تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨١)

____________________________________

داخل فى التعليل به (وَقالُوا) بيان لبعض آخر من جناياتهم وفصله عما قبله مشعر بكونه من الأكاذيب التى اختلقوها ولم يكتبوها فى الكتاب (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) فى الآخرة (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قليلة محصورة عدد أيام عبادتهم العجل أربعين يوما مدة غيبة موسى عليه‌السلام عنهم وحكى الأصمعى عن بعض اليهود أن عدد أيام عبادتهم العجل سبعة وروى عن ابن عباس ومجاهد أن اليهود قالوا عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أنهم وجدوا فى التوراة أن ما بين طرفى جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون فى كل مسيرة سنة فيكملونها (قُلْ) تبكيتا لهم وتوبيخا (أَتَّخَذْتُمْ) بإسقاط الهمزة المجتلبة لوقوعها فى الدرج وبإظهار الذال وقرىء بإدغامها فى التاء (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) خبرا أو وعدا بما تزعمون فإن ما تدعون لا يكرن إلا بناء على وعد قوى ولذلك عبر عنه بالعهد (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف كما فى قول من قال [قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا] أى إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه والجملة اعتراضية وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية وإظهار العهد مضافا إلى ضميره عزوجل لما ذكر أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهد المعهود دخولا أوليا وفيه تجاف عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم وإن كان معلقا بما لم يكديشم رائحة الوجود قطعا أعنى اتخاذ العهد (أَمْ تَقُولُونَ) مفترين (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقوعه وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه للمبالغة فى التوبيخ والنكير فإن التوبيخ على الأدنى مستلزم للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأولى وقولهم المحكى وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى وأم إما متصلة والاستفهام للتقرير المؤدى إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخير كأنه قيل أم لم تتخذوه بل تتقولون عليه تعالى وأما منقطعة والاستفهام لإنكار الاتخاذ ونفيه ومعنى بل فيها الاضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهد إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على التقول على الله سبحانه كما فى قوله عزوجل (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (بَلى) إلى آخره جواب عن قولهم المحكى وإبطال له من جهته تعالى وبيان لحقيقة الحال تفصيلا فى ضمن تشريع كلى شامل لهم ولسائر الكفرة بعد إظهار كذبهم إجمالا وتفويض ذلك إلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أن المحاجة والإلزام من وظائفه عليه‌السلام مع ما فيه من الإشعار

١٢١

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)

____________________________________

بأنه أمر هين لا يتوقف على التوقيف وبلى حرف إيجاب مختص بجواب النفى خبرا واستفهاما (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) فاحشة من السيئات أى كبيرة من الكبائر كدأب هؤلاء الكفرة والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على طريقة فبشرهم بعذاب أليم (وَأَحاطَتْ بِهِ) من جميع جوانبه بحيث لم يبق له جانب من قلبه ولسانه وجوارحه إلا وقد اشتملت واستولت عليه (خَطِيئَتُهُ) التى كسبها وصارت خاصة من خواصه كما تنبئ عنه الإضافة إليه وهذا إنما يتحقق فى الكافر ولذلك فسرها السلف بالكفر حسبما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن عباس وأبى هريرة رضى الله عنهم وابن جرير عن أبى وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع وقيل السيئة الكفر والخطيئة الكبيرة وقيل بالعكس وقيل الفرق بينهما أن الأولى قد تطلق على ما يقصد بالذات والثانية تغلب على ما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ وقرىء خطيته وخطياته على القلب والإدغام فيهما وخطيئاته وخطاياه وفى ذلك إيذان بكثرة فنون كفرهم (فَأُولئِكَ) مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبره والجملة خبر للمبتدأ والفاء لتضمنه معنى الشرط وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بماله من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم فى الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى فى كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ فى الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم فى تينك الحالتين فإن كسب السيئة وأحاطت خطيئته به فى حالة الانفراد وصاحبية النار فى حالة الاجتماع أى أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحاب النار أى ملازموها فى الآخرة حسب ملازمتهم فى الدنيا لما يستوجبها من الأسباب التى من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات الله تعالى وتحريف كلامه والافتراء عليه وغير ذلك وإنما لم يخص الجواب بحالهم بأن يقال مثلا بلى أنهم أصحاب النار الخ لما فى التعميم من التهويل وبيان حالهم بالبرهان والدليل مع ما مر من قصد الإشعار بالتعليل (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائما أبدا فأنى لهم التفصى عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجة فى الآية الكريمة على خلود صاحب الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ولا حاجة إلى حمل الخلود على اللبث الطويل على أن فيه تهوين الخطب فى مقام التهويل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) جرت السنة الإلهية على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة فى إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى والتبشير مرة والإنذار أخرى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) شروع

١٢٢

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٨٤)

____________________________________

فى تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادى بعدم إيمان أخلافهم وكلمة إذ نصب بإضمار فعل خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ليؤديهم التأمل فى أحوالهم إلى قطع الطمع عن إيمانهم أو اليهود الموجودون فى عهد النبوة توبيخا لهم بسوء صنيع أسلافهم أى اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) على إرادة القول أى وقلنا أو قائلين لا تعبدون الخ وهو إخبار فى معنى النهى كقوله تعالى (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وكما تقول تذهب إلى فلان وتقول كيت وكيت وهو أبلغ من صريح النهى لما فيه من إيهام أن المنهى حقه أن يسارع إلى الانتهاء عما نهى عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهى ويؤيده قراءة لا تعبدوا وعطف قولوا عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا الخ فحذف الناصب ورفع الفعل كما فى قوله [ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى] ويعضده قراءة أن لا تعبدوا فيكون بدلا من الميثاق أو معمولا له بحذف الجار وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل وحلفناهم لا تعبدون إلا الله وقرىء بالياء لأنهم غيب (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) متعلق بمضمر أى وتحسنون أو أحسنوا (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندامى جمع نديم وهو قليل ومسكين مفعيل من السكون كأن الفقر أسكنه من الحراك وأثخنه عن التقلب (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أى قولا حسنا سماه حسنا مبالغة وقرىء كذلك وحسنا بضمتين وهى لغة أهل الحجاز وحسنى كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) هما ما فرض عليهم فى شريعتهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) إن جعل ناصب الظرف خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بنى إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكر كلهم حينئذ على نهج الغيبة فإن الخطابات السابقة لأسلافهم محكية داخلة فى حيز القول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت هى عليهم وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولى بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد فى التوبيخ أى أعرضتم عن المضى على مقتضى الميثاق ورفضمتوه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة تذييلية أى وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة والإقبال إلى جانب العرض (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) منصوب بفعل مضمر خوطب به اليهود قاطبة على ما ذكر من التغليب ونعى عليهم إخلالهم بمواجب الميثاق المأخوذ منهم فى حقوق العباد على طريقة النهى إثر بيان ما فعلوا بالميثاق المأخوذ منهم فى حقوق الله سبحانه وما يجرى مجراها على سبيل الأمر فإن المقصود الأصلى من النهى عن عبادة غير الله تعالى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى أى واذكروا وقت أخذنا ميثاقكم

١٢٣

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

____________________________________

فى التوراة وقوله تعالى (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) كما قبله إخبار فى معنى النهى غير السبك إليه لما ذكر من نكتة المبالغة والمراد به النهى الشديد عن تعرض بعض بنى إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء والتعبير عن ذلك بسفك دماء أنفسهم وإخراجها من ديارهم بناء على جريان كل واحد منهم مجرى أنفسهم لما بينهم من الاتصال القوى نسبا ودينا للمبالغة فى الحمل على مراعاة حقوق الميثاق بتصوير المنهى عنه بصورة تكرهها كل نفس وتنفر عنها كل طبيعة فضمير أنفسكم للمخاطبين حتما إذ به يتحقق تنزيل المخرجين منزلتهم كما أن ضمير دياركم للمخرجين قطعا إذ المحذور إنما هو إخراجهم من ديارهم لا من ديار المخاطبين من حيث أنهم مخاطبون كما يفصح عنه ما سيأتى من قوله تعالى (مِنْ دِيارِهِمْ) وإنما الخطاب ههنا باعتبار تنزيل ديارهم منزلة ديار المخاطبين بناء على تنزيل أنفسهم منزلتهم لتأكيد المبالغة وتشديد التشنيع وأما ضمير دماءكم فمحتمل للوجهين مفاد الأول كون المسفوك دماء ادعائية للمخاطبين حقيقة ومفاد الثانى كونه دماء حقيقية للمخاطبين ادعاء وهما متقاربان فى إفادة المبالغة فتدبر وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤدى إلى قتل أنفسكم قصاصا أو ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل فى الحقيقة ولا تقترفوا ما تحرمون به عن الجنة التى هى داركم فإنه الجلاء الحقيقى فمما لا يساعده سياق النظم الكريم بل هو نص فيما قلناه كما ستقف عليه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أى بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) توكيد للإقرار كقولك أقر فلان شاهدا على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب خاص بالحاضرين فيه توبيخ شديد واستبعاد قوى لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرار به والشهادة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره ومناط الإفادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون الناقضون المتناقضون حسبما تعرب عنه الجمل الآتية فإن قوله عزوجل (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) الخ بيان له وتفصيل لأحوالهم المنكرة المندرجة تحت الإشارة ضمنا كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتلون أنفسكم أى الجارين مجرى أنفسكم كما أشير إليه وقرىء تقتلون بالتشديد للتكثير (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) الضمير إما للمخاطبين والمضاف محذوف أى من أنفسكم وإما للمقتولين والخطاب باعتبار أنهم جعلوا أنفس المخاطبين وإلا فلا يتحقق التكافؤبين المقتولين والمخرجين فى ذلك العنوان الذى عليه يدور فلك المبالغة فى تأكيد الميثاق حسبما نص عليه ولا يظهر كمال قباحة

١٢٤

جناياتهم فى نقضه (مِنْ دِيارِهِمْ) الضمير للفريق وإيثار الغيبة مع جواز الخطاب أيضا بناء على اعتبار العنوان المذكور كما مر فى الميثاق للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث هى ديارهم لا من حيث هى ديار المخرجين وقيل هؤلاء موصول والجملتان فى حيز الصلة والمجموع هو الخبر لأنتم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) بحذف إحدى التاءين وقرىء بإثباتهما وبالإدغام وتظهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهى حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعا مبنية لكيفية الإخراج دافعة لتوهم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال دون المظاهرة والمعاونة (بِالْإِثْمِ) متعلق بتظاهرون حال من فاعله أى ملتبسين بالإثم وهو الفعل الذى يستحق فاعله الذم واللوم وقيل هو ما ينفر عنه النفس ولا يطمئن إليه القلب (وَالْعُدْوانِ) وهو التجاوز فى الظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) جمع أسير وهو من يؤخذ قهرا فعيل بمعنى مفعول من الأسرأى الشد أو جمع أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح وقد قرىء أسرى ومحله النصب على الحالية (تُفادُوهُمْ) أى تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرىء تفدوهم قال السدى إن الله تعالى أخذ على بنى إسرائيل فى التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشنآن فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ثم إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له ما لا فيفدونه فعيرتهم العرب وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحيى أن نذل حلفاء نافذمهم الله تعالى على المناقضة (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) هو ضمير الشأن وقع مبتدأ ومحرم فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرا من إخراجهم والجملة خبر لضمير الشأن وقيل محرم خبر لضمير الشأن وإخراجهم مرفوع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله وقيل الضمير مهم يفسره إخراجهم أو راجع إلى ما يدل عليه تخرجون من المصدر وإخراجهم تأكيد أو بيان والجملة حال من الضمير فى تخرجون أو من فريقا أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق لكونه مظنة للمساهلة فى أمره بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشىء من دية أو قصاص هو السر فى تخصيص التظاهر به فيما سبق وأما تأخيره من الشرطية المعترضة مع أن حقه التقديم كما ذكره الواحدى فلأن نظم أفاعيلهم المتناقضة فى سمط واحد من الذكر أدخل فى إظهار بطلانها (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أى التوراة التى أخذ فيها الميثاق المذكور والهمزة للإنكار التوبيخى والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام أى أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو حرمة القتال والإخراج مع أن من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقى لكون الكل من عند الله تعالى داخلا فى الميثاق فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيب النظم الكريم فإن التقديم يستدعى فى المقام الخطابى أصالة المقدم وتقدمه بوجه من الوجوه حتما وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكار والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوع قطعا

١٢٥

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

____________________________________

لا إيمانهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهوم لو قيل أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض ولا مجرد كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كما يفيده أن يقال أفتجمعون بين الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض أو بالعكس (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) ما نافية ومن إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها وذلك إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى (مِنْكُمْ) حال من فاعل يفعل (إِلَّا خِزْيٌ) استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ والخزى الذل والهوان مع الفضيحة والتنكير للتفخيم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام وقيل الجزية (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فى حيز الرفع على أنه صفة خزى أى خزى كائن فى الحياة الدنيا أو فى حيز النصب على أنه ظرف لنفس الخزى ولعل بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهار أنه لا أثر له أصلا مع الكفر ببعض (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) وقرىء بالتاء أوثر صيغة الجمع نظرا إلى معنى من بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) لما أن معصيتهم أشد المعاصى وقيل أشد العذاب بالنسبة إلى ما لهم فى الدنيا من الخزى والصغار وإنما غير سبك النظم الكريم حيث لم يقل مثلا وأشد العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافى بين جزاءى النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من القبائح التى من جملتها هذا المنكر وقرىء بالياء على نهج يردون وهو تأكيد للوعيد (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أى آثروا (الْحَياةَ الدُّنْيا) واستبدلوها (بِالْآخِرَةِ) وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذكر من الكفر ببعض أحكام الكتاب إنما كان لمراعاة جانب حلفائهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدنية الدنيوية (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) دنيويا كان أو أخرويا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بدفعه عنهم شفاعة أو جبرا والجملة معطوفة على ما قبلها عطف الإسمية على الفعلية أو ينصرون مفسر لمحذوف قبل الضمير فيكون من عطف الفعلية على مثلها (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) شروع فى بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به والمراد بالكتاب التوراة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جملة واحدة أمر الله تعالى موسى عليه‌السلام بحملها فلم يطق بذلك فبعث الله بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا بحملها فخففها الله تعالى لموسى عليه‌السلام فحملها (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يقال قفاه به إذا

١٢٦

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

____________________________________

أتبعه إياه أى أرسلناهم على أثره كقوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل وعيسى بالسريانية أيشوع ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة[قلت لزير لم تصله مريمه ضليل أهواء الصبا تندمه] ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل (وَأَيَّدْناهُ) أى قويناه وقرىء وآيدناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بضم الدال وقرىء بسكونها أى بالروح المقدسة وهى روح عيسى عليه‌السلام كقولك حاتم الجود ورجل صدق وإنما وصفت بالقدس لكرامته أو لأنه عليه‌السلام لم تضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث وقيل بجبريل عليه‌السلام وقيل بالإنجيل كما قيل فى القرآن روحا من أمرنا وقيل باسم الله الأعظم الذى كان يحيى الموتى بذكره وتخصيصه من بين الرسل عليهم‌السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس لما أن بعثتهم كانت لتنفيذ أحكام التوراة وتقريرها وأما عيسى عليه‌السلام فقد نسخ بشرعه كثير من أحكامها ولحسم مادة اعتقادهم الباطل فى حقه عليه‌السلام ببيان حقيته وإظهار كمال قبح ما فعلوا به عليه‌السلام (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) من أولئك الرسل (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) من الحق الذى لا محيد عنه أى لا تحبه من هوى كفرح إذا أحب والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شىء آخر وتوسيط الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من الأفعال السابقة لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا وللتعجيب من شأنهم ويجوز كون الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام أى ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسول منهم بما لا تهوى أنفسكم (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ) من غير أن تتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار والفاء للسببية أو للتعقيب (وَفَرِيقاً) آخر منهم (تَقْتُلُونَ) غير مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم‌السلام وتقديم فريقا فى الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر وإيثار صيغة الاستقبال فى القتل لاستحضار صورته الهائلة أو للإيماء إلى أنهم بعد على تلك النية حيث هموا بما لم ينالوه من جهته عليه‌السلام وسحروه وسمموا له الشاة حتى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أو ان قطعت أبهرى (وَقالُوا) بيان لفن آخر من قبائحهم على طريق الالتفات إلى الغيبة إشعارا بإبعادهم عن رتبة الخطاب لما فصل من مخازيهم الموجبة للإعراض عنهم وحكاية نظائرها لكل من يفهم بطلانها وقباحتها من أهل الحق والقائلون هم الموجودون فى عصر النبى عليه الصلاة والسلام (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف مستعار من الأغلف الذى لم يختن أى مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تفقهه كقولهم قلوبنا فى أكنة مما تدعوننا إليه وقيل هو تخفيف غلف جمع غلاف ويؤيده ما روى عن أبى عمرو من القراءة بضمتين يعنون أن قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن

١٢٧

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)

____________________________________

غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبى يعنون أن قلوبنا لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان فى حديثك خير لوعته أيضا (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) رد لما قالوه وتكذيب لهم فى ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وإبطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة وكونهم بحيث لا ينفعهم الألطاف أصلا بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكن من قبول الحق وعلى الثانى بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذى هو أجل آثارها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤدى إليها (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ما مزيدة للمبالغة أى فإيمانا قليلا يؤمنون وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل فزمانا قليلا يؤمنون وهو ما قالوا آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره وكلاهما ليس بإيمان حقيقة وقيل أريد بالقلة العدم والفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) هو القرآن وتنكيره للتفخيم ووصفه بقوله عزوجل (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى كائن من عنده تعالى للتشريف (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة عبر عنها بذلك لما أن المعية من موجبات الوقوف على ما فى تضاعيفها المؤدى إلى العلم بكونه مصدقا لها وقرىء مصدقا على أنه حال من كتاب لتخصصه بالوصف (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أى من قبل مجيئه (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أى وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبى المبعوث فى آخر الزمان الذى نجد نعته فى التوراة ويقولون لهم قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقال ابن عباس وقتادة والسدى نزلت فى بنى قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه وقيل معنى يستفتحون يفتتحون عليهم ويعرفونهم بأن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه والسين للمبالغة كما فى استعجب أى يسألون من أنفسهم الفتح عليهم أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم وعلى التقديرين فالجملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم وقوله عز وعلا (فَلَمَّا جاءَهُمْ) تكرير للأول لطول العهد بتوسط الجملة الحالية وقوله تعالى (ما عَرَفُوا) عبارة عما سلف من الكتاب لأن معرفة من أنزل هو عليه معرفة له والاستفتاح به استفتاح به وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم فإن معرفة ما جاءهم من مبادى الإيمان به ودواعيه لا محالة والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدة منسية له وقوله تعالى (كَفَرُوا بِهِ) جواب لما الأولى كما هو رأى المبرد أو جوابهما معا كما قاله أبو البقاء وقيل جواب الأولى محذوف لدلالة المذكور عليه فيكون قوله تعالى (وَكانُوا) الخ جملة معطوفة على الشرطية عطف القصة على القصة والمراد بما عرفوا النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو المراد بما كانوا يستفتحون به فالمعنى ولما جاءهم كتاب مصدق لكتابهم كذبوه وكانوا من قبل مجيئه يستفتحون بمن أنزل عليه ذلك الكتاب فلما جاءهم النبى الذى عرفوه كفروا به (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام للعهد

١٢٨

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

____________________________________

أى عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه أو للجنس وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا إذ الكلام فيهم وأياما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ما نكرة بمعنى شىء منصوبة مفسرة لفاعل بئس واشتروا صفته أى بئس شيئا باعوا به أنفسهم وقيل اشتروها به فى زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلصوها من العقاب ويأباه أنه لابد أن يكون المذموم ما كان حاصلا لهم لا ما كان زائلا عنهم والمخصوص بالذم قوله تعالى (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أى بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته وتبديل الإنزال بالمجىء للإيذان بعلو شأنه الموجب للإيمان به (بَغْياً) حسدا وطلبا لما ليس لهم وهو علة لأن يكفروا حتما دون اشتروا لما قيل من الفصل بما هو أجنبى بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله ولأن البغى مما لا تعلق له بعنوان البيع قطعا لا سيما وهو معلل بما سيأتى من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذى بينه وبينه علاقة هو كفرهم بما أنزل الله والمعنى بئس شيئا باعوا به أنفسهم كفرهم المعلل بالبغى الكائن لأجل (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الذى هو الوحى (عَلى مَنْ يَشاءُ) أى يشاؤه ويصطفيه (مِنْ عِبادِهِ) المستأهلين لتحمل أعباء الرسالة ومآله تعليل كفرهم بالمنزل بحسدهم للمنزل عليه وإيثار صيغة التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغيهم حسب تجدد الإنزال وتكثره حسب تكثره (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أى رجعوا ملتبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا من كفر على كفر فإنهم كفروا بنبى الحق وبغوا عليه وقيل كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد عيسى وقيل بعد قولهم عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك من فنون كفرهم (وَلِلْكافِرِينَ) أى لهم والإظهار فى موقع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم (عَذابٌ مُهِينٌ) يراد به إهانتهم وإذ لا لهم لما أن كفرهم بما أنزل الله تعالى كان مبنيا على الحسد المبنى على طمع المنزول عليهم وادعاء الفضل على الناس والاستهانة بمن أنزل عليه عليه‌السلام (وَإِذا قِيلَ) من جانب المؤمنين (لَهُمْ) أى لليهود وتقديم الجار والمجرور قد مر وجهه لا سيما فى لام التبليغ (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتب الإلهية جميعا والمراد به الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم إيذانا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما فى حيز الصلة وموافقته له فى المضمون وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس بإيمان بما أنزل الله (قالُوا نُؤْمِنُ) أى نستمر على الإيمان (بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنون به التوراة وما نزل على

١٢٩

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

____________________________________

أنبياء بنى إسرائيل لتقرير حكمها ويدسون فيه أن ما عدا ذلك غير منزل عليهم ومرادهم بضمير المتكلم إما أنفسهم فمعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما فى المنزل من الأحكام وإما أنبياء بنى إسرائيل وهو الظاهر لاشتماله على مزية الإيذان بأن عدم إيمانهم بالفرقان لما مر من بغيهم وحسدهم على نزوله على من ليس منهم ولأن مرادهم بالموصول وإن كان هو التوراة وما فى حكمها خاصة لكن إيرادها بعنوان الإنزل عليهم مبنى على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريض كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزم من مغايرة القرآن لما أنزل عليهم حسبما يعرب عنه قوله عزوجل (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) عدم كونهم مكلفين بما فيه كما يلزم عدم كونه نازلا على واحد من بنى إسرائيل على الوجه الأخير وتجريد الموصول عند الإضمار عما عرضوا به تعسف لا يخفى والوراء فى الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامه والجملة حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أى قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المراد مجرد بيان أن إفراد إيمانهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفى إيمانهم بما وراءه بل بيان أن ما يدعون من الإيمان ليس بإيمان بما أنزل عليهم حقيقة فإن قوله عز اسمه (وَهُوَ الْحَقُّ) أى المعروف بالحقية الحقيق بأن يخص به اسم الحق على الإطلاق حال من فاعل يكفرون وقوله تعالى (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لمضمون الجملة صاحبها إما ضمير الحق وعاملها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء وإما ضمير دل عليه الكلام وعاملها فعل مضمر أى أحقه مصدقا (لِما مَعَهُمْ) من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفرون بالقرآن والحال أنه حق مصدق لما آمنوا به فيلزمهم الكفر بما آمنوا به ومآله أنهم ادعوا الإيمان بالتوراة والحال أنهم يكفرون بما يلزم من الكفر بها (قُلْ) تبكيتا لهم من جهة الله عز من قائل ببيان التنافض بين أقوالهم وأفعالهم بعد بيان التناقض فى أقوالهم (فَلِمَ) أصله لما حذفت عنه الألف فرقا بين الاستفهامية والخبرية (تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) الخطاب للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب وحيث كانوا مشاركين فى العقد والعمل كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وهو جواب شرط محذوف أى قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون فلأى شىء كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل وهو فيها حرام وقرىء أنبياء الله مهموزا وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهديد أى إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت فى الأخرى وقيل لا حذف فيه بل تقديم الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأى الكوفيين وأبى زيد وقيل إن نافية أى ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) من تمام التبكيت والتوبيخ داخل تحت الأمر لا تكرير لما قص فى تضاعيف تعداد النعم التى من جملتها العفو عن عبادة العجل واللام للقسم أى وبالله لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرة التى هى العصا واليدو السنون ونقص الثمرات والدم والطوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقد عد منها التوراة وليس بواضح فإن المجىء

١٣٠

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٩٤)

____________________________________

بها بعد قصة العجل (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أى إلها (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد مجيئه بها وقيل من بعد ذهابه إلى الطور فتكون التوراة حينئذ من جملة البينات وثم للتراخى فى الرتبة والدلالة على نهاية قبح ما صنعوا (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته واضعين لها فى غير موضعها أو بإخلال بحقوق آيات الله تعالى أو اعتراض أى وأنتم قوم عادتكم الظلم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيب لهم فى ادعائهم الإيمان بما أنزل عليهم بتذكير جناياتهم الناطقة بكذبهم أى واذكروا حين أخذنا ميثاقكم (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قائلين (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) أى خذوا بما أمرتم به فى التوراة واسمعوا ما فيها سمع طاعة وقبول (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال سائل كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا (سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك فإذا قابل أسلافهم مثل ذلك الخطاب المؤكد مع مشاهدتهم مثل تلك المعجزة الباهرة بمثل هذه العظيمة الشنعاء وكفروا بما فى تضاعيف التوبة فكيف يتصور من أخلافهم الإيمان بما فيها (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة أى تداخلهم حبه ورسخ فى قلوبهم صورته لفرط شغفهم به وحرصهم على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق البدن وفى قلوبهم بيان لمكان الإشراب كما فى قوله تعالى (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) والجملة حال من ضمير قالوا بتقديم قد (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن فى قلوبهم ماسول لهم السامرى (قُلْ) توبيخا لحاضرى اليهود إثر ما تبين من أحوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون فى كل ما يأتون وما يذرون (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف أى ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفى إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم وإضافة الإيمان إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإنه قدح فى دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التوراة وإبطال لها وتقريره إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذكر من القول والعمل بما فيها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا وجواب الشرط كما ترى محذوف لدلالة ما سبق عليه (قُلْ) كرر الأمر مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمر بتبكيتهم وإظهار كذبهم فى فن آخر من أباطيلهم لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتفى بالإشارة إليه فى تضاعيف الكلام حيث قيل (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أى الجنة أو نعيم الدار

١٣١

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

____________________________________

الآخرة (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) أى سالمة لكم خاصة بكم كما تدعون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ونصبها على الحالية من الدار وعند ظرف للاستقرار فى الخبر أعنى لكم وقوله تعالى (مِنْ دُونِ النَّاسِ) فى محل النصب بخالصة يقال خلص لى كذا من كذا واللام للجنس أى الناس كافة أو للعهد أى المسلمين (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاق إلى التخلص إليها من دار البوار وقرارة الأكدار لا سيما إذا كانت خالصة له كما قال على كرم الله وجهه لا أبالى أسقطت على الموت أو سقط الموت على وقال عمار بن ياسر بصفين [الآن ألاقى الأحبه محمدا وحزبه] وقال حذيفة بن اليمان حين احتضر وقد كان يتمنى الموت قبل [جاء حبيب على فاقة فلا أفلح اليوم من قد ندم] أى على التمنى وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكرير للكلام لتشديد الإلزام وللتنبيه على أن ترتب الجواب ليس على تحقق الشرط فى نفس الأمر فقط بل فى اعتقادهم أيضا وأنهم قد ادعوا ذلك والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أى إن كنتم صادقين فتمنوه وقوله تعالى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبيان ما يكون منهم من الإحجام عما دعوا إليه الدال على كذبهم فى دعواهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما عملوا من المعاصى الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبى عليه‌السلام والقرآن وتحريف التوراة ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أى بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون فى جميع الأمور التى من جملتها ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم والجملة تذييل لما قبلها مقررة لمضمونه أى عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصى المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدى إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم موته أحد إذ لو وقع ذلك لنقل واشتهر وعن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقى يهودى على وجه الأرض (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ) من الوجدان العقلى وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوها ومفعولاه الضمير وأحرص والتنكير فى قوله تعالى (عَلى حَياةٍ) للإيذان بأن مرادهم نوع خاص منها وهى الحياة المتطاولة وقرىء بالتعريف (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرص من الناس ومن الذين أشركوا وإفرادهم بالذكر مع دخولهم فى الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص للمبالغة فى توبيخ اليهود فإن حرصهم وهم معترفون بالجزاء لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بأنباء المعطوف عليه عنه أى وأحرص من الذين أشركوا فقوله تعالى

١٣٢

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧)

____________________________________

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون فى حيز الرفع صفة لمبتدأ محذوف خبره الظرف المتقدم على أن يكون المراد بالمشركين اليهود لقولهم عزير بن الله أى ومنهم طائفة يود أحدهم أيهم كان أى كل واحد منهم (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل ليتنى أعمر وإنما أجرى على الغيبة لقوله تعالى (يَوَدُّ) كما تقول حلف بالله ليفعلن ومحله النصب على أنه مفعول يود إجراء له مجرى القول لأنه فعل قلبى (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) ما حجازية والضمير العائد على أحدهم اسمها وبمزحزحه خبرها والباء زائدة و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل مزحزحه أى وما أحدهم بمن يزحزحه أى يبعده وينجيه من العذاب تعميره وقيل الضمير لما دل عليه يعمر من المصدر وأن يعمر بدل منه وقيل هو مبهم وأن يعمر مفسره والجملة حال من أحدهم والعامل يود لا يعمر على أنها حال من ضميره لفساد المعنى أو اعتراض وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات وسنية وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وسنيهة وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البصير فى كلام العرب العالم بكنه الشىء الخبير به ومنه قولهم فلان بصير بالفقه أى عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة وقرىء بتاء الخطاب التفاتا وفيه تشديد للوعيد (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) نزل فى عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله عمن نزل عليه بالوحى فقال عليه‌السلام جبريل عليه‌السلام فقال هو عدونا لو كان غيره لآمنا بك وفى بعض الروايات ورسولنا وميكائيل فلو كان هو الذى يأتيك لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل عليه‌السلام وقال إن كان ربكم أمره بهلا ككم فإنه لا يسلطكم عليه وإلا فبأى حق تقتلونه وقيل أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها فى غيرنا وروى أنه كان لعمر رضى الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لشك فى دينى وإنما أدخل عليكم لازداد بصيرة فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرى آثاره فى كتابكم ثم سألهم عن جبريل عليه‌السلام فقالوا ذاك هو عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل يجىء بالخصب والسلام فقال لهم وما منزلتهما عند الله تعالى قالوا جبريل أقرب منزلة هو عن يمينه وميكائيل عن يساره وهما متعاديان فقال عمر رضى الله عنه إن كانا كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو الأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله سبحانه ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه‌السلام قد سبقه بالوحى فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد وافقك ربك يا عمر فقال عمر رضى الله عنه لقد رأيتنى فى دينى بعد ذلك أصلب من الحجر وقرىء جبرئيل كسلسبيل وجبرئل كجحمرش وجبريل وجبرئل وجبرائيل كجبراعيل وجبرائل كجبراعل

١٣٣

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ)(٩٩)

____________________________________

ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة وقيل معناه عبد الله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) تعليل لجواب الشرط قائم مقامه والبارز الأول لجبريل عليه‌السلام والثانى للقرآن أضمر من غير ذكر إيذانا بفخامة شأنه واستغنائه عن الذكر لكمال شهرته ونباهته لا سيما عند ذكر شىء من صفاته (عَلى قَلْبِكَ) زيادة تقرير للتنزيل ببيان محل الوحى فإنه القائل الأول له ومدار الفهم والحفظ وإيثار الخطاب على التكلم المبنى على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما فى قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) لما فى النقل بالعبارة من زيادة تقرير لمضمون المقالة (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره وتيسيره مستعار من تسهيل الحجاب وفيه تلويح بكمال توجه جبريل عليه‌السلام إلى تنزيله وصدق عزيمته عليه‌السلام وهو حال من فاعل نزله وقوله تعالى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أى من الكتب الإلهية التى معظمها التوراة حال من مفعوله وكذا قوله تعالى (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والعامل فى الكل نزله والمعنى من عادى جبريل من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته بل يجب عليه محبته فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم أو فالسبب فى عداوته تنزيله لكتاب مصدق لكتابهم موافق له وهم له كارهون ولذلك حرفوا كتابهم وجحدوا موافقته له لأن الاعتراف بها يوجب الإيمان به وذلك يستدعى انتكاس أحوالهم وزوال رياستهم وقيل إن الجواب فقد خلع ربقة الإنصاف أو فقد كفر بما معه من الكتاب أو فليمت غيظا أو فهو عدولى وأنا عدو له (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) أريد بعداوته تعالى مخالفة أمره عنادا والخروج عن طاعته مكابرة أو عداوة خواصه ومقربيه لكن صدر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بأن عداوته عز وعلا كما فى قوله عزوجل والله (وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ثم صرح بالمرام فقيل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أول من يشمله عنوان الملكية والرسالة لإظهار فضلهما كأنهما عليهما‌السلام من جنس آخر أشرف مما ذكر تنزيلا للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الجنس وللتنبيه على أن عداوة أحدهما عداوة للآخر حسبما لمادة اعتقادهم الباطل فى حقهما حيث زعموا أنهما متعاديان وللإشارة إلى أن معاداة الواحد والكل سواء فى الكفر واستتباع العداوة من جهة الله سبحانه وأن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع وقوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أى لهم جواب الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور وقرىء ميكائل كميكاعل وميكائيل كميكاعيل وميكئل كميكعل وميكئيل كميكعيل (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على معانيها وعلى كونها من عند الله عزوجل (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أى المتمردون فى الكفر الخارجون عن حدوده فإن من

١٣٤

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

____________________________________

ليس على تلك الصفة من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسن إذا استعمل الفسق فى نوع من المعاصى وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال قال ابن صوريا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جئتنا بشىء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت واللام للعهد أى الفاسقون المعهودون وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أكفروا بها وهى فى غاية الوضوح وكلما عاهدوا عهدا ومن جملة ذلك ما أشير إليه فى قوله تعالى (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قولهم للمشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقرىء بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودهم مرارا كثيرة وقرىء عوهدوا وعهدوا وقوله تعالى (عَهْداً) إما مصدر مؤكد لعاهدوا من غير لفظه أو مفعول له على أنه بمعنى أعطوا العهد (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أى راموا بالزمام ورفضوه وقرىء نقضه وإسناد النبذ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبذه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أى بالتوراة وهذا دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون وأن من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون بها سرا (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنكير للتفخيم (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة لرسول لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة من حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرر صحتها وحقق حقية نبوة موسى عليه الصلاة والسلام بما أنزل عليه أو من حيث أنه عليه‌السلام جاء على وفق ما نعت فيها (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أى التوراة وهم اليهود الذين كانوا فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانوا فى عهد سليمان عليه‌السلام كما قيل لأن النبذ عند مجىء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذ بالذكر مع اندراجه تحت قوله عزوجل (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأنه معظم جناياتهم ولأنه تمهيد لذكر اتباعهم لما تتلو الشياطين وإيثارهم له عليه والمراد بإيتائها إما إيتاء علمها بالدراسة والحفظ والوقوف على ما فيها فالموصول عبارة عن علمائهم وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل وعلى التقديرين فوضعه موضع الضمير للإيذان بكمال التنافى بين ما أثبت لهم فى حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ (كِتابَ اللهِ) أى الذى أوتوه قال السدى لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وما روت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الخ وإنما عبر عنها بكتاب الله تشريفا لها وتعظيما لحقها عليهم وتهويلا لما اجتروءا عليه من الكفر

١٣٥

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

____________________________________

بها وقيل كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول لا سيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبل فإن ذلك قبول له وتمسك به فيكون الكفر به عند مجيئه نبذا له كأنه قيل كتاب الله الذى جاء به فإن مجىء الرسول معرب عن مجىء الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لتركهم وإعراضهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جملة حالية أى نبذوه وراء ظهورهم مشبهين بمن لا يعلمه فإن أريد بهم أحبارهم فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ففيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله أو لا يعلمونه أصلا كما إذا أريد بهم الكل وفى هذين الوجهين زيادة مبالغة فى إعراضهم عما فى التوراة من دلائل النبوة هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن فالمراد بالعلم المنفى فى قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هو العلم بأنه كتاب الله ففيه ما فى الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون فى ذلك وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا قيل إن جيل اليهود أربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمنى أهل الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عزوجل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدى الحدود تمردا وفسوقا وهم المعنيون بقوله تعالى (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية وهم المتجاهلون (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على جواب لما أى نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحرة التى كانت تقرأها الشياطين وهم المتمردون من الجن وتتلو حكاية حال ماضية والمراد بالاتباع التوغل والتمحض فيه والإقبال عليه بالكلية وإلا فأصل الاتباع كان حاصلا قبل مجىء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يتسنى عطفه على جواب لما ولذلك قيل هو معطوف على الجملة وقيل على أشربوا (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أى فى عهد ملكه قيل كانت الشياطين يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك فى عهد سليمان عليه‌السلام حتى قيل إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الإنس والجن والطير والريح التى تجرى بأمره وقيل إن سليمان عليه‌السلام كان قد دفن كثيرا من العلوم التى خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه فلما مضت على ذلك مدة توصل إليها قوم من المنافقين فكتبوا فى خلال ذلك أشياء من فنون السحر تناسب تلك

١٣٦

الأشياء المدفونة من بعض الوجوه ثم بعد موته وإطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنه من عمل سليمان عليه‌السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغ إلا بسبب هذه الأشياء (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تنزيه لساحته عليه‌السلام عن السحر وتكذيب لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به والتعرض لكونه كفرا للمبالغة فى إظهار نزاهته عليه‌السلام وكذب باهتيه بذلك (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) وقرىء بتخفيف لكن ورفع الشياطين والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها وكون المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا (كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواء وإضلالا والجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما فى لكن من رائحة الفعل كاف فى العمل فى الحال أو فى محل الرفع على أنه خبر ثان للكن أو بدل من الخبر الأول وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرار التعليم وتجدده أو جملة مستأنفة هذا على تقدير كون الضمير للشياطين وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل اتبعوا فهى إما حال منه وإما استئنافية فحسب. واعلم أن السحر أنواع منها سحر الكلدانيين الذين كانوا فى قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هى المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاث فرق ففرقة منهم يزعمون أن الأفلاك والنجوم واجبة الوجود لذواتها وهم الصابئة وفرقة يقولون بإلهية الأفلاك ويتخذون لكل واحد منها هيكلا ويشتغلون بخدمتها وهم عبدة الأوثان وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلا مختارا لكنهم قالوا إنه أعطاها قوة عالية نافذة فى هذا العالم وفوض تدبيره إليها ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية فإنهم يزعمون أن الإنسان تبلغ روحه بالتصفية فى القوة والتأثير إلى حيث يقدر على الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتغيير البنية والشكل ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم وتسخير الجن ومنها التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة ولا خلاف بين الأمة فى أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثانى وهو سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية وأما من اعتقد أن الإنسان يبلغ بالتصفية وقراءة العزائم والرقى إلى حيث يخلق الله سبحانه وتعالى عقيب ذلك على سبيل جريان العادة بعض الخوارق فالمعتزلة اتفقوا على أنه كافر لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفة صدق الأنبياء والرسل بخلاف غيرهم ولعل التحقيق أن ذلك الإنسان إن كان خيرا متشرعا فى كل ما يأتى ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيرة وكانت عزائمه ورقاه غير مخالفة لأحكام الشريعة الشريفة ولم يكن فيما ظهر فى يده من الخوارق ضرر شرعى لأحد فليس ذلك من قبيل السحر وإن كان شريرا غير متمسك بالشريعة الشريفة فظاهر أن من يستعين به من الأرواح الخبيثة الشريرة لا محالة ضرورة امتناع تحقق التضام والتعاون بينهما من غير اشتراك فى الخبث والشرارة فيكون كافرا قطعا وأما الشعوذة وما يجرى مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الآلات الهندسية وخفة اليد والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار فإطلاق السحر عليها بطريق التجوز أو لما فيها

١٣٧

من الدقة لأنه فى الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفى سببه أو من الصرف عن الجهة المعتادة لما أنه فى أصل اللغة الصرف على ما حكاه الأزهرى عن الفراء ويونس (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر أى ويعلمونهم ما أنزل عليهما والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو هو نوع أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراض أى واتبعوا ما أنزل الخ وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس كما ابتلى قوم طالوت بالنهر أو تمييزا بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس أو لأن السحرة كثرت فى ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس وأما ما يحكى من أن الملائكة عليهم‌السلام لما رأوا ما يصعد من ذنوب بنى آدم عيروهم وقالوا لله سبحانه هؤلاء الذين اخترتهم لخلافة الأرض يعصونك فيها فقال عزوجل لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتمونى قالوا سبحانك ما ينبغى لنا أن نعصيك قال تعالى فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم وأعبدهم فأهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب فى البشر من الشهوة وغيرها من القوى ليقضيا بين الناس نهارا ويعرجا إلى السماء مساء وقد نهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهارا فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم فصعدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة من أجمل النساء تسمى زهرة وكانت من لخم وقيل كانت من أهل فارس ملكة فى بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت لا إلا أن تقضيالى على خصمى ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تقتلاه ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تشربا الخمر وتسجدا للصنم ففعلا كلا من ذلك بعد اللتيا والتى ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تعلمانى ما تصعدان به إلى السماء فعلماها الاسم الأعظم فدعت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله سبحانه كوكبا فهما بالعروج حسب عادتهما فلم تطعهما أجنحتهما فعلما ما حل بهما وكان فى عهد إدريس عليه‌السلام فالتجآ إليه ليشفع لهما ففعل فخير هما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابل قيل معلقان بشعورهما وقيل منكوسان يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويل عليه لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل ولعله من مقولة الأمثال والرموز التى قصد بها إرشاد اللبيب الأريب بالترغيب والترهيب وقيل هما رجلان سميا ملكين لصلاحهما ويعضده قراءة الملكين بالكسر (بِبابِلَ) الباء بمعنى فى وهى متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من الملكين أو من الضمير فى أنزل وهى بابل العراق وقال ابن مسعود رضى الله عنه بابل أرض الكوفة وقيل جبل دماوند ومنع الصرف للعجمة والعلمية أو للتأنيث والعلمية (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفهما للعجمة والعلمية ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لا نصرفا وأما من قرأ الملكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال هما اسمان لهما وقيل هما اسما قبيلتين من الجن هما المراد من الملكين بالكسر وقرىء بالرفع على هما هاروت وماروت (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) من مزيدة فى المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق الذى يفيده أحد لا لإفادة نفس الاستغراق كما فى قولك

١٣٨

ما جاءنى من رجل وقرىء يعلمان من الإعلام (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) الفتنة الاختبار والامتحان وإفرادها مع تعددهما لكونها مصدرا وحملها عليهما مواطأة للمبالغة كأنهما نفس الفتنة والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه أى وما يعلمان ما أنزل عليهما من السحر أحدا من طالبيه حتى ينصحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنة وابتلاء من الله عزوجل فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ومن توقى عن العمل به أو اتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقى على الإيمان (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاد حقيته وجواز العمل به والظاهر أن غاية النفى ليست هذه المقالة فقط بل من جملتها التزام المخاطب بموجب النهى لكن لم يذكر لظهوره وكون الكلام فى بيان اعتناء الملكين بشأن النصح والإرشاد والجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفة عليه كما قيل أى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ويحملونهم على العمل به إغواء وإضلالا والحال أنهما ما يعلمان أحدا حتى ينهياه عن العمل به والكفر بسببه وأما ما قيل من أن ما فى قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ) الخ نافية والجملة معطوفة على قوله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) جىء بها لتكذيب اليهود فى القصة أى لم ينزل على الملكين إباحة السحر وأن هاروت وماروت بدل من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خصتا بالذكر لأصالتهما وكون باقى الشياطين أتباعا لهما وأن المعنى ما يعلمان أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فتكون مثلنا فيأباه أن مقام وصف الشيطان بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصف رؤسائهم بما ذكر من النهى عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلام فإن الإبدال فى حكم تنحية المبدل منه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على الجملة المنفية فإنها فى قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولهما إنما نحن الخ والضمير لأحد حملا على المعنى كما فى قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ) أى بسببه وباستعماله (بَيْنَ الْمَرْءِ) وقرىء بضم الميم وكسرها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة (وَزَوْجِهِ) بأن يحدث الله تعالى بينهما التباغض والفرك والنشوز عند ما فعلوا ما فعلوا من السحر على حسب جرى العادة الإلهية من خلق المسببيات عقيب حصول الأسباب العادية ابتلاء لا أن السحر هو المؤثر فى ذلك وقيل فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناس ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ) أى بما تعلموه واستعملوه من السحر (مِنْ أَحَدٍ) أى أحدا ومن مزيدة لما ذكر فى قوله تعالى (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) والمعهود وإن كان زيادتها فى معمول فعل منفى إلا أنه حملت الاسمية فى ذلك على الفعلية كأنه قيل وما يضرون به من أحد (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه وغيره من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلا من أفعاله ابتلاء وقد لا يحدثه والاستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير ضارين أو من مفعوله وإن كان نكرة لاعتمادها على النفى أو الضمير المجرور فى به أى وما يضرون به أحدا إلا مقرونا بإذن الله تعالى وقرىء بضارى على الإضافة بجعل الجار جزءا من المجرور وفصل ما بين المضافين بالظرف (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) صرح بذلك إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شر بحت وضرر محض لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب من يدعى النبوة

١٣٩

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

____________________________________

مثلا من السحرة أو تخليص الناس منه حتى يكون فيه نفع فى الجملة وفيه أن الاجتناب عما لا يؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التى لا يؤمن أن تجر إلى الغواية وإن قال من قال[عرفت الشر لا للشر ر لكن لتوقيه] [ومن لا يعرف الشر ر من الناس يقع فيه] (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أى اليهود الذين حكيت جناياتهم (لَمَنِ اشْتَراهُ) أى استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله عزوجل واللام الأولى جواب قسم محذوف والثانية لام ابتداء علق به علموا عن العمل ومن موصولة فى حيز الرفع بالابتداء واشتراه صلتها وقوله تعالى (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أى من نصيب جملة من مبتدأ وخبر ومن مزيدة فى المبتدأ وفى الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا منه ولو أخر عنه لكان صفة له والتقدير ما له خلاق فى الآخرة وهذه الجملة فى محل الرفع على أنها خبر للموصول والجملة فى حيز النصب سادة مسد مفعولى علموا إن جعل متعديا إلى اثنين أو مفعوله الواحد إن جعل متعديا إلى واحد فجملة ولقد علموا الخ مقسم عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهور وهو مذهب سيبويه وقال الفراء وتبعه أبو البقاء أن اللام الأخيرة موطئة للقسم ومن شرطية مرفوعة بالابتداء واشتراه خبرها وما له فى الآخرة من خلاق جواب القسم وجواب الشرط محذوف اكتفاء عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرط والقسم يجاب سابقهما غالبا فحينئذ يكون الجملتان مقسما عليهما (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أى باعوها واللام جواب قسم محذوف والمخصوص بالذم محذوف أى وبالله لبئسما باعوا به أنفسهم السحر أو الكفر وفيه إيذان بأنهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فقد عرضوا أنفسهم للهلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تبارا وتجويز كون الشراء بمعنى الاشتراء مما لا سبيل إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلوا الشياطين ولأن متعلق الذم هو المأخوذ لا المنبوذ كما أشير إليه فى تفسير قوله سبحانه بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى يعملون بعلمهم جعلوا غير عالمين لعدم عملهم بموجب علمهم أو لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحه على اليقين أو حقيقة ما يتبعه من العذاب عليه على أن المثبت لهم أو لا على التوكيد القسمى العقل الغريزى أو العلم الإجمالى بقبح الفعل أو ترتب العقاب من غير تحقيق وجواب لو محذوف أى لما فعلوا ما فعلوا (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أى بالرسول المومى إليه فى قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الخ أو بما أنزل إليه من الآيات المذكورة فى قوله تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أو بالتوراة التى أريدت بقوله تعالى (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه‌السلام كفر بها (وَاتَّقَوْا) المعاصى المحكية عنهم (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) جواب لو وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه وتنكير المثوبة للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة تشريفية لمثوبة أى لشىء ما من المثوبة كائنة من عنده تعالى خير وقيل جواب لو محذوف أى لأثيبوا وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوع

١٤٠