كما فى قولك أعددت السلاح أن يجئ عدو فأدفعه كأنه قيل أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ولعل إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة فى الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى وقرىء فتذكر من الأذكار وقرىء فتذاكر وقرىء أن تضل على الشرط فتذكر بالرفع كقوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء

٢٧٠

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)

____________________________________

الشهادة أو لتحملها وتسميتهم شهداء قبل التحمل لما مر من تنزيل المشارف منزلة الواقع وما مزيدة عن قتادة أنه كان الرجل يطوف فى الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد فنزلت (وَلا تَسْئَمُوا) أى لا تملوا من كثرة مدايناتكم (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أى الدين أو الحق أو الكتاب وقيل كنى به عن الكسل الذى هو صفة المنافق كما ورد فى قوله تعالى (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقول المؤمن كسلت (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) حال من الضمير أى حال كونه صغيرا أو كبيرا أى قليلا أو كثيرا أو مجملا أو مفصلا (إِلى أَجَلِهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الهاء فى تكتبوه أى مستقرا فى الذمة إلى وقت حلوله الذى أقربه المديون (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما أمر به من الكتب والخطاب للمؤمنين (أَقْسَطُ) أى أعدل (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه تعالى (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أى أثبت لها وأعون على إقامتها وهما مبنيان من أقسط وأقام فإنه قياسى عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذى قسط وقويم وإنما صحت الواو فى أقوم كما صحت فى التعجب لجموده (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب إلى انتفاء ريبكم فى جنس الدين وقدره وأجله وشهوده ونحو ذلك (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) استثناء منقطع من الأمر بالكتابة أى لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيهما يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أى فلا بأس بأن لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان وقرىء برفع تجارة على أنها اسم كان وحاضرة صفتها وتديرونها خبرها أو على أنها تامة (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أى هذا التبايع أو مطلقا لأنه أحوط والأوامر الواردة فى الآية الكريمة للندب عند الجمهور وقيل للوجوب ثم اختلف فى إحكامها ونسخها (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهى عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبئ عنه قراءة من قرأ ولا يضارر بالكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغيير والتحريف فى الكتبة والشهادة أو نهى الطالب عن الضرار بهما بأن يعجلهما عن مهمهما أو يكلفهما الخروج عما حد لهما أو لا يعطى الكاتب جعله وقرىء بالرفع على أنه نفى فى معنى النهى (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار (فَإِنَّهُ) أى فعلكم ذلك (فُسُوقٌ بِكُمْ) أى خروج عن الطاعة ملتبس بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفة أوامره وتواهيه التى من جملتها نهيه عن المضارة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يكاد يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك كرر لفظ الجلالة فى الجمل الثلاث لإدخال الروعة وتربية المهابة وللتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بالإنعام والثالثة تعظيم لشأنه تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أى مسافرين أو متوجهين إليه (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) فى المداينة وقرىء كتابا وكتبا وكتابا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أى فالذى يستوثق به أو

٢٧١

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)

____________________________________

فعليكم أو فليؤخذ أو فالمشروع رهان مقبوضة وليس هذا التعليق لاشتراط السفر فى شرعية الارتهان كما حسبه مجاهد والضحاك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعه فى المدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة فى السفر الذى هو مظنة إعوازها وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه فى حكم الكاتب توثقا وإعوازا والجمهور على وجوب القبض فى تمام الرهن غير مالك وقرىء فرهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون وقرىء بسكون الهاء تخفيفا (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أى بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان وقرىء فإن أو من بعضكم أى آمنه الناس ووصفوه بالأمانة قيل فيكون انتصاب بعضا حينئذ على نزع الخافض أى على متاع بعض (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام ولحمله على الأداء (أَمانَتَهُ) أى دينه وإنما سمى أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به وقرىء أيتمن بقلب الهمزة ياء وقرىء بإدغام الياء فى التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها فى حكمها (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فى رعاية حقوق الأمانة وفى الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود أو المديونون أى شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) آثم خبر إن وقلبه مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل يأثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثم خبر مقدم والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان مما اقترفه ونظيره نسبة الزنا إلى العين والأذن أو للمبالغة لأنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال كأنه قيل تمكن الإثم فى نفسه وملك أشرف مكان فيه وفاق سائر ذنوبه. عن ابن عباس رضى الله عنهما إن أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وشهادة الزور وكتمان الشهادة وقرىء قلبه بالنصب كما فى سفه نفسه وقرىء أثم قلبه أى جعله آثما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الأمور الداخلة فى حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من أولى العلم وغيرهم أى كلها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لا شركة لغيره فى شىء منها بوجه من الوجوه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من السوء والعزم عليه بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تكتموه منهم ولا تظهروه بأحد الوجهين ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس وأحاديث النفس التى لا عقد ولا عزيمة فيها إذ التكليف بحسب الوسع (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يوم القيامة وهو حجة على منكرى الحساب من المعتزلة والروافض وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما فى قوله عزوجل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) فلما أن المعلق بما فى أنفسهم ههنا هو المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية

٢٧٢

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)

____________________________________

كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته متعال عن أن يكون بطريق حصول الصور بل وجود كل شىء فى نفسه فى أى طور كان علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء إذ ما من شىء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقد مر فى تفسير قوله تعالى (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (فَيَغْفِرُ) بالرفع على الاستئناف أى فهو يغفر بفضله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له (وَيُعَذِّبُ) بعدله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه وقرىء بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط وقرىء بالجزم من غير فاء على أنهما بدل من الجواب بدل البعض أو الاشتمال ونظيره الجزم على البدلية من الشرط فى قوله[متى تأتنا تلمم بنا فى ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا] وإدغام الراء فى اللام لحن (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب (آمَنَ الرَّسُولُ) لما ذكر فى فاتحة السورة الكريمة أن ما أنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب العظيم الشأن هدى للمتصفين بما فصل هناك من الصفات الفاضلة التى من جملتها الإيمان به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهية وأنهم حائزون لإثرتى الهدى والفلاح من غير تعيين لهم بخصوصهم ولا تصريح بتحقق اتصافهم بها إذ ليس فيما يذكر فى حيز الصلة حكم بالفعل وعقب ذلك ببيان حال من كفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شرح فى تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظ والحكم وأخبار سوالف الأمم وغير ذلك ما تقتضى الحكمة شرحه عين فى خاتمتها المتصفون بها وحكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عزوجل بكمال الإيمان وحسن الطاعة وذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التى من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غنى عن التصريح به لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب كتاب مجيد وشرع جديد تمهيد لما يعقبه من قوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) ومزيد توضيح لاندراجه فى الرسل المؤمن بهم عليهم‌السلام والمراد بما أنزل إليه ما يعم كله وكل جزء من أجزائه ففيه تحقيق لكيفية إيمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعيين لعنوانه أى آمن عليه‌السلام بكل ما أنزل إليه (مِنْ رَبِّهِ) إيمانا تفصيليا متعلقا بجميع ما فيه من الشرائع والأحكام والقصص والمواعظ وأحوال الرسل والكتب وغير ذلك من حيث إنه منزل منه تعالى وأما الإيمان بحقية أحكامه وصدق أخباره ونحو ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة وفى هذا الإجمال إجلال لمحلهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشعار بأن تعلق إيمانه بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى

٢٧٣

عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلا وكذا فى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام تشريف له وتنبيه على أن إنزاله إليه تربية وتكميل له عليه‌السلام (وَالْمُؤْمِنُونَ) أى الفريق المعروفون بهذا الاسم فاللام عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ وقوله عزوجل (كُلٌّ) مبتدأ ثان وقوله تعالى (آمَنَ) خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والرابط بينهما الضمير الذى ناب منابه التنوين وتوحيد الضمير فى آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر ذلك فى قوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) وتغيير سبك النظم الكريم عما قبله لتأكيد الإشعار بما بين إيمانه عليه‌السلام المبنى على المشاهدة والعيان وبين إيمانهم الناشىء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والاختلاف الجلى كأنهما مختلفان من كل وجه حتى فى هيئة التركيب الدال عليهما وما فيه من تكرير الإسناد لما فى الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتى من نوع خفاء محوج إلى التقوية والتأكيد أى كل واحد منهم آمن (بِاللهِ) وحده من غير شريك له فى الأولهية والمعبودية (وَمَلائِكَتِهِ) أى من حيث أنهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحى فإن مدار الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتهم فى أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلوح به الترتيب فى النظم (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أى من حيث مجيئهما من عنده تعالى لإرشاد الخلق إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهى لكن لا على الإطلاق بل على أن كل واحد من تلك الكتب منزل منه تعالى إلى رسول معين من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام حسبما فصل فى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) الآية ولا على أن مناط الإيمان خصوصية ذلك الكتاب أو ذلك الرسول بل على أن الإيمان بالكل مندرج فى الإيمان بالكتاب المنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومستند إليه لما تلى من الآية الكريمة ولا على أن أحكام الكتب السالفة وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقى منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن أحكام كل واحد منها كانت حقة ثابتة إلى ورود كتاب آخر ناسخ له وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المصون عن النسخ إلى يوم القيامة وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر فى قوله تعالى (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) لاندراجه فى الإيمان بكتبه وقرىء وكتابه على أن المراد به القرآن أو جنس الكتاب كما فى قوله تعالى (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع فى أفراد الجنس والجمع فى جموعه ولذلك قيل الكتاب أكثر من الكتب وهذا نوع تفصيل لما أجمل فى قوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) اقتصر عليه إيذانا بكفايته فى الإيمان الإجمالى المتحقق فى كل فرد من أفراد المؤمنين من غير نفى لزيادة ضرورة اختلاف طبقاتهم وتفاوت إيمانهم بالأمور المذكورة فى مراتب التفصيل تفاوتا فاحشا فإن الإجمال فى الحكاية لا يوجب الإجمال فى المحكى كيف لا وقد أجمل فى حكاية إيمانه عليه‌السلام بما أنزل إليه من ربه مع بداهة كونه متعلقا بتفاصيل ما فيه من الجلائل والدقائق ثم إن الأمور المذكورة

٢٧٤

حيث كانت من الأمور الغيبية التى لا يوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمان بها مصداقا لما ذكر فى صدر السورة الكريمة من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتبه تعالى فإشارة إلى ما فى قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هذا هو اللائق بشأن التنزيل والحقيق بمقداره الجليل وقد جوز أن يكون قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ) معطوفا على (الرَّسُولُ) فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع إلى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم فصل ذلك وقيل كل واحد من الرسول والمؤمنين آمن بالله الخ خلا أنه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وإيذانا بأصالته عليه‌السلام فى الإيمان به ولا يخفى أنه مع خلوه عما فى الوجه الأول من كمال إجلال شأنه عليه‌السلام وتفخيم إيمانه مخل بجزالة النظم الكريم لأنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه عليه‌السلام من حيث الذات ومن حيث التعلق بالتفاصيل استحال إسنادهما إلى غيره عليه‌السلام وضاع التكرير وإن حملا على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية عليه‌السلام وأما حملهما على ما يليق بكل واحد ممن نسبا إليه من الآحاد ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان العيانى المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من جهته عليه‌السلام اللائق بحالهم فى الإجمال والتفصيل فاعتساف بين ينبغى تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله وقوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فى حيز النصب بقول مقدر على صيغة الجمع رعاية لجانب المعنى منصوب على أنه حال من ضمير آمن أو مرفوع على أنه خبر آخر لكل أى يقولون لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض منهم ونكفر بآخرين بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم قيدوا به إيمانهم تحقيقا للحق وتخطئة لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستقلت اليهود بالكفر بعيسى عليه‌السلام أيضا على أن مقصودهم الأصلى إبراز إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه‌السلام لا إظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به وهذا كما ترى صريح فى أن القائلين آحاد المؤمنين خاصة إذ لا يمكن أن يسند إليه عليه‌السلام أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد به إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه فى دعواها وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصل فى تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وقرىء بالياء على إسناد الفعل إلى كل وقرىء لا يفرقون حملا على المعنى كما فى قوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) فالجملة نفسها حال من الضمير المذكور وقيل خبر ثان لكل كما قيل فى القول المقدر فلا بد من اعتبار الكلية بعد النفى دون العكس إذ المراد شمول النفى لا نفى الشمول والكلام فى همزة أحد وفى دخول بين عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس فى أن يقال لا نفرق بين رسله وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله فى قوله تعالى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) إما للاحتراز عن توهم اندارج الملائكة فى الحكم أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات الخاصة (وَقالُوا) عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار جانب المعنى وهو حكاية لامتثالهم بالأوامر إثر حكاية

٢٧٥

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

____________________________________

إيمانهم (سَمِعْنا) أى فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته (وَأَطَعْنا) ما فيه من الأوامر والنواهى وقيل سمعنا أجبنا دعوتك وأطعنا أمرك (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أى اغفر لنا غفرانك أو نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشر من التقصير فى مراعاة حقوقك وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للمبالغة فى التضرع والجؤار (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أى الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوع للحساب والجزاء وقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستقلة جىء بها إثر حكاية تلقيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهارا لما له تعالى عليهم فى ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجىء. هذا وقد روى أنه لما نزل قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوه عليه‌السلام ثم بركوا على الركب فقالوا أى رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والحج والجهاد وقد أنزل إليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقرأها القوم فأنزل الله عزوجل (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله تعالى (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فمسئولهم الغفران المعلق بمشيئته عزوجل فى قوله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ثم أنزل الله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تهوينا للخطب عليهم ببيان أن المراد بما فى أنفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر التى لا يستطاع الاحتراز عنها والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه أى سنته تعالى أنه لا يكلف نفسا من النفوس إلا ما يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود فضلا منه تعالى ورحمة لهذه الأمة كقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقرىء وسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) للترغيب فى المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعى إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته أى لها ثواب ما كسبت من الخير الذى كلفت فعله لا لغيرها استقلالا أو اشتراكا ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من أجزاء مكسوبها وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقاب ما اكتسبت من الشر الذى كلفت تركه وإيراد

٢٧٦

الاكتساب فى جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشىء من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها فى طلبه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) شروع فى حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف أى لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحو هما مما يدخل تحت التكليف أو بأنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر أو مطلقا إذ لا امتناع فى المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصى كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو أخطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصى أيضا لا يبعد أن يفضى إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ووعده تعالى بعدمه لا يوجب استحالة وقوعه فإن ذلك من آثار فضله ورحمته كما ينبئ عنه الرفع فى قولهعليه‌السلام رفع عن أمتى الخطأ والنسيان. وقد روى أن اليهود كانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة فدعاؤهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة فى ذلك كما فى قوله تعالى (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة والإصر العبء الثقيل الذى يأصر صاحبه أى يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة وقيل الإصر الذنب الذى لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه وقرىء آصارا وقرىء ولا تحمل بالتشديد للمبالغة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) فى حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى حملا مثل حملك إياه على من قبلنا أو على أنه صفة لإصرا أى إصرا مثل الإصر الذى حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من بخع النفس فى التوبة وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة فى يوم وليلة وصرف ربع المال للزكاة وغير ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم قال الله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقد عصم الله عزوجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل فى شأنهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وعن العقوبات التى عوقب بها الأولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع عن أمتى الخسف والمسخ والغرق (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) عطف على ما قبله واستعفاء عن العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدى إليها التفريط فيه من التكاليف الشاقة التى لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا فى المحافظة عليها فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدى إليها وقيل هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة وقيل هو استعفاء عن التكليف بما لا تفى به الطاقة البشرية حقيقة فيكون دليلا على جوازه عقلا وإلا لما سئل التخلص عنه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان (وَاعْفُ عَنَّا) أى آثار ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) واسترعيوبنا ولا تفضحنا على رءوس الأشهاد (وَارْحَمْنا) وتعطف بنا وتفضل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما أن التخلية سابقة على التحلية (أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولى أمورنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء والمراد به عامة الكفرة وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد فى سبيله تعالى حسبما أمر فى تضاعيف السورة الكريمة غاية مطالبهم. روى أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا

٢٧٧

بهذه الدعوات قيل له عند كل دعوة قد فعلت. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفى عام من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ آيتين من سورة البقرة كفتاه وهو حجة على من استكره أن يقول سورة البقرة وقال ينبغى ان يقال السورة التى يذكر فيها البقرة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم السورة التى يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل وما البطلة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم السحرة

(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثانى وأوله سورة آل عمران)

٢٧٨

فهرست

الجزء الأول من تفسير أبو السعود

ـ مقدمة قاضى القضاة أبو السعود.................................................. ٣

(الجزء الأول)

ـ سورة الفاتحة................................................................. ٧ ـ ١

سورة البقرة تفسير قوله تعالى

ـ إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها............................. ٧١

ـ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم............................................. ٩٧

ـ وإذ استسقى موسى لقومه.................................................... ١٠٥

ـ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون     ١١٦

ـ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون................. ١٣٠

ـ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ١٤٢

ـ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن........................................... ١٥٤

(الجزء الثانى)

سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها...................... ١٧٠

إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف يهما ١٨١

١٩٢ ـ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.

ـ يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ٢٠٣

ـ واذكروا الله فى أيام معدودات.................................................. ٢١٠

٢٧٩

ـ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.. ٢١٨

ـ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.................. ٢٣٠

ـ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت......................... ٢٣٧

(الجزء الثالث)

ـ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض........................................... ٢٤٥

ـ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى حميد..................... ٢٥٨

ـ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشا..................................... ٢٦٤

ـ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة................................ ٢٧١

(تم فهرس الجزء الأول)

٢٨٠