تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

____________________________________

رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة من الله سبحانه المغفرة والرأفة وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها والجمع بينها وبين الرحمة للمبالغة كما فى قوله تعالى (رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) والتنوين فيهما للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم أى أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلة عليهم فنون الرأفة الفائضة من مالك أمورهم ومبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه (وَأُولئِكَ) إشارة إليهم إما بالاعتبار السابق والتكرير لإظهار كمال العناية بهم وإما باعتبار حيازتهم لما ذكر من الصلوات والرحمة المترتب على الاعتبار الأول فعلى الأول المراد بالاهتداء فى قوله عزوجل (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا لا الاهتداء لما ذكر من الاسترجاع والاستسلام خاصة لما أنه متقدم عليهما فلا بد لتأخيره عما هو نتيجة لهما من داع يوجبه وليس بظاهر والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله كأنه قيل وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى وعلى الثانى هو الاهتداء والفوز بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينية والدنيوية فإن من نال رأفة الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) علمان لجبلين بمكة المعظمة كالصمان والمقطم (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهى العلامة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج فى اللغة القصد والاعتمار الزيارة غلبا فى الشريعة على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم فى الأعيان وحيث أظهر البيت وجب تجريده عن التعلق به (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أى فى أن يطوف بهما أصله يتطوف قلبت التاء طاء فأدغمت الطاء فى الطاء وفى إيراد صيغة التفعل إيذان بأن من حق الطائف أن يتكلف فى الطواف ويبذل فيه جهده وهذا الطواف واجب عندنا والشافعى وعن مالك رحمهما‌الله أنه ركن وإيراده بعدم الجناح المشعر بالتخيير لما أنه كان فى عهد الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة آخر اسمه نائلة وكانوا إذا سعوا بينهما مسحوا بهما فلما جاء الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت وقيل هو تطوع ويعضده قراءة ابن مسعود فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أى فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف وخيرا حينئذ نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى تطوعا خيرا أو على حذف الجار وإيصال الفعل إليه أو على تضمين معنى فعل وقرىء يطوع وأصله يتطوع مثل يطوف وقرىء ومن يتطوع بخير (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أى مجاز على الطاعة عبر عن ذلك بالشكر مبالغة فى الإحسان إلى العباد (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا وهو علة لجواب الشرط قائم مقامه كأنه قيل ومن تطوع خيرا جازاه الله وأثابه فإن الله شاكر عليم

١٨١

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قيل نزلت فى أحبار اليهود الذين كتموا ما فى التوراة من نعوت النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك من الأحكام وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدى والربيع والأصم أنها نزلت فى أهل الكتاب من اليهود والنصارى وقيل نزلت فى كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل والأقرب هو الأول فإن عموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك إظهار الشىء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعى إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شىء آخر فى موضعه وهو الذى فعله هؤلاء (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) من الآيات الواضحة الدالة على أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْهُدى) أى والآيات الهادية إلى كنه أمره ووجوب اتباعه والإيمان به عبر عنها بالمصدر مبالغة ولم يجمع مراعاة للأصل وهى المرادة بالبينات أيضا والعطف لتغاير العنوان كما فى قوله عزوجل هدى للناس وبينات الخ وقيل المراد بالهدى الأدلة العقلية ويأباه الإنزال والكتم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلق بيكتمون والمراد بالناس الكل لا الكاتمون فقط واللام متعلقة بييناه وكذا الظرف فى قوله تعالى (فِي الْكِتابِ) فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب فى جوازه أو الأخير متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أى كائنا فى الكتاب وتبيينه لهم تلخيصه وإيضاحه بحيث يتلقاه كل أحد منهم من غير أن يكون له فيه شبهة وهذا عنوان مغاير لكونه بينا فى نفسه وهدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمه لهم بواسطة موسى عليه‌السلام والأول أنسب بقوله تعالى (فِي الْكِتابِ) والمراد بكتمه إزالته ووضع غيره فى موضعه فإنهم محوا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه فى تفسير قوله عز وعلا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) الخ (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعليته لما حاق بهم وما فيه من معنى البعد للإيذان يترامى أمرهم وبعد منزلتهم فى الفساد (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أى يطردهم ويبعدهم من رحمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات الجامع للصفات لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن عنه سبحانه صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من وصف الجمال والرحمة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أى الذين يتأتى منهم اللعن أى الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمنى الثقلين والمراد بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل فى قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أى عن الكتمان (وَأَصْلَحُوا) أى ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرف وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف (وَبَيَّنُوا) للناس معانيه فإنه غير الإصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم أولا وآخرا فإنه أدخل فى إرشاد الناس إلى الحق وصرفهم عن طريق الضلال الذى كانوا أوقعوهم فيه أو بينوا توبتهم ليمحوا به سمة ما كانوا فيه ويقتدى بهم أضرابهم

١٨٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

____________________________________

وحيث كانت هذه التوبة المقرونة بالإصلاح والتبيين مستلزمة للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة للإشعار بعليته للحكم والفاء لتأكيد ذلك (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أى بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وقوله تعالى (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أى المبالغ فى قبول التوب ونشر الرحمة اعتراض تذييلى محقق لمضمون ما قبله والالتفات إلى التكلم للافتنان فى النظم الكريم مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ فى فعليه تعالى السابق واللاحق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين حسبما يفيده الكلام والاقتصار على ذكر الكفر فى الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبنى على ما أشير إليه فكما أن وجود تلك الأمور الثلاثة مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر كذلك وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعا أى إن الذين استمروا على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) لا يرعوون عن حالتهم الأولى (أُولئِكَ) الكلام فيه كما فيما قبله (عَلَيْهِمْ) أى مستقر عليهم (لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ممن يعتد بلعنتهم وهذا بيان لدوامها الثبوتى بعد بيان دوامها التجددى وقيل الأول لعنتهم أحياء وهذا لعنتهم أمواتا وقرىء والملائكة والناس أجمعون عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل فى المعنى كقولك أعجبنى ضرب زيد وعمرو تريد من أن ضرب زيد وعمر وكأنه قيل أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة الخ وقيل هو فاعل لفعل مقدر أى ويلعنهم الملائكة (خالِدِينَ فِيها) أى فى اللعنة أو فى النار على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم أو حال من الضمير فى خالدين على وجه التداخل أو من الضمير فى عليهم على طريقة الترادف (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفى واستمراره أى لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة (وَإِلهُكُمْ) خطاب عام لكافة الناس أى المستحق منكم للعبادة (إِلهٌ واحِدٌ) أى فرد فى الإلهية لا صحة لتسمية غيره إلها أصلا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو اعتراض وأيا ما كان فهو مقرر للوحدانية ومزيح لما عسى يتوهم أن فى الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) خبران آخران للمبتدأ أو لمبتدأ محذوف وهو تقرير للتوحيد فإنه تعالى حيث كان موليا لجميع النعم أصولها وفروعها جليلها ودقيقها وكان ما سواه كائنا ما كان مفتقرا إليه فى وجوده وما يتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب وانحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعا قيل كان للمشركين

١٨٣

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

____________________________________

حول الكعبة المكرمة ثلثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى فى إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العبر وبدائع صنائع يعجز عن فهمها عقول البشر وجمع السموات لما هو المشهور من أنها طبقات متخالفة الحقائق دون الأرض (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر كقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أو اختلاف كل منهما فى أنفسهما ازديادا وانتقاصا على ما قدره الله تعالى (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) عطف على ما قبله وتأنيثه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمع فإن ضمة الجمع مغايرة لضمة الواحد فى التقدير إذ الأولى كما فى حمر والثانية كما فى قفل وقرىء بضم اللام (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أى متلبسة بالذى ينفعهم مما يحمل فيها من أنواع المنافع أو بنفعهم (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) عطف على الفلك وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفصيل وقيل المقصود الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر فى غالب الأمر ومن الأولى ابتدائية والثانية بيانية أو تبعيضية وأياما كان فتأخيرها لما مر مرارا من التشويق والمراد بالسماء الفلك أو السحاب أو جهة العلو (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها كما يوزن به إيراد الموت فى مقابلة الإحياء (وَبَثَّ فِيها) أى فرق ونشر (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) من العقلاء وغيرهم والجملة معطوفة على أنزل داخلة تحت حكم الصلة وقوله تعالى (فَأَحْيا) الخ متصل بالمعطوف عليه بحيث كانا فى حكم شىء واحد كأنه قيل وما أنزل فى الأرض من ماء وبث فيها الخ أو على أحيا بحذف الجار والمجرور العائد إلى الموصول وإن لم تتحقق الشرائط المعهودة كما فى قوله[وإن لسانى شهدة يشتفى بها ولكن على من صبه الله علقم] أى علقم عليه وقوله[لعل الذى أصعدتنى أن يردنى إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره] على معنى فأحيا بالماء الأرض وبث فيها من كل دابة فإنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على ما أنزل أى تقلييها من مهب إلى آخر أو من حال إلى أخرى وقرىء على الإفراد (وَالسَّحابِ) عطف على تصريف أو الرياح وهو اسم جنس واحده سحابة سمى بذلك لا نسحابه فى الجو (الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى (سَحاباً ثِقالاً) وتسخيره تقليبه فى الجو بواسطة الرياح حسبما تقتضيه مشيئة الله تعالى ولعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب فى الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجى لما مر فى قصة البقرة من الإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة فى

١٨٤

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)

____________________________________

كونها آية ولو روعى الترتيب الخارجى لربما توهم كون المجموع المترتب بعضه على بعض آية واحدة (لَآياتٍ) اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أى يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول وفيه تعريض بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية تصدقه فى قوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وتسجيل عليهم بسخافة العقول وإلا فمن تأمل فى تلك الآيات وجد كلا منها ناطقة بوجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى بها عن سائرها فإن كل واحد من الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضى ذاته وجوده فضلا عن وجوده على نمط معين مستتبع لحكم مستقل فإذن لا بدله حتما من موجد قادر حكيم بوجده حسبما تقتضيه حكمته وتستدعيه مشيئته متعال عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخر يقدر على ما يقدر عليه لزم إما اجتماع المؤثرين على أثر واحد أو التمانع المؤدى إلى فساد العالم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ) بيان لكمال ركاكة آراء المشركين أثر تقرير وحدانيته سبحانه وتحرير الآيات الباهرة الملجئة للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضة باستحالة أن يشاركه شىء من الموجودات فى صفة من صفات الكمال فضلا عن المشاركة فى صفة الألوهية والكلام فى إعرابه كما فصل فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الخ و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بيتخذ أى من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذى ذكرت شئونه الجليلة وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات (أَنْداداً) أى أمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون لا سيما فى الأوامر والنواهى كما يفصح عنه ما سيأتى من وصفهم بالتبرى من المتبعين وقيل هى الأصنام وإرجاع ضمير العقلاء إليها فى قوله عز وعلا (يُحِبُّونَهُمْ) مبنى على آرائهم الباطلة فى شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلا العقلاء والمحبة ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حب على حدمد لكن الاستعمال المستفيض على أحب حبا ومحبة فهو محب وذاك محبوب ومحب قليل وحاب أقل منه ومحبة العبد لله سبحانه إرادة طاعته فى أوامره ونواهيه والاعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة فى حيز النصب إما صفة لأندادا أو حالا من فاعل يتخذ وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده باعتبار لفظها (كَحُبِّ اللهِ) مصدر تشبيهى أى نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق ومن قضية كونه مبنيا للفاعل كونه أيضا كذلك والظاهر اتحاد فاعلهما فإنهم كانوا يقرون به تعالى أيضا ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حبا كائنا كحبهم لله تعالى أى يسوون بينه تعالى وبينهم فى الطاعة والتعظيم وقيل فاعل الحب المذكور هم

١٨٥

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦)

____________________________________

المؤمنون فالمعنى حبا كائنا كحب المؤمنين له تعالى فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما فى أصل الحب لا فى وصفه كما أو كيفا لما سيأتى من التفاوت البين وقيل هو مصدر من المبنى للمفعول أى كما يحب الله تعالى ويعظم وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبير بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم وبين محبوبيته تعالى فالمصير حينئذ ما أسلفناه فى تفسير قوله عز قائلا (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وإظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) جملة مبتدأة جىء بها توطئة لما يعقبها من بيان رخاوة حبهم وكونه حسرة عليهم والمفضل عليه محذوف أى المؤمنون أشد حبا له تعالى منهم لأندادهم ومآله أن حب أولئك له تعالى أشد من حب هؤلاء لأندادهم فيه من الدلالة على كون الحب مصدرا من المبنى للفاعل ما لا يخفى وإنما لم يجعل المفضل عليه حبهم لله تعالى لما أن المقصود بيان انقطاعه وانقلابه بغضا وذلك إنما يتصور فى حبهم لأندادهم لكونه منوطا بمبان فاسدة ومباد موهومة يزول بزوالها. قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبدون صنما أياما فإذا وجدوا آخر رفضوه إليه وقد أكلت باهلة إلهها عام المجاعة وكان من حيس وأنت خبير بأن مدار ذلك اعتبار اختلال حبهم لها فى الدنيا وليس الكلام فيه بل فى انقطاعه فى الآخرة عند ظهور حقيقة الحال ومعاينة الأهوال كما سيأتى بل اعتباره مخل بما يقتضيه مقام المبالغة فى بيان كمال قبح ما ارتكبوه وغاية عظم ما اقترفوه وإيثار الإظهار فى موضع الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) المعد لهم يوم القيامة أى لو علموا إذا عاينوه وإنما أوثر صيغة المستقبل لجريانها مجرى الماضى فى الدلالة على التحقق فى إخبار علام الغيوب (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولى يرى (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف عليه وفائدته المبالغة فى تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان إما لعدم الإحاطة بكنهه وإما لضيق العبارة عنه وإما لإيحاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه أى لو علموا إذ رأوا العذاب قد حل بهم ولم ينقذهم منه أحد من أندادهم أن القوة لله جميعا ولا دخل لأحد فى شىء أصلا لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرىء ولو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة وقرىء إذ يرون على البناء للمفعول (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف وإضمار القول (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بدل من إذ يرون أى إذ تبرأ الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) من الاتباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه فى الدنيا ويدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل وقرىء بالعكس أى تبرأ الأتباع من الرؤساء والواو فى قوله عزوجل (وَرَأَوُا

١٨٦

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٦٨)

____________________________________

الْعَذابَ) حالية وقد مضمرة وقيل عاطفة على تبرأ والضمير فى رأوا للموصوفين جميعا (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) والوصل التى كانت بينهم من التبعية والمتبوعية والاتفاق على الملة الزائغة والأغراض الداعية إلى ذلك وأصل السبب الحبل الذى يرتقى به الشجر ونحوه والجملة معطوفة على تبرأ وتوسيط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى وقد جوز عطفها على الجملة الحالية (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم فى الدنيا (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أى ليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) هناك (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) اليوم (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذى بعده لا إلى شىء آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته مع كمال تميزه عما عداه وانتظامه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أى ذلك الإراء الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أى ندامات شديدة فإن الحسرة شدة الندم والكمد وهى تألم القلب وانحساره عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسير أى منقطع القوة وهى ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب وإلا فهى حال والمعنى أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) كلام مستأنف لبيان حالهم بعد دخولهم النار والأصل وما يخرجون والعدول إلى الاسمية لإفادة دوام نفى الخروج والضمير للدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم كما فى قوله[هم يفرشون اللبد كل طمرة وأجرد سباق يبذ المغاليا] (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أى بعض ما فيها من أصناف المأكولات التى من جملتها ما حرمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام قال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام وقوله تعالى (حَلالاً) حال من الموصول أى كلوه حال كونه حلالا أو مفعول لكلوا على أن من ابتدائية وقد جوز كونه صفة لمصدر مؤكد أى أكلا حلالا ويؤيد الأولين قوله تعالى (طَيِّباً) فإنه صفة له ووصف الأكل به غير معتاد وقيل نزلت فى قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس ويرده قوله عزوجل (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أى لا تقتدوا بها فى اتباع الهوى فإنه صريح فى أن الخطاب للكفرة. كيف لا وتحريم الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطوات الشيطان فضلا عن كونه تقولا وافتراء على الله تعالى وإنما الذى نزل فيهم ما فى

١٨٧

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٧٠)

____________________________________

سورة المائدة من قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية وقرىء خطوات بسكون الطاء وهما لغتان فى جمع خطوة وهى ما بين قدمى الخاطى وقرىء بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كانها على الواو وبفتحتين على أنها جمع خطوة وهى المرة من الخطو (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للنهى أى ظاهر العدواة عند ذوى البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمى وليا فى قوله تعالى (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم فى ذلك والسوء فى الأصل مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءة إذا أحزنه يطلق على جميع المعاصى سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب لاشتراك كلها فى أنها تسوء صاحبها والفحشاء أقبح أنواعها وأعظمها مساءة (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على الفحشاء أى وبأن تفتروا على الله بأنه حرم هذا وذاك ومعنى ما لا تعلمون ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به وتعليق أمره بتقولهم على الله تعالى ما لا يعلمون وقوعه منه تعالى لا بتقولهم عليه ما يعلمون عدم وقوعه منه تعالى مع أن حالهم ذلك للمبالغة فى الزجر فإن التحذير من الأول مع كونه فى القبح والشناعة دون الثانى تحذير عن الثانى على أبلغ وجه وآكده وللإيذان بأن العاقل يجب عليه أن لا يقول على الله تعالى ما لا يعلم وقوعه منه تعالى مع الاحتمال فضلا عن أن يقول عليه ما يعلم عدم وقوعه منه تعالى قالوا وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظنه فمستند إلى مدرك شرعى فوجوبه قطعى والظن فى طريقه (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) التفات إلى الغيبة تسجيلا بكمال ضلالهم وإيذانا بإيجاب تعداد ما ذكر من جناياتهم لصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إلى العقلاء وتفصيل مساوى أحوالهم لهم على نهج المباثة أى إذا قيل لهم على وجه النصيحة والإرشاد اتبعوا كتاب الله الذى أنزله (قالُوا) لا نتبعه (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أى وجدناهم عليه إما على أن الظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من آباءنا وألفينا متعد إلى واحد وإما على أنه مفعول ثان له مقدم على الأول نزلت فى المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد والموصول إما عبارة عما سبق من اتخاذ الأنداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك وإما باق على عمومه وما ذكر داخل فيه دخولا أوليا وقيل نزلت فى طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خيرا منا وأعلم فعلى هذا يعم ما أنزل الله تعالى التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام وقوله عزوجل (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) استئناف مسوق من جهته تعالى ردا لمقالتهم الحمقاء وإظهارا لبطلان آرائهم والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتعجيب منه لا

١٨٨

لإنكار الوقوع كالتى فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وكلمة لو فى أمثال هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشىء فى الزمان الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفى على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم أنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا المعنى ظاهر فى الخبر الموجب والمنفى والأمر والنهى كما فى قولك فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا وبخيل لا يعطى ولو كان غنيا وقولك أحسن إليه ولو أساء إليك ولا تهنه ولو أهانك لبقائه على حاله وأما فيما نحن فيه ففيه نوع خفاء ناشىء من ورود الإنكار عليه لكن الأصل فى الكل واحد إلا أن كلمة لو فى الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله وأن الجملة حال من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما فى حيز لو باق على ما هو عليه من الاستبعاد غالبا بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمة لو متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال مدلوله لا مدلول المذكور من حيث هو مدلوله وأن الجملة حال مما يتعلق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلق به وأن المقصود الأصلى إنكار مدلوله باعتبار مقارنته للحالة المذكورة وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما فى حيز لو لا يقصد استبعاده فى نفسه بل يقصد الإشعار بأنه أمر محقق إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد معاملة مع المخاطبين على معتقدهم لئلا يلبسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالة والضلالة جلد النمر فيركبوا متن العناد ومبالغة فى الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكرا مستقبحا عند احتمال كون آبائهم كما ذكر احتمالا بعيدا فلأن يكون منكرا عند تحقق ذلك أولى والتقدير أيتبعون ذلك لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا كذلك فالجملة فى حيز النصب على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) كأنه قيل أيتبعون دين آبائهم حال كونهم غافلين وجاهلين ضالين إنكارا لما أفاده كلامهم من الاتباع على أى حالة كانت من الحالتين غير أنه اكتفى بذكر الحالة الثانية تنبيها على أنها هى الواقعة فى نفس الأمر وتعويلا على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاء بينا فإن اتباعهم الذى تعلق به الإنكار حيث تحقق مع كون آبائهم جاهلين ضالين فلأن يتحقق مع كونهم عاقلين ومهتدين أولى إن قلت الإنكار المستفاد من الاستفهام الإنكارى بمنزلة النفى ولا ريب فى أن الأولوية فى صورة النفى معتبرة بالنسبة إلى النفى ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفى عند الحالة المسكوت عنها أعنى عدم الغنى هو عدم الإعطاء لا نفسه فكان ينبغى أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالة المسكوت عنها وهى حالة كون آبائهم عاقلين ومهتدين إنكار الاتباع لا نفسه إذ هو الذى يدل عليه أيتبعون الخ فلم اختلفت الحال بينهما قلت لما أن مناط الأولوية هو الحكم الذى أريد بيان تحققه على كل حال وذلك

١٨٩

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)

____________________________________

فى مثال النفى عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفى المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفس الاتباع المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذى يقتضيه الكلام السابق أعنى قولهم بل نتبع الخ وأما الاستفهام فخارج عنه وارد عليه لإنكار ما يفيده واستقباح ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما فى صورة النفى وكذا الحال فيما إذا كانت الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه مع كونه بمنزلة صريح النفى كما سيأتى تحقيقه فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وقيل الواو حالية ولكن التحقيق أن المعنى يدور على معنى العطف فى سائر اللغات أيضا (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير وفيها مضاف قد حذف لدلالة مثل عليه ووضع الموصول موضع الضمير الراجع إلى ما يرجع إليه الضمائر السابقة لذمهم بما فى حيز الصلة وللإشعار بعلة ما أثبت لهم من الحكم والتقدير مثل ذلك القائل وحاله الحقيقة لغرابتها بأن تسمى مثلا وتسير فى الآفاق فيما ذكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحق وعدم رفعهم إليه رأسا لانهما كهم فى التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة وعدم فهمهم من جهة الداعى إلى الدعاء من غير أن يلقوا أذهانهم إلى ما يلقى عليهم (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعى وهتفه بها من غير فهم لكلامه أصلا وقيل إنما حذف المضاف من الموصول الثانى لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارة عنه مشعرة مع ما فى حيز الصلة بما هو مدار التمثيل أى مثل الذين كفروا فيما ذكر من انهما كهم فيما هم فيه وعدم التدبر فيما ألقى إليهم من الآيات كمثل بهائم الذى ينعق بها وهى لا تسمع منه إلا جرس النغمة ودوى الصوت وقيل المراد تمثيلهم فى اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التى تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته وقيل تمثيلهم فى دعائهم الأصنام بالناعق فى نعقه وهو تصويته على البهائم وهذا غنى عن الإضمار لكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء فإن الأصنام بمعزل من ذلك وقد عرفت أن حسن التمثيل فيما إذا تشابه أفراد الطرفين (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بالرفع على الذم أى هم صم الخ (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) شيئا لأن طريق التعقل هو التدبر فى مبادى الأمور المعقولة والتأمل فى ترتبيها وذلك إنما يحصل باستماع آيات الله ومشاهدة حججه الواضحة والمفاوضة مع من يؤخذ منه العلوم فإذا كانوا صما بكما عميا فقد انسد عليهم أبواب التعقل وطرق الفهم بالكلية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أى مستلذاته (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذى رزقكموها والالتفات لتربية المهابة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر له وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل إنى والإنس والجن فى نبأ عظيم أخلق ويعبد غيرى وأرزق ويشكر غيرى

١٩٠

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٤)

____________________________________

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أى أكلها والانتفاع بها وهى التى ماتت على غير ذكاة والسمك والجراد خارجان عنها بالعرف أو استثناء الشرع وخرج الطحال من الدم (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) إنما خص لحمه مع أن سائر أجزائه أيضا فى حكمه لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه بمنزلة التابع له (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أى رافع به الصوت عند ذبحه للصنم والإهلال أصله رؤية الهلال لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عندها سمى ذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) بالاستئثار على مضطر آخر (وَلا عادٍ) سد الرمق والجوعة وقيل غير باغ على الوالى ولا عاد بقطع الطريق وعلى هذا لا يباح للعاصى بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعى وقول أحمد رحمهما‌الله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فى تناوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعل (رَحِيمٌ) بالرخصة إن قيل كلمة إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر قلنا المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حالة الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) المشتمل على فنون الأحكام التى من جملتها أحكام المحللات والمحرمات حسبما ذكر آنفا وقال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أى يأخذون بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا حقيرا وقد مر سر التعبير عن ذلك بالثمن الذى هو وسيلة فى عقود المعاوضة وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الوصفين الشنيعين المميزين لهم عمن عداهم أكمل تمييز الجاعلين إياهم بحيث كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلتهم فى الشر والفساد وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) والجملة خبر لأن أو اسم الإشارة مبتدأ ثان أو بدل من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلهم النار أنهم يأكلون فى الحال ما يستتبع النار ويستلزمها فكأنه عين النار وأكله أكلها كقوله[أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر] أو يأكلون فى المآل يوم القيامة عين النار عقوبة على أكلهم الرشا فى الدنيا وفى بطونهم متعلق بيأكلون وفائدته تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقر المأكول وقيل معناه ملء بطونهم كما فى قولهم أكل فى بطنه وأكل فى بعض بطنه ومنه كلوا فى بعض بطنكم تعفوا فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقع حالا مقدرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقه بيأكلون يؤدى إلى قصر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصر ما يأكلونه مطلقا عليها

١٩١

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

____________________________________

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريض بحرمانهم ما أتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يثنى عليهم (وَلَهُمْ) مع ما ذكر (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (أُولئِكَ) إشارة إلى ما أشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعة إذ لا دخل لها فى الحكم الذى يراد إثباته ههنا فإن المقصود تصوير ما باشروه من المعاملة بصورة قبيحة تنفر منها الطباع ولا يتعاطاها عاقل أصلا ببيان حقيقة ما نبذوه وإظهار كنه ما أخذوه وإبداء فظاعة تبعاته وهو مبتدأ خبره الموصول أى أولئك المشترون بكتاب الله عزوجل ثمنا قليلا ليسوا بمشترين للثمن وإن قل بل هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) بالنسبة إلى الدنيا (الضَّلالَةَ) التى ليست مما يمكن أن يشترى قطعا (بِالْهُدى) الذى ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شىء وإن جل (وَالْعَذابَ) أى اشتروا بالنظر إلى الآخرة العذاب الذى لا يتوهم كونه مما يشترى (بِالْمَغْفِرَةِ) التى يتنافس فيها المتنافسون (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجيب من حالهم الهائلة التى هى ملابستهم بما يوجب النار إيجابا قطعيا كأنه عينها. وما عند سيبويه نكرة تامة مفيدة لمعنى التعجب مرفوعة بالابتداء وتخصصها كتخصص شرفى شر أهر ذا ناب خبرها ما بعدها أى شىء ما عظيم جعلهم صابرين على النار وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أى أى شىء أصبرهم على النار وقيل هى موصولة وقيل موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أى الذى أصبرهم على النار أو شىء أصبرهم على النار أمر عجيب فظيع (ذلِكَ) العذاب (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب (بِالْحَقِّ) أى ملتبسا به فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) أى فى جنس الكتاب الإلهى بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها أو فى التوراة بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على أمر بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعوته الكريمة فمعنى الاختلاف التخلف عن الطريق الحق أو الاختلاف فى تأويلها أو فى القرآن بأن قال بعضهم إنه سحر وبعضهم إنه شعر وبعضهم أساطير الأولين كما حكى عن المفسرين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)

١٩٢

البر اسم جامع لمراضى الخصال والخطاب لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوض فى أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة وكان كل فريق يدعى خيرية التوجه إلى قبلته من القطرين المذكورين وتقديم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجه اليهود إلى المغرب ليس لكونه مغربا بل لكون بيت المقدس من المدينة المنورة واقعا فى جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبر ليس مقدما على اسمها كما فى قوله[سلى إن جهلت الناس عنى وعنهم فليس سواء عالم وجهول] وقوله[أليس عظيما أن تلم ملمة وليس علينا فى الخطوب مقول] وإنما أخر ذلك لما أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن فى الاسم طولا فلو روعى الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم وقرىء برفع البر على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعى أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه فى الاستدراك بقوله عزوجل (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وهو تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل وتفصيل لخصال البر مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها أى ولكن البر المعهود الذى يحق أن يهتم بشأنه ويجد فى تحصيله بر من آمن بالله وحده إيمانا بريئا من شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى والمشركين بقولهم عزير ابن الله وقولهم المسيح ابن الله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى على ما هو عليه لا كما يزعمون من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ففيه تعريض بأن إيمان أهل الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيح لم يكن إيمانا وفى تعليق البر بهما من أول الأمر عقيب نفيه عن التوجه إلى المشرق والمغرب من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل ولكن البر هو التوجه إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب فى الحقيقة (وَالْمَلائِكَةِ) أى وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه بإلقاء الوحى وإنزال الكتب (وَالْكِتابِ) أى بجنس الكتاب الذى من أفراده الفرقان الذى نبذوه وراء ظهورهم وفيه تعريض بكتمانهم نعوت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا (وَالنَّبِيِّينَ) جميعا من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين ووجه توسيط الكتاب بين حملة الوحى وبين النبيين واضح وسيأتى فى قوله تعالى (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) حال من الضمير فى آتى والضمير المجرور للمال أى آتاه كائنا على حب المال كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل أى الصدقة أفضل أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح وقول ابن مسعود رضى الله عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقيل الضمير لله تعالى أى آتاه كائنا على محبته تعالى لا على قصد الشر والفساد ففيه نوع تعريض لباذلى الرشى وآخذيها لتغيير التوراة وقيل للمصدر أى كائنا على حب الإيتاء (ذَوِي الْقُرْبى) مفعول أول لآتى قدم عليه مفعوله الثانى أعنى المال للاهتمام به أو لأن فى الثانى مع ما عطف عليه طولا لوروعى الترتيب لفات تجاوب الأطراف

١٩٣

فى الكلام وهو الذى اقتضى تقديم الحال أيضا وقيل هو المفعول الثانى (وَالْيَتامى) أى المحاويج منهم على ما يدل عليه الحال وتقديم ذوى القربى عليهم لما أن إيتاءهم صدقة وصلة (وَالْمَساكِينَ) جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الخلة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون إلى الناس (وَابْنَ السَّبِيلِ) أى المسافر سمى به لملازمته إياه كما سمى القاطع ابن الطريق وقيل الضيف (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأتهم الحاجة والضرورة إلى السؤال قال عليه الصلاة والسلام أعطوا السائل ولو جاء على فرس (وَفِي الرِّقابِ) أى وضعه فى فك الرقاب بمعاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل فى فك الأسارى وقيل فى ابتياع الرقاب وإعتاقها وأيا ما كان فالعدول عن ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أوتوا كما فى الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما فى الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم فى الاستحقاق والحاجة لما أن فى للظرفية المنبئة عن محليتهم لما يؤتى (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أى المفروضة منها (وَآتَى الزَّكاةَ) أى المفروضة على أن المراد بما مر من إيتاء المال التنفل بالصدقات قدم على الفريضة مبالغة فى الحث عليه أو المراد بهما المفروضة والأول لبيان المصارف والثانى لبيان وجوب الأداء (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) عطف على من آمن فإنه فى قوة أن يقال ومن أوفوا بعهدهم وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء والمراد بالعهد ما لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما من العهود الجارية فيما بين الناس وقوله تعالى (إِذا عاهَدُوا) للإيذان بعدم كونه من ضروريات الدين (وَالصَّابِرِينَ) نصب على الاختصاص غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته وهو فى الحقيقة معطوف على ما قبله. قال أبو على إذا ذكرت صفات للمدح أو الذم فخولف فى بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان ويسمى ذلك قطعا لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب فى استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه كما مر فى صدر السورة وقد قرىء والصابرون كما قرىء والموفين (فِي الْبَأْساءِ) أى فى الفقر والشدة (وَالضَّرَّاءِ) أى المرض والزمانة (وَحِينَ) (الْبَأْسِ) أى وقت مجاهدة العدو فى مواطن الحرب وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا وسرعة انقضائه (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالنعوت الجميلة المعدودة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من التنبيه على علو طبقتهم وسمو رتبتهم (الَّذِينَ صَدَقُوا) أى فى الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآية الكريمة كما ترى حاوية لجميع الكمالات البشرية برمتها تصريحا أو تلويحا لما أنها مع تكثر فنونها وتشعب شجونها منحصرة فى خلال ثلاث صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة مع العباد وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأولى بالإيمان بما فصل وإلى الثانية بإيتاء المال وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وصف الحائزون لها بالصدق نظرا إلى إيمانهم واعتقادهم وبالتقوى اعتبارا بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

١٩٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)

____________________________________

عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافى لما فرط من المخلين بما ذكر من أصول الدين وقواعده التى عليها بنى أساس المعاش والمعاد (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أى فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يقدح فيه قدرة الولى على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) أى بسبب قتلهم كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن امرأة دخلت النار فى هرة ربطتها أى بسبب ربطها إياها (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) كان فى الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فأمرهم أن يتبوءوا وليس فيها دلالة على عدم قتل الحر بالعبد عند الشافعى أيضا لأن اعتبار المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجه سوى اختصاص الحكم بالمنطوق وقد رأيت الوجه ههنا وإنما يتمسك فى ذلك هو ومالك رحمهما‌الله بما روى على رضى الله عنه أن رجلا قتل عبده فجلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفاه سنة ولم يقده وبما روى عنه رضى الله عنه أنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بذى عهد ولا حر بعبد وبأن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير وبالقياس على الأطراف وعندنا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فإن شريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ولأن القصاص يعتمد المساواة فى العصمة وهى بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما وقرىء كتب على البناء للفاعل ونصب القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أى شىء من العفو لأن عفا لازم وفائدته الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كله فى إسقاط القصاص وهو الواقع أيضا فى العادة إذ كثيرا ما يقع العفو من بعض الأولياء فهو شىء من العفو وقيل معنى عفى ترك وشىء مفعول به وهو ضعيف إذ لم يثبت عفاه بمعنى تركه بل أعفاه وحمل العفو على المحو كما فى قول من قال [ديار عفاها جور كل معاند] وقوله[عفاها كل حنان كثير الوبل هطال] فيكون المعنى فمن محى له من أخيه شىء صرف للعبارة المتدوالة فى الكتاب والسنة عن معناها المشهور المعهود إلى ما ليس بمعهود فيهما وفى استعمال الناس فإنهم لا يستعملون العفو فى باب الجنايات إلا فيما ذكر من قبل وعفا يعدى بعن إلى الجانى والذنب قال تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقال (عَفَا اللهُ عَنْها) فإذا تعدى إلى الذنب قيل عفوت لفلان عما جنى كأنه قيل فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم وإيراده بعنوان الأخوة الثابتة بينهما بحكم كونهما من بنى آدم عليه‌السلام لتحريك سلسلة الرقة والعطف عليه (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فالأمر اتباع أو فليكن اتباع والمراد

١٩٥

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

____________________________________

وصية العافى بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعسف وقوله عزوجل (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) حث للمعفو عنه على أن يؤديها بإحسان من غير مماطلة وبخس (ذلِكَ) أى ما ذكر من الحكم (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما فيه من التسهيل والنفع وقيل كتب على اليهود القصاص وحده وحرم عليهم العفو والدية وعلى النصارى العفو على الإطلاق وحرم عليهم القصاص والدية وخيرت هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية (فَلَهُ) باعتدائه (عَذابٌ أَلِيمٌ) أما فى الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق وأما فى الآخرة فبالنار (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته حيث جعل الشىء محلا لضده وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن فى هذا الجنس نوعا من الحياة عظيما لا يبلغه الوصف وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثانى تخصيص وقيل المراد بالحياة هى الأخروية فإن القاتل إذا اقتص منه فى الدنيا لم يؤاخذ به فى الآخرة والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له أو حال من المستكن فيه وقرىء فى القصص أى فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو فى القرآن حياة للقلوب (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أى ذوى العقول الخالصة عن شوب الأوهام خوطبوا بذلك بعد ما خوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطا لهم إلى التأمل فى حكمة القصاص (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى تقون أنفسكم من المساهلة فى أمره والإهمال فى المحافظة عليه والحكم به والإذعان له أو فى القصاص فتكفوا عن القتل المؤدى إليه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) بيان لحكم آخر من الأحكام المذكورة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أى حضر أسبابه وظهر أماراته أو دنا نفسه من الحضور وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أى مالا وقيل مالا كثيرا لما روى عن على رضى الله عنه أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة درهم فمنعه وقال قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشىء يسير فاتركه لعيالك وعن عائشة رضى الله عنها أن رجلا أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار فقالت ما أرى فيه فضلا وأراد آخر أن يوصى فسألته كم مالك فقال ثلاثة آلاف درهم قالت كم عيالك قال أربعة قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشىء يسير فاتركه لعيالك (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع بكتب أخر عما بينهما لما مر مرار وإيثار تذكير الفعل مع جواز تأنيثه أيضا للفصل أو على تأويل أن يوصى أو الإيصاء ولذلك ذكر الضمير فى قوله تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وإذا ظرف محض والعامل فيه كتب لكن لا من حيث

١٩٦

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٨١)

____________________________________

صدور الكتب عنه تعالى بل من حيث تعلقه بهم تعلقا فعليا مستتبعا لوجوب الأداء كما ينبئ عنه البناء للمفعول وكلمة الإيجاب ولا مساغ لجعل العامل هو الوصية لتقدمه عليها وقيل هو مبتدأ خبره (لِلْوالِدَيْنِ) والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كما فى قوله [من يفعل الحسنات الله يشكرها] ورد بأنه إن صح فمن ضرورة الشعر ومعنى كتب فرض وكان هذا الحكم فى بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آية المواريث بقوله عليه‌السلام إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه ألا لا وصية لوارث فإنه وإن كان من أخبار الآحاد لكن حيث تلقته الأمة بالقبول انتظم فى سلك المتواتر فى صلاحيته للنسخ عند ائمتنا على أن التحقيق أن الناسخ حقيقة هى آية المواريث وإنما الحديث مبين لجهة نسخها ببيان أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير أنصبائهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال (بِالْمَعْرُوفِ) أى بالعدل فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات وأعطى كل ذى حق منهم حقه الذى يبستحقه بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة ولم يدع ثمة شيئا فيه مدخل لرأيكم أصلا حسبما يعرب عنه الجملة المنفية بلا النافية للجنس وتصديرها بكلمة التنبيه إذا تحققت هذا ظهر لك أن ما قيل من أن آية المواريث لا تعارضه بل تحققه وتؤكده من حيث أنها تدل على تقديم الوصية مطلقا والحديث من الآحاد وتلقى الأمة إياه بالقبول لا يلحقه بالمتواتر ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله عزوجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ) أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم بمعزل من التحقيق وكذا ما قيل من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للانصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المراد منه هذه الوصية التى كانت واجبة كأنه قيل إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم فإن مدلول آية الوصية حيث كان تفويضا للأمر إلى آراء المكلفين على الإطلاق وتسنى الخروج عن عهدة التكليف بأداء ما أدى إليه آراؤهم بالمعروف فتكون آية المواريث الناطقة بمراتب الاستحقاق وتفاصيل مقادير الحقوق القاطعة بامتناع الزيادة والنقص بقوله تعالى (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ناسخة لها رافعة لحكمها مما لا يشتبه على أحد وقوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد أى حق ذلك حقا (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أى غيره من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أى بعد ما وصل إليه وتحقق لديه (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أى إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ووضع الموصول فى موضع الضمير الراجع إلى من لتأكيد الإيذان بعلية ما فى حيز الصلة الأولى وإيثار الجمع للإشعار بتعداد المبدلين أنواعا أو كثرتهم أفرادا والإيذان بشمول الإثم لجميع الأفراد (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد شديد للمبدلين

١٩٧

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)

____________________________________

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) أى توقع وعلم من قولهم أخاف أن يرسل السماء وقرىء من موص (جَنَفاً) أى ميلا بالخطأ فى الوصية (أَوْ إِثْماً) أى تعمدا للجنف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أى بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعة الشريفة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أى فى هذا التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار مزيد الاعتناء والصيام والصوم فى اللغة الإمساك عما تنزع إليه النفس ومنه قوله تعالى (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ) الآية وقيل هو الإمساك عن الشىء مطلقا ومنه صامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب والفرس إذا أمسكت عن العدو قال[خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما] وفى الشريعة هو الإمساك نهارا مع النية عن المفطرات المعهودة التى هى معظم ما تشتهيه الأنفس (كَما كُتِبَ) فى حيز النصب على أنه نعت للمصدر المؤكد أى كتابا كائنا كما كتب أو على أنه حال من المصدر المعرفة أى كتب عليكم الصيام الكتب مشبها بما كتب فما على الوجهين مصدرية أو على أنه نعت لمصدر من لفظ الصيام أى صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم فما موصولة أو على أنه حال من الصيام أى حال كونه مماثلا لما كتب (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه‌السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين به فإن الشاق إذا عم سهل عمله والمراد بالمماثلة إما المماثلة فى أصل الوجوب وإما فى الوقت والمقدار كما يروى أن صوم رمضان كان مكتوبا على اليهود والنصارى أما اليهود فقد تركته وصامت يوما من السنة زعموا أنه يوم غرق فرعون وكذبوا فى ذلك فإنه كان يوم عاشوراء وأما النصارى فإنهم صاموا رمضان حتى صادفوا حرا شديدا فاجتمعت آراء علمائهم على تعيين فصل واحد بين الصيف والشتاء فجعلوه فى الربيع وزادوا عليه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين ثم مرض ملكهم أو وقع فيهم موتان فزادوا عشرة أيام فصار خمسين (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى المعاصى فإن الصوم يكسر الشهوة الداعية إليها كما قال عليه الصلاة والسلام فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء أو تتقون الإخلال بأدائه لأصالته أو تصلون بذلك إلى رتبة التقوى. (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا والمراد بها إما رمضان أو ما وجب فى بدء الإسلام ثم نسخ به من صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وانتصابه

١٩٨

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

____________________________________

ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبى بل بمضمر دل هو عليه أعنى صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا وقيل بقوله تعالى (كُتِبَ) على أحد الوجهين وفيه أن الأيام ليست محلا له بل للمكتوب فلا تتحقق الظرفية ولا المفعولية المتفرعة عليها اتساعا (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أى مرضا يضره الصوم أو يعسر معه (أَوْ عَلى سَفَرٍ) مستمرين عليه وفيه تلويح ورمز إلى أن من سافر فى أثناء اليوم لم يفطر (فَعِدَّةٌ) أى فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إن أفطر فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور وقرىء بالنصب أى فليصم عدة وهذا على سبيل الرخصة وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضى الله عنه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أى وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا (فِدْيَةٌ) أى إعطاء فدية وهى (طَعامُ مِسْكِينٍ) وهو نصف صاع من بر أو من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز وكان ذلك فى بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم فى الإفطار والفدية وقرىء يطيقونه أى يكلفونه أو يقلدونه ويتطوقونه ويطوقونه بإدغام التاء فى الطاء ويطيقونه ويطيقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطوقونه ويتطوقونه من فعيل وتفعيل من الطوق فأدغمت الياء فى الواو بعد قلبها ياء كقولهم تدبر المكان وما بها ديار وفيه وجهان أحدهما نحو معنى يطيقونه والثانى يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز وحكم هؤلاء الإفطار والفدية وهو حينئذ غير منسوخ ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أى يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد فى الفدية (فَهُوَ) أى التطوع أو الخير الذى تطوعه (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وتحملوا على أنفسكم وتجهدوا طاقتكم أو المرخصون فى الإفطار من المرضى والمسافرين (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو من تطوع الخير أو منهما أو من التأخير إلى أيام أخر والالتفات إلى الخطاب للهزو التنشيط (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى ما فى صومكم مع تحقق المبيح للإفطار من الفضيلة والجواب محذوف ثقة بظهوره أى اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبير علمتم أن الصوم خير من ذلك (شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ سيأتى خبره أو خبر لمبتدأ محذوف أى ذلك شهر رمضان أو بدل من الصيام على حذف المضاف أى صيام شهر رمضان وقرىء بالنصب على إضمار صوموا أو على أنه مفعول تصوموا أو بدل من أياما معدودات ورمضان مصدر رمض أى احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل ابن دأية للغراب فقوله عليه‌السلام من صام رمضان الحديث وأراد على حذف المضاف للأمن من الالتباس وإنما سمى بذلك إما لارتماضهم فيه من الجوع والعطش أو لارتماض الذنوب بالصيام فيه أو لوقوعه فى أيام رمض الحر عند

١٩٩

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)

____________________________________

نقل اسماء الشهور عن اللغة القديمة (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) خبر للمبتدأ على الوجه الأول وصفة لشهر رمضان على الوجوه الباقية ومعنى إنزاله فيه أنه ابتدى إنزاله فيه وكان ذلك ليلة القدر أو أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئة الربانية أو أنزل فى شأنه القرآن وهو قوله عزوجل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة منه والقرآن لأربع وعشرين (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من القرآن أى أنزل حال كونه هدية للناس بما فيه من الإعجاز وغيره وآيات واضحة مرشدة إلى الحق فارقة بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أى حضر فيه ولم يكن مسافرا ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة فى البيان والفاء للتفريع والترتيب أو لتضمن المبتدأ معنى الشرط أو زائدة على تقدير كون شهر رمضان مبتدأ والموصول صفة له وهذه الجملة خبر له وقيل هى جزائية كأنه قيل لما كتب عليكم الصيام فى ذلك الشهر فمن حضر فيه (فَلْيَصُمْهُ) أى فليصم فيه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور اتساعا وقيل من شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنه مفعول به كقولك شهدت الجمغة أى صلاتها فيكون ما بعده مخصصا له كأنه قيل (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) وإن كان مقيما حاضرا فيه (أَوْ عَلى سَفَرٍ) وإن كان صحيحا (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أى فعليه صيام أيام أخر لأن المريض والمسافر ممن شهد الشهر ولعل التكرير لذلك أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه (يُرِيدُ اللهُ) بهذا الترخيص (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) لغاية رأفته وسعة رحمته (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لفعل محذوف يدل عليه ما سبق أى ولهذه الأمور شرع ما مر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص لهم بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص فى إباحة الفطر فقوله تعالى (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة و (لِتُكَبِّرُوا) علة ما علمه من كيفية القضاء و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير وتعدية فعل التكبير بعلى لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ويجوز أن تكون معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ ويجوز عطفها على (الْيُسْرَ) أى يريد بكم لتكملوا الخ كقوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) إلخ والمعنى بالتكبير تعظيمه تعالى بالحمد والثناء عليه وقيل تكبير يوم العيد وقيل التكبير عند الإهلال وما تحتمل المصدرية والموصولة أى على هدايته إياكم أو على الذى هداكم إليه وقرىء ولتكملوا بالتشديد (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) فى تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من تشريفه ورفع محله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أى فقل لهم إنى قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه روى أن أعرابيا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت (أُجِيبُ دَعْوَةَ

٢٠٠