تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

____________________________________

الجملة الابتدائية جوابا للو غير معهود فى كلام العرب وقيل لو للتمنى ومعناه أنهم من فظاعة الحال بحيث يتمنى العارف إيمانهم واتقاءهم تلهفا عليهم وقرىء لمثوبة وإنما سمى الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين فيه إرشاد لهم إلى الخير وإشارة إلى بعض آخر من جنايات اليهود (لا تَقُولُوا راعِنا) المراعاة المبالغة فى الرعى وهو حفظ الغير وتدبير أموره وتدارك مصالحه وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من العلم يقولون راعنا يا رسول الله أى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك ونحفظه وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابون بها فيما بينهم وهى راعينا قيل معناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترصوه واتخذوه ذريعة إلى مقصدهم فجعلوا يخاطبون به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنون به تلك المسبة أو نسبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرعن وهو الحمق والهوج روى أن سعد بن عبادة رضى الله عنه سمعها منهم فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذى نفسى بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربن عنقه قالوا أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعا لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما فى معناها ولا يقبل التلبيس فقيل (وَقُولُوا انْظُرْنا) أى انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظره إذا انتظره وقرىء أنظرنا من النظرة أى أمهلنا حتى نحفظ وقرىء راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغة الفاعل أى قولا ذارعن كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسب بالرعن اتصف به (وَاسْمَعُوا) وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعاذة وطلب المراعاة أو واسمعوا ما كلفتموه من النهى والأمر بجد واعتناء حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماع طاعة وقبول ولا يمكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا (وَلِلْكافِرِينَ) أى اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سببا للتهاون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا له ما قالوا (عَذابٌ أَلِيمٌ) لما اجترءوا عليه من العظيمة وهو تذييل لما سبق فيه وعيد شديد لهم ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الودحب الشىء مع تمنيه ولذلك يستعمل فى كل منهما ونفيه كناية عن الكراهة ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بعلية ما فى حيز الصلة لعدم ودهم ولعل تعلقه بما قبله من حيث أن القول المنهى عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحى المعبر عنه فى هذه الآية بالخير فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له إلى ما حكى عنهم لوقوعه فى أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير وقيل كان فريق من اليهود يظهرون للمؤمنين محبة ويزعمون أنهم يودون لهم الخير فنزلت تكذيبا لهم فى ذلك ومن فى

١٤١

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٦)

____________________________________

قوله تعالى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) للتبيين كما فى قوله عز وعلا (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ولا مزيدة لما ستعرفه (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) فى حيز النصب على أنه مفعول يود وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعين الفاعل والتصريح الآتى فى قوله تعالى (مِنْ خَيْرٍ) هو القائم مقام فاعله ومن مزيدة للاستغراق والنفى وإن لم يباشره ظاهرا لكنه منسحب عليه معنى والخير الوحى وحمله على ما يعمه وغيره من العلم والنصرة كما قيل يأباه وصفه فيما سيأتى بالاختصاص وتقديم الظرف عليه مع أن حقه التأخر عنه لإظهار كمال العناية به لأنه المدار لعدم ودهم ومن فى قوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخير والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم وليست كراهتهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبدهم بما فيه وتعريضهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة من نزل عليهم الخير بل من حيث وقوع ذلك التنزيل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصيغة الجمع للإيذان بأن مدار كراهتهم ليس معنى خاصا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وصف مشترك بين الكل وهو الخلو عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم ويكرهون فيحسدونكم أن ينزل عليكم شىء من الوحى أما اليهود فبناء على أنهم أهل الكتاب وأبناء الأنبياء الناشئون فى مهابط الوحى وأنتم أميون وأما المشركون فإدلالا بما كان لهم من الجاه والمال زعما منهم أن رياسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيوية منوطة بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ولما كانت اليهود بهذا الداء أشهر لا سيما فى أثناء ذكر ابتلائهم به لم يلزم من نفى ودادتهم لما ذكر نفى ودادة المشركين له فزيدت كلمة لا لتأكيد النفى (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له والمراد برحمته الوحى كما فى قوله سبحانه أهم يقسمون رحمة ربك عبر عنه باعتبار نزوله على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافته إليه تعالى بالرحمة قال على رضى الله عنه بنبوته خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالفعل متعد وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء وإيثاره على التنزيل المناسب للسياق الموافق لقوله تعالى (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ) لزيادة تشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقناطهم مما علقوا به أطماعهم الفارغة والباء داخلة على المقصود أى يؤتى رحمته (مَنْ يَشاءُ) من عباده ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتى الفائض عليه بحسب إرادته عز وعلا تفضلا لا تتعداه إلى غيره وقيل الفعل لازم ومن فاعله والضمير العائد إلى من محذوف على التقديرين وقوله تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل لما سبق مقرر لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاء النبوة من فضله العظيم كقوله تعالى (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) وأن حرمان من حرم ذلك ليس لضيق ساحة فضله بل لمشيئته الجارية على سنن الحكمة البالغة وتصدير الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونيهما وكون كل منهما مستقلة بشأنها فإن الإضمار فى الثانية منبئ عن توقفها على الأولى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذى هو فرد من أفراد تنزيل الوحى وإبطال مقالة الطاعنين فيه أثر تحقيق

١٤٢

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

____________________________________

حقيقة الوحى ورد كلام الكارهين له رأسا قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه والنسخ فى اللغة الإزالة والنقل يقال نسخت الريح الأثر أى أزالته ونسخت الكتاب أى نقلته ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعا وإنساؤها إذهابها من القلوب وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية وقرىء ننسخ من أنسخ أى نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة وننسأها من النسء أى نؤخرها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول وقرىء ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرىء ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أى نوع آخر هو خير للعباد بحسب الحال فى النفع والثواب من الذاهبة وقرىء بقلب الهمزة ألفا (أَوْ مِثْلِها) أى فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فى مادونها أيضا وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب والنص كما ترى دال على جواز النسخ كيف لا وتنزيل الآيات التى عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة فى حال تقتضى فى حال أخرى نقيضه فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام (أَلَمْ تَعْلَمْ) الهمزة للتقرير كما فى قوله سبحانه أليس الله بكاف عبده وقوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) والخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ساد مسد مفعولى تعلم عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثانى محذوف عند الأخفش والمراد بهذا التقرير الاستشهاد بعلمه بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية وكذا الحال فى قوله عز سلطانه (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ والجملة خبر لأن إيثاره على أن يقال أن لله ملك السموات والأرض للقصد إلى تقوى الحكم بتكرر الإسناد وهو إما تكرير للتقرير وإعادة للاستشهاد على ما ذكر وإنما لم يعطف أن مع ما فى حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفايته فى الوقوف على ما هو المقصود وإما تقرير مستقل للاستشهاد على قدرته تعالى على جميع الأشياء أى ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته لا معارض لأمره ولا معقب لحكمه فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شىء من الأشياء وقوله تعالى (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ

١٤٣

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

____________________________________

وَلا نَصِيرٍ) معطوف على الجملة الواقعة خبرا لأن داخل معها تحت تعلق العلم المقرر وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضا وإنما إفراده عليه‌السلام بهما لما أن علومهم مستندة إلى علمه عليه‌السلام ووضع الاسم الجليل موضع الضمير الراجع إلى اسم أن لتربية المهابة والإيذان بمقارنة الولاية والنصرة للقوة والعزة والمراد به الاستشهاد بما تعلق به من العلم على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعى حصوله البتة وإنما الذى يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا ونصيرا لهم فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره على الاستقلال يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى ولا يخطر بباله ريبة فى أمر النسخ وغيره أصلا والفرق بين الولى والنصير أن الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور وما إما تميمية لا عمل لها ولكم خبر مقدم ومن ولى مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق وإما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يجيز تقديمه واسمها من ولى ومن مزيدة لما ذكر ومن دون الله فى حيز النصب على الحالية من اسمها لأنه فى الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا ومعناه سوى الله والمعنى أن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم فى أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم والعمل بموجبه من الثقة به والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه من غير إصغاء إلى أقاويل الكفرة وتشكيكاتهم التى من جملتها ما قالوا فى أمر النسخ وقوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ) تجريد للخطاب عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخصيص له بالمؤمنين وأم منقطعة ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم فى ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ومعنى الهمزة إنكار وقوع الإرادة منهم واستبعاده لما أن قضية الإيمان وازعة عنها وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة فى إنكاره واستبعاده ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه والمعنى بل أتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا) وأنتم مؤمنون (رَسُولَكُمْ) وهو فى تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غير واثقين فى أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشئونه سبحانه قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ وقيل سأله عليه‌السلام قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كانت للمشركين وهى شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب وقوله تعالى (كَما سُئِلَ مُوسى) مصدر تشبيهى أى نعت لمصدر مؤكد محذوف وما مصدرية أى سؤالا مشبها بسؤال موسى عليه‌السلام حيث قيل له اجعل لنا إلها وأرنا الله جهرة وغير ذلك ومقتضى الظاهر أن يقال كما سألوا موسى لأن المشبه هو المصدر من المبنى للفاعل أعنى سائليه المخاطبين لا من المبنى للمفعول أعنى مسئولية

١٤٤

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٩)

____________________________________

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشبه بمسئولية موسى عليه‌السلام فلعله أريد التشبيه فيهما معا ولكنه أوجز النظم فذكر فى جانب المشبه السائلية وفى جانب المشبه به المسئولية واكتفى بما ذكر فى كل موضع عما ترك فى الموضع الآخر كما ذكر فى قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وقد جوز أن تكون ما موصولة على أن العائد محذوف أى كالسؤال الذى سئله موسى عليه‌السلام وقوله تعالى (مِنْ قَبْلُ) متعلق بسئل جىء به للتأكيد وقرىء سيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ) أى يختره ويأخذه لنفسه (بِالْإِيمانِ) بمقابلته بدلا منه وقرىء ومن يبدل من أبدل وكان مقتضى الظاهر أن يقال ومن يفعل ذلك أى السؤال المذكور أو إرادته وحاصله ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التى من جملتها الآيات الناسخة التى هى خير محض وحق بحت واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أى عدل وجار من حيث لا يدرى عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى وتاه فى تيه الهوى وتردى فى مهاوى الردى وإنما أوثر على ذلك ما عليه النظم الكريم للتصريح من أول الأمر بأنه كفر وارتداد وأن كونه كذلك أمر واضح غنى عن الإخبار به بأن يقال ومن يفعل ذلك يكفر حقيق بأن يعد من المسلمات ويجعل مقدما للشرطية روما للمبالغة فى الزجر والإفراط فى الردع وسواء السبيل من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة فى بيان قوة الاتصاف كأنه نفس السواء على منهاج حصول الصورة فى الصورة الحاصلة وقيل الخطاب لليهود حين سألوا أن ينزل الله عليهم كتابا من السماء وقيل للمشركين حين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الخ فإضافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوة ومعنى تبدل الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك وإيثارهم للكفر عليه (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم رهط من أحبار اليهود. روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهما بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإنى عاهدت أن لا أكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبله وبالمؤمنين إخوانا ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبراه فقال أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) حكاية لودادتهم ولو فى معنى التمنى وصيغة الغيبة كما فى قوله حلف ليفعلن وقيل هى بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا التقدير ودوا ردكم وقيل هى على حقيقتها وجوابها محذوف تقديره لو يردونكم كفارا لسروا بذلك و (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ)

١٤٥

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١١١)

____________________________________

متعلق بيردونكم وقوله تعالى (كُفَّاراً) مفعول ثان له على تضمين الرد معنى التصيير أى يصيرونكم كفارا كما فى قوله[رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا] [فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا] وقيل هو حال من مفعوله والأول أدخل لما فيه من الدلالة صريحا على كون الكفر المفروض بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورة كون المخاطبين مؤمنين واستحالة تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة ما أرادوه وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارف للعاقل عن مباشرته وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل من بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى (حَسَداً) علة لود أو حال أريد به نعت الجمع أى حاسدين لكم والحسد الأسف على من له خير بخيره (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) متعلق بودأى ودوا ذلك من أجل تشهيهم وحظوظ أنفسهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسد أى حسدا منبعثا من أصل نفوسهم بالغا أقصى مراتبه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) بالمعجزات الساطعة وبما عاينوا فى التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسكون به وهم منهمكون فى الباطل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك المؤاخذة والعقوبة والصفح ترك التثريب والتأنيب (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذى هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذ لا لهم بضرب الجزية عليهم أو الإذن فى القتال وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ولا يقدح فى ذلك ضرب الغاية لأنها لا تعلم إلا شرعا ولا يخرج الوارد بذلك من أن يكون ناسخا كأنه قيل فاعفوا واصفحوا إلى ورود الناسخ (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فينتقم منهم إذا حان حينه وآن أوانه فهو تعليل لما دل عليه ما قبله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على فاعفوا أمروا بالصبر والمداراة واللجأ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة أو صدقة أو غير ذلك أى أى شىء من الخيرات تقدموه لمصلحة أنفسكم (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أى تجدوا ثوابه وقرىء تقدموا من أقدم (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يضيع عنده عمل فهو وعد للمؤمنين وقرىء بالياء فهو وعيد للكافرين (وَقالُوا) عطف على ود والضمير لأهل الكتابين جميعا (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أى قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلف بين القولين ثقة أن السامع يرد كلا منهما إلى قائله ونحوه وقالوا كونوا هودأ أو نصارى تهتدوا وليس مرادهم بأولئك من أقام اليهودية والنصرانية قبل النسخ

١٤٦

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)

____________________________________

والتحريف على وجهها بل أنفسهم على ما هم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردهم إلى الكفر والهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ وبزل جمع بازل والإفراد فى كان باعتبار لفظ من والجمع فى خبره باعتبار معناه وقرىء إلا من كان يهوديا أو نصرانيا (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) الأمانى جميع أمنية وهى ما يتمنى كالأعجوبة والأضحوكة والجملة معترضة مبنية لبطلان ما قالوا وتلك إشارة إليه والجمع باعتبار صدوره عن الجميع وقيل فيه حذف مضاف أى أمثال تلك الأمنية أمانيهم وقيل تلك إشارة إليه وإلى ما قبله من أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردهم كفارا ويرده قوله تعالى (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإنهما ليسا مما يطلب له البرهان ولا مما يحتمل الصدق والكذب قيل هاتوا أصله آتوا قلبت الهمزة هاء أى أحضروا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين فى دعواكم. هذا ما يقتضيه المقام بحسب النظر الجليل والذى يستدعيه إعجاز التنزيل أن يحمل الأمر التبكيتى على طلب البرهان على أصل الدخول الذى يتضمنه دعوى الاختصاص به فإن قوله تعالى (بَلى) الخ إثبات من جهته تعالى لما نفوه مستلزم لنفى ما أثبتوه وإذ ليس الثابت به مجرد دخول غيرهم الجنة ولو معهم ليكون المنفى مجرد اختصاصهم به مع بقاء أصل الدخول على حاله بل هو اختصاص غيرهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهر أن المنفى أصل دخولهم ومن ضرورته أن يكون هو الذى كلفوا إقامة البرهان عليه لا اختصاصهم به ليتحد مورد الإثبات والنفى وإنما عدل عن إبطال صريح ما ادعوه وسلك هذا المسك إبانة لغاية حرمانهم مما علقوا به أطماعهم وإظهارا لكمال عجزهم عن إثبات مدعاهم لأن حرمانهم من الاختصاص بالدخول وعجزهم عن إقامة البرهان عليه لا يقتضيان حرمانهم من أصل الدخول وعجزهم عن إثباته وأما نفس الدخول فحيث ثبت حرمانهم منه وعجزهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعد وعن إثباته أعجز وإنما الفائز به من انتظمه قوله سبحانه (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أى أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئا عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخضوع الذى هو من أخص خصائص الإخلاص أو توجهه وقصده بحبث لا يلوى عزيمته إلى شىء غيره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) حال من ضمير أسلم أى والحال أنه محسن فى جميع أعماله التى من جملتها الإسلام المذكور وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفى التابع لحسنه الذاتى وقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذى وعده له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل هو فيه دخولا أوليا وأياما كان فتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل واستحالة نيله بدونه وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِ) حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار فى الظرف والعندية للتشريف ووضع اسم الرب مضافا إلى ضمير من أسلم موضع ضمير الجلالة لإظهار مزيد اللطف به وتقرير مضمون الجملة أى فله أجره

١٤٧

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

____________________________________

عند مالكه ومدبر أموره ومبلغه إلى كماله والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله تعالى (بَلى) وحده ويجوز أن يكون من فاعلا لفعل مقدر أى بلى يدخلها من أسلم وقوله تعالى (فَلَهُ أَجْرُهُ) معطوف على ذلك المقدر وأياما كان فتعليق ثبوت الأجر بما ذكر من الإسلام والإحسان المختصين بأهل الإيمان قاض بأن أولئك المدعين من دخول الجنة بمعزل ومن الاختصاص به بألف معزل (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فى الدارين من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوات مطلوب أى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والجمع فى الضمائر التلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الضمائر الأول باعتبار اللفظ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم. نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتهم فقالوا لهم لستم على شىء أى أمر يعتد به من الدين أو على شىء ما منه أصلا مبالغة فى ذلك كما قالوا أقل من لا شىء وكفروا بعيسى والإنجيل (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) على الوجه المذكور وكفروا بموسى والتوراة لا أنهم قالوا ذلك بناء للأمر على منسوخية التوراة (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال واللام للجنس أى قالوا ما قالوا والحال إن كل فريق منهم من أهل العلم والكتاب أى كان حق كل منهم أن يعترف بحقية دين صاحبه حسبما ينطق به كتابه فإن كتب الله تعالى متصادقة (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الذى سمعت به والكاف فى محل النصب إما على أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عامله لإفادة القصر أى قولا مثل ذلك القول بعينه لا قولا مغايرا له (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلة أى قالوا لأهل كل دين ليسوا على شىء وإما على أنها حال من المصدر المضمر المعرف الدال عليه قال أى قال القول الذين لا يعلمون حال كونه مثل ذلك القول الذى سمعت به (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) إما بدل من محل الكاف وإما مفعول للفعل المنفى قبله أى مثل ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالة اليهود والنصارى وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم فى سلك من لا يعلم أصلا (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أى بين اليهود والنصارى فإن مساق النظم لبيان حالهم وإنما التعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم ولأن المحاجة المحوجة إلى الحكم إنما وقعت بينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق بيحكم وكذا ما قبله وما بعده ولا ضير فيه لاختلاف المعنى (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار والظرف الأخير متعلق بيختلفون قدم عليه للمحافظة على رءوس الآى لا بكانوا

١٤٨

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

____________________________________

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يشهد به العرف الفاشى والاستعمال المطرد فإذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك فى أى مسجد كان وإن كان سبب النزول فعل طائفة معينة فى مسجد مخصوص. روى أن النصارى كانوا يطرحون فى بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أن طيطيوس الرومى ملك النصارى وأصحابه غزوا بنى إسرائيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم وأحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ولم يزل خرابا حتى بناه المسلمون فى عهد عمر رضى الله عته وإنما أوقع المنع على المساجد وإن كان الممنوع هو الناس لما أن فعلهم من طرح الأذى والتخريب ونحوهما متعلق بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث أنها مبطلة لدعوى النصارى اختصاصهم بدخول الجنة وقيل هو منع المشركين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية فتعلقها بما تقدمها من جهة أن المشركين من جملة الجاهلين القائلين لكل من عداهم ليسوا على شىء (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ثانى مفعولى منع كقوله تعالى (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) وقوله تعالى (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) ويجوز أن يكون ذلك بحذف الجار مع أن وأن يكون ذلك مفعولا له أى كراهة أن يذكر فيها اسمه (وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر (أُولئِكَ) المانعون الظالمون الساعون فى خرابها (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أى ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من جهة المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم فى علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص ما استولوا عليه منهم وقد أنجز الوعد ولله الحمد. روى أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة وقيل معناه النهى عن تمكينهم من الدخول فى المسجد واختلف الأئمة فى ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا ومنعه مالك مطلقا وفرق الشافعى بين المسجد الحرام وغيره (لَهُمْ) أى لأولئك المذكورين (فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أى خزى فظيع لا يوصف بالقتل والسبى والإذلال بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا وهو ما حكى من ظلمهم كذلك فى العظم وتقديم الظرف فى الموضعين للتشويق إلى ما يذكر بعده من الخزى والعذاب لما مر من أن تأخير ما حقه التقديم موجب لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضل تمكن كما فى

١٤٩

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(١١٦)

قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج إلى غير ذلك (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أى له كل الأرض التى هى عبارة عن ناحيتى المشرق والمغرب لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فإن منعتم من إقامة العبادة فى المسجد الأقصى أو المسجد الحرام (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أى ففى أى مكان فعلتم تولية وجوهكم شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مبنى على الفتح ولا يتصرف سوى الجر بمن وهو خبر مقدم ووجه الله مبتدأ والجملة فى محل الجزم على أنها جواب الشرط أى هناك جهته التى أمر بها فإن إمكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثم ذاته بمعنى الحضور العلمى أى فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وقرىء بفتح التاء واللام أى فأينما توجهوا القبلة (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم فى الأماكن كلها والجملة تعليل لمضمون الشرطية وعن ابن عمر رضى الله عنهما نزلت فى صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجهوا وقيل فى قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك وقيل هى توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود عن أن يكون فى جهة (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) حكاية لطرف آخر من مقالاتهم الباطلة المحكية فيما سلف معطوفة على ما قبلها من قوله تعالى (وَقالَتِ) الخ لا على صلة من لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبية والضمير لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون وقرىء بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله ومشركو العرب الملائكة بنات الله والاتخاذ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعول الأول محذوف أى صير بعض مخلوقاته ولدا (سُبْحانَهُ) تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا وسبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه أى أسبح سبحانه أى أنزهه تنزيها لائقا به وفيه من التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذى هو الذهاب والإبعاد فى الأرض ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول إلى المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة فى الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه أى تنزه بذاته تنزها حقيقا به ففيه مبالغة من حيث إسناد البراءة إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيه اعتقاد نزاهته تعالى عما لا يليق به لا إثباتها له تعالى وقوله تعالى (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد لما زعموا وتنبيه على بطلانه وكلمة بل للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشىء من المخلوقات ومن سرعة فنائه المحوجة إلى اتخاذ ما يقوم مقامه فإن مجرد الإمكان والفناء لا يوجب ذلك. ألا يرى أن الأجرام الفلكية مع إمكانها وفنائها بالآخرة مستغنية

١٥٠

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))(١١٨

____________________________________

بدوامها وطول بقائها عما يجرى مجرى الولد من الحيوان أى ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التى من جملتها عزير والمسيح والملائكة (كُلٌّ) التنوين عوض عن المضاف إليه أى كل ما فيهما كائنا ما كان من أولى العلم وغيرهم (لَهُ قانِتُونَ) منقادون لا يستعصى شىء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشىء ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد وإنما جىء بما المختصة بغير أولى العلم تحقيرا لشأنهم وإيذانا بكمال بعدهم عما نسبوا إلى بعض منهم وصيغة جمع العقلاء فى قانتون للتغليب أو كل من جعلوه لله تعالى ولدا له قانتون أى مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه فإن البديع كما يطلق على المبتدع يطلق على المبتدع نص عليه أساطين أهل اللغة وقد جاء بدعه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذكر فى القاموس وغيره ونظيره السميع بمعنى المسمع فى قوله أمن ريحانة الداعى السميع وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعل كما هو المشهور أى بديع سمواته من بدع إذا كان على شكل فائق وحسن رائق وهو حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنعاء تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه والله سبحانه مبدع الأشياء كلها على الإطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والدا ورفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هو بديع الخ وقرىء بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدل من الضمير فى له على رأى من يجوز الإبدال من الضمير المجرور كما فى قوله [على جوده لضن بالماء حاتم] (وَإِذا قَضى أَمْراً) أى أراد شيئا كقوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) وأصل القضاء الأحكام أطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشىء لإيجابها إياه البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ) الخ (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كلاهما من الكون التام أى أحدث فيحدث وليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال وإنما هو تمثيل لسهولة تأتى المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فى الباب من طاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وفيه تقرير لمعنى الإبداع وتلويح لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذ الولد شأن من يفتقر فى تحصيل مراده إلى مباد يستدعى ترتيبها مرور زمان وتبدل أطوار وفعله تعالى متعال عن ذلك (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) حكاية لنوع آخر من قبائحهم وهو قدحهم فى أمر النبوة بعد حكاية قدحهم فى شأن التوحيد بنسبة الولد إليه سبحانه وتعالى واختلف فى هؤلاء القائلين فقال ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود وقال مجاهد هم النصارى ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغى أو لعدم علمهم بموجب عملهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدر عمن له شائبة علم أصلا وقال قتادة

١٥١

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

____________________________________

وأكثر أهل التفسير هم مشركوا العرب لقوله تعالى (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أى هلا يكلمنا بلا واسطة أمرا ونهيا كما يكلم الملائكة أو هلا يكلمنا تنصيصا على نبوتك (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجة تدل على صدقك بلغوا من العتو والاستكبار إلى حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك ومن العناد والمكابرة إلى حيث لم يعدوا ما آتاهم من البينات الباهرة التى تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات قاتلهم الله أنى يؤفكون (كَذلِكَ) مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد والفساد (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) هذا الباطل الشنيع فقالوا أرنا الله جهرة وقالوا لن نصبر على طعام واحد الآية وقالوا هل يستطيع ربك الخ وقالوا اجعل لنا إلها الخ (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أى قلوب هؤلاء وأولئك فى العمى والعناد وإلا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) أى نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك فى أنفسها كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أى يطلبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية وفى تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح مكان الإتيان الذى طلبوه ما لا يخفى من الجزالة والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض لرد قولهم لو لا يكلمنا الله إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أى متلبسا بالقرآن كما فى قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أو بالصدق كما فى قوله تعالى (أَحَقٌّ هُوَ) وقوله تعالى (بَشِيراً وَنَذِيراً) حال من مفعول باعتبار تقييده بالحال الأولى أى أرسلناك متلبسا بالقرآن حال كونك بشيرا لمن آمن بما أنزل عليك وعمل به ونذيرا لمن كفر به أو أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدقك بالثواب ونذيرا لمن كذبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبوا لا قاسر لهم على الإيمان فلا عليك إن أصروا وكابروا (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد ما بلغت ما أرسلت به وقرىء لن تسأل وما تسأل وقرىء لا تسأل على صيغة النهى إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمع خبرها وحمله على نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعده النظم الكريم والجحيم المتأجج من النار وفى التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيد شديد لهم وإيذان بأنهم مطبوع عليهم لا يرجى منهم الإيمان قطعا وقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) بيان لكمال شدة شكيمة هاتين الطائفتين خاصة إثر بيان ما يعمهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت وإيراد لا

١٥٢

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١٢٢)

____________________________________

النافية بين المعطوفين لتأكيد النفى لما مر من أن تصلب اليهود فى أمثال هذه العظائم أشد من النصارى والإشعار بأن رضى كل منهما مباين لرضى الأخرى أى لن ترضى عنك اليهود ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع ملتهم ولا النصارى ولو تركتهم ودينهم حتى تتبع ملتهم فأوجز النظم ثقة بظهور المراد وفيه من المبالغة فى إقناطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه‌السلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يكاد يدخل تحت الإمكان من اتباعه عليه‌السلام لملتهم فكيف يتوهم اتباعهم لملته عليه‌السلام وهذه حالتهم فى أنفسهم ومقالتهم فيما بينهم وأما إنهم أظهروها للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغت فى طلب رضانا حتى تتبع ملتنا كما قيل فلا يساعده النظم الكريم بل فيه ما يدل على خلافه فإن قوله عزوجل (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) صريح فى أن ما وقع هذا جوابا عنه ليس عين تلك العبارة بل ما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وادعاء أن الاهتداء فيهما كقوله عزوجل حكاية عنهم (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) أى قل ردا عليهم إن هدى الله الذى هو الإسلام هو الهدى بالحق والذى يحق ويصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما تدعون إليه ليس بهدى بل هو هوى كما يعرب عنه قوله تعالى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أى آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم وهى التى عبر عنها فيما قبل بملتهم إذ هى التى ينتمون إليها وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقى للملة فقد غيروها تغييرا (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى الوحى أو الدين المعلوم صحته (ما لَكَ مِنَ اللهِ) من جهته العزيزة (مِنْ وَلِيٍّ) يلى أمرك عموما (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه وحيث لم يستلزم نفى الولى نفى النصير وسط لا بين المعطوفين لتأكيد النفى وهذا من باب التهييج والإلهاب وإلا فأنى يتوهم إمكان اتباعه عليه‌السلام لملتهم وهو جواب للقسم الذى وطأه اللام واكتفى به عن جواب الشرط (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر فى معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر وما بعده مقرر له (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الفضل (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أى بكتابهم دون المحرفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامع الكفر ببعض منه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والكفر بما يصدقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومن جملتها التوراة وذكر النعمة إنما

١٥٣

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

____________________________________

يكون بشكرها وشكرها الإيمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به عليه الصلاة والسلام (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أفردت هذه النعمة بالذكر مع كونها مندرجة تحت النعمة السالفة لإنافتها فيما بين فنون النعم (وَاتَّقُوا) إن لم تؤمنوا (يَوْماً لا تَجْزِي) فى ذلك اليوم (نَفْسٌ) من النفوس (عَنْ نَفْسٍ) أخرى (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الجزاء (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) أى فدية (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وتخصيصهم بتكرير التذكير وإعادة التحذير للمبالغة فى النصح وللإيذان بأن ذلك فذلكة القضية والمقصود من القصة لما أن نعم الله عزوجل عليهم أعظم وكفرهم بها أشد وأقبح (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) شروع فى تحقيق أن هدى الله هو ما عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والإسلام الذى هو ملة إبراهيم عليه‌السلام وأن ما عليه أهل الكتابين أهواء زائغة وأن ما يدعونه من أنهم على ملته عليه الصلاة والسلام فرية بلا مرية ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياء عليهم‌السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيد والإسلام وبطلان الشرك وبصحة نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكونه ذلك النبى الذى استدعاه إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام بقولهما ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية فإذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين أى واذكر لهم وقت ابتلائه عليه‌السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد الوازعة عن الشرك فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات قد مر وجهه فى أثناء تفسير قوله عزوجل (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقيل على الظرفية بمضمر مؤخر أى وإذ ابتلاه كان كيت وكيت وقيل بما سيجىء من قوله تعالى (قالَ) الخ والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وأبنائه عليهم‌السلام من الأفعال والأقوال فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم والابتلاء فى الأصل الاختبار أى تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا فعله أو تركه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كمن يختبر عبده ليتعرف حاله من الكياسة فيأمره بما يليق بحاله من مصالحه وإبراهيم اسم أعجمى قال السهيلى كثيرا ما يقع الاتفاق أو التقارب بين

١٥٤

السريانى والعربى ألا يرى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ولذلك جعل هو وزوجته سارة كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا إلى يوم القيامة على ما روى البخارى فى حديث الرؤيا أن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فى الروضة إبراهيم عليه‌السلام وحوله أولاد الناس وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه‌السلام وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير والمعنى عامله سبحانه معاملة المختبر حيث كلفه أوامر ونواهى يظهر بحسن قيامه بحقوقها قدرته على الخروج عن عهدة الإمامة العظمى وتحمل أعباء الرسالة وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم إلى طريق إتقان الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا مبنية على تلك القاعدة الرصينة واقعة بعد ظهور استحقاقه عليه‌السلام للنبوة العامة كيف لا وهى التى أجيب بها دعوة إبراهيم عليه‌السلام كما سيأتى واختلف فى الكلمات فقال مجاهد هى المذكورة بعدها ورد بأنه يأباه الفاء فى فأتمهن ثم الاستئناف وقال طاوس عن ابن عباس رضى الله عنهما هى عشر خصال كانت فرضا فى شرعه وهن سنة فى شرعنا خمس فى الرأس المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وخمس فى البدن الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وفى الخبر أن إبراهيم عليه‌السلام أول من قص الشارب وأول من اختتن وأول من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها فى سورة براءة التائبون الخ وعشر فى الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر فى المؤمنون وسأل سائل إلى قوله عزوجل (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) وقيل ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والنجوم والاختتان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفى بالكل وقيل هن محاجته قومه والصلاة والزكاة والصوم والضيافة والصبر عليها وقيل هى مناسك كالطواف والسعى والرمى والإحرام والتعريف وغيرهن وقيل هى قوله عليه‌السلام الذى خلقنى فهو يهدين الآيات ثم قيل إنما وقع هذا الابتلاء قبل النبوة وهو الظاهر وقيل بعدها لأنه يقتضى سابقة الوحى وأجيب بأن مطلق الوحى لا يستلزم البعثة إلى الخلق وقرىء برفع إبراهيم ونصب ربه أى دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أولا (فَأَتَمَّهُنَّ) أى قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان كما فى قوله تعالى (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضده ما روى عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه بقوله (رَبِّ اجْعَلْ) الآيات وقوله عزوجل (قالَ) على تقدير انتصاب إذ بمضمر جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيد لأمر معظم وظهور فضيلة المبتلى من دواعى الإحسان إليه فبعد حكايتها تترقب النفس إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أو بيان لقوله تعالى (ابْتَلى) على رأى من جعل الكلمات عبارة عما ذكر أثره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده وغير ذلك وعلى تقدير انتصاب إذ بقال فالجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة والواو فى المعنى داخلة على قال أى وقال ابتلى الخ والجعل بمعنى التصيير أحد مفعوليه الضمير والثانى إماما واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل

١٥٥

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

____________________________________

له البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه وللناس متعلق بجاعلك أى لأجل الناس أو بمحذوف وقع حالا من إماما إذ لو تأخر عنه لكان صفة له والإمام اسم لمن يؤتم به وكل نبى إمام لأمته وإمامته عليه‌السلام عامة مؤبدة إذ لم يبعث بعده نبى إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته (قالَ) استئناف مبنى على سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال إبراهيم عليه‌السلام عنده فقيل قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف ومن تبعيضية متعلقة بجاعل أى وجاعل بعض ذريتى كما تقول وزيدا لمن يقول سأكرمك أو بمحذوف أى واجعل فريقا من ذريتى إماما وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل وإن كانوا على الحق وقيل التقدير وماذا يكون من ذريتى والذرية نسل الرجل فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع فى الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء فصارت ذرية أو فعيلة منهما والأصل فى الأولى ذريوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسبق إحداهما بالسكون فصارت ذريية كالثانية فأدغمت الياء فى مثلها فصارت ذرية أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذريئة فخففت الهمزة بإبدالها ياء كهمزة خطيئة ثم أدغمت الياء الزائدة فى المبدلة أو فعيلة من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالى الأمثال كما فى تسرى وتفضى وتظنى فأدغمت الياء فى الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام وقرىء بكسر الذال وهى لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدنى بالفتح وهى أيضا لغة فيها (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كما سبق (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ليس هذا ردا لدعوته عليه‌السلام بل إجابة خفية لها وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته عليه‌السلام بنيل عهد الإمامة حسبما وقع فى استدعائه عليه‌السلام من غير تعيين لهم بوصف مميز لهم عن جميع من عداهم فإن التنصيص على حرمان الظالمين منه بمعزل من ذلك التمييز إذ ليس معناه أنه ينال كل من ليس بظالم منهم ضرورة استحالة ذلك كما أشير إليه ولعل إيثار هذه الطريقة على تعيين الجامعين لمبادىء الإمامة من ذريته إجمالا أو تفصيلا وإرسال الباقين لئلا ينتظم المقتدون بالأئمة من الأمة فى سلك المحرومين وفى تفصيل كل فرقة من الإطناب ما لا يخفى مع ما فى هذه الطريقة من تخييب الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة وقطع أطماعهم الفارغة من نيلها وإنما أوثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء عليهم‌السلام من ذريته عليه‌السلام كإسمعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما كثيرا ليست بجعل مستقل بل هى حاصلة فى ضمن إمامة إبراهيم عليه‌السلام تنال كلا منهم فى وقت قدره الله عزوجل وقرىء الظالمون على أن عهدى مفعول قدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وفيه دليل على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالم للإمامة وقوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أى الكعبة المعظمة غلب عليها غلبة النجم على الثريا معطوف

١٥٦

على (إِذِ ابْتَلى) على أن العامل فيه هو العامل فيه أو مضمر مستقل معطوف على المضمر الأول والجعل إما بمعنى التصيير فقوله عزوجل (مَثابَةً) أى مرجعا يثوب إليه الزوار بعد ما تفرقوا عنه أو أمثالهم أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره مفعوله الثانى وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعوله واللام فى قوله تعالى (لِلنَّاسِ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لمثابة أى مثابة كائنة للناس أو بجعلنا أى جعلناه لأجل الناس وقرىء مثابات باعتبار تعدد الثائبين (وَأَمْناً) أى آمنا كما فى قوله تعالى (حَرَماً آمِناً) على إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل للمبالغة أو على تقدير المضاف أى ذا أمن أو على الإسناد المجازى أى آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله أو من دخله من التعرض له بالعقوبة وإن كان جانيا حتى يخرج على ما هو رأى أبى حنفية ويجوز أن يعتبر الأمن بالقياس إلى كل شىء كائنا ما كان ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وقد اعتيد فيه أمن الصيد حتى أن الكلب كان يهم بالصيد خارج الحرم فيفر منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرم لم يتبعه الكلب (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على إرادة قول هو عطف على جعلنا أو حال من فاعله أى وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل هو بنفسه معطوف على الأمر الذى يتضمنه قوله عزوجل (مَثابَةً لِلنَّاسِ) كأنه قيل ثوبوا إليه واتخذوا الخ وقيل على المضمر العامل فى إذو قيل هى جملة مستأنفة والخطاب على الوجوه الأخيرة له عليه‌السلام ولأمته والأول هو الأليق بجزالة النظم الكريم والأمر صريحا كان أو مفهوما من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضية والمقام اسم مكان وهو الحجر الذى عليه أثر قدمه عليه‌السلام والموضع الذى كان عليه حين قام ودعا الناس إلى الحج أو حين رفع قواعد البيت وهو موضعه اليوم والمراد بالمصلى إما موضع الصلاة أو موضع الدعاء روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال هذا مقام إبراهيم فقال عمر رضى الله عنه أفلا نتخذه مصلى فقال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت وقيل المراد به الأمر بركعتى الطواف لما روى جابر رضى الله عنه أنه عليه‌السلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وللشافعى فى وجوبهما قولان وقيل مقام إبراهيم الحرم كله وقيل مواقف الحج عرفة والمزدلفة والجمار واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى وقرىء واتخذوا على صيغة الماضى عطفا على جعلنا أى واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذى وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أى أمرناهما أمرا مؤكدا (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) بأن طهراه على أن أن مصدرية حذف عنها الجار حذفا مطردا لجواز كون صلتها أمرا ونهيا كما فى قوله عزوجل (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهى متحققة فيهما ووجوب كونها خبرية فى صلة الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهى لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية وأما الموصول الحرفى فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال أو أى طهراه على أن أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف وتوجيه الأمر بالتطهير ههنا إليهما عليهما‌السلام لا ينافى ما فى سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم

١٥٧

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

____________________________________

عليه‌السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) وكان إسمعيل عليه‌السلام حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهى وتمام البناء بمباشرته كما ينبئ عنه إيراده أثر حكاية جعله مثابة للناس الخ والمراد تطهيره من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض وغير ذلك مما لا يليق به (لِلطَّائِفِينَ) حوله (وَالْعاكِفِينَ) المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين فى الصلاة كما فى قوله عز وعلا (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جمع راكع وساجد أى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود من هيئات المصلى ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما أو أخلصاه لهؤلاء لئلا يغشاه غيرهم وفيه إيماء إلى أن ملابسة غيرهم به وإن كانت مع مقارنة أمر مباح من قبيل تلويثه وتدنيسه (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف على ما قبله من قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا) الخ إما بالذات أو بعامله المضمر كما مر (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ذا أمن كعيشة راضية أو آمنا أهله كليله نائم أى اجعل هذا الوادى من البلاد الآمنة وكان ذلك أول ما قدم عليه‌السلام مكة كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه عليه الصلاة والسلام لما أسكن إسمعيل وهاجر هناك وعاد متوجها إلى الشام تبعته هاجر فجعلت تقول إلى من تكلنا فى هذا البلقع وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعم قالت إذن لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادى فقال ربنا إنى أسكنت الآية وتعريف البلد مع جعله صفة لهذا فى سورة إبراهيم إن حمل على تعدد السؤال لما أنه عليه‌السلام سأل أولا كلا الأمرين البلدية والأمن فاستجيب له فى أحدهما وتأخر الآخر إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمة الباهرة ثم كرر السؤال حسبما هو المعتاد فى الدعاء والابتهال أو كان المسئول أولا البلدية ومجرد الأمن المصحح للسكنى كما فى سائر البلاد وقد أجيب إلى ذلك وثانيا الأمن المعهود أو كان هو المسئول أولا أيضا وقد أجيب إليه لكن السؤال الثانى لاستدامته والاقتصار على سؤاله مع جعل البلد صفة لهذا لأنه المقصد الأصلى أو لأن المعتاد فى البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلاف الأمن وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى ذلك ههنا واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال جعل أفئدة الناس تهوى إليه كما سيأتى تفصيله هناك بإذن الله عزوجل (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) من أنواعها بأن تجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وعن الزهرى أنه تعالى نقل قرية من

١٥٨

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٢٧)

____________________________________

قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من أهله بدل البعض خصهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان وإبانة لخطره واهتماما بشأن أهله ومراعاة لحسن الأدب وفيه ترغيب لقومه فى الإيمان وزجر عن الكفر كما أن فى حكايته ترغيبا وترهيبا لقريش وغيرهم من أهل الكتاب (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كما مر مرارا وقوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على مفعول فعل محذوف تقديره أرزق من آمن ومن كفر وقوله تعالى (فَأُمَتِّعُهُ) معطوف على ذلك الفعل أو فى محل رفع بالابتداء وقوله تعالى (فَأُمَتِّعُهُ) خبره أى فأنا أمتعه وإنما دخلته الفاء تشبيها له بالشرط والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار وقيل هو عطف على من آمن عطف تلقين كأنه قيل قل وارزق من كفر فإنه أيضا مجاب كأنه عليه‌السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه تعالى على أنه رحمة دنيوية شاملة للبر والفاجر بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص وقرىء فأمتعه من أمتع وقرىء فنمتعه (قَلِيلاً) تمتيعا قليلا أوزمانا قليلا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أى ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعه به من النعم وقرىء ثم نضطره على وفق قراءة فنمتعه وقرىء فأمتعه قليلا ثم اضطره بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه‌السلام وفى قال ضميره وإنما فصله عما قبله لكونه دعاء على الكفرة وتغيير سبكه للإيذان بأن الكفر سبب لاضطرارهم إلى عذاب النار وأما رزق من آمن فإنما هو على طريقة التفضل والإحسان وقرىء بكسر الهمزة على لغة من يكسر حرف المضارعة وأطره بإدغام الضاد فى الطاء وهى لغة مرذولة فإن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها بلا عكس (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف أى بئس المصير النار أو عذابها (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) عطف على ما قبله من قوله عز وعلا (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) على أحد الطريقين المذكورين فى وإذ جعلنا وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة والقواعد جمع قاعدة وهى الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجاز من مقابل القيام ومنه قعدك الله ورفعها البناء عليها لأنه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع والمرتفع حقيقة وإن كان هو الذى بنى عليها لكنهما لما التأما صارا شيئا واحدا فكأنها نمت وارتفعت وقيل المراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة لما يبنى عليها وبرفعها بناء بعضها على بعض وقيل المراد برفعها رفع مكانة البيت وإظهار شرفه ودعاء الناس إلى حجه وفى إبهامها أولا ثم تبيينها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وقيل المعنى وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت واستوطأ يعنى يجعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء روى أن الله عزوجل أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقى وغربى وقال لآدم أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشى فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام وحج آدم عليه‌السلام أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور

١٥٩

وكان موضعه خاليا إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرفه جبريل عليه‌السلام بمكانه وقيل بعث الله السكينة لتدله عليه فتبعها إبراهيم عليه‌السلام حتى أتيامكة المعظمة وقيل بعث الله تعالى سحابة على قدر البيت وسار إبراهيم فى ظلها إلى أن وافت مكة المعظمة فوقفت فى موضع البيت فنودى أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل بناه من خمسة أجبل طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى وأسسه من حراء وجاء جبريل عليه‌السلام بالحجر الأسود من السماء وقيل تمخض أبو قبيس فانشق عنه وقد خبىء فيه فى أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض فى الجاهلية اسود وقال الفاسى فى مثير الغرام فى تاريخ البلد الحرام والذى يتحصل من جملة ما قيل فى عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشر مرات منها بناء الملائكة عليهم‌السلام ذكره النووى فى تهذيب الأسماء واللغات والأزرقى فى تاريخه وذكر أنه كان قبل خلق آدم عليه‌السلام ومنها بناء آدم عليه‌السلام ذكره البيهقى فى دلائل النبوة وروى فيه عن عبد الله بن عمر وبن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعث الله عزوجل جبريل إلى آدم عليهما‌السلام فقال له ولحواء ابنيالى بيتا فخط جبريل وجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى إذا أصاب الماء نودى من تحته حسبك آدم فلما بنياه أوحى إليه أن يطوف به فقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وهكذا ذكره الأزرقى فى تاريخه وعبد الرزاق فى مصنفه ومنها بناء بنى آدم عند ما رفعت الخيمة التى عزى الله تعالى بها آدم عليه‌السلام وكانت ضربت فى موضع البيت فبنى بنوه مكانها بيتا من الطين والحجارة فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم إلى أن مسه الغرق فى عهد نوح عليه‌السلام ذكره الأزرقى بسنده إلى وهب بن منبه ومنها بناء الخليل عليه‌السلام وهو منصوص عليه فى القرآن مشهور فى ما بين قاص ودان ومنها بناء العمالقة ومنها بناء جرهم ذكرهما الأزرقى بسنده إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه ومنها بناء قصى بن كلاب ذكره الزبير بن بكار فى كتاب النسب ومنها بناء قريش وهو مشهور ومنها بناء عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما ومنها بناء الحجاج بن يوسف وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلى أن بناءها لم يكن فى الدهر إلا خمس مرات الأولى حين بناها شيث عليه‌السلام انتهى والله سبحانه أعلم (وَإِسْماعِيلُ) عطف على إبراهيم ولعل تأخيره عن المفعول للإيذان بأن الأصل فى الرفع هو إبراهيم وإسمعيل تبع له قيل إنه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها وقيل كانا يبنيانه من طرفين (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) على إرادة القول أى يقولان وقد قرىء به على أنه حال منهما عليهما‌السلام وقيل على أنه هو العامل فى إذ والجملة معطوفة على ما قبلها والتقدير ويقولان ربنا تقبل منا إذ يرفعان أى وقت رفعهما وقيل وإسمعيل مبتدأ خبره قول محذوف وهو العامل فى ربنا تقبل منا فيكون إبراهيم هو الرافع وإسمعيل هو الداعى والجملة فى محل النصب على الحالية أى وإذ يرفع إبراهيم القواعد والحال أن إسمعيل يقول ربنا تقبل منا والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما‌السلام لتحريك سلسلة الإجابة وترك مفعول تقبل مع ذكره فى قوله تعالى (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات التى من جملتها ما هما بصدده من البناء كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لجميع المسموعات التى من جملتها دعاؤنا (الْعَلِيمُ) بكل

١٦٠