تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٢)

____________________________________

بالتشديد للتكثير لأن المسالك كانت انثى عشر بعدد الأسباط (فَأَنْجَيْناكُمْ) أى من الغرق بإخراجكم إلى الساحل كما يلوح به العدول إلى صيغة الأفعال بعد إيراد التخليص من فرعون بصيغة التفعيل وكذا قوله تعالى (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أريد فرعون وقومه وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم وقيل شخصه كما روى أن الحسن رضى الله عنه كان يقول اللهم صل على آل محمد أى شخصه واستغنى بذكره عن ذكر قومه. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك أو غرقهم وإطباق البحر عليهم أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة أو جثثهم التى قذفها البحر إلى الساحل أو ينظر بعضكم بعضا روى أنه تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يسرى ببنى إسرائيل فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده وصادفوهم على شاطئ البحر فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بها فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا نخاف أن يغرق بعض أصحابنا فلا نعلم ففتح الله تعالى فيها كوى فتراءوا وتسامعوا حتى عبروا البحر فلما وصل إليه فرعون فرآه منفلقا اقتحمه هو وجنوده فغشيهم ما غشيهم واعلم أن هذه الواقعة كما أنها لموسى معجزة عظيمة تخر لها أطم الجبال ونعمة عظيمة لأوائل بنى إسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هى عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالإذعان فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروابتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها. (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لما عادوا إلى مصر بعد مهلك فرعون وعد الله موسى عليه‌السلام أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة وقيل وعد عليه‌السلام بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذى القعدة ثم زاد عشرا من ذى الحجة وعبر عنها بالليالى لأنها غرر الشهور وصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثى وقيل على أصلها تنزيلا لقبول موسى عليه‌السلام منزلة الوعد وأربعين ليلة مفعول ثان لواعدنا على حذف المضاف أى بمقام أربعين ليلة وقرىء وعدنا. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) بتسويل السامرى إلها ومعبودا وثم للتراخى الرتبى (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد مضيه إلى الميقات على حذف المضاف. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم ووضعكم للشىء فى غير موضعه وهو حال من ضمير اتخذتم أو اعتراض تذييلى أى وأنتم قوم عادتكم الظلم. (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) حين تبتم والعفو محو الجريمة من عفاه درسه وقد يجىء لازما قال[عرفت المنزل الخالى عفا من بعد أحوال] [عفاه كل هتان كثير الوبل هطال] وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد الاتخاذ الذى هو متناه فى القبح للإيذان بكمال بعد العفو بعد تلك المرتبة من الظلم. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكى تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.

١٠١

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

____________________________________

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) أى التوراة الجامعة بين كونها كتابا وحجة تفرق بين الحق والباطل وقيل أريد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل فى الدعوى أو بين الكفر والإيمان وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام أو النصر الذى فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يريد به يوم بدر. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكى تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) بيان لكيفية وقوع العفو المذكور. (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أى معبودا. (فَتُوبُوا) أى فاعزموا على التوبة. (إِلى بارِئِكُمْ) أى إلى من خلقكم بريئا من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة وأصل التركيب الخلوص عن الغير إما بطريق التفصى كما فى برىء المريض أو بطريق الإنشاء كما فى برأ الله آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيت تركوا عبادة العليم الحكيم الذى خلقهم بلطيف حكمته بريئا من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر الذى هو مثل فى الغباوة وأن من لم يعرف حقوق منعمه حقيق بأن تستردهى منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تماما لتوبتكم بالبخع أو بقطع الشهوات وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا وقيل أمر من لم يعبد العجل بقتل من عبده. يروى أن الرجل كان يرى قريبه فلم يقدر على المضى لأمر الله تعالى فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون بها فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشى حتى دعا موسى وهارون عليهما‌السلام فكشفت السحابة ونزلت التوبة وكانت القتلى سبعين ألفا والفاء الأولى للتسبيب والثانية للتعقيب (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من التوب والقتل. (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) لما أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على محذوف على أنه خطاب منه سبحانه على نهج الالتفات من التكلم الذى يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه فإن مبنى الجميع على التكلم إلى الغيبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعل إلى ضمير بارئكم المستتبع للإيذان بعلية عنوان البارئية والخلق والإحياء لقبول التوبة التى هى عبارة عن العفو عن القتل تقديره فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم وإنما لم يقل فتاب عليهم على أن الضمير للقوم لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم. هذا وقد جوز أن يكون فتاب عليكم متعلقا بمحذوف على أنه من كلام موسى عليه‌السلام لقومه تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ولا يخفى أنه بمعزل من اللياقة بجلالة شأن التنزيل كيف لا وهو حينئذ حكاية لوعد موسى عليه‌السلام قومه بقبول التوبة منه تعالى لا لقبوله تعالى حتما وقد عرفت أن الآية الكريمة تفصيل لكيفية القبول المحكى فيما قبل وأن المراد تذكير المخاطبين بتلك النعمة. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل

١٠٢

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

____________________________________

لما قبله أى الذى يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويبالغ فى قبولها منهم وفى الإنعام عليهم. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) تذكير لنعمة أخرى عليهم بعد ما صدر عنهم ما صدر من الجناية العظيمة التى هى اتخاذ العجل أى لن نؤمن لأجل قولك ودعوتك أو لن نقرلك والمؤمن به إعطاء الله إياه التوراة أو تكليمه إياه أو أنه نبى أو أنه تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أى عيانا وهى فى الأصل مصدر قولك جهرت بالقراءة استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد فى الوضوح والانكشاف إلا أن الأول فى المسموعات والثانى فى المبصرات ونصبها على المصدرية لأنها نوع من الرؤية أو حال من الفاعل أو المفعول وقرىء بفتح الهاء على أنها مصدر كالغلبة أو جمع كالكتبة فيكون حالا من الفاعل لا غير والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبة عن عبادة العجل روى أنهم لما ندموا على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين أمر الله موسى عليه‌السلام أن يجمع سبعين رجلا ويحضر معهم الطور يظهرون فيه تلك التوبة فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمود من الغمام وتغشاه كله فكلم الله موسى عليه‌السلام يأمره وينهاه وكان كلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى عليه‌السلام افعل ولا تفعل فعند ذلك طمعوا فى الرؤية فقالوا ما قالوا كما سيأتى فى سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وقيل عشرة آلاف من قومه (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الأجسام وتتعلق به الرؤية تعلقها بها على طريق المقابلة فى الجهات والأحياز ولا ريب فى استحالته إنما الممكن فى شأنه تعالى الرؤية المنزهة عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمنين فى الآخرة وللأفراد من الأنبياء الذين بلغوا فى صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم وهم فى جلابيب من أبدائهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس فى بعض الأحوال فى الدنيا قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم وقيل صيحة وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة وعن وهب أنهم لم يموتوا بل لما رأوا تلك الهيئة الهائلة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك بكى موسى عليه‌السلام ودعا ربه فكشف الله عزوجل عنهم ذلك فرجعت إليهم عقولهم ومشاعرهم ولم تكن صعقة موسى عليه‌السلام موتا بل غشية لقوله تعالى (فَلَمَّا أَفاقَ (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أى ما أصابكم بنفسه أو بآثاره (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بتلك الصاعقة قيد البعث به لما أنه قد يكون من الإغماء وقد يكون من النوم كما فى قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ) الخ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أى نعمة البعث أو ما كفرتموه بما رأيتم من بأس الله تعالى (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أى جعلناها بحيث تلقى عليكم ظلها وذلك أنه تعالى سخر

١٠٣

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)(٥٨)

____________________________________

لهم السحاب يسير بسيرهم وهم فى التيه يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون فى ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أى الترنجبين والسمانى وقيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع وتبعث الجنوب عليهم السمانى فيذبح الرجل منه ما يكفيه (فَكُلُوا) على إرادة القول أى قائلين لهم أو قيل لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من مستلذاته وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى (وَما ظَلَمُونا) كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غنى عن التصريح به أى فظلموا بأن كفروا تلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران إذ لا يتخطاهم ضرره وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذى يقتضيه النفى السابق وفيه ضرب تهكم بهم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على تماديهم فى الظلم واستمرارهم على الكفر (وَإِذْ قُلْنَا) تذكير لنعمة أخرى من جنابه تعالى وكفرة أخرى لأسلافهم أى واذكروا وقت قولنا لآبائكم أثر ما أنقذناهم من التيه (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) منصوبة على الظرفية عند سيبويه وعلى المفعولية عند الأخفش وهى بيت المقدس وقيل أريحاء (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أى واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين وفيه دلالة على أن المأمور به الدخول على وجه الإقامة والسكنى فيؤول إلى ما فى سورة الأعراف من قوله تعالى (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). (وَادْخُلُوا الْبابَ) أى باب القرية على ما روى من أنهم دخلوا أريحاء فى زمن موسى عليه‌السلام كما سيجئ فى سورة المائدة أو باب القبة التى كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس فى حياة موسى عليه‌السلام (سُجَّداً) أى متطامنين مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه. (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أى مسئلتنا أو أمرك حطة وهى فعلة من الحط كالجلسة وقرىء بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة أو على أنها مفعول قولوا أى قولوا هذه الكلمة وقيل معناه أمرنا حطة أى أن نحط رحالنا فى هذه القرية ونقيم بها (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) لما تفعلون من السجود والدعاء وقرىء بالياء والتاء على البناء للمفعول وأصل خطايا خطايىء كخضايع فعند سيبويه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا جعل الامتثال توبة للمسىء وسببا لزيادة الثواب للمحسن وأخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذانا بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه يفعله لا محالة.

١٠٤

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

____________________________________

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بما أمروا به من التوبة والاستغفار بأن أعرضوا عنه وأوردوا مكانه (قَوْلاً) آخر مما لا خير فيه روى أنهم قالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا يعنون حنطة حمراء استخفافا بأمر الله عزوجل (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) نعت لقولا وإنما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على المغايرة من كل وجه (فَأَنْزَلْنا) أى عقيب ذلك (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بما ذكر من التبديل وإنما وضع الموصول موضع الضمير العائد إلى الموصول الأول للتعليل والمبالغة فى الذم والتقريع وللتصريح بأنهم بما فعلوا قد ظلموا أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أى عذابا مقدرا منها والتنوين للتهويل والتفخيم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم المستمر حسبما يفيده الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل وتعليل إنزال الرجز به بعد الإشعار بتعليله بظلمهم للإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو فى الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوه من القبائح لا بعدم توبتهم فقط كما يشعر به ترتيبه على ذلك بالفاء والرجز فى الأصل ما يعاف عنه وكذلك الرجس وقرىء بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون روى أنه مات به فى ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) تذكير لنعمة أخرى كفروها وكان ذلك فى التيه حين استولى عليهم العطش الشديد وتغيير الترتيب لما أشير إليه مرارا من قصد إبراز كل من الأمور المعدودة فى معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر ولو روعى الترتيب الوقوعى لفهم أن الكل أمر واحد أمر بذكره واللام متعلقة بالفعل أى استسقى لأجل قومه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) روى أنه كان حجرا طوريا مكعبا حمله معه وكان ينبع من كل وجه منه ثلاث أعين يسيل كل عين فى جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنى عشر ميلا أو كان حجرا أهبطه الله تعالى مع آدم عليه‌السلام من الجنة ووقع إلى شعيب عليه‌السلام فأعطاه موسى عليه‌السلام مع العصا أو كان هو الحجر الذى فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله تعالى به عما رموه به من الأدرة فأشار إليه جبريل عليه‌السلام أن يحمله أو كان حجرا من الحجارة وهو الأظهر فى الحجة قيل لم يؤمر عليه‌السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها حمل حجرا فى مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجر ويضربه إذا ارتحل فييبس فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشا فأوحى الله تعالى إليه أن لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون وقيل كان الحجر من رخام حجمه ذراع فى ذراع والعصا عشرة أذرع على طوله عليه‌السلام

١٠٥

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

____________________________________

من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان فى الظلمة (فَانْفَجَرَتْ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام قد حذف للدلالة على كمال سرعة تحقق الانفجار كأنه حصل عقيب الأمر بالضرب أى فضرب فانفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) وأما تعلق الفاء بمحذوف أى فإن ضربت فقد انفجرت فغير حقيق بجلالة شأن النظم الكريم كما لا يخفى على أحد وقرىء عشرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضا لغتان (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط (مَشْرَبَهُمْ) عينهم الخاصة بهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) على إرادة القول (مِنْ رِزْقِ اللهِ) هو ما رزقهم من المن والسلوى والماء وقيل هو الماء وحده لأنه يؤكل ما ينبت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمور به أكل النعمة العتيدة لا ما سيطلبونه وإضافته إليه تعالى مع استناد الكل إليه خلقا وملكا إما للتشريف وإما لظهوره بغير سبب عادى وإنما لم يقل من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى (فَقُلْنَا) الخ إيذانا بأن الأمر بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخطاب بل بواسطة موسى عليه‌السلام (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) العثى أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا فى الفساد حال كونكم (مُفْسِدِينَ) وقيل إنما قيد به لأن العثى فى الأصل مطلق التعدى وإن غلب فى الفساد وقد يكون فى غير الفساد كما فى مقابلة الظالم المعتدى بفعله وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر عليه‌السلام للغلام وخرقه للسفينة ونظيره العبث خلا أنه غالب فيما يدرك حسا (وَإِذْ قُلْتُمْ) تذكير لجناية أخرى لأسلافهم وكفرانهم لنعمة الله عزوجل وإخلادهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسة وإسناد القول المحكى إلى أخلاقهم وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) لعلهم لم يريدوا بذلك جمع ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالها وحصول ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرض للوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارة وذاك أخرى. روى أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية واطرادها وتاقت أنفسهم إلى الشقاء (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أى سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدم الصبر المدعاء والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادى الإجابة (يُخْرِجْ لَنا) أى يظهر لنا ويوجد والجزم لجواب الأمر (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) إسناد مجازى بإقامة القابل مقام الفاعل ومن تبعيضية والتى فى قوله تعالى (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) بيانية واقعة موقع الحال أى كائنا من بقلها الخ وقيل بدل بإعادة الجار والبقل ما تنبت الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التى تؤكل كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها والفوم الحنطة وقيل الثوم وقرىء قثائها بضم القاف وهو لغة فيه (قالَ) أى الله تعالى أو موسى عليه‌السلام

١٠٦

إنكارا عليهم وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال (أَتَسْتَبْدِلُونَ) أى أتأخذون لأنفسكم وتختارون (الَّذِي هُوَ أَدْنى) أى أقرب منزلة وأدون قدرا سهل المنال وهين الحصول لعدم كونه مرغوبا فيه وكونه تافها مرذولا قليل القيمة وأصل الدنو القرب فى المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة فقيل بعيد المحل وبعيد الهمة وقرىء أدنأ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أى بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الذاهب الزائل دون الآتى الحاصل كما فى التبديل فى مثل قوله عزوجل (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) وقوله (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) وليس فيه ما يدل قطعا على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى بالمرة وحصول ما لمبوا مكانه لتحقق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة (اهْبِطُوا مِصْراً) أمروا به بيانا لدناءة مطلبهم أو إسعافا لمرامهم أى انحدروا إليه من التيه يقال هبط الوادى وقرىء بضم الباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين وقيل أريد به العلم وإنما صرف لسكون وسطه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ويؤيده أنه فى مصحف ابن مسعود رضى الله عنه غير منون وقيل أصله مصراييم فعرب (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) تعليل للأمر بالهبوط أى فإن لكم فيه ما سألتموه ولعل التعبير عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل فإنه كثير فيه مبتذل يناله كل أحد بغير مشقة (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أى جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقتابهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم من ضرب الطين على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية واليهود فى غالب الأمر أذلاء مساكين إما على الحقيقة وإما لخوف أن تضاعف جزيتهم (وَباؤُ) أى رجعوا (بِغَضَبٍ) عظيم وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف هو صفة لغضب مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى بغضب كائن من الله تعالى أو صاروا أحقاء به من قولهم باء فلان بفلان أى صار حقيقا بأن يقتل بمقابلته ومنه قول من قال بؤبشسع نعل كليب وأصل البوء المساواة (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ) على الاستمرار (بِآياتِ اللهِ) الباهرة التى هى المعجزات الساطعة الظاهرة على يدى موسى عليه‌السلام مما عد وما لم يعد (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) كشعيا وزكريا ويحيى عليهم‌السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحد منهم عليهم‌السلام وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى والغلو فى العصيان والاعتداء كما يفصح عنه قوله تعالى (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أى جرهم العصيان والتمادى فى العدوان إلى ما ذكر من الكفر وقتل الأنبياء عليهم‌السلام فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحرى كبارها وقيل كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما أنه بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصى واعتدائهم حدود الله تعالى وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدد بالمفرد بتأويل ما ذكر أو تقدم كما فى قول رؤبة بن العجاج[فيها خطوط من سواد وبلق كأنه فى الجلد توليع البهق] أى كان ما ذكر والذى حسن ذلك فى المضمرات والمبهمات

١٠٧

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

____________________________________

أن تثنيتها وجمعها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذى بمعنى الذين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينة انتظامهم فى سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا (وَالَّذِينَ هادُوا) أى تهودوا من هاد إذا دخل فى اليهودية ويهود إما عربى من هاد إذا تاب سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخصوا به لما كانت توبتهم توبة هائلة وإما معرب يهوذا كأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام (وَالنَّصارى) جمع نصران كندامى جمع ندمان يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء فى نصرانى للمبالغة كما فى أحمرى سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام أو لأنهم كانوا معه فى قرية يقال لها نصران فسموا باسمها أو نسبوا إليها والياء للنسبة وقال الخليل واحد النصارى نصرى كمهرى ومهارى (وَالصَّابِئِينَ) هم قوم بين النصارى والمجوس وقيل أصل دينهم دين نوح عليه‌السلام وقيل هم عبدة الملائكة وقيل عبدة الكواكب فهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج من دين إلى آخر وقرىء بالياء إما للتخفيف وإما لأنه من صبأ إذا مال لما أنهم مالوا من سائر الأديان إلى ما هم فيه أو من الحق إلى الباطل (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر (فَلَهُمْ) بمقابلة ذلك (أَجْرُهُمْ) الموعود لهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى مالك أمرهم ومبلغهم إلى كمالهم اللائق فمن إما فى محل الرفع على الابتداء خبره جملة فلهم أجرهم والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط كما فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) الآية وجمع الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما فى الصلة باعتبار لفظه والجملة كما هى خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أى من آمن منهم الخ وإما فى محل النصب على البدلية من اسم إن وما عطف عليه وخبرها فلهم أجرهم وعند متعلق بما تعلق به لهم من معنى الثبوت وفى إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت مأمون من الفوات (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) عطف على جملة فلهم أجرهم أى لا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما مر من أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام هذا وقد قيل المراد بالذين آمنوا المتدينون بدين الإسلام المخلصون منهم والمنافقون فحينئذ لابد من تفسير من آمن بمن اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين فى الإيمان ببيان أن تأخيرهم

١٠٨

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

____________________________________

فى الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين فى استحقاق الأجر وما يتبعه من الأمن الدائم وأما ما قيل فى تفسيره من كان منهم فى دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلا لأن مقتضى المقام هو الترغيب فى دين الإسلام وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه فلا ملابسة له بالمقام قطعا بل ربما يخل بمقتضاه من حيث دلالته على حقيته فى زمانه فى الجملة على أن المنافقين والصابئين لا يتسنى فى حقهم ما ذكر أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمر بين وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخ ليسوا بمنافقين وأما الصابئون فليس لهم دين يجوز رعايته فى وقت من الأوقات ولو سلم أنه كان لهم دين سماوى ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه فليسوا من الصابئين فكيف يمكن ارجاع الضمير الرابط بين اسم إن وخبرها إليهم أو إلى المنافقين وارتكاب إرجاعه إلى مجموع الطوائف من حيث هو مجموع لا إلى كل واحدة منها قصدا إلى درج الفريق المذكور فيه ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله على أن المخلصين مع اندارجهم فى حيز اسم إن ليس لهم فى حيز خبرها عين ولا أثر فتأمل وكن على الحق المبين (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) تذكير لجناية أخرى لأسلافهم أى واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما فى التوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) عطف على قوله أخذنا أو حال أى وقد رفعنا فوقكم الطور كأنه ظلة. روى أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فأبوا قبولها فأمر جبريل عليه‌السلام فقلع الطور فظلله عليهم حتى قبلوا (خُذُوا) على إرادة القول (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أى احفظوه ولا تنسوه أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب أو اعملوا به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكى تتقوا المعاصى أو لتنجوا من هلاك الدارين أو رجاء منكم أن تنتظموا فى سلك المتقين أو طلبا لذلك وقد مر تحقيقه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أى أعرضتم عن الوفاء بالميثاق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى المغبونين بالانهماك فى المعاصى والخبط فى مهاوى الضلال عند الفترة وقيل لو لا فضل تعالى عليكم بالإمهال وتأخير العذاب لكنتم من الهالكين وهو الأنسب بما بعده وكلمة لو لا إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وحرف النفى ومعناها امتناع الشىء لوجود غيره كما أن لو لامتناعه لامتناع غيره والاسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب

١٠٩

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٦٧)

____________________________________

مسده والتقدير لو لا فضل الله حاصل وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أى لو لا ثبت فضل الله تعالى عليكم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أى عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) روى أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتجردوا لها ويتركوا الصيد فاعتدى فيه أناس منهم فى زمن داود عليه‌السلام فاشتغلوا بالصيد وكانوا يسكنون قرية بساحل البحر يقال لها أيلة فإذا كان يوم السبت لم يبق فى البحر حوت إلا برز وأخرج خرطومه فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد فالمعنى وبالله لقد علمتموهم حين فعلوا من قبيل جناياتكم ما فعلوا فلم نمهلهم ولم نؤخر عقوبتهم بل عجلناها (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أى جامعين بين صورة القردة والخسوء وهو الطرد والصغار على أن خاسئين نعت لقردة وقيل حال من اسم كونوا عند من يجيز عمل كان فى الظروف والحال وقيل من الضمير المستكن فى قردة لأنه فى معنى ممسوخين وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار فى قوله تعالى (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) والمراد بالأمر بيان سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراده عزوجل وقرىء قردة بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همز (فَجَعَلْناها) أى المسخة والعقوبة (نَكالاً) عبرة تنكل المعتبر بها أى تمنعه وتردعه ومنه النكل للقيد (لِما بَيْنَ يَدَيْها) (وَما خَلْفَها) لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم فى زبر الأولين واشتهرت قصصهم فى الآخرين أو لمعاصريهم ومن بعدهم أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) من قومهم أو لكل متق سمعها (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) توبيخ آخر لإخلاف بنى إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت عن أسلافهم أى واذكروا وقت قول موسى عليه‌السلام لأجدادكم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسببه أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ موسر فقتله بنو عمه طمعا فى ميراثه فطرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا فيخبرهم بقاتله (قالُوا) استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل قالوا (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) بضم الزاء وقلب الهمزة واوا وقرىء بالهمزة مع الضم والسكون أى أتجعلنا مكان هزؤ أو أهل هزؤ أو مهزوءا بنا أو الهزؤ نفسه استبعادا لما قاله واستخفافا به (قالَ) استئناف كما سبق (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الهزؤ فى أثناء تبليغ أمر الله سبحانه جهل وسفه نفى عنه عليه‌السلام

١١٠

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)(٦٩)

____________________________________

ما توهموه من قبله على أبلغ وجه وآكده بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه استفظاعا له واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التى شافهوه عليه‌السلام بها (قالُوا) استئناف كما مر كأنه قيل فماذا قالوا بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا (ادْعُ لَنا) أى لأجلنا (رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ما مبتدأ وهى خبره والجملة فى حيز النصب يبين أى يبين لنا جواب هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لما قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فإن ما وإن شاعت فى طلب مفهوم الاسم والحقيقة كما فى ما الشارحة والحقيقة لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال طبيب أو عالم وقيل كان حقه أن يستفهم بأى لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنسا على حياله (قالَ) أى موسى عليه‌السلام بعد ما دعا ربه عزوجل بالبيان وأتاه الوحى (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها) أى البقرة المأمور بذبحها (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) أى لا مسنة ولا فتية يقال فرضت البقرة فروضا أى أسنت من الفرض بمعنى القطع كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها وتركيب البكر للأولية ومنه البكرة والباكورة (عَوانٌ) أى نصف لا قحم ولا ضرع قال[طوال مثل أعناق الهوادى نواعم بين أبكار وعون] (بَيْنَ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد (فَافْعَلُوا) أمر من جهة موسى عليه‌السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به (ما تُؤْمَرُونَ) أى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به كما فى قوله [أمرتك الخير فافعل ما أمرت به] فإن حذف الجار قد شاع فى هذا الفعل حتى لحق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين وهذا الأمر منه عليه‌السلام لحثهم على الامتثال وزجرهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به وقوله تعالى (قالُوا) استئناف كما مر كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافى والأمر المكرر فقيل قالوا (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) حتى يتبين لنا البقرة المأمور بها (قالَ) أى موسى عليه‌السلام بعد المناجاة إلى الله تعالى ومجىء البيان (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) إسناد البيان فى كل مرة إلى الله عزوجل لإظهار كمال المساعدة فى إجابة مسئولهم بقولهم يبين لنا وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها ولذلك يؤكد به ويقال أصفر فاقع كما يقال أسود حالك وأحمر قانىء وفى إسناده إلى اللون مع كونه من أحوال الملون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديد الصفرة صفرتها كما فى جد جده وعن الحسن رضى الله عنه سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى

١١١

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٧١)

____________________________________

(جِمالَتٌ صُفْرٌ) قيل ولعل التعبير عن السواد بالصفر لما أنها من مقدماته وإما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة ويأباه وصفها بقوله تعالى (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) كما يأباه وصفها بفقوع اللون والسرور لذة فى القلب عند حصول نفع أو توقعه من السر عن على رضى الله عنه من لبس نعلا صفراء قل همه (قالُوا) استئناف كنظائره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) زيادة استكشاف عن حالها كأنهم سألوا بيان حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها فى الأوصاف المذكورة والأحوال المشروحة فى أثناء البيان ولذلك عللوه بقولهم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) يعنون أن الأوصاف المعدودة يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدى بها إلى تشخيص ما هو المأمور بها ولذلك لم يقولوا إن البقرة تشابهت إيذان بأن النعوت المعدودة ليست بمشخصة للمأمور بها بل صادقة على سائر أفراد الجنس وقرىء إن الباقر وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر ويتشابه بالياء والتاء ويشابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتشابهت مخففا ومشددا وتشبه بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبه ومتشبهة وفيه دلالة على أنهم ميزوها عن بعض ما عداها فى الجملة وإنما بفى اشتباه بشرف الزوال كما ينبئ عنه قولهم (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) مؤكدا بوجوه من التوكيد أى لمهتدون بما سألنا من البيان إلى المأمور بذبحها وفى الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أى لم تذلل للكراب وسقى الحرث ولا ذلول صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ولا الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وقرىء لا ذلول بالفتح أى حيث هى كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان أى حيث هو وقرىء تسقى من أسقى (مُسَلَّمَةٌ) أى سلمها الله تعالى من العيوب أو أهلها من العمل أو خلص لها لونها من سلم له كذا إذا خلص له ويؤيده قوله تعالى (لا شِيَةَ فِيها) أى لا لون فيها يخالف لون جلدها حتى قرنها وظلفها وهى فى الأصل مصدر وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر (قالُوا) عند ما سمعوا هذه النعوت (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أى بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ولم يبق لنا فى شأنها اشتباه أصلا بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئت به فيهما لم يكن فى التعيين بهذه المرتبة ولعلهم كانوا قبل ذلك قد رأوها ووجدوها جامعة لجميع ما فصل من الأوصاف المشروحة فى المرات الثلاث من غير مشارك لها فيما عد فى المرة الأخيرة وإلا فمن أين عرفوا اختصاص النعوت الأخيرة بها دون غيرها وقرىء آلآن بالمد على الاستفهام والآن بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام (فَذَبَحُوها) الفاء فصيحة كما فى فانفجرت أى فحصلوا البقرة فذبحوها (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) كاد

١١٢

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٧٢)

____________________________________

من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر من الحصول والجملة حال من ضمير ذبحوا أى فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه أو اعتراض تذييلى ومآله استثقال استعصائهم واستبطاء لهم وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهى خيط إسهابهم فيها. قيل مضى من أول الأمر إلى الامتثال أربعون سنة وقيل وما كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها. روى أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إنى استودعتكها لابنى حتى يكبرو كان برا بوالديه فتوفى الشيخ وشبت العجلة فكانت من أحسن البقر وأسمنها فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا لما كانت وحيدة بالصفات المذكورة وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير واعلم أنه لا خلاف فى أن مدلول ظاهر النظم الكريم بقرة مطلقة مبهمة وأن الامتثال فى آخر الأمر إنما وقع بذبح بقرة معينة حتى لو ذبحوا غيرها ما خرجوا عن عهدة الأمر لكن اختلف فى أن المراد المأمور به أثر ذى أثير هل هى المعينة وقد أخر البيان عن وقت الخطاب أو المبهمة ثم لحقها التغيير إلى المعنية بسبب تثاقلهم فى الامتثال وتماديهم فى التعمق والاستكشاف فذهب بعضهم إلى الأول تمسكا بأن الضمائر فى الأجوبة أعنى إنها بقرة إلى آخره للمعينة قطعا ومن قضيته أن يكون فى السؤال أيضا كذلك ولا ريب فى أن السؤال إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكون هى المعينة وهو مدفوع بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس من الصفات والخواص فسألوا عنها فرجعت الضمائر إلى المعينة فى زعمهم واعتقادهم فعينها الله تعالى تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد من أول الأمر هى المعينة والحق أنها كانت فى أول الأمر مبهمة بحيث لو ذبحوا أية بقرة كانت لحصل الامتثال بدلالة ظاهر النظم الكريم وتكرير الأمر قبل بيان اللون وما بعده من كونها مسلمة الخ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم وروى مثله عن رئيس المفسرين عبد الله بن عباس رضى الله عنهما ثم رجع الحكم الأول منسوخا بالثانى والثانى بالثالث تشديدا عليهم لكن لا على وجه ارتفاع حكم المطلق بالكلية وانتقاله إلى المعين بل على طريقة تقييده وتخصيصه به شيئا فشيئا كيف لا ولو لم يكن كذلك لما عدت مراجعاتهم المحكية من قبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثال بالأمر بدون الوقوف على المأمور به مما لا يكاد يتسنى فتكون سؤالاتهم من باب الاهتمام بالامتثال (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) منصوب بمضمر كما مرت نظائره والخطاب للبهود المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسناد القتل والتدارؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخا وتقريعا وتخصيصهما بالإسناد دون ما مر من هناتهم لظهور قبح القتل وإسناده إلى الغير أى اذكروا وقت قتلكم نفسا محرمة (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أى تخاصمتم فى شأنها إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر أو تدافعنم بأن طرح كل واحد قتلها إلى آخر وأصله ئدارأتم فأدغمت الناء فى الدال واجتلبت لها همزة الوصل (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أى مظهر لما تكتمونه لا محالة والجمع

١١٣

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣)

____________________________________

بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار وإنما أعمل مخرج لأنه حكاية حال ماضية (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراض والالتفات لتربية المهابة والضمير للنفس والتذكير باعتبار أنها عبارة عن الرجل أو بتأويل الشخص أو القتيل (بِبَعْضِها) أى ببعض البقرة أى بعض كان وقيل بأصغريها وقيل بلسانها وقيل بفخذها اليمنى وقيل بأذنها وقيل بعجبها وقيل بالعظم الذى يلى الغضروف وهذا أول القصة كما ينبئ عنه الضمير الراجع إلى البقرة كأنه قيل وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها وإنما غير الترتيب عند الحكاية لتكرير التوبيخ وتثنية التقريع فإن كل واحد من قتل النفس المحرمة والاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والافتيات على أمره وترك المسارعة إلى الامتثال به جناية عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ولو حكيت القصة على ترتيب الوقوع لما علم استقلال كل منها بما يخص بها من التوبيخ وإنما حكى الأمر بالذبح عن موسى عليه‌السلام مع أنه من الله عزوجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتهم كانت بمراجعتهم إليه عليه‌السلام والافتيات على رأيه (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) على إرادة قول معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى فضربوه فحيى وقلنا كذلك يحيى الخ فحذفت الفاء الفصيحة فى فحيى مع ما عطف بها وما عطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطاب فى كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ويجوز أن يكون ذلك للحاضرين عند نزول الآية الكريمة فلا حاجة حينئذ إلى تقدير القول بل تنتهى الحكاية عند قوله تعالى (بِبَعْضِها) مع ما قدر بعده فالجملة معترضة أى مثل ذلك الإحياء العجيب يحيى الله الموتى يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ودلائله الدالة على أنه تعالى على كل شىء قدير ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضوميت وإخباره بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أى لكى تكمل عقولكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها أو تعلموا على قضية عقولكم ولعل الحكمة فى اشتراط ما اشترط فى الإحياء مع ظهور كمال قدرته على إحيائه ابتداء بلاواسطة أصلا اشتماله على التقرب إلى الله تعالى وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل على الله تعالى والشفقة على الأولاد ونفع بر الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ومن حق المتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالى بثمنه كما يروى عن عمر رضى الله عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلثمائة دينار وأن المؤثر هو الله تعالى وإنما الأسباب أمارات لا تأثير لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوه الساعى فى إماتته الموت الحقيقى فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التى هى قوته الشهوية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة فى طلب الدنيا مسلمة عن دنسها لاسمة بها من قبائحها بحيث يتصل أثره إلى نفسه فيحيا بها حياة طيبة ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والجدال (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) الخطاب لمعاصرى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة كما فى الحجر استعيرت لنبو قلوبهم عن التأثر

١١٤

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

____________________________________

بالعظات والقوارع التى تميع منها الجبال وتلين بها الصخور وإيراد الفعل المفيد لحدوث القساوة مع أن قلوبهم لم تزل قاسية لما أن المراد بيان بلوغهم إلى مرتبة مخصوصة من مراتب القساوة حادثة وإما لأن الاستمرار على شىء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه أمر جديد وصنع حادث وثم لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها كقوله تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من إحياء القتيل أو إلى جميع ما عدد من الآيات الموجبة للين القلوب وتوجيهها نحو الحق أى من بعد سماع ذلك وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته وعلو طبقته وتوحيد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين إما بتأويل الفريق أو لأن المراد مجرد الخطاب لا تعيين المخاطب كما هو المشهور (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) فى القساوة (أَوْ أَشَدُّ) منها (قَسْوَةً) أى هى فى القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها أو أنها مثلها أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويعضده القراءة بالجر عطفا على الحجارة وإيراد الجملة اسمية مع كون ما سبق فعلية للدلالة على استمرار قساوة قلوبهم والفاء إما لتفريع مشابهتها لها على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه فى قولك احمر خده فهو كالورد وإما للتعليل كما فى قولك اعبد ربك فالعبادة حق له وإنما لم يقل أو أقسى منها لما فى التصريح بالشدة من زيادة مبالغة ودلالة ظاهرة على اشتراك القسوتين فى الشدة واشتمال المفضل على زيادة وأو للتخيير أو للترديد بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هى أقسى من الحجارة وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة فى القساوة وعدم التأثر واستحالة صدور الخير منها يعنى أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ) أى يتشقق (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أى العيون (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أى يتردى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عزوجل فيها من الثقل الداعى إلى المركز وهو مجاز من الانقياد لأمره تعالى والمعنى أن الحجارة ليس منها فرد إلا وهو منقاد لأمره عز وعلا آت بما خلق له من غير استعصاء وقلوبهم ليست كذلك فتكون أشد منها قسوة لا محالة واللام فى لما لام الابتداء دخلت على اسم إن لتقدم الخبر وقرىء إن على أنها مخففة من الثقيلة واللام فارقة وقرىء يهبط بالضم. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) عن متعلقة بغافل وما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الأعمال السيئة وقرىء بالياء على الالتفات. وقوله تعالى

١١٥

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

____________________________________

(أَفَتَطْمَعُونَ) تلوين للخطاب وصرف له عن اليهود أثر ما عدت هناتهم ونعيت عليهم جناياتهم إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده كما فى قولك أتضرب أباك لا لإنكار الوقوع كما فى قوله أأضرب أبى والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه نظام الكلام لكن لا على قصد توجيه الإنكار إلى المعطوفين معا كما فى أفلا تبصرون على تقدير المعطوف عليه منفيا أى ألا تنظرون فلا تبصرون فالمنكر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثانى على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه كما إذا قدر الأول مثبتا أى أتنظرون فلا تبصرون فالمنكر ترتب الثانى على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه أى أتسمعون أخبارهم وتعلمون أحوالهم فتطمعون ومآل المعنى أبعد أن علمتم تفاصيل شئونهم المؤيسة عنهم تطعمون (أَنْ يُؤْمِنُوا) فإنهم متماثلون فى شدة الشكيمة والأخلاق الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم وأن مصدرية حذف عنها الجار والأصل فى أن يؤمنوا وهى مع ما فى حيزها فى محل النصب أو الجر على الخلاف المعروف واللام فى لكم لتضمين معنى الاستجابة كما فى قوله عزوجل (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أى فى إيمانهم مستجيبين لكم أو للتعليل أى فى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم وصلة الإيمان محذوفة لظهور أن المراد به معناه الشرعى وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم والجار والمجرور فى محل الرفع أى فريق كائن منهم وقوله تعالى (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) خبر كان وقرىء كلم الله والجملة حالية مؤكدة للإنكار حاسمة لمادة الطمع. مثل أحوالهم الشنيعة المحكية فيما سلف على منهاج قوله تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) بعد قوله تعالى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) أى والحال أن طائفة منهم قال ابن عباس رضى الله عنهما هم قوم من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامه تعالى حين كلم موسى عليه‌السلام بالطور وما أمر به ونهى عنه (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) عن مواضعه لا لقصور فهمهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغى لاستيلاء الدهشة والمهابة حسبما يقتضيه مقام الكبرياء بل (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أى فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم فى مضمونه ولا فى كونه كلام رب العزة ريبة أصلا فلما رجعوا إلى قومهم أداه الصادقون إليهم كما سمعوا وهؤلاء قالوا سمعنا الله تعالى يقول فى آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس فثم للتراخى زمانا أو رتبة وقال القفال سمعوا كلام الله وعقلوا مراده تعالى منه فأولوه تأويلا فاسدا وقيل هم رؤساء أسلافهم الذين تولوا تحريف التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علما وقيل هم الذين غيروا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عصره وبدلوا آية الرجم ويأباه الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل الدال على وقوع السماع والتحريف فيما سلف إلا أن يحمل ذلك على تقدمه على زمان نزول الآية الكريمة لا على تقدمه على عهده عليه الصلاة والسلام هذا والأول هو الأنسب بالسماع والكلام إذ

١١٦

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٧٦)

____________________________________

التوراة وإن كانت كلام الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهر وأثر التحريف فيه أظهر. ووصف اليهود بتلاوتها أكثر. لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع فكان الأنسب حينئذ أن يقال يتلون كتاب الله تعالى فالمعنى أفتطمعون فى أن يؤمن هؤلاء بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحال أن أسلافهم الموافقين لهم فى خلال السوء كانوا يسمعون كلام الله بلا واسطة ثم يحرفونه من بعد ما علموه يقينا ولا يستجيبون له هيهات ومن ههنا ظهر ما فى إيثار لكم على بالله من الفخامة والجزالة وقوله عزوجل (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية من فاعل يحرفونه مفيدة لكمال قباحة حالهم مؤذنة بأن تحريفهم ذلك لم يكن بناء على نسيان ما عقلوه أو على الخطأ فى بعض مقدماته بل كان ذلك حال كونهم عالمين مستحضرين له أووهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون (وَإِذا لَقُوا) جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم أو معطوفة على ما سبق من الجملة الحالية والضمير لليهود لما ستقف على سره لا لمنافقيهم خاصة كما قيل تحريا لاتحاد الفاعل فى فعلى الشرط والجزاء حقيقة (الَّذِينَ آمَنُوا) من أصحاب النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا) أى اللاقون لكن لا بطريق تصدى الكل للقول حقيقة بل بمباشرة منافقهم وسكوت الباقين كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم وهذا أدخل فى تقبيح حال الساكتين أولا العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف أى قال منافقوهم (آمَنَّا) لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وعلموا أنه النبى المبشر به وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ الآتى (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) أى بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أى إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجهين ومنضمين (إِلى بَعْضٍ) آخر منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبق معهم غيرهم وهذا نص على اشتراك الساكتين فى لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفا إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو ولو لا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم لها من تمام الشرط ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أتوا من السكوت ثم العتاب (قالُوا) أى الساكتون موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) يعنون المؤمنين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ما موصولة والعائد محذوف أى بينه لكم خاصة فى التوراة من نعت النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكنون وباب مغلق لا يقف عليه أحد وتجويز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءة للتصلب فى دينهم كما ذهب إليه عصابة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل واللام فى قوله عزوجل (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) متعلقة بالتحديث دون الفتح والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك وإن كان منكرا فى نفسه لكن التحديث به لأجل هذا الغرض

١١٧

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)٢ البقرة

____________________________________

مما لا يكاد يصدر عن العاقل أى أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم به فيبكتوكم والمحدثون به وإن لم يحوموا حول ذلك الغرض لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أى فى حكمه وكتابه كما يقال هو عند الله كذا أى فى كتابه وشرعه وقيل عند ربكم يوم القيامة ورد عليه بأن الإخفاء لا يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدثوا به أو لم يحدثوا والاعتذار بأن إلزام المؤمنين إياهم وتبكيتهم بأن يقولوا لهم ألم تحدثونا بما فى كتابكم فى الدنيا من حقية ديننا وصدق نبينا أفحش فيجوز أن يكون المحذور عندهم هذا الإلزام بإرجاع الضمير فى به إلى التحديث دون المحدث به ولا ريب فى أنه مدفوع بالإخفاء لا تساعده الآية الكريمة الآتية كما سنقف عليه بإذن الله عزوجل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من تمام التوبيخ والعتاب والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش أو شيئا من الأشياء التى من جملتها هذا فالمنكر عدم التعقل ابتداء أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحه حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه فالمنكر حينئذ عدم التعقل بعد الفعل هذا وأما ما قيل من أنه خطاب من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصل بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ) والمعنى أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم فى إيمانهم فيأباه قوله تعالى (أَوَلا يَعْلَمُونَ) فإنه إلى آخره تجهيل لهم من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيراد خطاب المؤمنين فى أثنائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه على أن فى تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفى تعميمه للنبى أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى أفتطمعون من سوء الأدب ما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ كما قبلها والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أى أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) أى يسرونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يضمرونه فى قلوبهم فيثبت الحكم فى ذلك بالطريق الأولى (وَما يُعْلِنُونَ) أى يظهرونه للمؤمنين أو لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يظهر الله تعالى للمؤمنين ما أرادوا إخفاءه بواسطة الوحى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحصل المحاجة ويقع التبكيت كما وقع فى آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم فأى فائدة فى اللوم والعتاب ومن ههنا تبين أن المحذور عندهم هو المحاجة بما فتح الله عليهم وهى حاصلة فى الدارين حدثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفع بالإخفاء وقيل الضمير للمنافقين فقط أو لهم وللموبخين أو لآبائهم المحرفين أى أيفعلون ما يفعلون ولا يعلمون أن الله يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون ومن جملته إسرارهم الكفر وإظهارهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وكتم أمر الله وإظهار ما أظهروه افتراء وإنما قدم الإسرار على الإعلان للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة فى بيان شمول علمه المحيط لجميع المعلومات كأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما فى الحقيقة على السوية فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى

١١٨

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

____________________________________

هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة ونظيره قوله عز وعلا (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء لما ذكر من السر على عكس ما وقع فى قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإن الأصل فى تعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى القلب يتعلق به الإسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) وقرىء بتخفيف الياء جمع أمى وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختلف فى نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيه بها فى الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التى ولدته أمه فى الخلو عن العلم والكتابة وقيل إلى الأمة بمعنى أنه باق على سذاجتها خال عن معرفة الأشياء كقولهم عامى أى على عادة العامة روى عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العرب وقيل هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين وعن على رضى الله تعالى عنه هم المجوس والحق الذى لا محيد عنه أنهم جهلة اليهود. والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائحهم إثر بيان شنائع الطوائف السالفة وقيل هى معطوفة على الجملة الحالية فإن مضمونها مناف لرجاء الخير منهم وإن لم يكن فيه ما يحسم مادة الطمع عن إيمانهم كما فى مضمون الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب فى منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله بعد سماعه والعلم بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهى عن إظهار ما فى التوراة كما وقع من الفرقتين الأخريين أى ومنهم طائفة جهلة غير قادرين على الكتابة والتلاوة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أى لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فى تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحمل الكتاب على الكتابة يأباه سباق النظم الكريم وسياقه (إِلَّا أَمانِيَّ) بالتشديد وقرىء بالتخفيف جمع أمنية أصلها أمنوية أفعولة من منى بمعنى قدر أو بمعنى تلاكتمنى فى قوله [تمنى كتاب الله أول ليله] فأعلت إعلال سيد وميت ومعناها على الأول ما يقدره الإنسان فى نفسه ويتمناه وعلى الثانى ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناء منقطع إذ ليس ما يتمنى وما يتلى من جنس علم الكتاب أى لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أمانى حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وغير ذلك من أمانيهم الفارغة المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائهم أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه وأما حمل الأمانى على الأكاذيب المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسة بالكتاب فلا يساعده النظم الكريم (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ولما بين حال هؤلاء فى تمسكهم بحبال الأمانى واتباع الظن عقب ببيان حال الذين أوقعوهم فى تلك الورطة وبكشف كيفية إضلالهم وتعيين مرجع الكل بالآخر فقيل على وجه الدعاء

١١٩

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

____________________________________

عليهم (فَوَيْلٌ) هو وأمثاله من ويح وويس وويب وويه وويك وعول من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارها البتة فإن أضيف نصب نحو ويلك وويحك وإذا فصل عن الإضافة رفع نحو ويل له ومعنى الويل شدة الشر قاله الخليل وقال الأصمعى الويل التفجع والويح الترحم وقال سيبويه ويل لمن وقع فى الهلكة وويح زجر لمن أشرف على الهلاك وقيل الويل الحزن وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق وقيل ويل فى الدعاء عليه وويح وما بعده فى الترحم عليه وقال ابن عباس رضى الله عنهما الويل العذاب الأليم وعن سفيان الثورى أنه صديد أهل جهنم وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقال سعيد بن المسيب أنه واد فى جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره وقال ابن بريدة جبل قيح ودم وقيل صهريج فى جهنم وحكى الزهراوى أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حال فهو مبتدأ خبره قوله عز وعلا (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) أى المحرف أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد لدفع توهم المجاز كقولك كتبته بيمينى (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) أى جميعا على الأول وبخصوصه على الثانى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) روى أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فاحتالوا فى تعويق أسافل اليهود عن الإيمان فعمدوا إلى صفة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وكانت هى فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالف لصفته عليه‌السلام فيكذبونه وثم للتراخى الرتبى فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أى يأخذوا لأنفسهم بمقابلته (ثَمَناً) هو ما أخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل وإنما عبر عن المشترى الذى هو المقصود بالذات فى عقد المعاوضة بالثمن الذى هو وسيلة فيه إيذانا بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة مقصودا بالذات (قَلِيلاً) لا يعبأ به فإن ذلك وإن جل فى نفسه فهو أقل قليلا عندما استوجبوا به من العذاب الخالد (فَوَيْلٌ لَهُمْ) تكرير لما سبق للتأكيد وتصريح بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضه فى حيز الصلة وبعضه فى معرض الغرض والفاء للإيذان بترتبه عليه ومن فى قوله عزوجل (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) تعليلية متعلقة بويل أو بالاستقرار فى الخبر وما موصولة اسمية والعائد محذوف أى كتبته أو مصدرية والأول أدخل فى الزجر عن تعاطى المحرف والثانى فى الزجر عن التحريف (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الكلام فيه كالذى فيما قبله والتكرير لما مر من التأكيد والتشديد والقصد إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادى ترويج ما كتبت أيديهم فهو

١٢٠