تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

من المسلمين (حَتَّى يُؤْمِنَّ) والمراد بهن إما ما يعم الكتابيات أيضا حسبما يقتضيه عموم التعليلين الآتيين لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله سبحانه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فالآية منسوخة بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وأما غير الكتابيات فهى ثابتة وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة فى الجاهلية أسمها عناق فأتته فقالت ألا تخلو فقال ويحك إن الإسلام حال بيننا فقالت هل لك أن تتزوج بى قال نعم ولكن أرجع إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأستأمره فاستأمره فنزلت (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) تعليل للنهى عن مواصلتهن وترغيب فى مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم فى إفادة التأكيد مبالغة فى الحمل على الانزجار وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض منه تاء التأنيث ودليل كون لامها واوا رجوعها فى الجمع قال الكلابى[أما الإماء فلا يدعوننى ولدا إذا تداعى بنو الأموات بالعار] وظهورها فى المصدر يقال هى أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أى ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر (خَيْرٌ) بحسب الدين والدنيا (مِنْ مُشْرِكَةٍ) أى امرأة مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) قد مر أن كلمة لو فى أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشىء فى الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه من انصباب المعنى على تقديره بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته معه ثبوته مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على وجه الإجمال كأنه قيل لو لم تعجبكم ولو أعجبتكم والجملة فى حيز النصب على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خير من امرأة مشركة حال عدم إعجابها وحال إعجابها إياكم بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادى الإعجاب وموجبات الرغبة فيها أى على كل حال وقد اقتصر على ذكر ما هو أشد منافاة للخيرية تنبيها على أنها حيث تحققت معه فلأن تتحقق مع غيره أولى وقيل الواو حالية وليس بواضح وقيل اعتراضية وليس بسديد والحق أنها عاطفة مستتبعة لما ذكر من الاعتبار اللطيف نعم يجوز أن تكون الجملة الأولى مع ما عطف عليها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها فتدبر (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) من الإنكاح والمراد بهم الكفار على الإطلاق لما مر أى لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر أو إماء (حَتَّى يُؤْمِنُوا) ويتركوا ما هم فيه من الكفر (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) مع ما به من ذل المملوكية (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) مع ما له من عز المالكية (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) بما فيه من دواعى الرغبة فيه الراجعة إلى ذاته وصفاته (أُولئِكَ) استئناف مقرر لمضمون التعليلين المارين أى أولئك المذكورون من المشركات والمشركين (يَدْعُونَ) من يقارنهم ويعاشرهم (إِلَى النَّارِ) أى إلى ما يؤدى إليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم (وَاللهُ يَدْعُوا) بواسطة عباده

٢٢١

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢)

____________________________________

المؤمنين من يقارنهم (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أى إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية أن تقدم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء (بِإِذْنِهِ) متعلق بيدعو أى يدعو ملتبسا بتوفيقه الذى من جملته إرشاد المؤمنين لمقارنيهم إلى الخير ونصيحتهم إياهم فهم أحقاء بالمواصلة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) المشتملة على الأحكام الفائقة والحكم الرائقة (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أى لكى يتذكروا ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران هذا وقد قيل معنى والله يدعو وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تشريفا لهم وأنت خبير بأن الضمير فى المعطوف على الخبر أعنى قوله تعالى (وَيُبَيِّنُ) لله تعالى فيلزم التفكيك وقيل معناه والله يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلة لمن عمل بها إليهما وهذا وإن كان مستدعيا لاتحاد مرجع الضميرين الكائنين فى الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا للمبتدأ لكن يفوت حينئذ حسن المقابلة بينه وبين قوله تعالى (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ولعل الطريق الأسلم ما أوضحناه أولا وإيراد التذكر ههنا للإشعار بأنه واضح لا يحتاج إلى التفكر كما فى الأحكام السابقة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) عطف على ما تقدم من مثله ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل عند السؤال عن الخمر وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كل من ذلك فى وقت على حدة والمحيض مصدر من حاضت المرأة كالمجىء والمبيت روى أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونهن كدأب اليهود والمجوس واستمر الناس على ذلك إلى أن سأل عن ذلك أبو الدحداح فى نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فنزلت (قُلْ هُوَ أَذىً) أى شىء يستقذر منه ويؤذى من يقربه نفرة منه وكراهة له (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أى فاجتنبوا مجامعتهن فى حالة المحيض قيل أخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الأعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثر ناهن هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم وقيل إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يفرطون فى الاعتزال فأمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرين (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تأكيد لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن لا عدم القرب منهن وبيان لغايته وهو انقطاع الدم عند أبى حنيفة رحمه‌الله فإن كان ذلك فى أكثر المدة حل القربان كما انقطع وإلا فلا بد من الاغتسالى أو من مضى وقت صلاة وعند الشافعى رحمه‌الله أن يغتسلن بعدا لانقطاع كما تفصح عنه القراءة بالتشديد وينبى عنه قوله عزوجل (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) فإن التطهر هو الاغتسال (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) من المأتى الذى حلله لكم وهو القبل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض ما نهوا عنه ومن سائر الذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن الفواحش والأقذار وفى ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما

٢٢٢

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٤)

____________________________________

نهوا عنه وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أى مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقى فى أرحامهن وبين البذور من المشابهة من حيث أن كلا منهما مادة لما يحصل منه (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) لما عبر عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيان لقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ (أَنَّى شِئْتُمْ) من أى جهة شئتم. روى أن اليهود كانوا يزعمون أن من أتى امرأته فى قبلها من دبرها يأتى ولده أحول فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أى ما يدخر لكم من الثواب وقيل هو طلب الولد وقيل هو التسمية عند المباشرة (وَاتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن معاصيه التى من جملتها ما عد من الأمور (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فتعرضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقتراف ما تفتضحون به (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين تلقوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهى بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم أو بكل ما يبشر به من الأمور التى تسر بها القلوب وتقربها العيون وفيه مع ما فى تلوين الخطاب وجعل المبشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المبالغة فى تشريف المؤمنين ما لا يخفى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قيل نزلت فى عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته وقيل فى الصديق رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح لخوضه فى حديث الإفك والعرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشىء فيصير حاجزا عنه كما يقال فلان عرضة للخير وعلى المعرض للأمر كما فى قوله [فلا تجعلونى عرضة للوائم] فالمعنى على الوجه الأول لا تجعلوا الله مانعا للأمور الحسنة التى تحلفون على تركها وعبر عنها بالأيمان لملابستها بها كما فى قوله عليه‌السلام لعبد الله بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك وقوله تعالى (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف بيان لأيمانكم أو بدل منها لما عرفت أنها عبارة عن الأمور المحلوف عليها واللام فى لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعرضة لما فيها من معنى الاعتراض أى لا تجعلوا الله لبركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس عرضة أى برزخا حاجزا بأن تحلفوا به تعالى على تركها أو لا تجعلوه تعالى عرضة أى شيئا يعترض الأمور المذكورة ويحجزها بما ذكر من الحلف به تعالى على تركها وقد جوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أن تبروا الخ بالفعل أو بعرضة فيكون الأيمان بمعناها وأنت خبير بأنه يؤدى إلى الفصل بين العامل ومعموله بأجنبى وعلى الوجه الثانى لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذم من نزلت فيه ولا تطع كل حلاف مهين بأشنع المذام وجعل الحلاف مقدمتها وأن تبروا حينئذ علة للنهى أى إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء على الله سبحانه غير معظم له فلا يكون برا متقيا ثقة

٢٢٣

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

____________________________________

بين الناس فيكون بمعزل من التوسط فى إصلاح ذات البين (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع أيمانكم (عَلِيمٌ) يعلم نياتكم فحافظوا على ما كلفتموه (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار والمراد به فى الأيمان ما لا عقد معه ولا قصد كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) وهو المعنى بقوله عزوجل (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقد اختلف فيه فعندنا هو أن يحلف على شىء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه فإنه لا قصد فيه إلى الكذب وعند الشافعى رحمه‌الله هو قول العرب لا والله وبلى والله مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذكم الله أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذى يحلفه أحدكم ظانا أنه صادق فيه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب فى اليمين وذلك فى الغموس وعلى الثانى لا يلزمكم الكفارة بما لا قصد معه إلى اليمين ولكن يلزمكموها بما نوت قلوبكم وقصدت به اليمين ولم يكن كسب اللسان فقط (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم التثبت وقلة المبالاة (حَلِيمٌ) حيث لم يعجل بالمؤاخذة والجملة اعتراض مقرر لمضمون قوله تعالى (لا يُؤاخِذُكُمُ) الخ وفيه إيذان بأن المراد بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجاب الكفارة إذ هى التى يتعلق بها المغفرة والحلم دونه (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) الإيلاء الحلف وحقه أن يستعمل بعلى واستعماله بمن لتضمينه معنى البعد أى للذين يحلفون متباعدين من نسائهم ويحتمل أن يراد لهم من نسائهم (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) كقولك لى منك كذا وقرىء آلوا من نسائهم وقرىء يقسمون من نسائهم والإيلاء من المرأة أن يقول والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقييد بالأشهر أو لا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن فاء إليها فى المدة بالوطء إن أمكن أو بالقول إن عجز عنه صح الفىء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على العاجز وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعا أى لهم أن ينتظروا فى هذه المدة من غير مطالبة بفىء أو طلاق (فَإِنْ فاؤُ) أى رجعوا عن اليمين بالحفث والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم ألبث إلا ريثما أتحول (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولى بفيئته التى هى كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصد بالإيلاء من ضرار المرأة (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) وأجمعوا عليه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولة التى لا تخلو عنها الحال عادة (عَلِيمٌ) بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفيئة ما لا يخفى.

٢٢٤

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

____________________________________

(وَالْمُطَلَّقاتُ) أى ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن لما قد بين أن لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران (يَتَرَبَّصْنَ) خبر فى معنى الأمر مفيد للتأكيد بإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإتيان به فكأنهن امتثلن بالأمر بالتربص فتخبر به موجودا متحققا وبناؤه على المبتدأ مفيد لزيادة تأكيد (بِأَنْفُسِهِنَّ) الباء للتعدية أى يقمعنها ويحملنها على ما لا تشتهيه بل يشق عليها من التربص وفيه مزيد حث لهن على ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفن منه من كون نفوسهن طوامح إلى الرجال فيحملهن ذلك على الإقدام على الإتيان بما أمرن به (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مصاف أى يتربصن مدة ثلاثة قروء أو يتربصن مضى ثلاثة قروء وهو جمع قرء والمراد به الحيض بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعى الصلاة أيام أقرائك وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ولأن المقصود الأصلى من العدة استبراء الرحم ومداره الحيض دون الطهر ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) معناه مستقبلات لعدتهن وهى الحيض الثلاث وإيراد جمع الكثرة فى مقام جمع القلة بطريق الاتساع فإن إيراد كل من الجمعين مكان الآخر شائع ذائع وقرىء ثلاثة قرو بغير همز (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الحيض والولد استعجالا فى العدة وإبطالا لحق الرجعة وفيه دليل على قبول قولهن فى ذلك نفيا وإثباتا (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله دلالة واضحة أى فلا يجترئن على ذلك فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذى يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعا (وَبُعُولَتُهُنَّ) البعولة جمع بعل وهو فى الأصل السيد المالك والتاء لتأنيث الجمع كما فى الحزونة والسهولة أو مصدر بتقدير مضاف أى أهل بعولتهن أى أزواجهن الذين طلقوهن طلاقا رجعيا كما ينبئ عنه التعبير عنهم بالبعولة والضمير لبعض أفراد المطلقات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) إلى ملكهم بالرجعة إليهن (فِي ذلِكَ) أى فى زمان التربص وصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة والمرأة تأباها وجب إيثار قوله على قولها لا أن لها أيضا حقا فى الرجعة (إِنْ أَرادُوا) أى الأزواج بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن وليس المراد به شرطية قصد الإصلاح بصحة الرجعة بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار (وَلَهُنَّ) عليهم من الحقوق (مِثْلُ الَّذِي) لهم (عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من الحقوق التى يجب مراعاتها ويتحتم المحافظة عليها (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أى زيادة فى الحق لأن حقوقهم فى أنفسهن وحقوقهن فى المهر

٢٢٥

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٢٩)

____________________________________

والكفاف وترك الضرار ونحوها أو مزية فى الفضل لما أنهم قوامون عليهن حراس لهن ولما فى أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرض من الزواج ويستبدون بفضيلة الرعاية والإنفاق (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه (حَكِيمٌ) تنطوى شرائعه على الحكم والمصالح (الطَّلاقُ) هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم والمراد به الرجعى لما أنه السابق الأقرب حكمه ولما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الثالثة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وهو مبتدأ بتقدير مضاف خبره ما بعده أى عدد الطلاق الذى يستحق الزوج فيه الرد والرجعة حسبما بين آنفا (مَرَّتانِ) أى اثنان وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة وإن كان حكم الرد ثابتا حينئذ أيضا (فَإِمْساكٌ) أى فالحكم بعدهما إمساك لهن بالرجعة (بِمَعْرُوفٍ) أى بحسن عشرة ولطف معاملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلقة الثالثة كما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعدم الرجعة إلى أن تنقضى العدة فتبين وقيل المراد به الطلاق الشرعى وبالمرتين مطلق التكرير لا التثنية بعينها كما فى قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرة بعد كرة والمعنى أن التطليق الشرعى تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاث فإن ذلك بدعة عندنا فقوله تعالى (فَإِمْساكٌ) الخ حكم مبتدأ وتخيير مستأنف والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل إذا علمتم كيفية التطليق فأمركم أحد الأمرين (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) منهن بمقابلة الطلاق (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أى من الصدقات وتخصيصها بالذكر وإن شاركها فى الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما آتوهن بمقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى (شَيْئاً) أى نزرا يسيرا فضلا عن الكثير وتقديم الظرف عليه لما مر مرارا والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة وقيل مع الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظم الكريم على القراءة المشهورة (إِلَّا أَنْ يَخافا) أى الزوجان وقرىء يظنا وهو مؤيد لتفسير الخوف بالظن (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أى أن لا يراعيا مواجب أحكام الزوجية وقرىء يخافا على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال وقرىء تخافا وتقيما بتاء الخطاب (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلَّا يُقِيما) أى الزوجان (حُدُودَ اللهِ) بمشاهدة بعض الأمارات والمخايل (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى على الزوجين (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) لا على الزوج فى أخذ ما افتدت به ولا عليها فى إعطائه إياه ورى أن جميلة بنت عبد الله بن أبى بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسى ورأسه شىء والله ما أعيب عليه فى دين ولا خلق ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ما أطيقه بغضا إنى رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل فى عدة فإذا هو أشدهم سوادا

٢٢٦

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٣١)

____________________________________

وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها (تِلْكَ) أى الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) بالمخالفة والرفض (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ) المتعدون والجمع باعتبار معنى الموصول (هُمُ الظَّالِمُونَ) أى لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه ووضع الاسم الجليل فى المواقع الثلاثة الأخيرة موقع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتعقيب النهى بالوعيد للمبالغة فى التهديد (فَإِنْ طَلَّقَها) أى بعد الطلقتين السابقتين (فَلا تَحِلُّ) هى (لَهُ مِنْ بَعْدُ) أى من بعد هذا الطلاق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أى حتى تتزوج غيره فإن النكاح أيضا يسند إلى كل منهما وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد والجمهور على اشتراط الإصابة لما روى أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى وأن ما معه مثل هدبة الثوب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريدين إن ترجعى إلى رفاعة قالت نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلا أن تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك وبمثله تجوز الزيادة على الكتاب وقيل النكاح بمعنى الوطء والعقد مستفاد من لفظ الزوج والحكمة من هذا التشريع الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها والنكاح بشرط التحليل مكروه عندنا ويروى عدم الكراهة فيما لم يكن الشرط مصرحا به وفاسد عند الأكثرين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله المحلل والمحلل له (فَإِنْ طَلَّقَها) أى الزوج الثانى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى على الزوج الأول والمرأة (أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل منهما إلى الآخر بالعقد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) التى أوجب مراعتها على الزوجين من الحقوق ولا وجه لتفسير الظن بالعلم لما أن العواقب غير معلومة ولأن أن الناصبة للتوقع المنافى للعلم ولذلك لا يكاد يقال علمت أن يقوم زيد (وَتِلْكَ) إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا (حُدُودَ اللهِ) أى أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغير والمخالفة (يُبَيِّنُها) بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتى بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف وبيان بالكتاب والسنة والجملة خبر ثان عند من يجوز كونه جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أو حال من (حُدُودَ اللهِ) والعامل معنى الإشارة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى يفهمون وتخصيصهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما أنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعض النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون فى العلم (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أى آخر عدتهن فإن الأجل كما ينطلق

٢٢٧

على المدة ينطلق على منتهاها والبلوغ هو الوصول إلى الشىء وقد يقال للدنو منه اتساعا وهو المراد ههنا لقوله عزوجل (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذ لا مكان للإمساك بعد تحقق بلوغ الأجل أى فراجعوهن بغير ضرار أو خلوهن حتى ينقضى أجلهن بإحسان من غير تطويل وهذا كما ترى إعادة للحكم فى بعض صوره اعتناء بشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيح لمعناه وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه أى لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن كان المطلق يترك المعتدة حتى إذا شارفت انقضاء الأجل يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطول عليها العدة فنهى عنه بعد ما أمر بضده لما ذكر وضرارا نصب على العلية أو الحالية أى لا تمسكوهن للمضارة أو مضارين واللام فى قوله (لِتَعْتَدُوا) متعلقة بضرارا أى لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اى ما ذكر من الإمساك المؤدى إلى الظلم وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلته فى الشر والفساد (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فى ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) المنطوية على الأحكام المذكورة أو جميع آياته وهى داخلة فيها دخولا أوليا (هُزُواً) أى مهزوا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا فى المحافظة على ما فى تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمن لم يجد فى الأمر أنت هازىء كأنه نهى عن الهزؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أى جدوا فى الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد أخذتموها هزؤا ولعبا ويجوز أن يراد به النهى عن الإمساك ضرارا فإن الرجعة بلا رغبة فيها عمل بموجب آيات الله تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهزء وقيل كان الرجل ينكح ويطلق ويعتق ثم يقول إنما كنت ألعب فنزلت ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث جدهن جد وهز لهن جد النكاح والطلاق والعتاق (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية أى قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة الله أى كائنة عليكم أو صفة لها على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح فى عمله تاء التأنيث لأنه مبنى عليها كما فى قوله[فلو لا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد] (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) عطف على نعمة الله وما موصولة حذف عائدها من الصلة ومن فى قوله عزوجل (مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) بيانيه أى من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغاير الوصفين كما فى قوله [إلى الملك القرم وابن الهمام] وفى إبهامه أولا ثم بيانه من التفخيم ما لا يخفى وفى إفراده بالذكر مع كونه أول ما دخل فى النعمة المأمور بذكرها إبانة بخطره ومبالغة فى البعث على مرعاة ما ذكر قبله من الأحكام (يَعِظُكُمْ بِهِ) أى بما أنزل حال من فاعل أنزل أو من مفعوله أو منهما معا (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العقاب

٢٢٨

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)

____________________________________

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) بيان لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغ الأجل حقيقة بعد بيان حكم ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها ولم يخرج والمراد المنع والخطاب إما للأولياء لما روى أنها نزلت فى معقل بن يسار حين عضل أخته جملا أن ترجع إلى زوجها الأول بالنكاح وقيل نزلت فى جابر بن عبد الله حين عضل أبنة عم له وإسناد التطليق إليهم لتسببهم فيه كما ينبى عنه تصديهم للعضل ولعل التعرض لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول قبله أيضا لوقوع العضل المذكور حينئذ وليس فيه دلالة على أن ليس للمرأة أن تزوج نفسها وإلا لما احتيج إلى نهى الأولياء عن العضل لما أن النهى لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة وإما للأزواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرأ لحمية الجاهلية وإما للناس كافة فإن إسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائع مستفيض والمعنى إذا وجد فيكم طلاق فلا يقع فيما بينكم عضل سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج أو من غيرهم وفيه تهويل لأمر العضل وتحذير منه وإيذان بأن وقوع ذلك بين ظهرانهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدوره عن الكل فى استتباع اللائمة وسراية الغائلة (أَنْ يَنْكِحْنَ) أى من أن ينكحن فمحله النصب عند سيبويه والفراء والجر عند الخليل على الخلاف المشهور وقيل هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب فى تعضلوهن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن (أَزْواجَهُنَّ) إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ما كان وإما باعتبار ما يكون وإلا فبالاعتبار الأخير (إِذا تَراضَوْا) ظرف للاتعضلوا وصيغة التذكير باعتبار تغليب الخطاب على النساء والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضى وقيل ظرف لأن ينكحن وقوله تعالى (بَيْنَهُمْ) ظرف للتراضى مفيد لرسوخه واستحكامه (بِالْمَعْرُوفِ) الجميل عند الشرع المستحسن عند الناس والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا أو نعتا لمصدر محذوف أى تراضيا كائنا بالمعروف وإما بتراضوا أى يتراضوا بما يحسن فى الدين والمروءة وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفؤ أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل (ذلِكَ) إشارة إلى ما فصل من الأحكام وما فيه من معنى البعد لتعظيم المشار إليه والخطاب لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيد إما باعتبار كل واحد منهم وإما بتأويل القبيل والفريق وإما لأن الكاف لمجرد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يعرفه كل أحد (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيسارع إلى الامتثال بأوامر ونواهيه إجلالا له وخوفا من عقابه وقوله تعالى

٢٢٩

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)

____________________________________

(مِنْكُمْ) إما متعلق بكان عند من يجوز عملها فى الظروف وشبهها وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يؤمن أى كائنا منكم (ذلِكُمْ) أى الاتعاظ به والعمل بمقتضاه (أَزْكى لَكُمْ) أى أنمى وأنفع (وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام وأوضار الذنوب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من الزكاء والطهر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك أو والله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع التى من جملتها ما بينه ههنا وأنتم لا تعلمونها فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه فى كل ما تأتون وما تذرون (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) شروع فى بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصا واشتراكا وهو أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة فى الحمل على تحقيق مضمونه ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بمادة عدم قبول الصبى ثدى الغير أو فقدان الظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لهز عطفهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن وقيل خاص بهن إذ الكلام فيهن (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) التأكيد بصفة الكمال لبيان أن التقدير تحقيقى لا تقريبى مبنى على المسامحة المعتادة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان لمن يتوجه إليه الحكم أى ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وفيه دلالة على جواز النقص وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة والأم ترضع له كما يقال أرضعت فلانة لفلان ولده (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أى الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) أجرة لهن واختلف فى استئجار الأم وهو غير جائز عندنا ما دامت فى النكاح أو العدة جائز عند الشافعى رحمه‌الله (بِالْمَعْرُوفِ) حسبما يراه الحاكم ويفى به وسعه (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه وذلك لا ينافى إمكانه (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل لما قبله وتقرير له أى لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه ولا يضاره بسبب ولده وقرىء لا تضار بالرفع بدلا من لا تكلف وأصله على القراءتين لا تضارر بالكسر على البناء للفاعل وبالفتح على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أى لا يضر الوالدان بالولد فيفرط فى تعهده ويقصر فيما ينبغى له وقرىء لا تضار بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ولا ينبغى أن يضرا به أو يتضارا بسببه (وَعَلَى الْوارِثِ

٢٣٠

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٣٤)

____________________________________

مِثْلُ ذلِكَ) عطف على قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) الخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد به وارث الصبى ممن كان ذا رحم محرم منه وقيل عصباته وقال الشافعى رحمه‌الله هو وارث الأب وهو الصبى أى تمان المرضعة من ماله عند موت الأب ولا نزاع فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبى مال وقيل الباقى من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام واجعله الوارث منا وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة (فَإِنْ أَرادا) أى الوالدان (فِصالاً) أى فطاما عن الرضاع قبل تمام الحولين والتنكير للإيذان بأنه فصال غير معتاد (عَنْ تَراضٍ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى صادرا عن تراض (مِنْهُما) أى من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر بالولد بأن تمل المرأة الإرضاع ويبخل الأب بإعطاء الأجرة (وَتَشاوُرٍ) فى شأن الولد وتفحص عن أحواله وإجماع منهما على استحقاقه للفطام والتشاور من المشورة وهى استخراج الرأى من شرت العسل إذا استخرجته وتنكيرهما للتفخيم (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) فى ذلك لما أن تراضيهما إنما يكون بعد استقرار رأيهما أو اجتهادهما على أن صلاح الولد فى الفطام وقلما يتفقان على الخطأ (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) بيان لحكم عدم اتفاقهما على الفطام والالتفات إلى خطاب الآباء لهزهم إلى الامتثال بما أمروا به (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) بحذف المفعول الأول استغناء عنه أى أن تسترضعوا المراضع لأولادكم يقال أرضعت المرأة الصبى واسترضعتها إياه وقيل إنما يتعدى إلى الثانى بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبى أى أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف حرف الجر أيضا كما فى قوله تعالى (وَإِذا كالُوهُمْ) أى كالوا لهم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أى فى الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضع للولد ويمنع الأم من الإرضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) أى إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) أى ما أردتم إيتاءه كما فى قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) وقرىء ما أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله وقرىء ما أوتيتم أى من جهة الله عزوجل كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وفيه مزيد بعث لهم إلى التسليم (بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بسلمتم أى بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب إلى ما هو الأليق والأولى فإن المراضع إذا أعطين ما قدر لهن ناجزا يدا بيد كان ذلك أدخل فى استصلاح شئون الأطفال (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن مراعاة الأحكام المذكورة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بذلك وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى (وَالَّذِينَ) على حذف المضاف أى وأزواج الذين (يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أى تقبض أرواحهم بالموت فإن التوفى هو القبض يقال توفيت مالى من فلان واستوفيته منه أى أخذته وقبضته والخطاب لكافة الناس بطريق التلوين (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أو على حذف العائد إلى المبتدأ فى الخبر

٢٣١

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥)

____________________________________

أى يتربصن بعدهم كما فى قولهم السمن منوان بدرهم أى منوان منه وقرىء يتوفون بفتح الياء أى يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالى لأنها غرر الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير فى مثله أصلا حتى أنهم يقولون صمت عشرا ومن البين فى ذلك قوله تعالى (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ولعل الحكمة فى هذا التقدير أن الجنين إذا كان ذكرا يتحرك غالبا لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف الحركة فلا يحس بها وعموم اللفظ يقتضى تساوى المسلمة والكتابية والحرة والأمة فى هذا الحكم ولكن القياس اقتضى التنصيف فى الأمة وقوله عزوجل (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) خص الحامل منه وعن على وابن عباس رضى الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين احتياطا (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أى انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الحكام والمسلمون جميعا (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذى لا ينكره الشرع وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع فعليهم أن يكفوهن عن ذلك وإلا فعليهم الجناح (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) خطاب للكل (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) التعريض والتلويح إبهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا كقول السائل جئتك لأسلم عليك وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أى جانب والكناية هى الدلالة على الشىء بذكر لوازمه وروادفه كقولك طويل النجاد للطويل وكثير الرماد للمضياف (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الخطبة بالكسر كالقعدة والجلسة ما يفعله الخاطب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل هى مأخوذة من الخطب أى الشأن الذى له خطر لما أنها شأن من الشئون ونوع من الخطوب وقيل من الخطاب لأنها نوع مخاطبة تجرى بين جانب الرجل وجانب المرأة والمراد بالنساء المعتدات للوفاة والتعريض لخطبتهن أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافعة ومن غرضى أن أتزوج ونحو ذلك مما يوهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أى أضمرتم فى قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ لهم على قلة التثبت (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أى فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لأن مسببه الذى هو الوطء مما يسر به وإيثاره على اسمه للإيذان بأنه مما ينبغى أن يسر به ويكتم وحمله على الوطء ربما يوهم الرخصة فى المحظور الذى هو التصريح بالنكاح وقيل انتصاب سرا على الظرفية أى لا تواعدوهن فى السر على أن المراد بذلك

٢٣٢

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

____________________________________

المواعدة بما يستهجن وفيه ما فيه (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء مفرغ مما يدل عليه النهى أى لا تواعدهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعا وهى ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدة بقول معروف أو لا توعدوهن بشىء من الأشياء إلا بأن تقولوا قولا معروفا وقيل هو استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعودا وليس كذلك (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر إذا قصده قصدا جازما وحقيقته القطع بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروى لمن لم يبيت الصيام والنهى عنه للمبالغة فى النهى عن مباشرة عقد النكاح أى لا تعزموا عقد عقدة النكاح (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أى العدة المكتوبة المفروضة آخرها وقيل معناه لا تقطعوا عقدة النكاح أى لا تبرموها ولا تلزموها ولا تقدموا عليها فيكون نهيا عن نفس الفعل لا عن قصده (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من ذوات الصدور التى من جملتها العزم على ما نهيتم عنه (فَاحْذَرُوهُ) بالاجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لإدخال الروعة (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أى لا تبعة من مهر وهو الأظهر وقيل من وزر إذ لا بدعة فى الطلاق قبل المسيس وقيل كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر النهى عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) أى ما لم تجامعوهن وقرىء تماسوهن بضم التاء فى جميع المواقع أى مدة عدم مساسكم إياهن على أن ما مصدرية ظرفية بتقدير المضاف ونقل أبو البقاء أنها شرطية بمعنى أن فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثانى قيدا للأول كما فى قولك إن تأتنى إن تحسن إلى أكرمك أى إن تأتنى محسنا إلى والمعنى إن طلقتموهن غير ما سين لهن وهذا المعنى أقعد من الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسن موقعها فيما إذا كان المظروف أمرا ممتدا منطبقا على ما أضيف إليها من المدة أو الزمان كما فى قوله تعالى (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقوله تعالى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) ولا يخفى أن التطليق ليس كذلك وتعليق الظرف بنفى الجناح ربما يوهم إمكان المسيس بعد الطلاق فالوجه أن يقدر الحال مكان الزمان والمدة (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أى إلا أن تفرضوا لهن أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مهرا على أن فريضة فعيلة بمعنى مفعول والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وانتصابه على المفعولية ويجوز أن يكون مصدرا صيغة وإعرابا والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا فى حال تسمية المهر فإن عليه حينئذ نصف المسمى وفى حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل وأما إذا كان بعد المساس فعليه فى صورة التسمية تمام المسمى وفى صورة عدمها تمام مهر المثل وقيل كلمة أو عاطفة لمدخولها على

٢٣٣

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

____________________________________

ما قبلها من الفعل المجزوم على معنى ما لم يكن منكم مسيس ولا فرض مهر (وَمَتِّعُوهُنَّ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى فطلقوهن ومتعوهن والحكمة فى إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق وهى درع وملحفة وخمار على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أى ما يليق بحال كل منهما وقرىء بسكون الدال وهى جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلق إيسارا وإقتارا أو حال من فاعل متعوهن بحذف الرابط أى على الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضا من المضاف إليه عند من يجوزه أى على موسعكم الخ وهذا إذا لم يكن مهر مثلها أقل من ذلك فإن كان أقل فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا ينقص عن خمسة دراهم (مَتاعاً) أى تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) أى بالوجه الذى تستحسنه الشريعة والمروءة (حَقًّا) صفة لمتاعا أو مصدر مؤكد أى حق ذلك حقا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أى الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتبارا للمشارفة وترغيبا وتحريضا (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ) قبل ذلك (فَرِيضَةً) أى وإن طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن فيما سبق أى عند النكاح مهر اعلى أن الجملة حال من فاعل طلقتموهن ويجوز أن تكون حالا من مفعوله لتحقق الرابط بالنسبة إليهما ونفس الفرض من المبنى للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب فى مقارنته لها وكذا الحال فى اتصاف المطلقة بكونها مفروضا لها فيما سبق (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أى فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح فى أن المنفى فى الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر وقرىء بالنصب أى فأدوا نصف ما فرضتم ولعل تأخير حكم النسمية مع أنها الأصل فى العقد والأكثر فى الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت فى أنصارى تزوج امرأة من بنى حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إظهار أن لا شىء له متعها بقلنسوتك (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى فلهن نصف المفروض معينا فى كل حال إلا حال عفوهن فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه وظاهر الصيغة فى نفسها يحتمل التذكير والتأنيث وإنما الفرق فى الاعتبار والتحقيق فإن الواو فى الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفى الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبنى ولذلك لم يؤثر فيه أن تأثيره فيما عطف على محله من قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا) بالنصب وقرىء بسكون الواو (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أى يترك الزوج المالك لعقده وحله ما يعود إليه من نصف المهر الذى ساقه إليها كاملا على ما هو المعتاد تكرما فإن ترك حقه عليها عفو بلا شبهة أو سمى ذلك عفوا فى صورة عدم السوق

٢٣٤

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢٣٨)

____________________________________

مشاكلة أو تغليبا لحال السوق على حال عدمه فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة فى المستثنى منه كما أنه فى الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أى فلهن هذا القدر بلا زيادة ولا نقصان فى جميع الأحوال إلا فى حال عفوهن فإنه حييئذ لا يكون لهن القدر المذكور بل ينتفى ذلك أو ينحط أو فى حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما على التفسير الثانى فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعا لأن فى صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه هذا عندنا وفى القول القديم للشافعى رحمه‌الله أن المراد عفو الولى الذى بيده عقدة نكاح الصغيرة وهو ظاهر المأخذ خلا أن الأول أنسب بقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) إلى آخره فإن إسقاط حق الصغيرة ليس فى شىء من التقوى وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو وقرىء بالياء (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أى لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشىء المنسى وقرىء بكسر الواو والخطاب فى الفعلين للرجال والنساء جميعا بطريق التغليب (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والإحسان (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أى داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال بشىء منها كما تنبئ عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها فى تضاعيف بيان أحكام الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأنهم بل بشأن أنفسهم أيضا كما يفصح عنه الأمر بها فى حالة الخوف ولذلك أمر بها فى خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكة الآخذ بعضها بحجزة بعض (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أى المتوسطة بينها أو الفضلى منها وهى صلاة العصر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها الصلاة التى شغل عنها سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وفضلها لكثرة اشتغال الناس فى وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار حينئذ وقيل هى صلاة الظهر لأنها فى وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم لما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصليها بالهاجرة فكانت أفضلها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل العبادات أحمزها وقيل هى صلاة الفجر لأنها بين صلاتى الليل والنهار والواقعة فى الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة كصلاة العصر وقيل هى صلاة المغرب لأنها متوسطة من حيث العدد ومن حيث الوقوع بين صلاتى النهار والليل ووتر النهار ولا تنقص فى السفر وقيل هى صلاة العشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين فى طرفى الليل وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربع قد خصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرىء وعلى الصلاة الوسطى وقرىء بالنصب على المدح وقرىء الوسطى (وَقُومُوا لِلَّهِ) أى فى الصلاة (قانِتِينَ) ذاكرين له تعالى فى القيام لأن القنوت هو الذكر فيه وقيل هو إكمال الطاعة وإتمامها بغير إخلال بشىء من أركانها وقيل خاشعين وقال ابن المسيب المراد به القنوت فى الصبح.

٢٣٥

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٤٠)

____________________________________

(فَإِنْ خِفْتُمْ) أى من عدو أو غيره (فَرِجالاً) جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرىء بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيضا وقرىء فرجلا أى راجلا (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب أى فصلوا راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحال ولا تخلوا بها ما أمكن الوقوف فى الجملة وقد جوز الشافعى رحمه‌الله أداءها حال المسايفة أيضا (فَإِذا أَمِنْتُمْ) بزوال الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أى فصلوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها (كَما عَلَّمَكُمْ) متعلق بمحذوف وقع وصفا لمصدر محذوف أى ذكرا كائنا كما علمكم أى كتعليمه إياكم (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه أن تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه الله تعالى وإيرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة أو اشكروا الله تعالى شكرا يوازى تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكام التى من جملتها كيفية إقامة الصلاة حالتى الخوف والأمن هذا وفى إيراد الشرطية الأولى بكلمة أن المفيدة لمشكوكية وقوع الخوف وندرته وتصدير الشرطية الثانية بكلمة إذا المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز فى جواب الأولى والإطناب فى جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراه مقتضى المقام الأول فى كل منهما مجرى مقتضى المقام الثانى من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولى الأبصار (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سلف إثر بيان أحكام وسطت بينهما لما أشير إليه من الحكمة الداعية إلى ذلك (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أى يوصون أو ليوصوا أو كتب الله عليهم وصية ويؤيد هذا قراءة من قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرىء بالرفع على تقدير مضاف فى المبتدأ أو الخبر أى حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم أو كتب عليهم وصية أو عليهم وصية وقرىء متاع لأزواجهم بدل وصية (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) منصوب بيوصون إن أضمرته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل منه أو مصدر مؤكد كما فى قولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أى غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى وكان ذلك أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فإنه وإن كان متقدما فى التلاوة متأخر فى النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن وكذلك السكنى عندنا وعند الشافعى هى باقية (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن منزل الأزواج باختيارهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وفيه دلالة على أن المحظور إخراجها عند إرادة القرار وملازمة مسكن الزوج والحداد من غير أن يجب

٢٣٦

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢٤٣)

____________________________________

عليها ذلك وأنها كانت مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة وبين الخروج مع تركها (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره يعاقب من خالفه (حَكِيمٌ) يراعى فى أحكامه مصالح عباده (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) سواء كن مدخولابهن أولا (مَتاعٌ) أى مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهرى للكل وقيل المراد بالمتاع نفقة العدة وقيل اللام للعهد والمراد غير المدخول بهن والتكرير للتأكيد (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا وعادة (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أى مما ينبغى (كَذلِكَ) أى مثل ذلك البيان الواضح (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالة على أحكامه التى شرعها لعباده (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكى تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها (أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع فإن سماعهم لها بمنزلة الرؤية النظرية أو العلمية أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب إيذانا بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحق لكل أحد أن يحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن ممن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذا الكلام قد جرى مجرى المثل فى مقام التعجيب لما أنه شبه حال غير الرائى لشىء عجيب بحال الرائى له بناء على ادعاء ظهور أمره وجلائه بحيث استوى فى إدراكه الشاهد والغائب ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع الرائى قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب وتعدية الرؤية بإلى فى قوله تعالى (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) على تقدير كونها بمعنى الإبصار باعتبار معنى النظر وعلى تقدير كونها إدراكا قلبيا لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك إليهم (وَهُمْ أُلُوفٌ) أى ألوف كثيرة قيل عشرة آلاف وقيل ثلاثون وقيل سبعون ألفا والجملة حال من ضمير خرجوا وقوله عزوجل (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له روى أن أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من حكم الله عز سلطانه وقضائه وقيل مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقيه وأصابعه تعجبا مما رأى من أمرهم فأوحى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وقيل هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيام ثم أحياهم وقوله عزوجل (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) إما عبارة عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة وإما تمثيل لأماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة فى أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر آمر مطاع لمأمور مطيع كما فى قوله تعالى

٢٣٧

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٤٥)

____________________________________

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (ثُمَّ أَحْياهُمْ) عطف إما على مقدر يستدعيه المقام أى فماتوا ثم أحياهم وإنما حذف الدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه عبارة عن الإماتة وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض لأسباب الشهادة وأن الموت حيث لم يكن منه بدو لم ينفع منه المفر فأولى أن يكون فى سبيل الله تعالى (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) عظيم (عَلَى النَّاسِ) قاطبة أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أى لا يشكرون فضله كما ينبغى ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار وإظهار الناس فى مقام الإضمار لمزيد التشنيع (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا فى سبيله لما علمتم أن الفرار لا ينجى من الحمام وأن المقدر لا مرد له فإن كان قد حان الأجل فموت فى سبيل الله عزوجل وإلا فنصر عزيز وثواب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع مقالة السابقين والمتخلفين (عَلِيمٌ) بما يضمرونه فى أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيرا وشرا فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبره والموصول صفة له أو بدل منه وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبا للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهاد الذى هو عبارة عن بذل النفس والمال فى سبيل الله عزوجل ابتغاء لمرضاته وإما مطلق العمل الصالح المنتظم له انتظاما أوليا (قَرْضاً حَسَناً) أى إقراضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى فإنه فى معنى أيقرضه وقرىء بالرفع أى يضاعف أجره وجزاءه جعل ذلك مضاعفة له بناء على ما بينهما من المناسبة بالسببية والمسببية ظاهرا وصيغة المفاعلة للمبالغة وقرىء فيضعفه بالرفع وبالنصب (أَضْعافاً) جمع ضعف ونصبه على أنه حال من الضمير المنصوب أو مفعول بأن يضمن المضاعفة معنى التصيير أو مصدر مؤكد على أن الضعف اسم للمصدر والجمع للتنوين (كَثِيرَةً) لا يعلم قدرها إلا الله تعالى وقيل الواحد بسبعمائة (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أى يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كى لا يبدل أحوالكم ولعل تأخير البسط عن القبض فى الذكر للإيماء إلى أنه يعقبه فى الوجود تسلية للفقراء وقرىء يبصط بالصاد لمجاورة الطاء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدمتم من الأعمال خيرا وشرا.

٢٣٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)

____________________________________

(أَلَمْ تَرَ) تقرير وتعجيب كما سبق قطع عنه للإيذان باستقلاله فى التعجب مع أن له مزيد ارتباط بما وسط بينهما من الأمر بالقتال (إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم سموا بذلك لما أنهم يملئون العيون مهابة والمجالس بهاء أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم ومن تبعيضية ومن فى قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مُوسى) ابتدائية وعاملها مقدر وقع حالا من الملأ أى كائنين بعض بنى إسرائيل من بعد وفاة موسى ولا ضير فى اتحاد الحرفين لفظا عند اختلافهما معنى (إِذْ قالُوا) منصوب بمضمر يستدعيه المقام أى ألم تر إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليهما‌السلام وقيل شمعون بن صعبة بن علقمة من ولد لاوى بن يعقوب عليهما‌السلام وقيل أشمويل بن بال بن علقمة وهو بالعبرانية إسمعيل. قال مقاتل هو من نسل هرون عليه‌السلام وقال مجاهد أشمويل بن هلقايا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى أنهض للقتال معنا أمير انصدر فى تدبير أمر الحرب عن رأيه وقرىء نقاتل بالرفع على أنه حال مقدرة أى ابعثه لنا مقدرين القتال أو استئناف مبنى على السؤال وقرىء يقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر والوصف لملكا (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال لهم النبى حينئذ فقيل قال (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) فصل بين عسى وخبره بالشرط للاعتناء به أى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم والمراد تقرير أن المتوقع كائن وإنما لم يذكر فى معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل هل عسيتم أن بعثت لكم ملكا الخ مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم بل ذكر كتابة القتال عليهم للمبالغة فى بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم عن القتال هو المبعوث لا نفس القتال وقرىء عسيتم بكسر السين وهى ضعيفة (قالُوا) استئناف كما سبق (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) أى أى سبب لنا فى أن لا نقاتل (فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أى والحال أنه قد عرض لنا ما يوجب القتال إيجابا قويا من الإخراج عن الديار والأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وذلك أن جالوت رأس العمالقة وملكهم وهو جبار من أولاد عمليق بن عاد كان هو ومن معه من العمالقة يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وظهروا على بنى إسرائيل وأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة

٢٣٩

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٧)

____________________________________

وأربعين نفسا وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) بعد سؤال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وبعث الملك (تَوَلَّوْا) أى أعرضوا وتخلفوا لكن لا فى ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجىء تفصيله وإنما ذكرههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافى والتباين (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين اكتفوا بالغرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم بالتولى عن القتال وترك الجهاد وتنافى أقوالهم وأفعالهم والجملة اعتراض تذييلى (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) شروع فى تفصيل ما جرى بينه عليه‌السلام وبينهم من الأقوال والأفعال إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم أى قال لهم بعد ما أوحى إليه ما أوحى (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت علم عبرى كداود وجعله فعلوتا من الطول يأباه منع صرفه وملكا حال منه روى أنه عليه‌السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملكا أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت (قالُوا) استئناف كما مر (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أى من أين يكون أو كيف يكون ذلك (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) الواو الأولى حالية والثانية عاطفة جامعة للجملتين فى الحكم أى كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بنى إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب عليه‌السلام وسبط المملكة بسبط يهوذا ومنه داود وسليمان عليهما‌السلام ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين قيل كان راعيا وقيل دباغا وقيل سقاء (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك أولا بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانيا بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره فى القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر وذلك قوله عزوجل (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) أى العلم المتعلق بالملك أو به وبالديانات أيضا وقيل قد أوحى إليه ونبئ (وَالْجِسْمِ) قيل بطول القامة فإنه كان أطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى أن الرجل القائم كان يمديده فينال رأسه وقيل بالجمال وقيل بالقوة (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) لما أنه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله أن يؤتيه من يشاء من عباده (وَاللهُ واسِعٌ) يوسع على الفقير ويغنيه (عَلِيمٌ) بمن يليق بالملك ممن لا يليق به وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.

٢٤٠