روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٨٧)

(قالُوا) أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا (مَنْ فَعَلَ هذا) الأمر العظيم (بِآلِهَتِنا) قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع ، والتعبير عنه بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) استئناف مقرر لما قبله ، وجوز أبو البقاء أن تكون (مَنْ) موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم ، والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه (قالُوا) أي بعضهم منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه‌السلام : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) عند بعض (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم وسمع. كما قال بعض الأجلة. حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيرا وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء ، وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش. والفارسي في الإيضاح وابن مالك وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدي إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت.

واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيدا يقول كذا دون قائلا كذا لأنه دال على ذات لا تسمع ، وأما قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم ، وقيل ما أضيف إليه الظرف مغن عنه ، وفيه نظر ، وقال بعضهم : إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات ، والجملة إن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولا ثانيا لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها.

وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في لتسهيل وشروحه فجوز هنا كون (فَتًى) مفعولا أولا وجملة (يَذْكُرُهُمْ) مفعولا ثانيا ، وكونه مفعولا والجملة صفة له لأنه نكرة ، وقيل إنها بدل منه ، ورجحه بعضهم باستغنائه عن التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز ، وفي الهمع أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال ، وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل ، وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه‌السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة.

ووجه بعضهم الأبلغية بغير ما ذكر مما بحث فيه ، ولعل الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تفوت المبالغة عليه ، وقد يقال : إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه ما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقا لما أن (سَمِعْنا) لما تعلق بفتى أفاد إجمالا أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعا ثم إذا ذكر (يَذْكُرُهُمْ) علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا رجح أسلوب الآية على غيره فتدبر.

وقوله تعالى : (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) صفة لفتى ، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا والأول أظهر ، ورفع (إِبْراهِيمُ) على أنه نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري وابن عطية ، والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ ، وقد اختلف في

٦١

جواز كون مفعول القول مفردا لا يؤدي معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدر القول أو صفته كقلت قولا أو حقا فذهب الزجاج والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى الجواز إذا أريد بالمفرد ولفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه ، وآخرون إلى المنع قال أبو حيان : وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلأن زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معناها ، وجعل المانعون (إِبْراهِيمُ) مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله : إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة.

وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله ؛ وأن يكون منادى حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعى يا إبراهيم ، وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري وابن عطية ويكفي الظهور مرجحا في أمثال هذه المطالب ، وذهب الأعلم إلى أن (إِبْراهِيمُ) ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذا القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ، ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم.

(قالُوا) أولئك القائلون (مَنْ فَعَلَ) إلخ إذا كان الأمر كذا (فَأْتُوا بِهِ) أي أحضروه (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) مشاهدا معاينا لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لتمكن الرؤية (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يحضرون عقوبتنا له ، وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس والضحاك ، والثاني عن الحسن وقتادة ، والترجي أوفق به (قالُوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فما ذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أو لا؟ فقيل قالوا : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) اقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه‌السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان ، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه‌السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان (١) بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) وأيضا (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل ، واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه‌السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام ، وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه‌السلام قد حلف بقوله : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) إلخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا) إلخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام ولقائل أن يقول : إن الحلف كما قاله كثير كان سرا أو سمعه رجل واحد ، وقوله سبحانه : (قالُوا سَمِعْنا) إلخ من قوله تعالى : (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا) إلخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه‌السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) كلام ذلك البعض. وقد يقال : إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه‌السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر أفأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل ، وقد سلك عليه‌السلام في الجواب مسلكا تعريضيا يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من الترقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل

__________________

(١) أي منه يدل عليه لفظ الإقرار فاندفع ما توهمه بعضهم في هذا المقام ا ه منه.

٦٢

بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلا يجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده اليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسنادا مجازيا عقليا باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا ، وإنما لم يكسره وأن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة ، وتسمية ذلك كذبا كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل في توجيه ذلك أيضا : إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة.

ويحكى أنه عليه‌السلام قال : فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها ، قيل : فيكون حينئذ تمثيلا أراد به عليه‌السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام ، وقيل إنه عليه‌السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا؟ فقلت له : بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك.

وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائر بينه عليه‌السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثا.

ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع ، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري ، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا ، وقيل إن (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) جواب قوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) معنى وقوله : «فاسألوا» جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله : «فاعلم فعلم المرء ينفعه» فيكون كون الكبير فاعلا مشروطا بكونهم ناطقين ومعلقا به وهو محال فالمعلق به كذلك ، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر ، وقيل : إن الكلام تم عند قوله : (فَعَلَهُ) والضمير المستتر فيه يعود على (فَتًى) أو إلى إبراهيم ، ولا يخفى أن كلام من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه‌السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذ والمناسب في الجواب نعم ، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزي إلى الكسائي أنه جعل الوقف على (فَعَلَهُ) أيضا إلا أنه قال : الفاعل محذوف أي فعله من فعله.

وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه.

وقيل يجوز أن يقال : إنه أراد بالحذف الإضمار ، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء ، وقيل الوقف على (كَبِيرُهُمْ) وأراد به عليه‌السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم ، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان ، ومثله أن يراد به الله عزوجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها ، ويعزى للفراء أن الفاء في (فَعَلَهُ) عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف.

واستدل عليه بقراءة ابن السميقع «فعلّه» مشدد اللام ، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا

٦٣

التخريج ، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها ، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم‌السلام لمصلحة جائز ، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلا وأن في المعارض لمندوحة عن الكذب ، وإنما قال عليه‌السلام (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل ، وقد حصل ذلك حسبما نطق به قوله تعالى : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا.

(فَقالُوا) أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه‌السلام وعدولكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه‌السلام حيث كان متضمنا التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه‌السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل ، وابن إسحاق ، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه‌السلام (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله ، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد ، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح.

وذكر الزمخشري على ما في الكشف في المراد به هنا ثلاثة أوجه ، الأول أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلا أن تكون في معرض الإلهية فمعنى (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف ، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه‌السلام الآتي ، والثاني أنه الرجوع عن الجدل معه عليه‌السلام بالباطل في قولهم : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) وقولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) إلى الجدال عنه بالحق في قولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ) لأنه نفي للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكسا وإن كان حقا لأنه ما أفادهم عقدا فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا. وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذا لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) إلى الجدال معه عليه‌السلام بالباطل في قولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ) والثالث أن النكس مبالغة في إطراقهم رءوسهم خجلا وقولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ) إلخ رمي عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة ، قال في الكشف. وهذا وجه حسن وكذلك والأول ، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين ، وقال مجاهد : معنى (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) ردت السفلة السفلة على الرؤساء. فالمراد بالرءوس الرؤساء ، والأظهر عندي الوجه الثالث ، وأيا ما كان فالجار متعلق بنكسوا.

وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا ، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين (لَقَدْ) إلخ ، والخطاب في (عَلِمْتَ) لإبراهيم عليه‌السلام لا لكل من يصلح للخطاب ، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد ، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع ، وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة. وابن مقسم. وابن الجارود. والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف «نكّسوا» ، وقرأ

٦٤

رضوان بن عبد المعبود «نكسوا» بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل : رجعوا على رؤسائهم بناء على ما يقتضيه تفسير مجاهد.

(قالَ) عليه‌السلام مبكتا لهم (أَفَتَعْبُدُونَ) أي أتعلمون ذلك فتعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي مجاوزين عبادته تعالى (ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) من النفع ، وقيل : بشيء (وَلا يَضُرُّكُمْ) فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعا (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تضجر منه عليه‌السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق ، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة ، واللام لبيان المتأفف له ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي لا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة (حَرِّقُوهُ) فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها (وَانْصُرُوا (١) آلِهَتَكُمْ) بالانتقام لها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئا ما فيها ، ويشعر بذلك العدول عن أن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في النظم الكريم ، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه‌السلام.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال : أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه‌السلام بالنار؟ قلت : لا. قال : رجل من أعراب فارس يعني الأكراد (١) ونص على أنه من الأكراد ابن عطية ، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، واسمه على ما أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون ، وقيل : هدير. وفي البحر أنهم ذكروا له اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة ، روي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) [الصافات : ٩٧] فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه‌السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ، وقيل : صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى ابراهيم عليه‌السلام فوضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه‌السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا : إن استغاث بأحد منكم فلينصره وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار

فقال عليه‌السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل ، وروي عن أبيّ بن كعب قال : حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه‌السلام : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا ابراهيم ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا. قال : جبريل عليه‌السلام : فاسأل ربك فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار ، وقد جاء ذلك في رواية البخاري.

__________________

(١) هذا ظاهر في أن الأكراد من الفرس وقد ذهب كثير إلى أنهم من العرب وذكر أن منهم أبا ميمون جابان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقيق الكلام فيهم في محله ا ه منه.

٦٥

وفي البحر ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك ، فلما وصل عليه‌السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه‌السلام روضة ، وذلك قوله سبحانه وتعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار ، ولذا قال علي كرّم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عند أحمد وغيره : لو لم يقل سبحانه (وَسَلاماً) لقتله بردها ، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وقيل : نصب (سَلاماً) بفعله أي وسلمنا سلاما عليه ، والجملة عطف على (قُلْنا) وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار. روي أن الملائكة عليهم‌السلام أخذوا بضبعي ابراهيم عليه‌السلام فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب ، وروي أنه عليه‌السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين يوما ، وقال عليه‌السلام : ما كنت أطيب عيشا مني إذ كنت فيها ، قال ابن إسحاق : وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليه‌السلام يؤنسه ، قالوا : وبعث الله عزوجل جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، وقال جبريل عليه‌السلام يا ابراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا ابراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا ابراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال ابراهيم عليه‌السلام : نعم قال : هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال : لا. قال : فقم فاخرج منها فقام عليه‌السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه ، وقال له : يا ابراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها فقال : يا ابراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له ابراهيم عليه‌السلام : إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن ابراهيم عليه‌السلام. وكان ابراهيم عليه‌السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة ، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه‌السلام لم يحترق قالوا : إنه سحر النار فرموا فيها شيخا منهم فاحترق ، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه‌السلام سالما لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه‌السلام : إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هاران فأحرقته ، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أبا لوط قال وكان عمه : إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقا من النار فأحرقه ، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في البحر : قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه‌السلام ، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه‌السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه‌السلام بردا وسلاما.

ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها : (كُونِي بَرْداً) إلخ وأن هناك قولا حقيقة ، وقيل القائل جبرائيل عليه‌السلام بأمره سبحانه ، وقيل قول ذلك مجازا عن جعلها باردة ، والظاهر أيضا أن الله عزوجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق ، وقيل إنها انقلبت هواء طيبا وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق ، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى : (عَلى إِبْراهِيمَ) وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظرا إلى مفهوم القلب إذ الأكثرون على عدم اعتباره. وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده ، وأيا ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين

٦٦

إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس‌سره من الفسقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارا فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفرا وإن كان معها ما لا كفر فيه ، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة ، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس‌سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعا للسنة وأشدهم تجنبا عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس‌سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ ، قال في العبر : قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس‌سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا ما لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى.

والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلا ، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة ، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر. والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون ، وقد رأيت منهم من يأخذ زرق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنورا كبيرا تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء ، وأقرب ما يقال في مثل ذلك : إنه استدراج وابتلاء ، وأما أن يقال : إن الله عزوجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس‌سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه ، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له ، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة.

هذا واستدل بالآية من قال : إن لله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلا بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلا وفي تلك خاصة الإحراق مثلا لكن لا تحرق هذه ولا يروي ذاك إلا بإذنه عزوجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال. ولا قائل بالفرق فتأمل.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) مكرا عظيما في الإضرار به ومغلوبيته (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق قولا وفعلا برهانا قاطعا على أنه عليه‌السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته عليه‌السلام واستحقاقهم لأشد العذاب ، وقيل : جعلهم الأخسرين من حيث إنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضا فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى ، والمعول عليه التفسير الأول (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) وهو على ما تقدم ابن عمه ، وقيل : هو ابن أخيه وروي ذلك في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقد ضمن (نَجَّيْناهُ) معنى أخرجناه فلذا عدي بإلى في قوله سبحانه :

٦٧

(إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وقيل : هي متعلقة بمحذوف وقع حالا أي منتهيا إلى الأرض فلا تضمين ، والمراد بهذه الأرض أرض الشام ، وقيل : أرض مكة ، وقيل : مصر والصحيح الأول ، ووصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم‌السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها محيطة بالبركة ، وقيل : المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره ، والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم‌السلام ، وروي أنه عليه‌السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه‌السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى. وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه‌السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول ، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب ، وفي الآية من مدح الشام ما فيها ، وفي الحديث «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود.

وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى لأهل الشام فقلت : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : لأن الملائكة عليهم‌السلام باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الأحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمه وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي عطية كما روي عن مجاهد. وعطاء من نفله بمعنى أعطاه ، وهو على ما اختاره أبو حيان مصدر كالعاقبة والعافية منصوب بوهبنا على حد قعدت جلوسا ، واختار جمع كونه حالا من إسحاق ويعقوب أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل عليه‌السلام وهو إسحاق فيكون حالا من يعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة (وَكُلًّا) من المذكورين. وهم ابراهيم. ولوط. وإسحاق. ويعقوب عليهم‌السلام لا بعضهم دون بعض (جَعَلْنا صالِحِينَ) بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم في أمور الدين (يَهْدُونَ) أي الأمة إلى الحق (بِأَمْرِنا) لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ليتم الكمال بانضمام العمل إلى العلم ، وأصله على ما ذهب إليه الزمخشري ومن تابعه أن يفعل الخيرات ببناء الفعل لما لم يسم فاعله ورفع الخيرات على النيابة عن الفاعل ثم فعلا الخيرات بتنوين المصدر ورفع الخيرات أيضا على أنه نائب الفاعل لمصدر المجهول ثم فعل الخيرات بحذف التنوين وإضافة المصدر لمعموله القائم مقام فاعله ، والداعي كما قيل إن (فِعْلَ الْخَيْراتِ) بالمعنى المصدري ليس موحى إنما الموحى أن يفعل ، ومصدر المبني للمفعول والحاصل بالمصدر كالمترادفين ، وأيضا الوحي عام للأنبياء المذكورين عليهم‌السلام وأممهم فلذا بني المجهول.

وتعقب ذلك أبو حيان بأن بناء المصدر لما لم يسم فاعله مختلف فيه فأجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه ، وما ذكر من عموم الوحي لا يوجب ذلك هنا إذ يجوز أن يكون المصدر مبنيا للفاعل ومضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليه وغيرهم أي فعل المكلفين الخيرات ، ويجوز أن يكون مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فاتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به انتهى. وانتصر للزمخشري بأن ما ذكره بيان لأمر مقرر في النحو والداعي إليه أمران ثانيهما ما ذكر من عموم الوحي الذي اعترض عليه والأول سالم عن الاعتراض ذكر أكثر ذلك الخفاجي ثم قال : الظاهر أن المصدر هنا للأمر كضرب

٦٨

الرقاب ، وحينئذ فالظاهر أن الخطاب للأنبياء عليهم‌السلام فيكون الموحى قول الله تعالى افعلوا الخيرات ، وكان ذلك لأن الوحي مما فيه معنى القول كما قالوا فيتعلق به لا بالفعل إلا أنه قيل يرد عليه ما أشير أولا إليه من أن ما ذكر ليس من الأحكام المختصة بالأنبياء عليهم‌السلام ولا يخفى أن الأمر فيه سهل ، وجوّز أن يكون المراد شرعنا لهم فعل ذلك بالإيحاء إليهم فتأمل ، والكلام في قوله تعالى : (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) على هذا الطرز ، وهو كما قال غير واحد من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته ، وأصل (إِقامَ) أقوام فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها لما قبلها وحذف إحدى ألفيه لالتقاء الساكنين ، والأكثر تعويض التاء عنها فيقال إقامة وقد تترك التاء إما مطلقا كما ذهب إليه سيبويه والسماع يشهد له ، وإما بشرط الإضافة ليكون المضاف سادا مسدها كما ذهب إليه الفراء وهو كما قال أبو حيان مذهب مرجوح ، والذي حسن الحذف هنا المشاكلة ، والآية ظاهرة في أنه كان في الأمم السالفة صلاة وزكاة وهو مما تضافرت عليه النصوص إلا أنهما ليسا كالصلاة والزكاة المفروضتين على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية (وَكانُوا لَنا) خاصة دون غيرنا (عابِدِينَ) لا يخطر ببالهم غير عبادتنا كأنه تعالى أشار بذلك إلى أنهم وفوا بعهد العبودية بعد أن أشار إلى أنه سبحانه وفى لهم بعهد الربوبية (وَلُوطاً) قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى : (آتَيْناهُ) أي وآتينا لوطا آتيناه والجملة عطف على (وَهَبْنا لَهُ) جمع سبحانه ابراهيم ولوطا في قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) ثم بين ما أنعم به على كل منهما بالخصوص وما وقع في البين بيان على وجه العموم. والطبرسي جعل المراد من قوله تعالى : (وَكُلًّا) إلخ أي كلا من إبراهيم وولديه إسحاق. ويعقوب جعلنا إلخ فلا اندراج للوط عليه‌السلام هناك وله وجه ، وأما كون المراد وكلا من إسحاق ويعقوب فلا وجه له ويحتاج إلى تكليف توجيه الجمع فيما بعده ، وقيل بأذكر مقدرا وجملة (آتَيْناهُ) مستأنفة (حُكْماً) أي حكمة ، والمراد بها ما يجب فعله أو نبوة فإن النبي حاكم على أمته أو الفصل بين الخصوم في القضاء ، وقيل حفظ صحف ابراهيم عليه‌السلام وفيه بعد (وَعِلْماً) بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم‌السلام (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) قيل أي اللواطة ، والجمع باعتبار تعدد المواد ، وقيل المراد الأعمال الخبيثة مطلقا إلا أن أشنعها اللواطة ، فقد أخرج إسحاق بن بشير. والخطيب ، وابن عساكر عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا إتيان الرجال بعضهم بعضا ورميهم بالجلاهق والخذف ولعبهم بالحمام وضرب الدفوف وشرب الخمور وقص اللحية وطول الشارب والصفر والتصفيق ولباس الحرير وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهن بعضا».

وأسند ذلك إلى القرية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالنعت سببي نحو جاءني رجل زنى غلامه ، ولو جعل الإسناد مجازيا بدون تقدير أو القرية مجازا عن أهلها جاز ، واسم القرية سدوم ، وقيل : كانت قراهم سبعا فعبر عنها ببعضها لأنها أشهرها. وفي البحر أنه عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ويروى أنها كلها قلبت إلا زغر لأنها كانت محل من آمن بلوط عليه‌السلام ، والمشهور قلب الجميع.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي خارجين عن الطاعة غير منقادين للوط عليه‌السلام ، والجملة تعليل لتعمل الخبائث ، وقيل : لنجيناه وهو كما ترى (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في أهل رحمتنا أي جعلناه في جملتهم وعدادهم فالظرفية مجازية أو في جنتنا فالظرفية حقيقة والرحمة مجاز كما في حديث الصحيحين قال الله عزوجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ؛ ويجوز أن تكون الرحمة مجازا عن النبوة وتكون الظرفية مجازية أيضا فتأمل (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى ، والجملة تعليل لما قبلها.

(وَنُوحاً) أي واذكر نوحا أي نبأه عليه‌السلام ، وزعم ابن عطية أن نوحا عطف على لواط المفعول لآتينا على

٦٩

معنى وآتينا نوحا ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء ، قيل ولما ذكر سبحانه «قصة ابراهيم» عليه‌السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه‌السلام الأب الأول بناء على المشهور من أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه‌السلام وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم‌السلام على ما في التهذيب عمرا ، وذكر الحاكم في المستدرك أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه ، وقال الجواليقي : إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن (إِذْ نادى) أي دعا الله تعالى بقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] وقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] وإذ ظرف للمضاف المقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح.

(مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء المذكورين ، وذكرنا قبل قولا آخر (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو الطوفان أو أذية قومه ؛ وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب ، وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل هو عليه (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه ، وقيل : أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على ، وقال بعضهم : إن النصر يتعدى بعلى ومن ، ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه ، وفرق بينهما بأن المتعدى بعلى يدل على مجرد الإعانة والمتعدى بمن يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) منهمكين في الشر ، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى : (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) فإن تكذيب الحق والانهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعا في الأمم السابقة ، ونصب (أَجْمَعِينَ) قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى ، وقال أبو حيان : على أنه تأكيد له وقد كثر التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعا لكل انتهى.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) إما عطف على (نُوحاً) معمول لعامله أعني أذكر عليه على ما زعم ابن عطية ، وإما مفعول لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف أي نبأ داود وسليمان. وداود بن ايشا (١) بن عوبر بن باعر ابن سلمون بن يخشون بن عمي بن يا رب بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه‌السلام كان ، كما روي عن كعب أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت وجمع له بين النبوة والملك ، ونقل النووي عن أهل التاريخ أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون ، وكان له اثنا عشر ابنا وسليمان عليه‌السلام أحد أبنائه وكان عليه‌السلام يشاور في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله وعلمه.

وذكر كعب أنه كان أبيض جسيما وسيما وضيئا خاشعا متواضعا ، وملك كما قال المؤرخون وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وله ثلاث وخمسون سنة ، وقوله تعالى : (إِذْ يَحْكُمانِ) ظرف لذلك المقدر ، وجوزت البدلية على طرز ما مر ، والمراد إذ حكما (فِي الْحَرْثِ) إلا أنه جيء بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها ، والمراد بالحرث هنا الزرع.

وأخرج جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه الكرم ، وقيل إنه يقال فيهما إلا أنه في الزرع أكثر ، وقال

__________________

(١) قوله «بن ايشا» إلى آخر النسب هكذا في نسخة المؤلف هو مغاير لما في كثير من كتب التواريخ وحرر ا ه.

٧٠

الخفاجي : لعله بمعنى الكرم مجاز على التشبيه بالزرع ، والمعنى إذ يحكمان في حق الحرث (إِذْ نَفَشَتْ) ظرف للحكم ، والنفش رعي الماشية في الليل بغير راع كما أن الهمل رعيها في النهار كذلك ، وكان أصله الانتشار والتفرق أي إذ تفرقت وانتشرت (فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ليلا بلا راع فرعته وأفسدته (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي حاضرين علما ، وضمير الجمع قيل : لداود وسليمان ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لحكمهما» بضمير التثنية ، واستدل بذلك من قال : إن أقل الجمع اثنان ، وجوز أن يكون الجمع للتعظيم كما في (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩].

وقيل : هو للحاكمين والمتحاكمين ، واعترض بأن إضافة حكم إلى الفاعل على سبيل القيام وإلى المفعول على سبيل الوقوع وهما في المعنى معمولان له فكيف يصح سلكهما في قرن. وأجيب بأن الحكم في معنى القضية لا نظر هاهنا إلى علمه وإنما ينظر إليه إذا كان مصدرا صرفا ، وأظهر منه كما في الكشف أن الاختصاص يجمع القيام والوقوع وهو معنى الإضافة ولم يبق النظر إلى العمل بعدها لا لفظا ولا معنى فالمعنى وكنا للحكم الواقع بينهم شاهدين ، والجملة اعتراض مقرر للحكم ، وقد يقال : إنه مادح له كأنه قيل : وكنا مراقبين لحكمهم لا نقرهم على خلل فيه ، وهذا على طريقة قوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] في إفادة العناية والحفظ ، وقوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) عطف على (يَحْكُمانِ) فإنه في حكم الماضي كما مضى.

وقرأ عكرمة «فأفهمناها» بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق. روي أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت إحداهما للأخرى : قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشرّ ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذنا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا أنها قد بغت وكان من زنى فيهم حده الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان : ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتى بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه‌السلام فأحبه جدا فاتفق أن دخل على داود عليه‌السلام رجلان فقال أحدهما : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال : كيف قضى بينكما أبي؟ فأخبراه فقال : غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه‌السلام فدعاه فقال له : بحق النبوة والأبوة ألا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادى فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك ، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة ، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما‌السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم‌السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه‌السلام غير هذا أرفق ، ثم قوله : أرى أن تدفع إلخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما‌السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهر بداء وحرم عليه كتمه ، مع أن الظاهر أنه عليه‌السلام لم يكن نبيا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد ، وفي الكشف أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما‌السلام والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعا حكما بالوحي ويكون ما أوحي به لسليمان عليه‌السلام ناسخا لحكم داود عليه‌السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي ، وقوله تعالى : (فَفَهَّمْناها) لا يدل على أن ذلك اجتهاد.

٧١

وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه ، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون ، وقيل : يجوز أن يكون أوحي إلى داود عليه‌السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه‌السلام عن اجتهاد ، وقيل : إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا ، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه‌السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه‌السلام ما سمع ، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس‌سره ثم قال : بل أقول والله تعالى أعلم : إن رأى سليمان عليه‌السلام استحسانا كما ينبئ عنه قوله : أرفق بالجانبين ورأى داود عليه‌السلام قياسا كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.

وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت ، وأما سليمان عليه‌السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا انتهى.

وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جرح العجماء جبار» ولا تقييد فيه بليل أو نهار ، وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا لما في السنن من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل.

وأجيب بأن في الحديث اضطرابا ، وفي رجال سنده كلاما مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه (وَكُلًّا) من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) كثيرا ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه‌السلام وحده ، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا ، وقيل : إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري ، والقاضي ، ومن المعتزلة كأبي الهذيل ، والجبائي وأتباعهم ، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض ، وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك. ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وذلك يدل على عدم فهم داود عليه‌السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدا. وتعقبه الآمدي بقوله : ولقائل أن يقول : إن غاية ما في قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) تخصيصه عليه‌السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه‌السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما بالنص حكما واحدا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما‌السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه ، والذي يدل على هذا قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالاجتهاد مع الإذن

٧٢

فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه‌السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه‌السلام بسبب ذلك ، وإن سلمنا أن داود عليه‌السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود ، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى.

وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه‌السلام ، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما‌السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما‌السلام (يُسَبِّحْنَ) يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعه الناس ، وكان عند الأكثرين يقول : سبحان الله تعالى ، وكان داود عليه‌السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام ، وقيل : يسمعه كل أحد وقيل : بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدى (*) فليس بشيء أصلا ؛ ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال ، وقيل : (يُسَبِّحْنَ) بمعنى يسرن من السباحة. وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه‌السلام.

وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى.

وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه ، والجملة في موضع الحال من (الْجِبالَ) أو استئناف مبين لكيفية التسخير و (مَعَ) متعلقة بالتسخير ، وقال أبو البقاء : يسبحن وهو نظير قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدى (وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) أو مفعول معه ، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه‌السلام كالجبال. وقرئ «والطير» بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات ، وقيل : على العطف على الضمير في (يُسَبِّحْنَ) ومثله جائز عند الكوفيين ، وقوله تعالى : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس ، وأنشد ابن السكيت :

البس لكل حالة لبوسها

إما نعيمها وإما بوسها

وقيل : هو اسم للسلاح كله درعا كان أو غيره ، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحا :

ومعي لبوس (١) للبئيس كأنه

روق بجبهة ذي نعاج محفل

قال قتادة : كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه‌السلام فجمعت الخفة والتحصين ، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه‌السلام فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع ، وقرئ «لبوس» بضم اللام (لَكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس ، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة.

وقوله تعالى : (لِتُحْصِنَكُمْ) متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من (لَكُمْ) بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص

__________________

(١) أي الشجاع وروق أي قرن ا ه منه.

٧٣

والمنفعة المستفادة من لام (لَكُمْ) والضمير المستتر للبوس ، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة.

وقرأ جماعة «ليحصنكم» بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه‌السلام قيل أو التعليم ، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات ، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم «لنحصنكم» بالنون ، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو ، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد ، وابن وثاب والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد (مِنْ بَأْسِكُمْ) قيل أي من حرب عدوكم ، والمراد مما يقع فيها ، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخرنا له الريح ، وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه‌السلام كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لداود عليه‌السلام فإنه كان بطريق التبعية والاقتداء به عليه‌السلام في عبادة الله عزوجل (عاصِفَةً) حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب ، ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصفها في موضع آخر بأنها رخاء بمعنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة.

ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه‌السلام فيه ، وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصفها بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن. فهي عاصفة في وقت رخاء في آخر. وقرأ ابن هرمز. وأبو بكر في رواية «الريح» بالرفع مع الإفراد.

وقرأ الحسن وأبو رجاء «الرياح» بالنصب والجمع ، وأبو حيوة بالرفع والجمع ، ووجه النصب ظاهر ، وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم و (عاصِفَةً) حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) أي بمشيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع ، ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاها ، والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي ، وكان عليه‌السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منها بكرة ، ولشيوع كونه عليه‌السلام ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان ، وقيل كان مسكنه إصطخر وكان عليه‌السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام.

وقيل : يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام ، ووصفها بالبركة لأنه عليه‌السلام إذا حل أرضا أمر بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك ، ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركا فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركا فيها من بعده وأبعد جدا منذر بن سعيد بقوله : إن الكلام قد تم عند قوله تعالى : (إِلى الْأَرْضِ) والتي باركنا فيها صفة للريح ؛ وفي الآية تقديم وتأخير ، والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه ، ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة ، وقيل : المراد بها الصبا.

وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك ، فعن مقاتل أنه قال : نسجت لسليمان عليه‌السلام الشياطين بساطا من ذهب

٧٤

وإبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم‌السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح.

وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : كان لسليمان عليه‌السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود ، وقيل في وجه الجمع إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك.

وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه‌السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرا منها من حيث السرعة مع الراحة ، ومن العجب أن أهل لندن قد أتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاءوا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارا بما ظهر منذ سنوات من عمل سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لهم ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل ، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاءوا بل إلى حيث ألقت رحلها (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فما أعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة (وَمِنَ الشَّياطِينِ) أي وسخرنا له من الشياطين (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) فمن في موضع نصب لسخرنا ، وجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء وخبره ما قبله ، وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصولة وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة ، ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا ، وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر ، وجيء بضمير الجمع نظرا للمعنى ، وحسنه تقدم جمع قبله ، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه ، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل : (لَهُ) للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه‌السلام. وقد كان عليه‌السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه (وَيَعْمَلُونَ) له (عَمَلاً) كثيرا (دُونَ ذلِكَ) أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ١٣] الآية ، قيل : إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم ، وذكر ذلك الإمام الرازي في التفسير ، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا. ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر. وقيل : من صناعة بقراط وجالينوس انتهى. وقيل : هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك ، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم ، ثم هؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة (مِنَ) كأنه قيل : ومن يعملون ، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة ، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نظير قلع الهواء الأجسام الثقيلة ، وقال الجبائي : إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه‌السلام فلما توفي ردّهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي إبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى.

والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقا عليهم ، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا ، وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار ، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا ؛ والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم

٧٥

أنه وكل بهم جمعا من الملائكة عليهم‌السلام وجمعا من مؤمني الجن ، هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما‌السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى.

قال الإمام : وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه‌السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ ألانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه‌السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده (وَأَيُّوبَ) الكلام فيه كما مر في قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وقرأ عيس بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلا إني ، ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال ، والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلا ، ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفيا بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألطف وجه.

ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال : املئوا بيتها خبزا وسمنا ولحما ، وهو عليه‌السلام على ما قال ابن جرير : ابن اموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه‌السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم عليه‌السلام فعلى هذا كان قبل موسى عليه‌السلام ، وقال ابن جرير : كان بعد شعيب عليه‌السلام ، وقال ابن أبي خيثمة ، كان بعد سليمان عليه‌السلام.

وأخرج ابن سعد عن الكلبي قال أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى. وهارون ثم الياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب عليهم‌السلام ، وقال ابن إسحاق : الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أموص.

وكان عليه‌السلام على ما أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب طويلا جعد الشعر واسع العينين حسن الخلق قصير العنق عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين وكان قد اصطفاه الله تعالى وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده بهدم بيت عليهم وبذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات أو ثلاث سنين ، وعمره إذ ذاك سبعون سنة ، وقيل ثمانون سنة ، وقيل أكثر ، ومدة عمره على ما روى الطبراني ثلاث وتسعون سنة وقيل أكثر. روي أن امرأته وكونها ماضر بنت ميشا بن يوسف عليه‌السلام أو رحمة بنت أفرائيم بن يوسف إنما يتسنى على بعض الروايات السابقة في زمانه عليه‌السلام. قالت له يوما : لو دعوت الله تعالى فقال : كم كانت مدة الرخاء فذكرت مدة كثيرة وفي بعض الروايات ثمانين سنة فقال عليه‌السلام : أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. وروي أن إبليس عليه اللعنة أتاها على هيئة عظيمة فقال لها : أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما.

وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرددت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب عليه‌السلام وكان ملقى في الكناسة ببيت المقدس لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه‌السلام : لعلك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عزوجل لأضربنك مائة سوط وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا من طعامك وشرابك شيئا فطردها فبقي طريحا

٧٦

في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال : رب (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه عليه‌السلام قال ذلك حين مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه : ولو كان لله تعالى في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله فسمع عليه‌السلام فشق عليه فقال : (رب) إلخ ، وروى أنس مرفوعا أنه عليه‌السلام نهض مرة ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال (رب) إلخ وقيل غير ذلك ولعل هذا الأخير أمثل الأقوال ، وكان عليه‌السلام بلاؤه في بدنه في غاية الشدة ، فقد أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال : كان يخرج في بدنه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ ، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال : ما كان بقي من أيوب عليه‌السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه فكانت الدواب تختلف في جسده ، وأخرج أبو نعيم. وابن عساكر عنه أن الدودة لتقع من جسد أيوب عليه‌السلام فيعيدها إلى مكانها ويقول : كلي من رزق الله تعالى ، وما أصاب منه إبليس في مرضه كما أخرج البيهقي في الشعب إلا الأنين ، وسبب ابتلائه على ما خرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه استعان به مسكين على درء ظلم عنه فلم يعنه.

وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني في ذلك أن الشام أجدب فكتب فرعون إليه عليه‌السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة فأقبل بما عنده فأقطعه أرضا فاتفق أن دخل شعيب على فرعون وأيوب عليه‌السلام عنده فقال: أما تخاف أن يغضب الله تعالى غضبه فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار فسكت أيوب فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب أوسكتّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء قال : فديني قال سبحانه : أسلمه لك قال : لا أبالي ، والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ، ثم إنه عليه‌السلام لما سجد فقال ذلك قيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك أركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله وذلك قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) ثم كسى حلة وجلس على مكان مشرف ولم تعلم امرأته بذلك فأدركتها الرقة عليه فقالت في نفسها : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال فجعلت تطوف حيث الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله فدعاها أيوب عليه‌السلام فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت : أريد ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة قال لها : ما كان منك؟ فبكت وقالت : بعلي قال : أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت : وهل يخفى عليّ فتبسم فقال : أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقته (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) الظاهر أنه عطف على (كشفنا) فيلزم أن يكون داخلا معه في حيز تفصيل استجابة الدعاء ، وفيه خفاء لعدم ظهور كون الإتيان المذكور مدعوا به وإذا عطف على (استجبنا) لا يلزم ذلك ، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية ، أخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ) إلخ قال : رد الله تعالى امرأته إليه وزاد في شبابها حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا» فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر ، وقال ابن مسعود والحسن وقتادة في الآية : إن الله تعالى أحيا له أولاده الذين هلكوا في بلائه وأوتي مثلهم في الدنيا ، والظاهر أن المثل من صلبه عليه‌السلام أيضا ، وقيل : كانوا نوافل ؛ وجاء في خبر أنه عليه‌السلام كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فأفرغت إحداهما في أندر القمح الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض ، وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما أيوب عليه‌السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه‌السلام يحثي في ثوبه فناداه ربه سبحانه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى : قال : بلى وعزتك لكن لا غنى بي عن

٧٧

بركتك ، وعاش عليه‌السلام بعد الخلاص من البلاء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعين سنة ، ويظهر من هذا مع القول بأن عمره حين أصابه البلاء سبعون أن مدة عمره فوق ثلاث وتسعين بكثير ، ولما مات عليه‌السلام أوصى إلى ابنه حرمل كما روي عن وهب ، والآية ظاهرة في أن الأهل ليس المرأة (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي وآتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب عليه‌السلام وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب ، فرحمة نصب على أنه مفعول له و (لِلْعابِدِينَ) متعلق بذكرى ، وجوز أن يكون (رَحْمَةً وَذِكْرى) تنازعا فيه على معنى وآتيناه العابدين الذين من جملتهم أيوب عليه‌السلام وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم.

وجوّز أبو البقاء نصب «رحمة» على المصدر وهو كما ترى (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكرهم ؛ وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم‌السلام أنه منهم وهو الذي ذهب إليه الأكثر ، واختلف في اسمه فقيل بشر وهو ابن أيوب عليه‌السلام بعثه الله تعالى نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل وأمره سبحانه بالدعاء إلى توحيده ، وكان مقيما بالشام عمره ومات وهو ابن خمس وسبعين سنة وأوصى إلى ابنه عبدان (١) وأخرج ذلك الحاكم عن وهب ، وقيل هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم‌السلام ، وصنيع بعضهم يشعر باختياره ، وقيل يوشع بن نون ، وقيل اسمه ذو الكفل ، وقيل هو زكريا حكى كل ذلك الكرماني في العجائب ، وقيل هو اليسع بن أخطوب بن العجوز ، وزعمت اليهود أنه حزقيال وجاءته النبوة وهو في وسط سبي بختنصر على نهر خوبار.

وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : لم يكن نبيا وكان عبدا صالحا استخلفه. على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. اليسع عليه‌السلام بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل ولم يذكر مجاهد ما اسمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : كان قاضيا في بني إسرائيل فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ فقال رجل : أنا يسمى ذا الكفل الخبر ، وأخرج عن ابن حجيرة الأكبر كان ملك من ملوك بني إسرائيل فحضرته الوفاة فأتاه رءوس بني إسرائيل فقالوا : استخلف علينا ملكا نفزع إليه فقال : من تكفل لي بثلاث فأوليه ملكي؟ فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال : أنا فقال : اجلس ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا الفتى فقال : تكفل لي بثلاث وأوليك ملكي تقوم الليل فلا ترقد وتصوم فلا تفطر وتحكم فلا تغضب قال : نعم قال : قد وليتك ملكي الخبر ، وفيه كذا في الخبر السابق قصة إرادة إبليس عليه اللعنة إغضابه وحفظ الله تعالى إياه منه ، والكفل الكفالة والحظ والضعف ، وإطلاق ذلك عليه إن لم يكن اسمه إما لأنه تكفل بأمر فوفى به ، وإما لأنه كان له ذا حظ من الله تعالى ، وقيل لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم‌السلام في زمانه وضعف ثوابهم.

ومن قال إنه زكريا عليه‌السلام قال : إن إطلاق ذلك عليه لكفالته مريم وهو داخل في الوجه الأول ، وفي البحر وقيل : في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح والله تعالى أعلم.

(كُلٌ) أي كل واحد من هؤلاء (مِنَ الصَّابِرِينَ) أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب ويعلم هذا من ذكر هؤلاء بعد أيوب عليهم‌السلام ، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) الكلام فيه على طرز ما سبق من نظيره آنفا.

(إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح لعصمتهم من الذنوب. والجملة في موضع التعليل وليس فيه تعليل الشيء بنفسه من غيره حاجة إلى جعل من ابتدائية كما يظهر بأدنى نظر (وَذَا النُّونِ) أي واذكر صاحب الحوت

__________________

(١) ثم بعث الله تعالى شعيبا ا ه منه.

٧٨

يونس عليه‌السلام ابن متى وهو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري وغيره وصححه ابن حجر قال : ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه ، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس ، وقال ابن الأثير كغيره إنه ، اسم أمه ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما‌السلام.

واليهود قالوا بما تقدم إلا أنهم سموه يونه بن اميتاي ، وبعضهم يقول يونان بن امافي ، والنون الحوت كما أشرنا إليه ويجمع على نينان كما في البحر وأنوان أيضا كما في القاموس.

(إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي غضبان على قومه لشدة شكيمتهم وتمادى إصرارهم مع طول دعوته إياهم ، وكان ذهابه هذا هجرة عنهم لكنه لم يؤمر به. وقيل : غضبان على الملك حزقيل ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا فأوحى الله تعالى إلى شعياء النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له يوجه خمسة من الأنبياء لقتال هذا الملك فقال : أوجه يونس بن متى فإنه قوي أمين فدعاه الملك يخرج فقال يونس : هل أمرك الله تعالى بإخراجي؟ قال : لا قال : هل سماني لك؟ قال : لا فقال يونس : فها هنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم فلما وصلوا اللجة تكفأت بهم السفينة وأشرفت على الغرق فقال الملاحون : معنا رجل عاص أو عبد آبق ومن رسمنا إذا ابتلينا بذلك أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر لئن يغرق أحدنا خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فها كلها على يونس عليه‌السلام فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاءت حوت فابتلعته فأوحى الله تعالى إليها أن لا تؤذيه بشعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما ثم نجاه الله تعالى من بطنها ونبذه بالعراء وقد رق جلده فأنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه‌السلام فقال له : أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم؟ فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم وقال لملكهم : إن الله تعالى أرسلني إليك فأرسل معي بني إسرائيل قالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا علمنا أنك صادق لفعلنا وقد آتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان الأمر كما تقول لمنعنا الله تعالى عنكم فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم يؤمنوا جاءهم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس عليه‌السلام للعلماء الذين عندهم فقالوا : انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس كما ذكر من نزول العذاب وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم : إنه خرج العشية فلما أيسوا غلقوا باب مدينتهم ولم يدخلوا فيها دوابهم ولا غيرها وعزلوا كل واحدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح نزل العذاب من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاحت الصبيان والدواب فرفع الله تعالى العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس حتى لقوه فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل ، وقيل مغاضبا لربه عزوجل ، وحكي في هذه المغاضبة كيفيات ؛ وتعقب ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين. وابن مسعود من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى وحمية لدينه ، فاللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به انتهى.

وكون المراد مغاضبا لربه عزوجل مقتضى زعم اليهود فإنهم زعموا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى نينوى وينذر أهلها فهرب إلى ترسيس من ذلك وانحدر إلى يافا ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على

٧٩

الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان ، ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم‌السلام واليهود قوم بهت.

ونصب (مُغاضِباً) على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص وسافرت ، وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة ؛ وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه‌السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب. وقرأ أبو سرف «مغضبا» اسم مفعول (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي إنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه ، ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري «نقدّر» بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة ، وقراءة علي كرم الله تعالى وجهه. واليماني «يقدّر» بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور ، ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضا كما ذكره الراغب ، وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلا عن النبي عليه‌السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولا ؛ وجوّز أن يكون من القدرة وتكون مجازا عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا ، وقيل : يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه عليه‌السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق نزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت ، ومنه (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ٨] والخطاب للمؤمنين. وتعقبه صاحب الفرائد بأن مثله عن المؤمن بعيد فضلا عن النبي المعصوم لأنه كفر ، وقوله تعالى : (تَظُنُّونَ) إلخ ليس من هذا القبيل على أنه شامل للخاص وغيرهم ، وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظنا ، وبأن الخواطر لا عتب عليها ، وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة. وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضبا ولا وجه لجعله حاملا على الخروج ؛ ومع هذا هو وجه لا وجاهة له. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو سرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يقدّر» بضم الياء وفتح الدال مخففا ، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال.

(فَنادى) الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى (فِي الظُّلُماتِ) أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات ، وأنشد السيرافي :

وليل تقول الناس في ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها

أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل ، وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أي بأنه لا إله إلا أنت على أن أن مخففة من الثقيلة والجار مقدر وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بتعريضهم للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة من غير أمر على خلاف معتاد الأنبياء عليهم‌السلام ، وهذا اعتراف منه عليه‌السلام بذنبه وإظهار لتوبته ليفرج عنه كربته.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ

٨٠