تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١٨٧)

____________________________________

الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب وتحقيق له ووعد للداعى بالإجابة (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعونى لمهماتهم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات على ما هم عليه (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) راجين إصابة الرشد أى الحق وقرىء بفتح الشين وكسرها ولما أمرهم الله تعالى بصوم الشهر ومرعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الكريمة الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ثم شرع فى بيان أحكام الصيام فقال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) روى أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الأخيرة أو يرقدوا ثم إن عمر رضى الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذر إليه فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت. وليلة الصيام الليلة التى يصبح منها صائما والرفث كناية عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والإنهاء وإيثاره ههنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمى خيانة وقرىء الرفوث وتقديم الظرف على القائم مقام الفاعل لما مر مرارا من التشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) استئناف مبين لسبب الإحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباسا للآخر لاعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر بالليل قال[إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا] أو لأن كلا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب ومعنى تختانون تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على علم أى تاب عليكم لما تبتم مما افترفتموه (وَعَفا عَنْكُمْ) أى محا أثره عنكم (فَالْآنَ) لما نسخ التحريم (بَاشِرُوهُنَّ) المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذى يستلزمها وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب للسنة (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أى واطلبوا ما قدره الله لكم وقرره فى اللوح من الولد وفيه أن المباشر ينبغى أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة فى خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الشهوة وقيل فيه نهى عن العزل وقيل عن غير المأتى والتقدير وابتغوا المحل الذى كتب

٢٠١

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

____________________________________

الله لكم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض فى الأفق وما يمتد معه من غلس الليل بخيطين الأبيض والأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) عن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون من للتبعيض فإن ما يبدو بعض الفجر وما روى من أنها نزلت ولم ينزل من الفجر فعمد رجال إلى خيطين أبيض وأسود وطفقوا يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز أو اكتفى أولا باشتهارهما فى ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفى تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم من أصبح جنبا (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيان لآخر وقته (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أى معتكفون فيها والمراد بالمباشرة الجماع وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون فى المسجد غير مختص ببعض دون بعض وأن الوطء فيه حرام ومفسد له لأن النهى فى العبادات يوجب الفساد (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أى الأحكام المذكورة حدود وضعها الله تعالى لعباده (فَلا تَقْرَبُوها) فضلا عن تجاوزها نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل مبالغة فى النهى عن تخطيها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ويجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمه ومناهيه (كَذلِكَ) أى مثل ذلك التبيين البليغ (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) الدالة على الأحكام التى شرعها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة أوامره ونواهيه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) نهى عن أكل بعضهم أموال بعض على خلاف حكم الله تعالى بعد النهى عن أكل أموال أنفسهم فى نهار رمضان أى لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذى لم يبحه الله تعالى وبين نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهى عنه أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء أى ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم إليهم (فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة أو متلبسين بالإثم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعاصى مع العلم بها أقبح. روى أن عبدان الحضرمى ادعى على امرىء القيس الكندى قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ عليه الصلاة والسلام إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فارتدع عن اليمين فسلم الأرض إلى عبدان فنزلت. وروى أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه‌السلام إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فإنما أقضى له قطعة من نار فبكيا فقال كل واحد منهما حقى لصاحبى

٢٠٢

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(١٩٠)

____________________________________

فقال اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) سأله معاذ ابن جبل وثعلبة بن غنم فقالا ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) كانوا قد سألوه عليه الصلاة والسلام عن الحكمة فى اختلاف حال القمر وتبدل أمره فأمره الله العزيز الحكيم أن يجيبهم بأن الحكمة الظاهرة فى ذلك أن تكون معالم للناس فى عبادتهم لا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكذا فى معاملاتهم على حسب ما يتفقون عليه والموافيت جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان مدة مقسومة إلى الماضى والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لأمر (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه وإنما يدخلون ويخرجون من نقب أو فرجة وراءها ويعدون ذلك برا فبين لهم أنه ليس ببر فقيل (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) أى بر من اتقى المحارم والشهوات ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيت للحج ذكر عقيبه ما هو من أفعالهم فى الحج استطرادا أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوث لبيان الشرائع لا لبيان حقائق الأشياء وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم الرسالة عقب بذكره جواب ما سألوا عنه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيه على تعكيسهم فى السؤال وكونه من قبيل دخول البيت من ورائه والمعنى وليس البر بأن تعكسوا فى مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجترىء على مثله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس فى العدول بر أو باشروا الأمور من وجوهها (وَاتَّقُوا اللهَ) فى تغيير أحكامه أو فى جميع أموركم أمر بذلك صريحا بعد بيان أن البر بر من اتقى إظهارا لزيادة الاعتناء بشأن التقوى وتمهيدا لقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى لكى تظفروا بالبر والهدى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أى جاهدوا لإعزاز دينه وإعلاء كلمته وتقديم الظرف على المفعول الصريح لإبراز كمال العناية بشأن المقدم (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قيل كان ذلك قبل ما أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهابنة والنساء أو الكفرة جميعا فإن الكل بصدد قتال المسلمين ويؤيد الأول ما روى أن المشركين صدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة شرفها الله تعالى ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء فخاف المسلمون ان لا يفوالهم ويقاتلوهم فى الحرم والشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت ويعضده إيراده فى أثناء بيان أحكام الحج (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء

٢٠٣

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)

____________________________________

القتال أو بقتال المعاهد والمفاجأة به من غير دعوة أو بالمثلة وقتل من نهيتم عن قتله من النساء والصبيان ومن يجرى مجراهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أى لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أى حيث وجدتموهم من حل أو حرم وأصل الثقف الحذق فى إدراك الشىء علما أو عملا وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال[فإما تثقفونى فاقتلونى فمن أثقف فليس إلى خلود] (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أى من مكة وقد فعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يسلم من كفارها (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أى المحنة التى يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها وقيل شركهم فى الحرم وصدهم لكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أى لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتكوا حرمة المسجد الحرام (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) ثمة (فَاقْتُلُوهُمْ) فيه ولا تبالوا بقتالهم ثمة لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب وفى العدول عن صيغة المفاعلة التى بها ورد النهى والشرط عدة بالنصر والغلبة وقرىء ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلتنا بنو أسد (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر بعد ما رأوا قتالكم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما قد سلف (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصا ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) بعد مقاتلتكم عن الشرك (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أى فلا تعتدوا عليهم إذ لا يحسن الظلم إلا لمن ظلم فوضع العلة موضع الحكم وتسمية الجزاء بالعدوان للمشاكلة كما فى قوله عزوجل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قاتلهم المشركون عام الحديبية فى ذى القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء فى ذى القعدة أيضا وكراهتهم القتال فيه هذا الشهر الحرام بذلك الشهر الحرام وهتكه بهتكه فلا تبالوا به (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أى كل حرمة وهى ما يجب المحافظة عليه يجرى فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة فاقتلوهم إن قاتلوكم كما قال تعالى (فَمَنِ اعْتَدى

٢٠٤

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)

____________________________________

عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وهو فذلكة مقررة لما قبلها (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شئونهم بالنصر والتمكين (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالأنفس أى ولا تمسكوا كل الإمساك (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك مما يقوى العدو ويسلطهم عليكم ويؤيده ما روى عن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه أنه قال لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدى إلى الهلاك المؤبد ولذلك سمى البخل هلاكا وهو فى الأصل انتهاء الشىء فى الفساد والإلقاء طرح الشىء وتعديته بإلى لتضمنه معنى الانتهاء والباء مزيدة والمراد بالأيدى الأنفس والتهلكة مصدر كالتنصرة والتسترة وهى والهلك والهلاك واحد أى لا توقعوا أنفسكم فى الهلاك وقيل معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول (وَأَحْسِنُوا) أى أعمالكم وأخلاقكم أو تفضلوا على الفقراء (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أى يريد بهم الخير وقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التصدى لأدائهما وإرشاد للناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما فى أنفسهما من الوجوب وعدمه كما فى قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فانه بيان لوجوب مد الصيام إلى الليل من غير تعرض لوجوب أصله وإنما هو بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية كما أن وجوب الحج بقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمرا بأصله ولا مستلزما له أصلا فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعا وادعاء أن الأمر بإتمامهما أمر بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءة وأقيموا الحج والعمرة وأن الأمر للوجوب ما لم يدل على خلافه دليل مما لا سداد له ضرورة أن ليس البيان مقصورا على أفعال الحج المفروض حتى يتصور ذلك بل الحق أن تلك القراءة أيضا محمولة على المشهورة ناطقة بوجوب إقامة أفعالهما كما ينبغى من غير تعرض لحالهما فى أنفسهما فالمعنى أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعا لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشىء منها. هذا وقد قيل إتمامهما أن تحرم

٢٠٥

بهما من دويرة أهلك روى ذلك عن على وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم وقيل أن تفرد لكل واحد منها سفرا كما قال محمد حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل وقيل هو جعل نفقتهما حلالا وقيل أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشىء من الأغراض الدنيوية وأيا ما كان فلا تعرض فى الآية الكريمة لوجوب العمرة أصلا وأما ما روى أن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن العمرة لقرينة الحج وقول عمر رضى الله عنه هديت لسنة نبيك حين قال له رجل وجدت الحج العمرة مكتوبين على أهللت بهما وفى رواية فأهللت بهما جميعا فبمعزل من إفادة الوجوب مع كونه معارضا بما روى عن جابر أنه قال يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج قال لا ولكن أن تعتمر خير لك وبقوله عليه‌السلام الحج جهاد والعمرة تطوع فتدبر (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أى منعتم من الحج يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه من المضى لوجهه مثل صده وأصده والمراد منع العدو عند مالك والشافعى رضى الله عنهما لقوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولنزوله فى الحديبية ولقول ابن عباس لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبى حنيفة رضى الله عنه لما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أى فعليكم أو فالواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المحرم إذا أحصرو أراد أن يتحلل تحلل بذبح هدى تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر وعندنا يبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أى لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدى المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذى يجب أن ينحر فيه وحمل الأولون بلوغ الهدى محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما ومرجعهم فى ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح عام الحديبية بها وهى من الحل قلنا كان محصره عليه الصلاة والسلام طرف الحديبية الذى إلى أسفل مكة وهو من الحرم وعن الزهرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر هديه فى الحرم وقال الواقدى الحديبية هى طرف الحرم على تسعة أميال من مكة والمحل بالكسر يطلق على المكان والزمان والهدى جمع هدية كجدى وجدية وقرىء من الهدى جمع هدية كمطى ومطية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا محوجا إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كجراحة أو قمل (فَفِدْيَةٌ) أى فعليه فدية إن حلق (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بيان لجنس الفدية وأما قدرها فقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب بن عجرة لعلك آذاك هو امك قال نعم يا رسول الله قال احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو أنسك شاة والفرق ثلاثة آصع (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أى الإحصار أو كنتم فى حال أمن أو سعة (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أى فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج فى أشهره وقيل من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أى فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع وهو دم جبران يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه عند الشافعى وعندنا هو كالأضحية (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أى الهدى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أى فى أشهره بين الإحرامين وقال الشافعى فى أيام الاشتغال بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل والأحب أن يصوم سابع ذى الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وأيام التشريق (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أى نفرتم وفرغتم من

٢٠٦

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

____________________________________

أعماله وفى أحد قولى الشافعى إذا رجعتم إلى أهليكم وقرىء وسبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام (تِلْكَ عَشَرَةٌ) فذلكة الحساب وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كما فى قولك جالس الحسن وابن سيرين وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب وأن المراد بالسبعة هو العدد المخصوص دون الكثرة كما يراد بها ذلك أيضا (كامِلَةٌ) صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة فى المحافظة على العدد أو مبينة لكمال العشرة فإنها أول عدد كامل إذ به ينتهى الآحاد ويتم مراتبها أو مقيدة تفيد كمال بدليتها من الهدى (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكور عند الشافعى (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعى ومن كان مسكنه وراء الميقات عندنا وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك (وَاتَّقُوا اللهَ) فى المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما فى الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتقه كى يصدكم العلم به عن العصيان وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة (الْحَجُّ) أى وقته (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) معروفات بين الناس هى شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة عندنا وتسعة بليلة النحر عند الشافعى وكله عند مالك ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا فإن مالكا كره العمرة فى بقية ذى الحجة وأبو حنيفة وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه وإنما سمى شهرين وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد وصيغة جمع المذكر فى غير العقلاء تجىء بالألف والتاء (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أى أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) أى لا جماع أو فلا فحش من الكلام ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات وقيل بالسباب والتنابذ بالألقاب (وَلا جِدالَ) أى لا مراء مع الخدم والرفقة (فِي الْحَجِّ) أى فى أيامه والإظهار فى مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله عزوجل من موجبات ترك الأمور المذكورة وإيثار النفى للمبالغة فى النهى والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون فإن ما كان منكرا مستقبحا فى نفسه ففى تضاعيف الحج أقبح كلبس الحرير فى الصلاة والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة وقرىء الأولان بالرفع على معنى لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف فى الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا أيضا بعرفات (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجزى به خير جزاء وهو حث على فعل الخير إثر النهى عن الشر (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أى تزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد وقيل نزلت فى أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون

٢٠٧

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)

____________________________________

نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام فى السؤال والتثقيل على الناس (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية اللب استشعار خشية الله عزوجل وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بذلك هو الله تعالى فيتبرءوا من كل شىء سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص بهذا الخطاب أولو الألباب (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أى فى أن تبتغوا أى تطلبوا (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء ورزقا منه أى الربح بالتجارة وقيل كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم فى الجاهلية يقيمونها أيام مواسم الحج وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أى دفعتم منها بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول حذفه من دفعت من البصرة وعرفات جمع سمى به كأذرعات وإنما نون وكسر وفيه علمية وتأنيث لما أن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكن ولذلك يجمع مع اللام وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف وههنا ليس كذلك أو لأن التأنيث إما بالتاء المذكورة وهى ليست بتاء اليأنيث وإنما هى مع الالف التى قبلها علامة جمع المؤنث أو بتاء مقدرة كما فى سعاد ولا سبيل إليه لأن المذكورة تأبى تقديرها لما أنها كالبدل منها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت وإنما سمى الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه‌السلام فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه‌السلام كان يدور به فى المشاعر فلما رآه قال عرفت أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا أو لأن الناس يتعارفون فيه وهى من الأسماء المرتجلة إلا من بجعلها جمع عارف قيل وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهى مأمور بها بقوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا) وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب والأمر به غير مطلق (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والهليل والدعاء وقيل بصلاة العشاءين (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) هو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح وقيل ما بين مأزمى عرفة ووادى محسر ويؤيد الأول ما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر يعنى بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعافيه وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر وإنما سمى مشعرا لأنه معلم العبادة ووصف بالحرام لحرمته ومعنى عند المشعر الحرام ما يليه ويقرب منه فإنه أفضل وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادى محسر (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أى كما علمكم أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدرية أو كافة (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل ما ذكر من هدايته إياكم (لَمِنَ الضَّالِّينَ) غير العاملين بالإيمان والطاعة وإن هى المخففة واللام هى الفارقة وقيل هى نافية واللام بمعنى إلا كما فى قوله عز وعلا (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (ثُمَّ أَفِيضُوا

٢٠٨

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)

____________________________________

مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أى من عرفة لا من المزدلفة والخطاب لقريش لما كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعا عليهم فأمروا بأن يساووهم وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما فى قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلا إلى كريم وقيل من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها والخطاب عام وقرىء الناس بكسر السين أى الناسى على أن يراد به آدم عليه‌السلام من قوله تعالى (فَنَسِيَ) والمعنى أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من جاهليتكم فى تغيير المناسك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فهو تعليل للاستغفار أو للأمر به (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) عباداتكم المتعلقة بالحج وفرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أى فأكثروا ذكره تعالى وبالغوا فى ذلك كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكرا على المجاز والمعنى فاذكروا الله ذكرا كائنا مثل ذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ أو على ما أضيف إليه بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا أو منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكور من آبائكم أو بمضمر دل عليه المعنى تقديره أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم (فَمِنَ النَّاسِ) تفصيل للذاكرين إلى من لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا وإلى من يطلب به خير الدارين والمراد به الحث على الإكثار والانتظام فى سلك الآخرين (مَنْ يَقُولُ) أى فى ذكره (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أى اجعل إيتاءنا ومنحتنا فى الدنيا خاصة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أى من حظ ونصيب لاقتصار همه على الدنيا فهو بيان لحاله فى الآخرة أو من طلب خلاق فهو بيان لحاله فى الدنيا وتأكيد لقصر دعائه على المطالب الدنيوية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) هى الصحة والكفاف والتوفيق للخير (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هى الثواب والرحمة (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بالعفو والمغفرة وروى عن على رضى الله عنه ان الحسنة فى الدنيا المرأة الصالحة وفى الآخرة الحوراء وعذاب النار امرأة السوء وعن الحسن أن الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة وفى الآخرة الجنة وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثانى باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وقيل إليهما معا فالتنوين فى قوله تعالى (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) على الأول للتفخيم وعلى الثانى للتنويع أى لكل منهم نوع نصيب

٢٠٩

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)(٢٠٤)

____________________________________

من جنس ما كسبوا أو من أجله كقوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه وتسمية الدعاء كسبا لما أنه من الأعمال (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم فى مقدار لمحة فاحذروا من الإخلال بطاعة من هذا شأن قدرته أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات (وَاذْكُرُوا اللهَ) أى كبروه فى أعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمى الجمار وغيرها (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هى أيام التشريق (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أى استعجل فى النفر أو النفر فإن التفعل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعديين يقال تعجل فى الأمر واستعجل فيه وتعجله واستعجله والأول أوفق للتأخر كما فى قوله[قد يدرك المتأنى بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزلل (فِي يَوْمَيْنِ) أى فى تمام يومين بعد يوم النحر هو يوم القر ويوم الرءوس واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمى الجمار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بتعجله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) فى النفر حتى رمى فى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده وعند الشافعى بعده فقط (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بما صنع من التأخر والمراد التخيير بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضلية الثانى وإنما ورد بنفى الإثم تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فمن مؤثم للمتعجل ومؤثم للمتأخر (لِمَنِ اتَّقى) خبر لمبتدأ محذوف أى الذى ذكر من التخيير ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مجامع أموركم بفعل الواجبات وترك المحظورات ليعبأبكم وتنظموا فى سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة والرخص أو احذروا الإخلال بما ذكر من الأحكام وهو الأنسب بقوله عزوجل (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أى للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعى إلى ملازمة التقوى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) تجريد للخطاب وتوجيه له إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلام مبتدأ سيق لبيان تحزب الناس فى شأن التقوى إلى حزبين وتعيين مآل كل منهما ومن موصولة أو موصوفه وإعرابه كما بين فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى ومنهم من يروقك كلامه ويعظم موقعه فى نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولطف الأداء والتعجب حيرة تعرض للإنسان بسبب عدم الشعور بسبب ما يتعجب منه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بقوله أى ما يقوله فى حق الحياة الدنيا ومعناها فإنها الذى يريده بما يدعيه من الإيمان ومحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه إشارة إلى أن له قولا آخر ليس بهذه الصفة أو بيعجبك أى يعجبك قوله فى الدنيا بحلاوته

٢١٠

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)

____________________________________

وفصاحته لا فى الآخرة لما أنه يظهر هناك كذبه وقبحه وقيل لما يرهقه من الحبسة واللكنة وأنت خبير بأنه لا مبالغة حينئذ فى سوء حاله فإن مآله بيان حسن كلامه فى الدنيا وقبحه فى الآخرة وقيل معنى فى الحياة الدنيا مدة الحياة الدنيا أى لا يصدر منه فيها إلا القول الحسن (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أى بحسب إدعائه حيث يقول الله يعلم أن ما فى قلبى موافق لما فى لسانى وهو عطف على يعجبك وقرىء ويشهد الله فالمراد بما فى قلبه ما فيه حقيقة ويؤيده قراءة ابن عباس رضى الله عنهما والله يشهد على ما فى قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له فالجملة اعتراضية وقرىء ويستشهد الله (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أى شديد العداوة والخصومه للمسلمين على أن الخصام مصدر وإضافة ألد إليه بمعنى فى كقولهم ثبت العذر أو أشد الخصوم لهم خصومة على أنه جمع خصم كصعب وصعاب قيل نزلت فى الأخنس بن شريق الثقفى وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعى الإسلام والمحبة وقيل فى المنافقين والجملة حال من الضمير المجرور فى قوله أو من المستكن فى يشهد وعطف على ما قبلها على القراءتين المتوسطتين (وَإِذا تَوَلَّى) أى من مجلسك وقيل إذا صار واليا (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس بثقيف حيث بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وقرىء ويهلك الحرث والنسل على إسناد الهلاك إليهما عطفا على سعى وقرىء بفتح اللام وهى لغة وقرىء على البناء للمفعول من الإهلاك (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أى لا يرتضيه ويبغضه ويغضب على من يتعاطاه وهو اعتراض تذييلى (وَإِذا قِيلَ لَهُ) على نهج العظة والنصيحة (اتَّقِ اللهَ) واترك ما تباشره من الفساد أو النفاق واحذر سوء مغبته (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أى حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذى نهى عنه لجاجا وعنادا من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه أو ألزمته إياه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر أى كافيه جهنم وقيل جهنم فاعل لحسبه ساد مسد خبره وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوى لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها وقيل حسب اسم فعل ماض أى كفته جهنم (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه والمهاد الفراش وقيل ما يوطأ للجنب والجملة اعتراض (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) مبتدأ وخبر كما مر أى يبيعها ببذلها فى الجهاد ومشاق الطاعات وتعريضها للمهالك فى الحروب أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أى طالبا لرضاه وهذا كمال التقوى وإيراده قسيما للأول من حيث أن ذلك يأنف من الأمر بالتقوى وهذا يأمر بذلك وإن أدى إلى الهلاك وقيل نزلت فى صهيب بن سنان الرومى أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال إنى شيخ كبير

٢١١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْيَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢١٠)

____________________________________

لا أنفعكم إن كنت معكم ولا أضركم إن كنت عليكم فخلونى وما أنا عليه وخذوا مالى فقبلوا منه ماله فأتى المدينة فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشرى (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب والجملة اعتراض تذييلى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أى الاستسلام والطاعة وقيل الإسلام وقرىء بفتح السين وهى لغة فيه وبفتح اللام أيضا وقوله تعالى (كَافَّةً) حال من الضمير فى ادخلوا أو من السلم أو منهما معا كما فى قوله[خرجت بها تمشى تجروراءنا على أثرينا ذيل مرط مرجل] وهى فى الأصل اسم لجماعة تكف مخالفها ثم استعملت فى معنى جميعا وتاؤها ليست للتأنيث حتى يحتاج إلى جعل السلم مؤنثا مثل الحرب كما فى قوله عزوجل (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) وفى قوله[السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع] وإنما هى للنقل كما فى عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا والخطاب للمنافقين أو ادخلوا فى الإسلام بكليته ولا تخلطوا به غيره والخطاب لمؤمنى أهل الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعض أحكام دينهم القديم بعد إسلامهم أو فى شرائع الله تعالى كلها بالإيمان بالأنبياء عليهم‌السلام والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب كلهم ووصفهم بالإيمان إما على طريقة التغليب وإما بالنظر إلى إيمانهم القديم أو فى شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا يخلوا بشىء منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهل الكتاب بعنوان الإيمان مع أنه لا يصح الإيمان إلا بما كلفوه الآن إيذانا بأن ما يدعونه لا يتم بدونه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالتفرق والتفريق أو بمخالفة ما أمرتم به (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة أو مظهر لها وهو تعليل للنهى أو الانتهاء (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أى عن الدخول فى السلم وقرىء بكسر اللام وهى لغة فيه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ) الآيات (الْبَيِّناتُ) والحجج القطعية الدالة على حقيته الموجبة للدخول فيه (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين المستعصين على أوامره (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام إنكارى فى معنى النفى أى ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة فى الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أى أمره وبأسه أو يأتيهم الله بأمره وبأسه فحذف المأتى به لدلالة الحال عليه والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم وحكاية جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريقة المباثة وإيراد الانتظار للإشعار بأنهم لانهما كهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة

٢١٢

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢١٢)

____________________________________

كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة كقلل فى جمع قلة وهى ما أظلك وقرىء فى ظلال كقلال فى جمع قلة (مِنَ الْغَمامِ) أى السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذاب فيه لما أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظع وأقطع للمطامع فإن إتيان الشر من حيث لا يحتسب صعب فكيف بإتيانه من حيث يرجى منه الخير (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على الاسم الجليل أى ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط فى إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتى أو لا من جنس ما يلابس الغمام ويترتب عليه عادة وأما الملائكة وإن كان إتيانهم مقارنا لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرىء بالجر عطفا على ظلل أو الغمام (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أى أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل فى حيز الانتظار وإنما عدل إلى صيغة الماضى دلالة على تحققه فكأنه قد كان أو جملة مستأنفة جىء بها إنباء عن وقوع مضمونها وقرىء وقضاء الأمر عطفا على الملائكة (وَإِلَى اللهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بالتأنيث على البناء للمفعول من الرجع وقرىء بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد من أهل الخطاب والمراد بالسؤال تبكيتهم وتقريعهم بذلك وتقرير لمجىء البينات (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة على أيدى الأنبياء عليهم‌السلام وآية ناطقة بحقية الإسلام المأمور بالدخول فيه وكم خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر وآية مميزها (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) التى هى آياته الباهرة فإنها سبب للهدى الذى هو أجل النعم وتبديلها جعلها سببا للضلالة وإزدياد الرجس أو تحريفها وتأويلها الزائغ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) ووصلت إليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع أن التبديل لا يتصور قبل المجىء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفصيلها كما فى قوله عزوجل (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قيل تقديره فبدلوها ومن يبدل وإنما حذف للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح به لظهوره (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة فإنه شديد العقاب وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أى حسنت فى أعيانهم وأشربت محبتها فى قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والإيجاد مستند إلى الله سبحانه كما يعرب عنه القراءة على البناء للفاعل إذ ما من شىء إلا وهو خالقه وكل من الشيطان والقوى الحيوانية وما فى الدنيا من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة

٢١٣

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

____________________________________

على استمرار السخرية منهم وهم فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب رضى الله عنهم كانوا يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) هم الذين آمنوا بعينهم وإنما ذكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مخلة بتبتلهم إلى جناب القدس شاغلة عنه (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم فى أعلى عليين وهم فى أسفل سافلين أو لأنهم فى أوج الكرامة وهم فى حضيض الذل والمهانة أو لأنهم يتطاولون عليهم فى الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم فى الدنيا والجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أى فى الدارين (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير فيوسع فى الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على كلمة الحق ودين الإسلام وكان ذلك بين آدم وإدريس أو نوح عليهم‌السلام أو بعد الطوفان (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) أى فاختلفوا فبعث الخ وهى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه وقد حذف تعويلا على ما يذكر عقيبه (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) عن كعب الذى علمته من عدد الأنبياء عليهم‌السلام مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر والمذكور فى القرآن ثمانية وعشرون وقيل كان الناس أمة واحدة متفقة على الكفر والضلال فى فترة إدريس أو نوح فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول هو الأنسب بالنظم الكريم (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب أو مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق إذ لم يكن لبعضهم كتاب وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافى خصوص الضمير العائد إليه بمعونة المقام (بِالْحَقِّ) حال من الكتاب أى ملتبسا بالحق أو متعلق بأنزل كقوله عز وعلا (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (لِيَحْكُمَ) أى الكتاب أو الله سبحانه وتعالى أو كل واحد من النبيين (بَيْنَ النَّاسِ) أى المذكورين والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التعيين (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) اى فى الحق الذى اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أى فى الحق أو فى الكتاب المنزل ملتبسا به والواو حالية (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أى الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق والتعبير عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فى تضاعيفه من الحق فإن الإنزال لا يفيد تلك الفائدة أى عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل لإزالة الاختلاف سببا لاستحكامه ورسوخه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أى رسخت فى عقولهم ومن متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام أى فاختلفوا وما اختلف فيه الخ وقيل بالملفوظ بناء على عدم منع إلا عنه كما فى قولك ما قام إلا زيد يوم

٢١٤

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ(٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

____________________________________

الجمعة (بَغْياً بَيْنَهُمْ) متعلق بما تعلقت به من أى اختلفوا بغيا وتهالكا على الدنيا (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالكتاب (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أى للحق الذى اختلف فيه من اختلف (مِنَ الْحَقِّ) بيان لما وفى إبهامه أولا وتفسيره ثانيا ما لا يخفى من التفخيم (بِإِذْنِهِ) بأمره أو بتيسيره ولطفه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الحق وهو اعتراض مقرر لمضمون ما سبق (أَمْ حَسِبْتُمْ) خوطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين حثا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة وتحمل المشاق من جهتهم إثر بيان اختلاف الأمم على الأنبياء عليهم‌السلام وقد بين فيه مآل اختلافهم وما لقى الأنبياء ومن معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرهم النصر وأم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والاستبعاد أى بل أحسبتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أى والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التى هى مثل فى الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر (مَسَّتْهُمُ) استئاف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن كأنه قيل كيف كان مثلهم فقيل مستهم (الْبَأْساءُ) أى الشدة من الخوف والفاقة (وَالضَّرَّاءُ) أى الآلام والأمراض (وَزُلْزِلُوا) أى أزعجوا إزعاجا شديدا بما دهمهم من الأهوال والإفزاع (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أى انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بشئون الله تعالى وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره (مَتى) أى متى يأتى (نَصْرُ اللهِ) طلبا وتمنيا له واستطالة لمدة الشدة والعناء وقرىء حتى يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية وهذا كما ترى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية كيف لا والرسل مع علو كعبهم فى الثبات والاصطبار حيث عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضجبج علم أن الأمر بلغ إلى غاية لا مطمح وراءها (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) على تقدير القول أى فقيل لهم حينئذ ذلك إسعافا لمرامهم والمراد بالقرب القرب الزمانى وفى إيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها وتقريره ما لا يخفى واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها فى حكم إنشاء الوعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاقتصار على حكايتها دون حكاية نفس النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف ويجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكى وفيه رمز إلى أن الوصول إلى جناب القدس لا يتسنى إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبئ عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (يَسْئَلُونَكَ

٢١٥

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢١٧)

____________________________________

ما ذا يُنْفِقُونَ) أى من أصناف أموالهم (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) ما إما شرطية وإما موصولة حذف العائد إليها أى ما أنفقتموه من خير أى خير كان ففيه تجويز الإنفاق من جميع أنواع الأموال وبيان لما فى السؤال إلا أنه جعل من جملة ما فى حيز الشرط أو الصلة وأبرز فى معرض بيان المصرف حيث قيل (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) للإيذان بأن الأهم بيان المصارف المعدودة لأن الاعتداد بالإنفاق بحسب وقوعه فى موقعه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جاء عمر وبن الجموح وهو شيخ هرم له مال عظيم فقال يا رسول الله ما ذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت (وَالْيَتامى) أى المحتاجين منهم (وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ولم يتعرض للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر فى المواقع الأخر وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) فإنه شامل لكل خير واقع فى أى مصرف كان (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيوفى ثوابه وليس فى الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به كما نقل عن السدى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ببناء الفعل للمفعول ورفع القتال أى قتال الكفرة وقرىء ببنائه للفاعل وهو الله عزوجل ونصب القتال وقرىء كتب عليكم القتل أى قتل الكفرة والواو فى قوله تعالى (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) حالية أى والحال أنه مكروه لكم طبعا على أن الكره مصدر وصف به المفعول مبالغة أو بمعنى المفعول كالخبز بمعنى المخبوز. وقرىء بالفتح على أنه بمعنى المضموم كالضعف والضعف أو على أنه بمعنى الإكراه مجازا كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلفوه من الأمور الشاقة التى من جملتها القتال فإن النفوس تكرمه وتنفر عنه والجملة اعتراضية دالة على أن فى القتال خيرا لهم (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهو جميع ما نهوا عنه من الأمور المستلذة وهو معطوف على ما قبله لا محل لهما من الإعراب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم فلذلك يأمركم به (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أى لا تعلمونه ولذلك تكرهونه أو والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا فى ذلك رأيكم وامتثلوا بأمره تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن جحش على سرية فى جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصدوا عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمى وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى

٢١٦

الآخرة فقالت قريش وقد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويبذعر فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير والأسارى وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة والمعنى يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال فى الشهر الحرام على أن قوله عزوجل (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال من الشهر وتنكيره لما أن سؤالهم كان عن مطلق القتال الواقع فى الشهر الحرام لا عن القتال المعهود ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال فى الشهر الحرام وقرىء عن قتال فيه بتكرير العامل كما فى قوله تعالى للذين (اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) وقرىء قتل فيه (قُلْ) فى جوابهم (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بقل وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ مع كونه نكره لتخصصه إما بالوصف إن تعلق الظرف بمحذوف وقع صفة له أى قتال كائن فيه وإما بالعمل إن تعلق به وإنما أوثر التنكير احترازا عن توهم التعيين وإيذانا بأن المراد مطلق القتال الواقع فيه أى قتال كان. عن عطاء أنه سئل عن القتال فى الشهر الحرام فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا فى الحرم ولا فى الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نسخت وأكثر الأقاويل أنها منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعده أى ومنع عن الإسلام الموصل للعبد إلى الله تعالى (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صد عامل فيما بعده مثله أى وكفر بالله تعالى وحيث كان الصد عن سبيل الله فردا من أفراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور فى حسن عطف قوله تعالى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على سبيل الله لأنه ليس بأجنبى محض وقيل هو أيضا معطوف على صد بتقدير المضاف أى وصد المسجد الحرام (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) وهو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون (مِنْهُ) أى من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) خبر للأشياء المعدودة أى كبائر السائلين أكبر عند الله مما عنوا بالسؤال وهو ما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن وأفعل يستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (وَالْفِتْنَةُ) أى ما أرتكبوه من الإخراج والشرك وصد الناس عن الإسلام ابتداء وبقاء (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أى أفظع من قتل الحضرمى (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة فى الدين (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) الحق إلى دينهم الباطل وإضافة الدين إليهم لتذكير تأكد ما بينهما من العلاقة الموجبة لامتناع الافتراق (إِنِ اسْتَطاعُوا) إشارة إلى تصلبهم فى الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) تحذير من الارتداد أى ومن يفعل ذلك بإضلالهم وإغوائهم (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) بأن لم يرجع إلى الإسلام وفيه ترغيب فى الرجوع إلى الإسلام بعد الارتداد (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الارتداد والموت عليه وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الشر والفساد والجمع للنظر إلى المعنى أى أولئك المصرون على الارتداد إلى حين الموت (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الحسنة التى كانوا عملوها فى حالة الإسلام حبوطا لا تلافى له قطعا (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لم يبق لها حكم من الأحكام الدنيوية والأخروية (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر سابقا ولاحقا من القبائح (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملابسوها وملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) كدأب

٢١٧

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢١٩)

____________________________________

سائر الكفرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت فى أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما مستقلان فى تحقيق الرجاء (أُولئِكَ) المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة (يَرْجُونَ) بما لهم من مبادىء الفوز (رَحْمَةِ اللهِ) أى ثوابه أثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه لا لأن فى فوزهم اشتباها (وَاللهُ غَفُورٌ) مبالغ فى مغفرة ما فرط من عباده خطأ (رَحِيمٌ) يجزل لهم الأجر والثواب والجملة اعتراض محقق لمضمون ما قبلها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) تواردت فى شأن الخمر أربع آيات نزلت بمكة ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فطفق المسلمون بشربونها ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قالوا أفتنا يا رسول الله فى الخمر فإنها مذهبة للعقل فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا فسكروا فأم أحدهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك سعد أبى وقاص فى نفر فلما سكروا تفاخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه موضحة فشكا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر رضى الله عنه انتهينا يا رب وعن على رضى الله عنه لو وقعت قطرة منها فى بئر فبنيت فى مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه وعن ابن عمر رضى الله عنهما لو أدخلت أصبعى فيها لم تتبعنى وهذا هو الإيمان والتقى حقا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخمر مصدر خمره أى ستره سمى به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقل والتمييز كأنها نفس الستر كما سميت سكرا لأنها تسكرهما أى تحجزهما والميسر مصدر ميمى من يسر كالموعد والمرجع يقال يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من اليسر لأنه أخذ المال بيسر من غير كد وتعب وإما من اليسار لأنه سلب له وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هى الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء وقيل ثمانية وعشرين إلا الثلاثة هى المنيح والسفيح والوغد للفذ سهم وللتوأم

٢١٨

سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها فى الربابة وهى خريطة ويضعونها على يدى عدل ثم يجلجها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعين لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غرم ثمن الجزور مع حرمانه وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم وفى حكمه جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما مياسر العجم وعن على كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين كل شىء فيه خطر فهو من الميسر. والمعنى يسألونك عن حكمهما وعما فى تعاطيهما (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أى فى تعاطيهما ذلك لما أن الأول مسلبة للعقول التى هى قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للأموال (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب الطرب واللذة ومصاحبة الفتيان وتشجيع الجبان وتقوية الطبيعة وقرىء إثم كثير بالمثلثة وفى تقديم بيان إثمه ووصفه بالكبر وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أى المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه وقرىء أقرب من نفعهما (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عطف على يسألونك عن الخمر الخ عطف القصة على القصة أى أى شىء ينفقونه قيل هو عمرو بن الجموح أيضا سأل أو لا من أى جنس ينفق من أجناس الأموال فلما بين جواز الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانيا من أى أصنافها ننفق أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما ينفقه منه فقيل (قُلِ الْعَفْوَ) بالنصب أى ينفقون العفو أو انفقوا العفو وقرىء بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولة صلتها ينفقون أى الذى ينفقونه العفو قال الواحدى أصل العفو فى اللغة الزيادة وقال القفال العفو ما سهل وتيسر مما فضل من الكفاية وهو قول قتادة وعطاء والسدى وكانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يكسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل وروى أن رجلا أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيضة من ذهب أصابها فى بعض المغانم فقال خذها منى صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مرارا حتى قال عليه‌السلام مغضباهاتها فأخذها فخذفها عليه خذفا لو أصابته لشجته ثم قال يأتى أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الآتى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه فى الفضل مع كمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك فى سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل أو الفريق أو لعدم القصد إلى تعيين المخاطب كما مر ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى مثل ذلك البيان الواضح الذى هو عبارة عما مضى فى أجوبة الأسئلة المارة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام الشرعية المذكورة لا بيانا أدنى منه وقد مر تمام تحقيقه فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا أنه تعالى يبينها بعد. أن كانت مشتبهة ملتبسة وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لكى تتفكروا فيها

٢١٩

(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

____________________________________

وتقفوا على مقاصدها وتعملوا بما فى تضاعيفها وقوله تعالى فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ متعلق إما يبين أى يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوف وقع حالا من الآيات أى يبينها لكم كائنة فيهما أى مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما وإنما قدم عليه التعليل لمزيد الاعتناء بشأن التفكر وإما بقوله تعالى (تَتَفَكَّرُونَ) أى تتفكرون فى الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة فى الأحكام الواردة فى أجوبة الأسئلة المارة فتختارون منها ما يصلح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره وهذا التخصيص هو المناسب لمقام تعداد الأحكام الجزئية ويجوز التعميم لجميع الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة فذلك حينئذ إشارة إلى ما مر من البيانات كلا أو بعضا لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعل مستقل ليس بعبارة عن تلك البيانات والمراد بالآيات غير ما ذكر والمعنى مثل ذلك البيان الوارد فى الأجوبة المذكورة يبين الله لكم الآيات والدلائل لعلكم تتفكرون فى أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعكم فيهما وتذرون ما يضركم حسبما تقتضيه تلك الآيات المبينة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) عطف على ما قبله من نظيره روى أنه لما نزلت إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية تحامى الناس عن مخالطة اليتامى وتعهد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أى التعرض لأحوالهم وأموالهم على طريق الإصلاح خير من مجانبتهم اتقاء (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وتعاشروهم على وجه ينفعهم (فَإِخْوانُكُمْ) أى فهم إخوانكم أى فى الدين الذى هو أقوى من العلاقة النسبية ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطة بالإصلاح والنفع وقد حمل المخالطة على المصاهرة (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) العلم بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد ومن لتضمينه معنى التمييز أى يعلم من يفسد فى أمورهم عند المخالطة أو من يقصد بمخالطته الخيانة والإفساد مميزا له ممن يصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازى كلا منهما بعمله ففيه وعد ووعيد خلا أن فى تقديم المفسد مزيد تهديد وتأكيد للوعيد (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أى لو شاء أن يعنتكم أى يكلفكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوز لكم مداخلتهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعز عليه أمر من الأمور التى من جملتها إعناتكم فهو تعليل لمضمون الشرطية وقوله عزوجل (حَكِيمٌ) أى فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة دليل على ما تفيده كلمة لو من انتفاء مقدمها (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أى لا تتزوجوهن وقرىء بضم التاء من الإنكاح أى لا تزوجوهن

٢٢٠